الفصل الرابع: نماذج تأويلية على بعض القَصَصِ التَّمثيليَّة
المخفي يظهر
إنَّ ما كان باطنيًّا ومسرورًا (esotericism) في عصر ما يُصبحُ ظاهرًا مُعْلنًا (exotericism) في عصر لاحق، وعِلَّة ذلك هو التغيرات والتبدلات التي تحكم كل شيء في الزمان، فما كان مكنوزًا ومخبوءًا يُصبح مكشوفًا بارزًا، وعلى ذلك تنسل الدهور. فها نحن نرى وقد صار جُزءًا كبيرًا من المعرفة الباطنية السرية الخاصة بالمدارس العِرفانية السرانية القديمة (Mystery Schools) مكشوفًا عنه في هذه العصور المتأخرة، مثل: نظام مركزية الشمس، والبنية الكهروذرية للمادة، وتحويل الطاقة الكهربائية إلى حرارة وضوء وإشعاعات أخرى، وتصنيع المتفجرات، والطب النفسي الجسدي، وأدلة على قوًى إدراكية فائقة لدى البشر تتجاوز الحواس العادية، ... إلى غير ذلك الكثير. ولقد تمّ كشف الطبقات العُليا (upper layers) السطحية، على الأقل، من معاني القصص التمثيلية (allegories) والأساطير الكتابية القديمة. ولكن لا تزال هناك طبقات أعمق (Deeper layers)، وستُكتشف حتمًا بالتدريج([1]) مع تطور الإنسانية واكتشاف واستخدام مفاتيح التأويل المُناسبة.
البذور هي كلمة الله
لقد أعطى المسيح أحد هذه المفاتيح التأويليَّة لتلاميذه. ففي تفسيره الشارح (explanation) لمثل الزارع، أوضح أن البِذرة كانت رمزًا لكلمة الله (Word of God)، وأن حالات الأرض المختلفة - الصخرية، والمليئة بالأشواك، والخِصبة - كانت وصفًا لحالات العقل والدماغ البشريين في مراحل مختلفة من التطور الروحي. أما كتاب «العقيدة السرية» للسيدة بلافاتسكي فقد كشف عن مفاتيح أخرى، مانحًا البشريةَ ثروةً من المعرفة، ومؤذنًا ببدءِ دورة جديدة من البحث الباطني السراني (a new cycle of occult research).
أكل الجسد وشرب الدم
ومن أوضح الأمثلة على استخدام اللسان الرمزي (symbolical language) ما نجده يتجلى في كلمات المسيح: فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ،»([2]). من الواضح أن المسيح هنا يستخدم كلمات مثل: «الجسد»، و«الدم»، و«الأكل» و«الشرب» ليس بمعانيها الحرفية المُتبادرة لأول وهلة في الذهن – أي العِبارة - إذ هذا يلزم عنه الكذب واللا معقولية، بل بمعانيها الروحية الإشارية([3]) التي تُلمَحُ لمحًا من وراء الألفاظ. إذ إنَّ أحد التأويلات المُبسطة لهذه الآية هو أن جسد المسيح يُمثِّلُ ويرمز، أي يُشيرُ، إلى المعرفة الروحية (spiritual knowledge)، وسنفصل أكثر في هذا لاحقًا. فعندما يستوعب العقل البشري الحقيقة الإلهية ويصبح مُتنوِّرًا بها، ويستلهم من الوحي الداخلي، توصف هذه التجربة رمزيًا بأنها أكلٌ من جسد أو لحم الإله. أما دم الإله، أو المسيح، فهو الحياة الإلهية المتدفقة دومًا، التي بها يُحفظ الكون، وبدونها لا يمكن له أن يحيا. وكذلك فعندما يدرك الإنسان المتنور روحيًا هذه الحياة الكونية في كل الكائنات، ويتماهى معها بوعي، يُقال باللسان الرمزي إنه يشرب من دم الإله، أو المسيح. وهكذا تُصور هذه التجربة الغنية روحيًا وعقليًا في صورة تغذية جسدية. وكما قال المسيح، فإن هذين الإنجازين يحققان إدراك الخلود أو الدخول إلى الحياة الأبدية.
اِسكاتُ البحر
قصة اسكات البحر وتهدئة العاصفة([4]) تُعد مثالًا آخر على قَصٍّ تمثيليٍّ (allegory) مُلهِمٍ. ففي تأويلٍ إنساني ونفساني لها، يمكن اعتبار السفينة رمزًا لجسد الإنسان الذي ينقل الروح بخصائصها المتنوعة عبر مياه الحياة. وأن يُنظر إلى التلاميذ على أنهم تجسيد لصفات واتجاهات بشرية، مثل اندفاع بطرس؛ وربما بساطة يعقوب ويوحنا، ابني زبدي، اللذين كانا صيادين؛ وقدرات ماثيو (مَتَّى) التجارية؛ والحب العميق والوفي ليوحنا، التلميذ الوحيد الذي كان حاضرًا في المحكمة وأسفل الصليب. أما يهوذا، الذي خان سيده، فهو موجود أيضًا في كل واحد منا كتوجه للسقوط وخيانة أعلى مبادئنا مقابل مكاسب مادية. ولحسن الحظ، الحضور الإلهي (divine Presence) قائم أيضًا داخلنا، حتى لو كان نائمًا لبعض الوقت، تمامًا كما كان المسيح نائمًا عند بدء الرحلة. لكن حين اشتدت العاصفة، وفي نوبة قلقهم، أيقظ التلاميذ الراكب النائم، السيد المسيح، وبجلاله وقدرته، انتهرَ العاصفة فسكتت بكلمة واحدة.
عند تأويل هذه القصة وتطبيقها على العواصف التي يواجهها الإنسان في حياته (وخاصة الاضطرابات العاطفية، التي يُرمز إليها بالماء في القصة)، ذلك عندما نتعرض للإغراء، أو تدفعنا الرغبات، أو نسعى للتخلص من عادة سيئة، يُنصح بأن نبتعد بأفكارنا عن المشكلة، ونركز بقوة على طبيعتنا الإلهية، ونؤكد بقناعة على قوتها التي لا تُقهر، مستبعدين أي فكرة أخرى. عندئذٍ سيتبدد ظلام هذه الحالة السلبية السيئة من آفاق عقلنا بنور عظيم ينبثق من الله في أعماقنا الذي هو معنا وقريب إلينا. وبمعنى رمزي، أنَّ المسيح المستيقظ يُسكتُ العاصفة.
وهكذا، فإن القصة في تطبيقها الإنساني البحت تبين لنا أنه عندما تهددنا عواصف الحياة، وعواصف العاطفة والغضب والكراهية، وشهوات الرغبة الحسية، التي تهدد نجاحنا وحتى سلامة حياتنا، ينبغي حينئذٍ أن نوقظ القوة الإلهية النائمة في داخلنا ونطلب حضورها لمساعدتنا. وعندها، وقد ارتقينا واستمددنا القوة، سنجد أنفسنا قادرين على أن نقول لجوانب الطبيعة البشرية العاصفة بكل ثقة ونحن على يقين من استجابتها وطاعتها لنا: «ليكن سلامًا» أو لتسكت العواصف. كما أنَّ هذه القصة العظيمة تشير إلى أهمية المحن والضغوطات في الحياة؛ لأنه لولا عاصفة الجليل لما استيقظ المسيح (بوصفه نورًا إلهيا مؤثرًا أثرًا عميقًا). وكذلك، فإن صراعات وعواصف حياتنا قد تكون الوسيلة التي توقظ قدراتنا العليا والأكثر روحانية. بعبارة أخرى، في مواجهة عواصف الحياة الداخلية، ليست المقاومة هي السبيل، بل يكمن الحل في رباطة جأش وهدوء النفس وتوجيه التركيز نحو النور الإلهي الكامن بداخلنا، حيث تتبدد الظلمات وتزول الاضطرابات أمام قوة السلام المتجلي من أعماق الروح.
معجزات الشفاء
إنَّ قصة المرأة التي شُفيت بعد اثني عشر عامًا من مرض عُضالٍ تحتمل تأويلًا رمزيًا، كما هو الحال في جميع روايات الشفاء الإعجازية التي فعلها المسيح. ففي هذه القصة، نجد أنَّ إيمانًا عميقًا قد استيقظ في هذه المرأة، ما جعلها تنطلق للبحث عن المعلم العظيم والمُعالج الذي كان في أرضها. ورغم ضعفها، وجدته، لكنها لم تستطع الاقتراب منه بسبب ازدحام الناس. إلا أن إيمانها كان عظيمًا؛ فمدت يدها ولم تلمس جسده، بل لمست طرف ثوبه، وعلى الفور شُفيت «فَلِلْوَقْتِ جَفَّ يَنْبُوعُ دَمِهَا، وَعَلِمَتْ فِي جِسْمِهَا أَنَّهَا قَدْ بَرِئَتْ مِنَ الدَّاءِ».
قال المسيح: «... كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يُصْغِي لِصَوْتِي.» (يوحنا 18: 37)
لا شك أن المسيح امتلك واستخدم معرفة وقوة فائقة مكنته من القيام بما يبدو أنه معجزات. وهنا لا يُشكك في تاريخية تلك الروايات. إلا أن أسلوب السرد يوحي بأن هذه الأحداث تكشف أيضًا عن تطبيقات عالمية؛ فكل من هو غير كامل روحياً، وبالتالي «مريضًا»، سيُشفى إذا ما بحث في داخله واكتشف هناك المبدأ الإلهي، حضور المسيح، أو ما أشار إليه الرسول بولس بـ«المسيح في داخلكم»: «الَّذِينَ أَرَادَ اللهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا هُوَ غِنَى مَجْدِ هذَا السِّرِّ فِي الأُمَمِ، الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ الْمَجْدِ.» (كولوسي 1: 27).
يرمز الحشد الذي يعترض الطريق إلى كل الصفات غير المسيحانيَّة في البشرية؛ مثل النجاسة، والقسوة، والحقارة، والأنانية والانغماس في الذات، وهي الصفات التي تفصل بيننا وبين طبيعتنا العليا. لا بد أن تزول هذه العوائق في النهاية، لكن في الأثناء، إذا ما مددنا أيدينا بعقولنا المتطلعة ودعائنا المفعم بالإيمان، يمكننا أن نلمس طرف الوعي الإلهي الكامن فينا، كما يرمز إليه طرف ثوبه. أولئك الذين مروا بهذه التجربة يعرفون أنه بمجرد أن يُعثر على الوعي بالذات الإلهية والدخول فيه، تتدفق أنهار الإلهام ونعمة الشفاء على الروح والجسد معًا. وفي الحقيقة، عندها يصبح الإنسان كاملًا على الفور.
جروح باطنية
ترمز الأمراض، في معناها الروحي السِّرَّانِي، والمعاناة والقيود والجروح إلى حالة من الاضطراب الداخلي الباطني المرتبط بتحول (transformation) الإنسان إلى كائن أعلى «سوبرمان» (Superman)، والمُسَارَرِ إلى مقام المُؤدِّب العالي أو الأديب (Adept)([5]). عانى الرسول بولس من «شوكة في الجسد»، فقيل إنه كان مصابًا بالصـرع. كما تحدث كلٌّ من القديس فرنسيس الأسيزي، والقديسة كاثرين السيناوية، والقديسة تيريزا الأفيلية عن مُكابدتهم لجروح داخلية ومعاناة روحية بالإضافة إلى أمراضهم الجسدية. تشير هذه الجروح بشكل جزئي إلى عملية تفكيك وهم الانفصال الذاتي وتحليله، وتجاوز قيود المادة والمركبات المادية([6]).
نعمة الشفاء الداخلية
تنصُّ حكمة طبية قديمة على أنَّه «ما من جُرحٍ إلَّا وفيه انطوى علاجه». يتمثل هذا العلاج في مبدأ المسيح (Christ Principle)، القوة والحياة الذي يشكل الجانب الثاني من النفس الروحانية الثلاثية في كل إنسان؛ فكل نفس مُجرِّبة هي انعكاس للنفس الكونية الواحدة، أو الربوبية الثلاثية المُقدسة. عندما تُوقَظ هذه القوة الشفائية الخلاصية وتنشط ويعي الإنسان الخارجي تلك القوة ويخضع لها، يحدث تحول روحاني يشبه المعجزة. عندها يجري الوصول إلى التكامل، والكمال النسبي. ذلك يعني في معناه الروحي، أنَّ المعلم الداخلي يجذب التلميذ – الشيخ يجذب المُريد – للتوحد معه. ويجري تعزيز هذه العملية من خلال المعلم الخارجي (external Master) الذي يزيد من مثالية (idealism) الإنسان الخارجي وقوته وطموحه، مما يجعله أكثر استجابة للمعلم، أي المسيح الكامن بداخله.
السوط، والمسامير، والأشواك، والرمح
ترمز الأسلحة التي تُحدث هذه الجروح إلى المخاطر التي لا يُمكن الاقتراب من أسرارها إلا من خلالها، والتي تَحْرس تلك الأسرار أيضًا. يمثل إكليل الشوك السيادة الروحية الحقيقية ويشير إلى أن تحقيق هذه السيادة لا يأتي إلا عبر المعاناة. ومع ذلك، فإن الأشواك ترمز إلى احتمالية، تكاد تكون مؤكدة، بأن المعاناة تنجم عن إساءة استخدام صفات العقل الانفصالي والتحليلي، خاصةً في المراحل المبكرة من تطوره. تتسبب هذه السمات العقلية حتمًا بالألم والحزن (وخزات الشوك)، ولأن الرأس هو المركز الجسدي للحياة العقلية، فإن الأشواك توضع عليه كإكليل. قبل الوصول إلى الكمال، يواصل جانبا العقل لدى الإنسان -العقل الأعلى والأدنى (اللصان اللذان صُلبا مع المسيح)- الصراع للسيطرة، وترمز الأشواك، والسوط، والمسامير، والرمح، والآلام الناتجة عنها، إلى جروح هذا الصراع الروحي. المعنى الحقيقي لإكليل الشوك يبقى غامضًا، بل غير مدرك، للإنسان غير المستنير (الحشد المطالب بمشاهدة الصلب)، إذ لا يرون فيه إلَّا مجرد إكليل من الأشواك وكاستهزاء بالملكية، ولا يرون إلَّا ما يُحدثه من ألم فحسب، أمَّا الرمزية العظيمة للانتصار والتتويج الروحي الكامن ما وراءه فلا تصل إليه فهومهم ولا تبلغه عقولهم فهم عنه محجوبون بطبيعتهم.
الوردة والصليب
تمثل الوردة المتفتحة على الصليب في رمزية الوردة والصليب (Rosicrucian) اكتمال الإنسان المثالي، وهذا أحد أبعادها الرمزية فحسب. إذ الوردة رمز الذات العليا في الإنسان الكامل في جسده النوراني حيث تنبثق منه محبة شاملة وحكمة وبركة تتدفق على العالم، كما يُرمز لها بعطر الوردة الخاص وبالماء والدم المتدفقين من جروح المسيح المصلوب.
يرمز الصليب بشكل عام إلى التضحية الذاتية والخلود والقداسة. لكن باطنيًّا، يمثل الصليب كامل سر الخلق؛ حيث ينزل الروح الخلاق، كقوة ذكورية إيجابية، أو «الكلمة» (الجزء الرأسي)، ليخترق المادة كفضاء، القوة الأنثوية الخلاقة، أو «العمق العظيم» (الجزء الأفقي). نقطة التقاطع تمثل المركز الحرج الذي تحدث فيه عملية الخلق، ومنه ينشأ الكون الظاهر. في هذا السياق، ترمز الوردة على الصليب إلى الكون الجديد المتشكل. يمثل نزول الروح في المادة (التقاء الذراعين الرأسي والأفقي للصليب) وتحقيق الحياة الواعية المكتملة (الوردة)، وأيضًا عمليتي التطور الهابط والتطور الصاعد([7]) (involution and evolution)، الخُروج ذهابًا تمرُّدًا والعودة إيابًا نادمًا، التي يجسدها مَثَلُ الابن الضال.
الإنسان المتصالب
يُجسد الإنسان رمز الصليب بشكل مثالي؛ فالذراع الرأسي يمثل الروح داخله، بينما يمثل الذراع الأفقي المادة التي يخترقها ويحتويها الروح. جسد الإنسان يتخذ هيئة الصليب بطرق متعددة؛ فالعمود الفقري، على سبيل المثال، يعد دعامة عمودية تمتد منها الأضلاع أفقيًا بزوايا قائمة. أما النخاع الشوكي، فهو «الكابل» الكهرومغناطيسي الرئيسي في الجسم، ومنه تمتد الأعصاب الواردة والصادرة أفقيًا لنقل السوائل والسيالات العصبية إلى مختلف أنحاء الجسد. وعندما يبسط الإنسان ذراعيه في حب وتضحية، يتخذ جسده بالكامل هيئة الصليب. لكن هذا الوضع يظهر عندما ينفتح قلب الإنسان، كزهرة، ليملأه الحب والتعاطف تجاه العالم. بذلك، تصبح الوردة على الصليب رمزًا جميلًا وقويًا، وهدفًا مثاليًا يسعى الإنسان لتحقيقه، رغم وخزات الأشواك الحتمية.
على الجبل
يُستخدم الجبل غالبًا كرمز لحالات الوعي العالية. فالكثير من الأحداث العظيمة المسجلة في الكتاب المقدس حدثت على قمم الجبال؛ فعلى سبيل المثال، عندما احتاج إيليا إلى مشورة الرب، جاءه صوت يقول: «اخرج وقف على الجبل أمام الرب([8]).» يُؤوَّلُ هذا كدعوة تحضُّ على رفع مركز الوعي البشري من الجوانب المادية إلى الطبيعة الروحية الداخلية للإنسان.
الزلزال، والريح، والنار
في قصة إيليا، سبقت لحظة التنوير (illumination) زلزلةٌ، ورياحٌ عاتية، ونيران. يرمز الزلزال إلى حالة الوعي الجسدية البحتة وعدم استقرار العالم المادي وافتقاره للدوام على حاله، كما ترمز إليه الرمال التي لا يجوز بناء البيت عليها. وتشير الرياح العاتية إلى اضطراب الحالة العاطفية، بينما تُمثل النار نشاط الذهن التحليلي والنقدي المغرور الذي يميل إلى الاضطراب. لم يكن الرب في أي من هذه الظواهر الثلاث، لكن بعد زوالها، حلَّ سلام عظيم على إيليا؛ إذ غرقت روحه في الصمت، وفي تلك السكينة سمع «صوت الصمت» (the voice of the silence)، «الصوت الهادئ الخافت» للإله. يمكن اعتبار هذه القصة بمثابة دليل على التأمل (meditation)، ووصفٍ للطريقة التي يُمكن من خلالها بلوغ التنوير الذاتي. يجب فصل مركز الوعي عن الجسد (الزلزلة)، عن الجسد العاطفي (الريح العاتية)، وعن الذهن (النار)، ليُؤسس على المستويات العليا حيث تقيم الذات الروحية (Spiritual Self) للإنسان بشكل دائم. بعد ذلك، تنزل سكينةٌ عظيمة على المتعبد، وفي تلك الطمأنينة العميقة للقلب والعقل، تتحقق الصِّلة بالربوبية الكامنة، أي المسيح في داخل الإنسان بوصفه نورًا إلهيًّا. يلي ذلك التنوير والإدراك والمعرفة التي تُنقل إلى عقل الإنسان الخارجي ودماغه.
في هذا الفصل الأول، نقدم بعض التأويلات البسيطة التي تركز فقط على التجربة الروحية والنفسية للإنسان، وذلك لتوضيح فكرة الكتاب. سنشرح أيضًا طرق تأويل أخرى، مثل التأويل الكوني الكبير والصغير، ونقدم نتائجها في الفصول اللاحقة من هذا الكتاب، وفي الكتب الأخرى التي تؤول أجزاء من الكتاب المقدس بالتفصيل. مثال على ذلك، قصة إيليا و«الصوت الخفيض الهادئ» ستُشرح بالكامل في الكتاب الذي يتحدث عن سفر الملوك الأول.
لوغوس النفس
يُمكن النظر إلى كل قصة باعتبارها وصفًا لتجربة داخلية وذاتية تحدث في عمق النفس الإنسانية، وكأنها تحدث في داخل كل إنسان. هذا المفهوم كان واضحًا لدى الرسول بولس؛ إذ كان يرى، على سبيل المثال، أن ميلاد المسيح يمثل حالةً في روح الإنسان، حيث قال: «... أتَمَخَّضُ بكُمْ أيضًا إلَى أنْ يتَصَوَّرَ المَسيحُ فيكُم.» حتى حضور المسيح التاريخي على الأرض، والذي لم يلتقِ به بولس شخصيًا، اعتبره بولس تجربةً صوفية أكثر منها حدثًا خارجيًا. ويبدو أن المسيح الداخلي، أكثر من التاريخي، كان له الأهمية الكبرى بالنسبة لبولس، إذ قال: «المسيح فيكم رجاء المجد» و«تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ، لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ...».
المتصوف الألماني شيفلر (Scheffler)، الذي كتب تحت اسم أنجِلوس سيليزيوس، عبّر عن ضرورة تحويل بعض أحداث حياة المسيح إلى تجارب داخلية بهذه الكلمات:
حتى لو ولد المسيح ألف مرة في بيت لحم
وليس في داخلك، فستظل روحك تائهة.
إن نظرتَ إلى صليب الجلجثة فلن تجد فيه فائدة،
ما لم تُقِمْ هذا الصليب في داخلك من جديد.
جوهر الدين الحقيقي يكمن هنا؛ فهو أقل ارتباطًا بالعقائد والنظريات والإيمان الأعمى والممارسات الظاهرة، وأكثر ارتباطًا بتجربة داخلية عميقة. كان كتّاب العديد من الروايات الكتابية على وعي بهذه الحقيقة، وقد وصلوا بأنفسهم إلى الاستنارة الصوفية العميقة. كانوا يعلمون أن إدراك وجود الله ونشاطه داخل روح كل إنسان يمنح قوى روحية وعقلية خفية، يمكن، في الحقيقة، أن يُساء استخدامها بشكلٍ خطير. قد يتسبب ذلك في أذى شديد، سواء لأولئك الذين اكتشفوا هذه القوى الداخلية قبل أوانها أو لكل من يتأثرون بها. ومن هنا جاء استخدام اللسان الرمزي كإجراء حماية ووقاية.
[1]- إن مِلاك ومناط وأصل تحصيل المعارف الروحية والباطنية المخفية أو المستورة أو المحجوبة أو المكنونة منها، إنَّما هو (التدريج أو التَّدرج) على سُلم التحصيل. إذ إن قانون التدرج كوني عالمي شامل، فكل شيء يحصل من الذرة إلى المجرة بهذا القانون الإلهي العظيم، وعليه فإنَّ كل ما قيل في هذا الكتاب وغيره عن الإخفاء والستر والحجاب ونحو ذلك إنما تعني أن هذه المعارف للمُبتدئ طبيعيًّا مخفية ولا يقدر أن يراها بسبب بسيط وهو أنه غير مؤهل بعد لرؤيتها، ولكنه سيصل إليها ما إن يبقى يتدرج في هذا السلم مثل أي نبات نبت لتوه من الأرض. بمعنى آخر كل هذه المعارف مُتاحة للجميع ولكن لن يراها إلا الذي صار وعيه مُستعدًّا لرؤيتها، وما إن يستعد ويتأهل فسوف تظهر أمامه بلا جهد يُذكر، أي تلقائيًّا كاستحقاق رباني. المُعرب
[2]- يوحنا 6: 53-54
[3]- ورد في تراثنا الروحي أنَّ «كتاب الله على أربعة أشياء: على العبارة، والإشارة، واللطائف، والحقائق. فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء.» ولذلك قال المؤلف (metaphorical sense) أي المعاني الإشارية وما بعدها ولا تعني (الاستعارة) فهذا جهل بالمطلب وجهل باللسان المقدس واللسان العربي المبين واللسان الموحد. المُعرب
[4]- "وَقَالَ لَهُمْ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ لَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ: «لِنَجْتَزْ إِلَى الْعَبْرِ». فَصَرَفُوا الْجَمْعَ وَأَخَذُوهُ كَمَا كَانَ فِي السَّفِينَةِ. وَكَانَتْ مَعَهُ أَيْضًا سُفُنٌ أُخْرَى صَغِيرَةٌ. فَحَدَثَ نَوْءُ رِيحٍ عَظِيمٌ، فَكَانَتِ الأَمْوَاجُ تَضْرِبُ إِلَى السَّفِينَةِ حَتَّى صَارَتْ تَمْتَلِئُ. وَكَانَ هُوَ فِي الْمُؤَخَّرِ عَلَى وِسَادَةٍ نَائِمًا. فَأَيْقَظُوهُ وَقَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟» فَقَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيحَ، وَقَالَ لِلْبَحْرِ: «اسْكُتْ! اِبْكَمْ!» فَسَكَنَتِ الرِّيحُ وَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ. وَقَالَ لَهُمْ: «مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هكَذَا؟ كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ؟» فَخَافُوا خَوْفًا عَظِيمًا، وَقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «مَنْ هُوَ هذَا؟ فَإِنَّ الرِّيحَ أَيْضًا وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!»" (مر 4: 35-41).
[5]- الأديب أو الحاذِق أو الماهر أو الخبير هو الذي قد عُرف بأنَّه قد وصل إلى مستوى معين من المعرفة أو المهارة أو الكفاءة في المذاهب ذات الصلة بمؤلف أو منظمة معينة. وهم يتميزون عن الآخرين بإمكانياتهم البارزة. حيث إنَّ جميع الملكات الإنسانية فيهم قد جرت تزكيتها، أي تطويرها وتحسينها، بما في ذلك الذكاء والروحانية. ويمكن لأي شخص أن يصبح أديبًا بالتطور الروحي وتحسين/تزكية نفسه. المُعرب
[6]- الـ(material vehicles) أي المركبات المادية هي ما يُسمى في تراثنا العرفاني باسم (اللطيفة)، وفي النظام العرفاني الهندي باسم (المركبات) أو الأجساد التي تبدأ من الجسد المادي وهو الكثيف إلى اللطيفة الأثيرية وما هو أعلى وأكثر لُطفًا من هذه الأجساد أو المركبات التي نتدرج فيها. المُعرب
[7]- - يُشير مُصطلح (involution)، الذي هو تطور هابط، إلى انطواء الطاقة الكونية على ذاتها لتصير مادة، ويعد هذا التطور تحولًا من اللطافة إلى الكثافة. تُقر مبادئ الحكمة أنَّ الموناد، وهي الطاقة الكونية الحية، تتغلَّف أكثر فأكثر لتصبح المادة الكثيفة، وأنَّ الجسم الفيزيقي، أيًّا كان، يُشكل الغطاء الخارجي الكثيف. هكذا يؤدي التطور الهابط من الأكثر لطافة إلى الأكثر كثافة، إلى انغلاق أو انثناء الروح أو الطاقة الكونية الحية التي تظل حية رغم انغلاقها وانطوائها على ذاتها (involution). ويشير مصطلح (evolution) الذي هو تطور صاعد إلى انفتاح هذه الطاقة المنثنية على ذاتها من خلال تطور صاعد من الكثافة إلى اللطافة، بفعل حرية داخلية تهدف إلى انعتاق الطاقة من غلافها أو أغلفتها. (ندره اليازجي، مجلة المعرفة السورية، العدد 457، ص 78)
[8]- "فَقَالَ: «اخْرُجْ وَقِفْ عَلَى الْجَبَلِ أَمَامَ الرَّبِّ». وَإِذَا بِالرَّبِّ عَابِرٌ وَرِيحٌ عَظِيمَةٌ وَشَدِيدَةٌ قَدْ شَقَّتِ الْجِبَالَ وَكَسَّرَتِ الصُّخُورَ أَمَامَ الرَّبِّ، وَلَمْ يَكُنِ الرَّبُّ فِي الرِّيحِ. وَبَعْدَ الرِّيحِ زَلْزَلَةٌ، وَلَمْ يَكُنِ الرَّبُّ فِي الزَّلْزَلَةِ. وَبَعْدَ الزَّلْزَلَةِ نَارٌ، وَلَمْ يَكُنِ الرَّبُّ فِي النَّارِ. وَبَعْدَ النَّارِ صَوْتٌ مُنْخَفِضٌ خَفِيفٌ. فَلَمَّا سَمِعَ إِيلِيَّا لَفَّ وَجْهَهُ بِرِدَائِهِ وَخَرَجَ وَوَقَفَ فِي بَابِ الْمُغَارَةِ، وَإِذَا بِصَوْتٍ إِلَيْهِ يَقُولُ: «مَا لَكَ ههُنَا يَا إِيلِيَّا؟»" (1 مل 19: 11-13)
تعليقات
إرسال تعليق