القائمة الرئيسية

الصفحات

 

سلسلة الحِكمة والعِرفان الشرقي

 

 

أدفايتا

فيدانتا

 

2025

 

إعداد وتحرير

أبوالحسن






1

 

أدفايتا Advaita

 

في الهند، خلال القرنين الثامن والتاسع، ذاع مبدأ اللاثنائية duality Non أو الأدفايتا (Advaita) الذي يؤكد على عدم التمييز بين الموجود الفردي (الأتمان  Atman) والموجود الأسمى (البراهمان Brahman).

لقد اعتبر الفيلسوف المعلم سانکره([1]) في ذلك الوقت منقذًا للهندوسية، تماما في اللحظة التي كانت فيها البوذية والجاينية في هيجان شديد، وكانت الهند في أزمة روحية.

وتعني اللاثنائية استبعاد الأنا Ego، لكي تمتزج ذاتك بالموجود الأسمى لكي تصل إلى السعادة. أو أن بلوغ السمو إنما يتم عن طريق الصلاة Prayer (البهاكتي Bhakti) أوالخلاص (الجنانا Jnana). كما تحفل اللاثنائية بالملاحم والأبانيشاد([2]).

يدعى نظام سانكارا الفكري باللا ثنوية أدفايتا (Advaita)، لأنه يعتقد أنه بينما لا يشكل العالم (براكريتي) والأنا الفردية (جيفا) وبراهمان شيئاً واحداً بالمطلق، إلا أنها لا توجد في الحقيقة بشكل مستقل الواحد عن الآخر، وهي في الواقع ليست مختلفة، ولا اثنين ولا حتى ثلاثة أو أكثر. إن براهمان غير المشخص وغير الموصوف هو بكليته خارج نطاق التجربة الإنسانية (أي غير اختباري بالمطلق). ففيما عدا براهمان الخالد الذي لا يفنى، والكينونة الكاملة، كل شيء هو "مؤقت كدر، لا قوام له، مثل نهر جارٍ أو مصباح مشتعل، تنقصه الألياف كالموز، مظهره كالرغوة، أو كالسراب أو الحلم"؛ إنه باختصار نتاج المايا.

فالعالم التجريبي هو بهذا الشكل عالم ظواهر، لا موجود ولا غير موجود، وغير قابل للشرح حقيقة؛ إنه يتكئ على براهمان باعتباره أساساً له، لكن براهمان لا تصله به صلة السببية، لأن الكون قد ظهر بالفعل، عبر المايا، على يدي إشفارا، المظهر المبدع والشخصي لبراهمان المستتر([3]).

لا يمكن لمن يعرف قدراً مهما كان ضئيلاً عن الفلسفة الهندية إلا وأن يندهش بذلك التقارب المذهل بين ميتافيزيقا اسبينوزا وميتافيزيقا الهند وبخاصة تلك التي نشأت عن تيار أدفايتا فيدانتا Advaita Vedanta أو طريق عدم الازدواجية. ففي وجه التيارات الثنائية التي تُبجّل - تماماً كما تفعل الديانات التوحيدية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام - ذلك التمييز بين الله المتعالي والخالق من جهة والعالم المخلوق من قبله من جهة ثانية، يُسلّم تيار عدم الازدواجية بالوحدة بين الله والعالم. فالله لا يوجد خارج العالم، فهو والعالم ينتميان إلى الجوهر نفسه؛ كل شيء في الله، والله في كل شيء، مؤسساً على الأوبانشيد([4]).

ففلسفة الـ Advaita الهندوسية، أي الـ Non-duality، تقول أن ما يعيشه الإنسان على الأرض هو غالباً حالة وهم والمسبب لهذا الوهم هو النظرة الإزدواجية لأمور الحياة، فالإزدواجية Duality التي تتحول الى صراع مستديم بين غرضين: ما يتمناه الفرد وما هو حاصل، فإن كان الحاصل يرضي الرغبة شعر الفرد بالرضى واعتبر نفسه سعيداً، طالما أن الحاصل يتطابق مع الرغبات. وإن كان الحاصل معاكساً للرغبات، شعر الإنسان بعدم الرضا واعتبر الحياة غير عادلة. فهذا الصراع الدائم بين ما نتمناه وما هو حاصل هو ما يعيشه معظم البشر ويؤدي إلى التوتر واللاسعادة والصراعات الدائمة داخل النفس بين آلاف المشاعر والرغبات المتنازعة (كما في العلاقة بين الأفراد وبين المجموعات وصولا الى العنف والحروب بين الدول).

أما المدرك والحكيم وصاحب المعرفة الحقة، فعالمه هو عالم اللا إزدواجية (أدفايتا). يعيش حياتا متحرّرة من قيود الزمان والمكان. يرى الترابط بين مختلف الأغراض ولا يغيب عن ذهنه أن مصدرها هو واحد. نظرته للحياة هي نظرة موحدة، لا صراع فيها بين الأغراض ولا وجود عنده لرغبات خاصة تتصارع في ما بينها. فالحياة واحدة تعبر عن نفسها بأشكال وألوان جمة. على الإنسان الروحاني أن يقبلها كلها كما هي، احتراماً للخالق.

والفلسفة اليونانية، كما فسّر المعلم كمال جنبلاط لاحقاً تقوم على نفس المبادئ ونظريات فلسفة الـ "Advaita" الهندوسية (أدفايتا تعني اللا إزدواجية.) كما فسّر أن الحكمة الدرزية تقوم أيضاً على نفس هذه المبادئ: معرفة الذات أولاً([5]).

أدفايتا (لا ثنائية) مبدأ الفيدانتا الأساسي، ويُقرر أن براهما هو الحقيقة الوحيدة، أما الثنائية بين النفس والعالم أو بين الروح والمادة فليست إلا ثمرة الوهم (مايا) أو الجهل (أفيديا)([6]).

 


 

2

 

شهدت حقبة سقوط البوذية ظهور انتقادات عديدة لميتافيزيقيتها صاغها مفكرون براهميون كانوا أيضاً يعارضونها بمذاهبهم. نجد بين هؤلاء المفكرين على سبيل المثال شانكا شاريا الذي صاغ فلسفة الأدفايتا فيدنتا Advaita Vedanta ودافع عنها وهي الفلسفة التي تتمتع بتأييد واسع في أوساط البراهميين المثقفين في هذا العصر شأنها في سالف الأيام. وقد لقي شانكارا وتلاميذه تعضيداً من ولاة الأمور البراهميين فأتاح لهم هذا التأييد تأسيس الماثات أو الأديرة في المراكز الستراتيجية من البلاد. كما أن الجهود التي يقوم بها السوامي Swamis في أوروبا وفي أمريكا لعرض المذهب البراهمي، تجري، في أغلب الأحيان من وجهة نظر شانكارا وباصطلاحات فلسفته في الأدفايتا فيدانتا. كذلك يبدو أن الأفكار التي تهيمن على النظرة المعاصرة للتاريخ في الهند، توجد في هذه الصيغة الفكرية.

والمبدأ الأساسي في الأدفايتا فيدانتا هو مبدأ حقيقة «لاثنائية». فالبراهمان وحده، المطلق، هو الحقيقي حقاً وهو أزلي. ولكن هناك تصورين للبراهمان: تصور البراهمان نيرغونا بدون صفات، وتصور البراهمان ساغونا، الحاوي لجميع الصفات. ومع أنه من الواجب إعطاء الأول بعض اهتمامنا، إلا أن الثاني هو ما يعنينا نسبياً، كما سنرى فيما يتعلق بمغزى التاريخ.

ومفهوم النيرغونا براهمان يركز على حقيقة البراهمان وعلى لا - حقيقة كل ما يمكن اعتباره صانعاً للتاريخ التجريبي. ذلك أن العالم المادي، عالم الكثرة في الأفراد الخاصين، هو كله نطاق المايا أو الأوهام. وتكون حيوات الأفراد، مرتبطاً بعضها ببعض، كالحلم، ليس لها، وهي على هذا النحو، أي مغزى أساسي. وكما كان الأمر في فلسفة اللارغبة في الأوبانيشادا، فإن الغاية تقوم على الإفلات من المايا. لذلك فإن أحد الأخطاء الفاجعة يكمن في اعتبارنا العالم المادي حقيقة، وفي اعتقادنا بإمكانية وجود علاقة ما بين الرضى النهائي وبين هذا العالم.

إلا أن مذهب شانكارا الأدفايتي، من هذه الزاوية، يصادف صعوبات عديدة وجدية على حد سواء. إذ كيف التوصل إلى معرفة البراهمان من حيث هو نيرغونا؟ فإن هذه المعرفة لا يمكن أن تكون من خلال صلات مباشرة قد تقيمها التجربة الحسية: ذلك أن التجربة الحسية لا تهدينا إلى أي شيء حقيقي. كما إنه لا يمكننا التوصل إليها بالفهم الجدلي كذلك، باعتبار أن المعطيات التي سوف نساق إلى الارتكاز إليها تنجم عن دنيا الأوهام، وكذلك لأن قوة الإدراك لا يمكنها أن تتجاوز إطار الأفكار المجردة. إذاً لا يمكن معرفة النيرغونا براهمان إلا بواسطة حدس مباشر بين هويته وهوية من يبحث عنه وذلك فيما يمكن أن ندعوه «حالة الوجد» وهي الحالة التي تتيحها ممارسة اليوغا. ذلك إننا في حدود انهماك الأفراد في هذه الممارسة نستطيع القول بأنهم يبذلون جهدهم للإفلات من التاريخ. لأن مفهوم النيرغونا براهمان ينفي أية إمكانية للإبقاء على مغزى أو مغاز للتاريخ.

إذا كان العالم الطبيعي والأفراد الخاصون وتجارب التاريخ ليست كلها إلا مايا أي أوهاماً فإن هناك سؤالاً يرد: من ذا الذي يتألم إذاً من الوهم؟ وهنا، فإن مذهب شانكار الأدفايتي لايقدم إلا جواباً: البراهمان، ولكن النيرغونا براهمان مجرد حتى من «صفة» التألم من الوهم نفسها، وقد لا يكون الوهم منذئذ شياً ما. وهو أمر يتضمن نفياً لكل ما هو متعارف على تسميته بالتجريبي. إلا أنه قيل في الاتجاه نفسه، أن الوهم يصدر عن الأفيديا أي عن الجهل. والمسألة التي ترد مباشرة لتطرح نفسها تكون عندئذ: ما هو موضوع الجهل؟ البراهمان، إذ هو الأحد. أما جهل البراهمان فإن التغلب عليه يتم بالشعور الحدسي. وللجهل موضوع واحد فهو أن البراهمان يجب أن يكون معصوماً من الجهل تماماً. غير أن البراهمان في نظر مذهب الأدفايتي يبدو أنه لا يتأثر بذلك لأن الجهل نفسه ليس شيئاً يذكر. وهكذا فالجهل الذي يعالج موضوعياً  كما لو أنه الأساس الذي يتيح لنا اعتبار العالم وحوادث التاريخ صحيحة، يُنكَر هو نفسه، بدوره. ومثل هذه الصعوبات تكون عادة سبباً في أن تصبح فكرة النيرغونا براهمان مغفلة من قبل الذين يساهمون في التاريخ. ومن الممكن، مع ذلك أن تبقى هذه الفكرة في طيات تفكيرهم فتعود إلى الظهور في لحظات التأمل.

كان المبشرون الأدفايتيون، عندما يحضون المستمعين على الرشد، يتوجهون إليهم كأنهم أفراد كما يفعل دعاة الطوائف البراهمية الأخرى المعارضة لمذهب الفيدانتيا في الأدفايتي. فالبراهمان هو ساغونا بجميع الصفات؛ إنه الأحد الذي لا ثاني له، ولكن كل شيء يكون في الأحد. لذلك فإن ما كان يبدو كأنه المايا، أي عالم الوهم، يصبح بعد ذلك كأنه خلق إلهي الليلا Lila أو «تسلية» الروح الإلهي. وهو ما يتضمن تاريخاً للبشر، بينما يحمل هذا التصور في طياته صعوبة قلما يهتم بها أتباعه. وهي أن البراهمان باعتباره كمالاً لامتناهياً يجب أن ينطوي على وجهي المشكلة في جميع أنواع المنازعات. ففي أثناء الحروب يكون المعتدون والمعتدى عليهم على حد سواء من مظاهره. وهو في المتناقضات ما يؤيده الطرفان.

وقد يستطيع مذهب الأدفايتي، لا شك أن يورد الأدلة على تقدم البراهمان من خلال الخلق ومن خلال التدمير، نحو هدف يمنح معنى أو معاني للتاريخ. لذلك يبدو أن الفيدانتيين أصحاب الأدفايتيا، يواجهون في الهند اليوم ما يسميه الغربيون حضارة، مستعينين بمفهوم ساغونا براهمان ولكن ما هي العلاقة بين النيرغونا براهمان وبين الساغونا براهمان؟ وإذا كان للناس رسالة يؤدونها في العالم وفي التاريخ كما يوحي بذلك ثاني هذين المفهومين، فكيف نوفق هذا القول مع ما يأمر به أولهما من التحرر من وهم العالم ومن التاريخ؟

لقد قادت متطلبات الحياة المعاصرة وكذلك، بلا شك، الآثار الناجمة عن تألف صادق مع شعوب الغرب بعض المدافعين عن مذهب الفيدانتيا أدفايتيا إلى ترك موقف البراهميين القائم في جوهره على الفردية في مواجهة التاريخ، وتقديم البراهمية كأنها موقف اجتماعي واضح كل الوضوح. وحجتهم في هذا الاتجاه إن كل فرد وهو إذ يتحد نهائياً بالبراهمان، يكون مماثلاً لجميع الآخرين، وإنه إذ يحب الآخرين، إنما يحب نفسه، وإن المثل الأعلى بالتالي هو اجتماعي بصورة شاملة.

وهذا الإلحاح على العنصر الاجتماعي هو مظهر هام وجدير بالاهتمام في تاريخ الهند الحالي. ولكن مذهب الأدفايتي يمكنه من ناحية أخرى أن يقود إلى حجة تبرر بنفس القدر من الدقة الأنانية في أقصى حدودها إذ بما أنني مماثل للبراهمان فإن جميع المتع وجميع الآلام (إن وجدت حقيقة) يجب أن يبلوها البراهمان الذي يكون الأنا الحقيقية. وهكذا يمكننا حينئذ أن نؤيد هذه المحاكمة في أقصى لون من ألوانها الأنانية: «إذا كان الجميع هم أنا، فإنني حين لا أحب إلا أنا، أحب كذلك الآخرين». ذلك أن الأدفايتا فيدانتا لا تظهر البتة أن مغزى التاريخ، بالنسبة للبراهميين، يفضي إلى غاية اجتماعية، وهذا أياً كانت القيمة الاجتماعية التي يتخلق بها تقدم الفرد باتجاه خلاصه هو نفسه.

وقد أثار مذهب شانكارا، في الهند، بعد قليل من عرضه للأدفايتية انتقادات صارمة نخص منها بالذكر انتقادات رامانوجا ومدرسته في اللا - ثنائية المعدلة Vishistadvaita، وكذلك انتقادات مادهفا شاريا والمدرسة الثنائية Dvaita.

كان مذهب الأدفايتي قد نشر بصفة خاصة من قبل الرهبان المقيمين في أديرة شانكارا؛ وكانت وجهة نظرهم هي أن أهم نهج هو نهج المعرفة، النهج الذي يقود إلى الهدف، بينما كان أصحاب (اللاثنائية المعدلة) الفيشيستاد فايتا وأتباع المدرسة الثنائية دفايتا أكثر اهتماماً بنهج التعبد وبصورة ثانوية بنهج العمل كذلك. فكان إلحاحهم على نمط من الحياة العملية، يعلون شأنه مقابل التأمل العزيز على شانكارا وأتباعه، ينطوي على نقدهم لمذهب الأدفايتي.

وكان الأولون ما يزالون بعد أدفايتيين على الأقل في اعتقادهم بأنه ليس هناك نوعان من الحقيقة وإنما توجد حقيقة واحدة هي الروح؛ لقد كانوا على هذا النحو يفهمون رفض فكرة الله من حيث هو نيرغونا براهمان. إلا أنهم يعتبرون النفوس الفردية بطريقة يدينها مذهب الأدفايتي. وذلك إنه يوجد عالم خارجي (وإن كان هذا العالم في آخر الأمر ليس عالماً مادياً) وتوجد نفوس فردية حقيقية.

وهكذا فإن موقفهم في مواجهة التاريخ، كان إذاً أقل تشاؤماً إلى حد بعيد. لأن الإسهام في العبادة هو اتحاد مفرح بالإله. إذ كانوا يتصورون الهدف البعيد كشرط للاتحاد بالله أكثر منه للمماثلة به. ولم يكونوا أكثر من الأدفايتيين، في عدم افتراضهم بأن الناس يستطيعون الحصول على رضى تام في وسط الظروف الدنيوية. فإن اعتقادهم في الغفران الإلهي كان اعتقاداً حميماً. لذلك فإن الله يكون في التاريخ وفقاً لما يمكننا أن نصفه كعلاقة شخصية بعابديه. فقد كان الدين الفاشيستاد فايتي يكن للفرد شعائرياً وعاطفياً، مغزى مباشراً في تاريخه. صحيح أن تابعه يمتثل لمتطلبات نظام الطوائف. ولكن موقفه بصورة جوهرية، موقف فردوي، موقف الجهد المتصل الذي يهدف إلى بلوغ الغبطة النهائية. ورغماً عن هذا فإن صيغ دينه الثقافية لا تكف عن إحياء مشاعر اجتماعية فيه أكثر تطوراً منها عند الأدفايتيين.

وبهذا المعنى فإن العقابيل التي تطرحها الفيشيستاد فايتا في مواجهة مسألة التاريخ مجانسة من وجوه عديدة لعقابيل الأديان غير الهندية التي تقول بإله واحد والتي سنناقشها في الفصل القادم.

كان الأدفايتيون يؤكدون حقيقة المادة من حيث هي جوهر يختلف عن الأرواح. فالأفراد يكونون حقيقيين، حتى عندما يكونون قد بلغوا الهدف النهائي أي الخلاص من دورة الانتقال من تجسد إلى تجسد دورة التقمص فإن صفتهم الخاصة تدوم. فهم في ذلك لا يختلفون قط عن الفيشيستاديين ولكنهم أكثر تميزاً. كذلك يشبه موقفهم بإزاء التاريخ موقف الفيشيستاديين.

لم يكن للمدارس الفكر الأخرى العديدة التي عرفتها الهند البراهمية تأثير كبير. فأخبار الكارفاكاس (الماديين) قد بلغتنا عن طريق الانتقادات وحدها تقريباً، التي وجهت إليهم. ويمكننا أن نستخلص منها بأن فحوى التاريخ عندهم ما هو إلا اختبار العيش في جهاز مادي. غير أن المذهب المادي لم يحظ أبداً في الهند بنجاح كبير. فإن فلسفة السانغيا Sankhya على اختلاف أشكالها تعمل بصورة عامة على التفريق ما بين الطبيعي والروحي وكثرة في الأرواح. كما أن الإشكالات التي تنجم عنها بالنسبة للتاريخ هي نفس إشكالات المدارس التي تكلمنا عنها باستثناء الأدفايتا فيدانتا لشانكارا.

ومما لا شك فيه أن التشاؤم في شأن حياة الإنسان التاريخية على الأرض كان واسع الانتشار جداً في الهند. ومع ذلك ليست البراهمية والبوذية والجايينية أو السيخ، آخر المطاف، بالأديان التشاؤمية. إذ أنها كلها شايعت إمكانية بلوغ السكينة والكمال. إلا أن الهدف لا يخضع للتاريخ. فهذا الهدف، بالنسبة للبراهميين ليس مجرد التخلص من الوهم ومن الجهل كما يكون في النجاة من الألم إنه أيضاً sat و chit و an and أي حقيقة ورؤية الله في السماء وغبطة. وهو عند البوذيين إحراز السلام والفرح في النيرفانا. وبالنسبة للجاييين هو التجربة الروحية الكاملة. كما إنه لدى السيخ الوجد في حب الله. وأما البراهمية في مفهومها لليلا فتقر مشاركة في الخيرات التجريبية في التاريخ العادي. أما السيخ، فإنهم من ناحيتهم لم يشجعوا الزهد، على الرغم من أنهم لا يجهلون ما في الاهتمام بالشؤون الدنيوية وحدها من أخطار([7]).

 


 

3

 

عدم الثنائية في فكر شانكارا

أما المفكرون الأصوليون الآخرون، الذين اتبعوا منهج بادارايانا واستعانوا بتلخيصه لكتابات الأوبانيشاد في «براهما سوترا»؛ فقد رأَوْا تعاليم الفيدا في سياقِ ضرورةِ اكتسابِ المعرفة المتعلقة بجوهر الكون، براهمان، بدلًا من أداء طقوس القرابين. ويوجد دليلٌ على سلالة طويلة من هؤلاء المفكرين الذين يُطلق عليهم المفكرون «الفيدانتيون» (كتابات الأوبانيشاد هي فيدانتا، أو «نهاية الفيدا»). إلا أن أكثرهم تأثيرًا كان شانكارا، الذي عاش في القرن الثامن الميلادي، وجمع فكر فيدانتا على نحوٍ منظَّم بقدرٍ يكفي للاشتراك في الجدل الهجومي الجاد ضد الآخرين.

وكان أبرز أعمال شانكارا تعليقه على «براهما سوترا» لصاحبها بادارايانا، مفسرًا ما رأى أنه تأويل قاطع لرسالة الأوبانيشاد. أما أهم أعماله التي لا تنتمي لفئة التعليقات فهو «أوباديشا ساهاسري»؛ أي «التعاليم الألف». واستخدم شانكارا «براهما سوترا» وكتابات الأوبانيشاد نفسَها و«بهاجافاد جيتا» كثلاثة نصوص رئيسية، وسعى هذا العمل التأويلي إلى تقديم تعاليم هذه المصادر الثلاثة في هيئة موحدة، يُطلق عليها «الأساس الثلاثي» للحقيقة المكشوفة.

ولفهم موقف شانكارا من أدفايتا فيدانتا، ذلك التفسير «غير المثنوي» للوجودية المعبَّر عنها على نحوٍ أساسي في كتابات الأوبانيشاد، يمكن أن تكون نقطة انطلاقنا هي هذه الفقرة من «تشاندوجيا أوبانيشاد»، التي تقول:

في البداية، كان هذا الكون مجردَ وجودٍ [أي براهمان] — واحد فقط، دون ثانٍ — وقال لنفسه: «لأُصبحْ متعددًا؛ لأضاعِفْ نفسي.» «تشاندوجيا أوبانيشاد»، المجلد ٦

بالإضافة إلى:

من خلال قطعة صلصال واحدة فحسب، يمكن معرفة كل شيء مصنوع من الصلصال؛ فأية تعديلات هي مجرد فروق لفظية، أسماء؛ فالحقيقة هي فقط الصلصال. «تشاندوجيا أوبانيشاد»، المجلد ٦

هاتان الفقرتان تثبتان نقطتين أساسيتين بالنسبة لشانكارا؛ أولاهما: وجود كونٍ غير مثنوي، كون واحدي، جوهره البراهمان، وثانيتهما: حقيقة أن كلَّ أشكالِ التغيير ظاهريةٌ فقط؛ فالبراهمان لا يتغيَّر في واقع الأمر. وهذا النوع من الواحدية هو شكل من أشكال «النتيجة الموجودة مسبقًا في المسبِّب» («ساتكاريافادا») يختلف عما رأيناه في سياق سانكيا في الفصل السابع. وفي هذا الصدد، لا تتضمن النتيجة أية تحولات فِعْليَّه في المسبِّب المادي، لكنه مجردُ تجلٍّ ظاهرٍ للتعددية. ويُطلق على هذا «فيفارتا فادا»: «التجلي» عن طريق المظهر.

ورغم ذلك، بذلَ شانكارا قصارى جهده لإثبات أن مظهر التعددية لديه حقيقةٌ اصطلاحية حتى وإن لم تكن حقيقيةً على نحوٍ مطلق. وقدَّم «نوعين من الحقيقة» — حقيقة اصطلاحية وحقيقة مطلقة — وأثناء فعل ذلك جعل نفسه عرضة لاتهام الآخرين له بأنه «بوذيٌّ مستتر». وأنكر شانكارا هذه الاتهامات إنكارًا قاطعًا، واستنكر مبدأ الخواء ومبدأ عدم الجوهرية اللذين تقول بهما البوذية، وأعلن أن الحقيقة الأساسية للبراهمان، جوهر «تشاندوجيا أوبانيشاد»، هي المادة المكونة للكون. وقال شانكارا إن معرفة البراهمان الموجود هي الهدف التجريبي المطلق للإنسان وليس (فقط) معرفة عدم واقعية العالم التجريبي المؤسس بناءً على الإدراك.

عدم ثنائية شانكارا

إن تأويلات «أدفايتا» المتعلقة بمدرسة أدفايتا فيدانتا لصاحبها شانكارا تمثِّل تفسيرًا لكتابات الأوبانيشاد، ذلك التفسير الذي يقدم وجودية «غير ثنائية» أو وجودية واحدية؛ فكل شيء براهمان، ومن هذا المنطلق فإن ذات المرء، أتمان، هي أيضًا براهمان. ومن هنا جاء التعبير الشهير: «أتمان هي براهمان.» وبالنسبة لشانكارا، فإن براهمان هو جوهرٌ مطلق غير متغير. وكل أشكال التعددية هي ظاهرية فحسب، وليست فِعلية. ورغم ذلك، فهذا لا يعني أنه من الصحيح قول إن تعددية العالم التجريبي هي تعدديةٌ غير واقعية أو غير موجودة على الإطلاق، بل هي واقعية «تقليدية» فحسب.

ومن التشبيهات شائعة الاقتباس ذلك التشبيه المتعلق برؤية ثعبان في حين أنه حبلٌ ملفوف في واقع الأمر. إن الرؤية المزيفة «حقيقية» بالنسبة لنا عند حدوثها، ولها آثار «حقيقية» علينا، إلا أن الحبل الملفوف ظلَّ كما هو لم يتغير، ويمكن إدراكه على النحو «الأكثر واقعية» عند إدراك طبيعة الإدراك الزائف. ويوجد تشبيه آخر مرتبط على نحوٍ أكثر تحديدًا بالذات باعتبارها جزءًا من البراهمان غير المتغير، وهذا التشبيه على النحو التالي:

… إن فكرة أن الذات تتعرَّض للميلاد المتكرر والتغيير تُشَابه التجربة «الزائفة» التي يشهدها المرء عند الانتقال عبر النهر في قارب ويعتقد أن الأشجار الموجودة على الضفة تتحرك. ومثلما تبدو الأشجار متحركة على الجانب المقابل للشخص الموجود في القارب، يبدو أن الذات أيضًا تُولَد مرات متكررة. «أوباديشا ساهاسري»، المجلد ٥

وانتقد شانكارا بشدة ثنائية سانكيا، واصفًا إياها بالزائفة، واستطرد قائلًا إن الواقعية التعددية التي قال بها مفكرو نيايا وميمانسا نشأَت عن اعتقادهم على نحوٍ خاطئ أن التعددية التقليدية هي الحقيقة المطلقة. علاوة على ذلك، فإن كل هذه المواقف الخاطئة تتعارض مع التفسير الصحيح للأوبانيشاد (أي تفسير شانكارا)؛ وأيًّا كانت الحجج التي قد يسوقها الآخرون دعمًا لموقفهم، سواء كانت منطقية أو غير منطقية، فكلها تصبح غير صحيحة في مواجهة تفسير شانكارا لكتابات الأوبانيشاد.

دعمًا لـ(لا ثنائية) شانكارا

الذات (أتمان)، هي حقًّا هذا العالم كله. «تشاندوجيا أوبانيشاد»، المجلد ٧

براهمان حقًّا هو هذا العالم كله، هذا المدى الأوسع. «مونداكا أوبانيشاد»، المجلد٢

يجب ألا يشكِّك المرء اعتمادًا على قوة المنطق فحسب في أحد الأمور اللازم تأكيدها من كتابات الفيدا. «بهاشيا براهما سوترا لصاحبها شانكارا»، المجلد ٢

ويرى شانكارا أن تجربة الحقيقة التقليدية تنشأ بسبب الجهل بالطبيعة الحقيقية للحقيقة المطلقة؛ فليس براهمان غير المتغير هو مصدر وسبب التعددية التجريبية بل الجهل. والتغلب على الجهل واكتساب معرفة هوية الذات الجوهرية للمرء (أتمان) والجوهر الشامل (براهمان) يؤديان إلى التحرر من دائرة الميلاد المتكرر الناشئة عن الجهل. وعن سؤال: «من أين يأتي الجهل إذا كان كل شيء براهمان؟» يقول شانكارا إنه من ناحية المعرفة لا يوجد شيء اسمه جهل كي نسأل عن مصدره؛ فالمعرفة في حدِّ ذاتها «تلغي» كل الأفكار المتعلقة بالجهل، ومن ناحية الجهل، فلا يمكن الإجابة عن السؤال؛ لأن فكرة بداية الجهل تصبح مطروحة وذات معنًى فقط من خلال الجهل نفسه.

ويحظى العالم التقليدي بأهمية بالغة لدى شانكارا لسببين؛ أولًا: في هذا المستوى تُكشف الفيدا الحقيقة الأبدية، وثانيًا: في هذا المستوى يمكن للمرء أن يسعى لاكتساب البصيرة المحررة. وعلى نحوٍ مشابه، وإن كان أكثر توضيحًا من الناحية العملية، لتشبيهات الحبل والثعبان وضفة النهر التي قدَّمها شانكارا (انظر المربع التالي)، فإن مفكري أدفايتا فيدانتا المعاصرين يفسِّرون ذلك العالم التقليدي على النحو التالي:

افترض أنك تحلم بأنك مطارَدٌ من قِبَل نمرٍ آكلٍ للبشر، وأنك في خوف شديد وتجري لتنجو بحياتك. وأثناء شعورك بما يبدو خوفًا حقيقيًّا للغاية سوف يخضع جسمك لكل أنواع التغيرات الفسيولوجية بما فيها زيادة نبضات القلب والتعرق، وبعد ذلك، في أثناء حلمك سيأتي أحد أصدقائك غير المطارَدين ويطلق النار على النمر ويقتله، وسوف يوقظك صوت الطلقة في الحلم، وعند هذه النقطة سوف تدرك أن مستوى الواقعية في الحلم ليس على مستوى واقعية حالة اليقظة. ورغم ذلك، فإن التجربة على صعيد المطاردة وعلى صعيد التحرُّر من المطاردة نابعة في الحالتين من مستوًى «أقل واقعية».

مايا — الوهم — ومُسْتَويَا الحقيقة لدى شانكارا

يُستخدم مصطلح «مايا» في بعض الأحيان في سياق أدفايتا فيدانتا على نحوٍ يشير إلى أن الحقيقة الاصطلاحية «غير حقيقية» أو «وهمية». وعلى الرغم من أن بعض مفكري أدفايتا استخدموا هذا المصطلح، فإن شانكارا لم يستخدمه، وبدلًا من استخدام هذا المصطلح، افترض شانكارا وجود «مستويَيْن من الحقيقة»؛ أحدهما مطلق والآخر اصطلاحي. والحقيقة الاصطلاحية هي نتيجة الجهل، «أفيديا». وهذا يعني أن العالم الذي نعيش فيه ونحن جهلاء هو عالم «حقيقي» عند هذا المستوى، لكن عندما تحلُّ المعرفة محلَّ الجهل، فإننا نرى أن الحقيقة تختلف عن العالم الاصطلاحي.

وبلغة كتابات الأوبانيشاد — إذ ينبغي أن نتذكر دائمًا أن شانكارا كان مؤوِّلًا في المقام الأول — فإن الحقيقة الاصطلاحية هي «براهمان ذو صفات» («ساجونا براهمان») والحقيقة المطلقة هي «براهمان بلا صفات» («نيرجونا براهمان»). ويوجد هذان التعبيران في كتابات «شفيتاشفاتارا أوبانيشاد». ووفقًا لهذه الأوبانيشاد فإنه بالإضافة إلى «البراهمان ذي الصفات»، وكذلك العالم الاصطلاحي، فإنه يوجد إله شخصي. وكثيرًا ما تُغفَل حقيقة أن شانكارا كان مؤمنًا بالواحدية؛ فقد كان يعبد إلهًا شخصيًّا وفي الوقت نفسه يعتقد بوحدة الوجود في نهاية المطاف. إن افتراض وجود إله شخصي لا يمثِّل مشكلة كبيرة بالنسبة لشخص يؤمن بالواحدية أكثر مما تمثِّله له التعددية الموجودة حولنا؛ ففي نهاية المطاف، الإله الشخصي والناس والأشياء كلها براهمان.

إن فلسفة أدفايتا فيدانتا لصاحبها شانكارا هي على الأرجح أشهر «الفلسفات» الهندية؛ فلقد كانت أولى الفلسفات التي صُدِّرَت وقُدِّمت إلى الغرب؛ حيث قدَّمها الممارس الفيدانتي فيفيكاناندا في المجلس العالمي للأديان في شيكاجو في عام ١٨٩٣ تحت مسمى «الهندوسية»، وأصبحت فيما بعدُ رائجةً في مراكز مختلفة، مثل «بعثات راماكريشنا» في العديد من البلدان الغربية. ومنذ ذلك الحين، اكتسبت شهرة كبيرة في أنحاء العالم، لدرجة أنه ليس الغرباءُ وحدَهم هم الذين لا يدركون في الغالب أنها مجردُ واحدةٍ من بين العديد من مدارس الفكر الهندي، بل في بعضِ الأحيان تروج داخل شبه القارة الهندية نفسها على أنها «التراث الديني الفلسفي التقليدي للهند»([8]).

4

 

الفيدنتا

بما أن كتب الأبانيشاد قد دونت الكثير من الآراء الفلسفية للعديد من المفكرين، فإنها تشتمل على مختلف الأفكار التي تندرج تحت نظرة عامة موحدة. فالفيلسوف بدريانا، في كتابه الفيدنتا - سوترا الذي ألفه في غضون القرن السادس أو الخامس قبل الميلاد، قام بجمع تعاليم الأبانيشاد واتخذ منها نظاماً متكاملاً. وقد فتحت ملخصاته المجال للعديد من التأويلات، فكتبت حولها شروح كثيرة أهمها شرح الفيلسوفين شنكراجاريا في غضون القرن التاسع الميلادي، وشرح رمنوجا في غضون القرن الحادي عشر الميلادي، اللذان يعدان من النصوص الأساسية التي اعتمدت عليها المدرستان الشهيرتان في الفكر الفيدنتي، وهما أدفايتا وفيشستدفايتا.

الأدفايتا

يرى شنكراجاريا أن البشر يدركون العالم من خلال منظورين: فبالنسبة للمنظور الأعلى يعدون الواقع مشخّصاً في براهما: العليم، المنزه عن النقائص، الخالد. أما بالنسبة للمنظور في الأدنى فالعالم يبدو لهم مكوناً من المواد والأرواح خلقها الله وأمدها بأسباب الحياة.

لكن، كيف تكوَّن هذان المنظوران في ذهن الإنسان؟

إن براهما يتمتع بقدرة إلـهـيـة (المايا) تمكنه من أن يستحضر في الذهن عالماً حافلاً بالمشاهد السحرية. أما روح الإنسان فهي في حالة من الجهل (أفـيديا) وبالتالي فإن منظورها هو من المستوى الأدنى، مما يجعلها تعد عالم المشاهد السحرية مطابقاً للواقع. لذلك لابد للروح أن تتعذب وأن تولد المرة تلو المرة، وفق قانون الكارما. لكن الإنسان عندما يتأتى له أن يقضي على جهله فإنه يدرك أن العالم زائف وأن الواقع يتمثل في براهما وحده، وأنه، هو وبراهما، كيان واحد. عندئذ يتحرر تماما ويصل إلى درجة الموكشا.

يعتقد شنكراجاريا أن الطريق الوحيد للتحرر إنما يكون بالمعرفة الصحيحة التي يمكن الحصول عليها بالاستقامة الأخلاقية والدراسة على يد معلم مقتدر.

أزعجت منظومة شنكراجاريا الفلسفية الأوساط المتمسكة بالأديان الهندية الوثنية، لأنه قال إن كل الأشياء، بما فيها الإله، إنما هي جزء من العالم الزائف. أما رامانوجا، الذي كان من الأتباع المتحمسين للإله فيشنو، فقد تصدى للرد على شنكراجاريا على شرحه الخاطئ لكتب الأبانيشاد، وكان ذلك في عمله الأساسي، بعنوان سريبهاشيا، حيث قام بشرح الفيدنتا - سوترا.

الفيشستدفايتا

قام رامانوجا بتأسيس المدرسة الفيدنتية الكبرى الثانية المسماة، الفيشستـدفـايتا، حيث حاول أن يبرهن على أن تصور شنكراجاريا حول براهما جعله أمراً مجرداً من الكينونة، كما أن تصوره للقدرة الإلهية (المايا) غير معقول، لأنه يبعث على الاعتقاد بأن براهما قد يقع في الوهم، فيظن بأنه ليس وعيًا وحدويا محضا، وإنما هو عدد وافر من الأشياء الجامدة والكائنات الحية المتغيرة.

أما رامانوجا فيقول إن براهما وأرواح الناس والأشياء المادية، كلها واقعية على أن براهما يمثل الواقعية ذات الاستقلال، بينما الأرواح والأشياء المادية هي تابعة لبراهما. فالعالم بما في ذلك الأرواح وبراهما، مترابطان، مثل ارتباط الجسم بالروح ولا ينفصلان، بحيث يقوم براهما بالمراقبة من الداخل. أما الروح الحبيسة في الجسم، فهي قادرة على تحقيق خلاصها إذا هي واظبت على ذكر الإله واستمرت فيه. كما أن التفاني في العبادة يتطور إلى تجلي المعبود على الفور، مما يؤدّي إلى زوال قانون الكارما، أي تكرر الولادة، وبذلك يتحصل العابد على التحرر من قيوده الموكشا.

الفلسفة الهندية المعاصرة

لم تحدث تطورات جديدة في الفلسفة الهندية فيما بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر الميلاديين. أما في القرن العشرين الميلادي فقد شهد بداية حركة تجديدية في الفلسفة. وكان سرفيبالي رذا کرشنان (۱۸۸۸ - ۱۹۷٥م) أبرز الدعاة إلى تجديد بناء الأدفايتا. أما سري أوروبندو (۱۸۷۳ - ۱۹٥۰م) ففي فلسفته حول الفيدنتا المتكاملة قد انتقل بالفيدنتا، من نظرتها المتبصرة إلى منظومة فلسفية متطورة، حيث ترقى الإنسانية من الصعيد المادي إلى صعيد العقل الأعلى. كما أن موهنداس كرمشند غاندي ( ۱۸٦۹ - ۱۹٤۸م) وضع فلسفة سياسية اجتماعية مرتكزة على الأهيمسا أو عدم العنف، وعلى الحقيقة. أما ك. س . يهاتشاريا (۱۸۷٥ - ۱۹٤۹م) فقال إن الفينومينولوجيا (الظواهرية) أي الدراسة التفصيلية للخبرة الشعورية، قد تساعد في تحقيق الذات الطموح للحرية الكاملة. ووضع مانا بندرا نات روي (۱۸۸۹ - ۱۹٥٤م) للفلسفة المادية صيغة جديدة. ونظراً لأنه يميل إلى الاتجاه الإنساني الراديكالي فقد عد الإنسانية جزءاً من الطبيعة المادية التي لا تستكمل مقومات ذاتها إلا إذا تشبعت بقيم الحرية السياسية وبالديمقراطية([9]).

 


 

5

 

الأوبانيشادات

تمثل الأوبانيشادات Upanishad الشطر النهائي من متون الوحي شروتي من الفيدا، وهي أساس مذهب اللا اثنينية أدفايتا فيدانتا، فهي الاستنباطات الفلسفية المشتقة عن فيدا، وهي متون قيمة للغاية يطلبها الساعون إلى الحكمة لتعاليها الرحب وحريتها الفكرية الفائقة، ... تعتمد على الأقسام السابقة من الفيدا، فهي تنتمي إليها قلبا وقالبا، إلا أنها تحتفظ باستقلالها عن العقائد الكهنوتية، وبفهم آتمان وبراهمان والتماهي معهما، وفهم معنى المقطع المقدس آوم من أهم موضوعات الأوبانيشادات([10]).

مبادئ فيدانتا الثلاثة

تنطوي فيدانتا على ثلاثة مبادئ أساسية هي: جيفاتما (الروح الفردية) وبراهمان (الكائن الأعلى) ومايا (الفهم الخاطئ التوهمي أو ستار الجهل). لكن في الفيدانتا أيضاً تفسيرات مختلفة للعلاقة بين الروح الفردية والكائن الأعلى. وقد توسع شانكارا، وهو أهم المفكرين بالنسبة للديانة الهندوسية كلها في تفسير العلاقة بين الروح والحقيقة المطلقة. ولكونه عالماً ميتافيزيقياً ماورائياً كبيراً، عمل شانكارا على قولبة الفلسفة الفيدانتية وعلم طريقة جنانا يوغا، أو السبيل إلى الإله، عن طريق المعرفة. وما زال كثيرون من الهندوس يمارسون فلسفة شانكارا وطريقته الروحانية المعروفة باسم أدفايتا فيدانتا حتى اليوم.

يقول شانكارا إن براهمان حقيقي. أما العالم فمظهر وهمي، والروح الفردية (جيفا) هي براهمان وحده وليس غيره. ليس في العالم شيء «حقيقي» بمعنى أنه يوجد بمعزل أو باستقلال عن براهمان، فكل شيء هو في الواقع متراكب منعكس على براهمان وإرجاع السبب في الوجود المستقل إلى أي شيء هو فهم مغلوط نتيجة أفيديا (الجهل). ولذلك، فإن فهم العالم من خلال هذا المنظور على أنه شيء غير براهمان (أي إن الأدوات والأمكنة والناس والأفكار وغيرهم لهم وجود مستقل عن براهمان) هو مايا (وهم)([11]).

يقول سوامي نكهيلانادا إن مايا (الوهم) بشقيه الجماعي والفردي يخفي الطبيعة الحقيقية لبراهمان. لذا يبدو براهمان اللامحدود والأبدي نتيجة لذلك وكأنه كائن نهائي يحدده الزمان والمكان وقانون السببية. ويبدو براهمان، الذي لا خصائص له وليست له مميزات، بارتباطه مع مايا (الوهم) الكوني وكأنه "براهما ذو خصائص" (ساغونا براهمان). وهو يدعى عندئذ إسفارا Isvara Ishtadeva إشتاديفا أو الإله الشخصي».

يظهر الوهم مايا في العالم من خلال ثلاث غونات (أي صفات أو مزايا). والغونات (الصفات الثلاث هي ساتفا (Sattva) (الأفكار النقية الكريمة وراجاس الأفكار الانفعالية المتوثبة) وتاماس (Tamas) (الأفكار الساكنة الجامدة ). ويصف شانكارا في كتابه Vivekachoodamani فيفيكاتشود اماني أو جوهرة تاج حسن التمييز الغونات الثلاث على الوجه التالي:

ساتفا الطاهرة مثل الماء النقي الصافي، لكنها بالاندماج مع راجاس وتاماس تمكن من الانتقال إلى التقمص. ولكن عندما ينعكس نور الذات في ساتفا وحدها، يكشف عندئذ مثل ما تكشف الشمس العالم الدنيوي كله.

راجاس تملك قدرة التحويل vikshepasakti فيكشيبا ساكتي. فالنشاط من طبيعتها الفعالة. ومنها نبع أصلاً تدفق النشاط الأولي. ومنها تنبع باستمرار التكيفات العقلية كالتعلق والحزن.

أما قوة الحجب (الإخفاء) أفريتي، فهي القوة التي تتمتع بها تاماس التي تجعل الأمور تبدو على غير حقيقتها الواقعة. فهي تسبب تكرار تحوُّل الإنسان وتطلق قوة فيكشيبا، عملية التحويل (التقمص).

الرحلة الروحية عند كثير من الهندوس عملية للتخلص من الجهل عن طريق أداء السدهانات (sadhanas) الثلاث الرئيسية للفيدانتا (الممارسات الروحانية لتحقيق الغايات) وهي: الاستماع والتفكير والتأمل وزوال الجهل يعني التمييز بين الحقيقي وغير الحقيقي (الزائف)، الأزلي والزائل([12]).



[1]- «سانکره Sankara - ۷۸ - - ۸۲۰ ق.م): أحد أبرز رجال الدين تأثيرًا في التراث الميتافيزيقي الهندوسي، وهو مؤسس طائفة من الزهاد تلقب بالسمريتين أو السلفيين، وما تزال مدرسته تمارس تعاليمها حتى الآن في دير شريبنجري، ويطلقون على تعاليمه اسم «الأدفايتا» Advaita أي اللاثنائية، حيث رفع التمييز بين الذات والله، ومن ثم جعل الكثرة وهما لأن الحقيقة واحدة وهي الله. (نفس المصدر)

[2]- المصدر: هنا.

[3]-  موسوعة تاريخ الأديان. الكتاب الرابع، هنا.

[4]- في السعادة : رحلة فلسفية، هنا.

[5]- الحكيم الموحّد كمال جنبلاط في تجلّياته الهندية، هنا.

[6]- المعجم الفلسفي، هنا.

[7]- المذاهب الكبرى في التاريخ: من كونفوشيوس الى تونبي،  من صفحة 48 إلى صفحة 52، هنا.

[8]- الفلسفة الهنديَّة: مقدمة قصيرة جدًّا، هنا.

[9]- الموسوعة العربية العالمية، الطبعة الثانية 1999، المجلد 26، ص 203-204.  

[10]- الفكر والحياة الاسلامية، سيد حسين نصر، ص 296، هنا.

[11]- تراثنا الروحي: من بدايات التاريخ إلى الأديان المعاصرة، هنا.

[12]- تراثنا الروحي: من بدايات التاريخ إلى الأديان المعاصرة، هنا.

تعليقات

مواضيع المقالة