الفصل الأول: تمهيد عام حول الفيدانتا
الـ«فيدانتا» (Vedānta)، على خلاف ما يذهب إليه معظم المستشرقين، ليست فلسفة، وليست ديانة، وليست كذلك شيئاً يجمع بينهما أو يشاركهما في بعض الجوانب. إنّ من أخطر الأخطاء أن يُحاول أحد النظر إلى هذه العقيدة من زاويتَي الفلسفة أو الدين، لأنّ ذلك يعني، منذ البداية، الحكم على نفسه بالعجز عن فهمها. فمَن يسلك هذا المسلك يُظهر أنه غريبٌ تماماً عن الطبيعة الحقيقية للفكر الشرقي، الذي تختلف طرائقه جذرياً عن طرائق الفكر الغربي، ولا يمكن حشره في نفس الأطر والمفاهيم.
لقد سبق أن شرحنا، في كتاب سابق، أنّ الدين (la religion) — إذا أردنا أن نُبقي الكلمة على معناها الدقيق — هو ظاهرة خاصة بالغرب؛ ولذلك فإنّ تطبيق هذا المصطلح على العقائد الشرقية لا يمكن أن يتم إلا من خلال توسيع مفرط وتعسفي في معناه، إلى درجة تفقده أي تعريف دقيق أو مُحدد. أما الفلسفة، فإنها تُعبّر عن منظورٍ غربيٍ خالص، بل إنها، في الواقع، أكثر سطحية وبعداً من الدين عن الأمور التي نتناولها هنا. وقد أشرنا من قبل إلى أنّها تُعدّ نوعاً من المعرفة الدنيوية البحتة (أو "العامّية")([1])، حتى في حال لم تكن مجرد وهم خالص. بل إننا، عندما ننظر إلى ما آلت إليه الفلسفة في العصر الحديث، لا يسعنا إلا أن نعتقد أن غيابها في حضارة ما ليس مدعاة للأسف مطلقاً. وقد صرّح أحد المستشرقين في كتاب نُشر حديثاً أن «الفلسفة هي الفلسفة في كل مكان»، وهو قول يفتح الباب على مصراعيه لكل أنواع الخلط والمقارنات المغلوطة، بما فيها تلك التي كان الكاتب نفسه يُحاول — بكل حق — أن يُحذّر منها في مواضع أخرى من كتابه. أما نحن فننكر تماماً هذا الادعاء؛ فليس من الصحيح البتّة أن تكون هناك «فلسفة» في كل مكان، ولا أن يُنظر إلى الفلسفة الغربية باعتبارها هي ذاتها "الفكر الإنساني الشامل"، كما زعم نفس المؤلف؛ إذ إنها، في الحقيقة، ليست سوى نمط واحد خاص من أنماط الفكر، يتميّز بخصوصية مفرطة.
وهنالك مؤرخ آخر للعقائد الشرقية، وعلى الرغم من اعترافه، من حيث المبدأ، بأن التسميات الغربية التي تُفرض على تلك العقائد غير دقيقة وغير كافية، فإنه مع ذلك صرّح بعدم قدرته على الاستغناء عنها، واستمر في استعمالها بوفرة لا تقل عن سابقيه. وقد بدا لنا هذا الأمر عجيباً، لأننا — من جهتنا — لم نشعر يوماً بحاجة إلى اللجوء إلى تلك المصطلحات الفلسفية، التي حتى لو لم تكن مغلوطة في تطبيقها (كما هي دوماً)، فإنها تبقى نَفُورَة، مُعقّدة بلا طائل، وتُعيق الفهم أكثر مما تخدمه. ولا نرغب في الدخول، هنا، في نقاشات مطوّلة حول هذه النقطة؛ فقد أردنا فقط أن نُبيّن، من خلال هذه الأمثلة، مدى صعوبة تخلّي بعض الناس عن القوالب الفكرية "الكلاسيكية" التي رسّختها في عقولهم التربية الغربية منذ الصغر.
بالعودة إلى الفيدانتا، يمكننا القول — في الواقع — إنّها عقيدة ميتافيزيقية محضة، منفتحة على إمكانيات تصوّر غير محدودة على الإطلاق؛ وبالتالي، فهي لا يمكن أن تُقيَّد بأيّ حدود أو قوالب ضيقة كالتي تفرضها النظم أو المذاهب الفكرية. ومن هذه الزاوية وحدها، حتى من دون الخوض في تفاصيل أعمق، تظهر لدينا فجوة جوهرية لا يمكن ردمها — بل هي اختلاف مبدئي في الأساس ذاته — بين هذه العقيدة وبين كل ما يطلق عليه الأوروبيون اسم "فلسفة". فإنّ الطموح المُعلَن لكافة الاتجاهات الفلسفية، وخصوصًا في العصر الحديث — حيث تُدفع النزعة الفردانية إلى أقصاها، وتتضخم الرغبة في "التميّز" والانفراد بالرأي مهما كان الثمن — هو أن تُنتج أنظمة فكرية مغلقة، مكتملة، مُعَرَّفة بدقة؛ أي، باختصار، أنظمة نسبية ومحدودة من كل جانب. وفي الحقيقة، فإن أي نظام فلسفي ليس في جوهره سوى رؤية فكرية مغلقة، تُحدِّدها حدودٌ عقلية هي حصيلة "الأفق الذهني" لصاحب هذا النظام، أي محدوديته الذاتية. أما الميتافيزيقا المحضة، فإنها لا يمكن أن تُنظَّم في شكل نظامٍ أو تُحبس ضمن نسق، لأنّها — بطبيعتها — تتجاوز كل ما هو فردي، وتعتبر كل ما ينتمي إلى هذا المجال عديم الوجود فعليًا من منظورها. وهي كذلك منفصلة تمامًا عن كل النسبيات والقيود والظروف الفلسفية وغيرها. ويجب أن يكون الأمر كذلك ضرورةً، لأنّ الميتافيزيقا هي، في جوهرها، معرفة الكلّيّ، معرفة المطلق، معرفة "الكوني"؛ ومثل هذه المعرفة لا يمكن أبداً أن تُحصر في أي صيغة أو عبارة، مهما بدت شاملة أو جامعة([2]).
إنّ التصورات الميتافيزيقية والكونية المتعددة في الهند ليست، بالمعنى الدقيق، عقائد مختلفة، بل هي في جوهرها تفرعات وتوسعات لعقيدة واحدة، تأخذ اتجاهات متنوّعة وزوايا نظر متعددة، من غير أن تتعارض أو تتناقض فيما بينها. والدليل على ذلك واضح في اللغة نفسها: فالكلمة السنسكريتية «دارشانا» (darśana)، والتي تُستعمل للإشارة إلى كل من هذه التصورات أو المدارس، تعني في أصلها «رؤية» أو «وجهة نظر»؛ إذ إنّها مشتقة من الجذر «درش» (dṛś) الذي يدل أساسًا على «الرؤية». وهذا يعني أنّ كل «دارشانا» تمثل منظورًا خاصًا، زاوية نظر إلى الحقيقة، لا أكثر. وبالتالي، فإنّ ترجمتها على الطريقة الغربية بـ«نظام» أو «مذهب» فلسفي، كما يفعل بعض المستشرقين، هي ترجمة مغلوطة، ناجمة عن إسقاط عادات فكرية غربية على تصورات لا تنتمي إلى نفس الإطار الذهني. فهؤلاء المستشرقون، لأنهم لا يرون في الفكر إلا فلسفة، ولا في الفلسفة إلا أنظمة ومذاهب مغلقة، فإنهم يقعون بشكل تلقائي في خطأ تعميم تصوراتهم على كل ما يقابلونه، حتى لو كان ينتمي إلى سياق حضاري وفكري مغاير تمامًا.
العقيدة الواحدة التي أشرنا إليها آنفًا تشكل جوهر الفيدا (Vêda)، أي العلم المقدس التقليدي بامتياز، إذ أن هذا هو بالضبط المعنى الحقيقي لكلمة "فيدا" في الأصل([3]). فهي تمثل المبدأ والأساس المشترك لكل الفروع الأخرى، سواء كانت ثانوية أو مشتقة، وهي تلك التصورات المتنوعة التي أساء بعضهم فهمها فاعتبروها أنظمة متعارضة ومتنافسة. لكن في الحقيقة، ما دامت هذه التصورات المختلفة منسجمة مع مبدئها الأصلي، فلا يمكن أن تتناقض فيما بينها، بل على العكس، هي تُكمل وتُضيء بعضها بعضًا. ولا ينبغي أن يُفهم هذا الكلام على أنه شكل من الترقيع التوفيقي (Syncrétisme) المصطنع والمتأخر، بل الحقيقة أن العقيدة بأكملها كانت موجودة بصورة تركيبية في الفيدا منذ البداية. إنّ التقليد، في كليّته، يشكّل نسقًا منسجمًا تمامًا، وهذا لا يعني أنه نسق "نظامي" أو "ممنهج" بالمعنى الغربي للكلمة. فجميع وجهات النظر التي يتضمّنها هذا التقليد يمكن النظر إليها في وقت واحد أو بشكل متتابع، ولا فائدة حقيقية من محاولة تتبّع الترتيب التاريخي الذي تطوّرت فيه هذه التصورات أو تمّ التعبير عنها، حتى لو سلّمنا - جدلًا - بإمكانية وجود نقل شفهي امتدّ لفترة زمنية غير محددة، وهو ما يجعل أصلًا أيّ محاولة لإيجاد حل لمسألة كهذه أشبه بالوهم. نعم، قد تتغيّر الصيغة الظاهرية للعرض في فترات مختلفة لتتكيف مع الظروف، لكن جوهر العقيدة يبقى ثابتًا بشكل صارم، وهذه التغيرات الشكلية لا تمسّ ولا تؤثر على لبّ المضمون.
اتّساق أيّ تصور – من أيّ نوع كان – مع المبدأ الأساسي للتقليد هو الشرط الضروري والكافي لاعتباره تصورًا أرثوذكسيًا، وهذه الأرثوذكسية لا يجب فهمها بمعناها الديني؛ من المهم التأكيد على هذه النقطة لتجنّب أيّ التباس، لأن مفهوم الأرثوذكسية في الغرب غالبًا ما يُفهم حصريًا من المنظور الديني.
فيما يخص الميتافيزيقا وكل ما ينبثق عنها – بشكل مباشر أو غير مباشر – فإن الهرطقة (ou l’hétérodoxie)، في جوهرها، ليست سوى الخطأ أو الزيف الناتج عن عدم توافق التصوّر مع المبادئ الأساسية. وبما أن هذه المبادئ موجودة في الفيدا، فإن مقياس الأرثوذكسية هو الاتّساق مع الفيدا. إذًا، تبدأ الهرطقة حيثما يبدأ التناقض، سواء أكان متعمّدًا أو غير متعمّد، مع تعاليم الفيدا. وهي تشكّل انحرافًا أو تحريفًا للعقيدة، قد يكون سطحيًا أو عميقًا بحسب الحالة. غير أن مثل هذه الانحرافات لا تحدث عادةً إلا في مدارس محدودة النطاق، وغالبًا ما تكون في نقاط جزئية ذات أهمية ثانوية. هذا، خاصة أن هناك قوة كامنة في التقليد نفسه تعمل على تقييد انتشار الأخطاء الفردية، والتخلّص مما يتجاوز حدودًا معيّنة، أو على الأقل منعها من أن تنتشر وتحظى بأي سلطة حقيقية. حتى عندما تكون هناك مدرسة جزئيًا هرطقية قد أصبحت، بدرجة ما، ممثّلة لأحد الدارشانا (نُظُم الرؤية)، مثل المدرسة الذرّية ضمن الفيشيشيكا (Vaishêshika)، فإن ذلك لا يمسّ بشرعية الدارشانا نفسه. ويكفي ببساطة العودة به إلى جوهره الحقيقي والأساسي للبقاء ضمن إطار الأرثوذكسية. وفي هذا السياق، لا نجد أفضل من الاقتباس التالي من شرح سـانكيا برافاتشانا بهاشيا (Sânkhya-Pravachana-Bhâshya) لـ فيجنانا-بهيكشو (Vijnâna-Bhikshu) كإشارة عامة: «في عقيدة كانادا (الفيشيشيكا) وفي السانكيا (لكابيلا)، فإن الجزء المخالف للفيدا يجب أن يُرفض من قبل أولئك الذين يتمسكون تقليديًا بالأرثوذكسية؛ أما في عقيدة جيميني وفي عقيدة فياسا (الاثنتين تمثلان مدرستي الميمامسا)، فلا شيء فيها يخالف النصوص المقدّسة (التي تُعتبر أساس هذا التقليد)».
اسم ميمانسا (Mîmânsâ)، المشتق من الجذر الفعلي man (الذي يعني «التفكير»)، في صيغة التكرار (itérative)، يدل على الدراسة المتأنّية والمتفكرة للعلم المقدس؛ إنه الثمرة الفكرية للتأمل في الفيدا. تُنسب الميمانسا الأولى (Pûrva-Mîmânsâ) إلى جيميني (Jaimini)؛ ولكن، ينبغي علينا أن نُذكّر في هذا السياق بأن الأسماء المرتبطة على هذا النحو بصياغة مختلف الدارشانا لا يمكن بأي حال نسبتها إلى أفراد محددين. بل تُستعمل هذه الأسماء رمزيًا للدلالة على «تجمعات فكرية» حقيقية، تكونت فعليًا من جميع أولئك الذين انكبّوا على دراسة واحدة خلال فترة زمنية غير محددة البداية أو النهاية. تُسمّى الميمانسا الأولى أيضًا كارما-ميمانسا (Karma-Mîmânsâ) أو الميمانسا العملية، أي المتعلقة بالأفعال، وخاصة بأداء الطقوس؛ لأن كَرْما (karma) لها معنيان: في المعنى العام: الفعل بجميع أشكاله، وفي المعنى الخاص والتقني: الفعل الطقسي، كما هو منصوص عليه في الفيدا. وتهدف هذه الميمانسا العملية، كما يقول المفسر سوماناثا (Somanâtha)، إلى «تحديد المعنى الدقيق والواضح للنصوص المقدسة»، ولكن خصوصًا من حيث كونها تحتوي على أوامر وتشريعات (أي ما يجب فعله)، وليس من حيث علاقتها بالمعرفة الخالصة (jñâna)، التي توضع غالبًا في مقابل الكرما؛ وهذه المقابلة بين المعرفة والفعل، هي ما يشكّل بالضبط التمييز بين الميمانسا الأولى والثانية.
تُنسب الميمانسا الثانية (Uttara-Mîmânsâ) إلى ڤياسا (Vyâsa)، أي إلى «الكيان الجمعي» الذي قام بترتيب وتثبيت النصوص التقليدية التي تُكوّن الفيدا نفسها بشكل نهائي؛ وهذه النسبة ذات دلالة خاصة، لأنه من السهل إدراك أن المقصود هنا ليس شخصية تاريخية أو أسطورية، بل هي «وظيفة فكرية» حقيقية، يمكن حتى اعتبارها وظيفة دائمة، إذ إن ڤياسا يُعدّ أحد السبعة "تشيراجيفي" (Chirajîvis)، أي «الكائنات ذات الحياة الطويلة» بالمعنى الحرفي([4])، التي لا يحدّ وجودها عصر معين. ولتمييز الميمانسا الثانية عن الأولى، يمكن اعتبارها الميمانسا ذات الطابع العقلي المحض والتأملي؛ ولا يمكننا أن نسميها ميمانسا نظرية (par symétrie avec la pratique)، لأن هذه التسمية قد توحي بمعنى ملتبس أو غير دقيق.
في الواقع، حتى وإن كانت كلمة "نظرية" (théorie)، من حيث أصلها اللغوي، مرادفة للتأمل (contemplation)، فإنها اكتسبت مع ذلك، في اللغة المتداولة، معنى أضيق بكثير؛ والحال أنه، في أي مذهب يكتمل من حيث وجهة النظر الميتافيزيقية، فإن "النظرية" بهذا المعنى المتداول لا تكتفي بنفسها، بل تكون دائمًا مصحوبةً أو متبوعةً بـ«تحقق» (realisation) مطابق لها، وهي، في النهاية، ليست سوى القاعدة الضرورية لذلك التحقق، وكلها منظمة من أجله، كوسيلة في سبيل غاية.
تُسمّى الـMîmânsâ الثانية أيضًا Brahma-Mîmânsâ، لأنها تتعلّق أساسًا وبشكل مباشر بـ«المعرفة الإلهية» (Brahma-Vidyâ)؛ وهي التي تُشكّل الـVêdânta بالمعنى الدقيق للكلمة، أي، بحسب المعنى الاشتقاقي لهذا المصطلح، «نهاية الفيدا» (fin du Vêda)، والتي تستند بشكل رئيسي إلى التعاليم الواردة في الـUpanishads. ويجب أن تُفهم عبارة «نهاية الفيدا» هنا على المستويين معًا: مستوى الخاتمة (الختام) ومستوى الغاية؛ إذ من جهة، تُشكّل الـUpanishads الجزء الأخير من نصوص الفيدا؛ ومن جهة أخرى، فإن ما يتم تعليمه فيها، في حدود ما يمكن تعليمه، يُمثّل الغاية الأخيرة والعُليا للمعرفة التقليدية برمّتها، أي بعد أن يتم تجريدها من كل التطبيقات الجزئية والطارئة، والتي قد تندرج في مجالات متنوعة. بعبارة أخرى، نحن، مع الـVêdânta، في ميدان الميتافيزيقا الخالصة.
تشكل الـUpanishads، باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من الفيدا، إحدى الأسس الجوهرية للتقليد الأرثوذكسي؛ ومع ذلك، لم يمنع هذا بعض المستشرقين، مثل ماكس مولر (Max Müller)، من الادعاء بأنه يمكن اكتشاف فيها "بذور البوذية"، أي بذور الهرطقة، وذلك لأنه لم يكن يعرف من البوذية سوى أشكالها وتفسيراتها الأكثر وضوحًا في خروجها عن الأرثوذكسية؛ وإن مثل هذا الادعاء هو تناقض واضح في المصطلحات، ومن المؤكد أنه سيكون من الصعب دفع سوء الفهم إلى أبعد من هذا الحد. ولا يمكن التأكيد بما فيه الكفاية على أن الـUpanishads تمثّل هنا التقاليد الأصلية والأساسية، وأنها تُشكّل، بالتالي، الـVêdânta ذاته في جوهره؛ وينتج عن ذلك أنه في حال الشك في تفسير العقيدة، يجب دائمًا الرجوع إلى سلطة الـUpanishads كمرجع أخير وحاسم.
لقد تم تنسيق التعاليم الرئيسية للـVêdânta، كما تتجلى بوضوح في الـUpanishads، وصياغتها بشكل تركيبي في مجموعة من الأقوال الموجزة (aphorismes) تُعرف باسم Brahma-Sûtras وShârîraka-Mîmânsâ([5])؛ ويُنسَب تأليف هذه الأقوال إلى Bâdarâyana، المعروف أيضًا باسم Krishna-Dwaipâyana، الذي يُعرّف بأنه Vyâsa. ومن المهم الإشارة إلى أن Brahma-Sûtras تندرج ضمن فئة الكتابات التقليدية التي تُسمى Smriti، في حين أن الـUpanishads، شأنها شأن جميع النصوص الفيدية الأخرى، تندرج ضمن ما يُعرف بـShruti؛ والجدير بالذكر أن سلطة الـSmriti مشتقة من سلطة الـShruti، التي تُعتبر الأساس الذي تقوم عليه. أما الـShruti، فهي ليست "وحيًا" بالمعنى الديني والغربي لهذه الكلمة، كما يرغب معظم المستشرقين في اعتبارها، فهم يخلطون هنا أيضًا بين وجهات نظر مختلفة كل الاختلاف؛ بل هي بالأحرى ثمرة إلهام مباشر، ولذلك تستمد سلطتها من ذاتها، وبشكل مستقل.
يقول شانكاراشاريا (Shankarâchârya): «إن الـShruti تعمل عمل الإدراك المباشر (ضمن نظام المعرفة المتعالية)، لأنها، لكي تكون سلطة مرجعية، لا بد أن تكون مستقلة بالضرورة عن أية سلطة أخرى؛ أما الـSmriti، فهي تقوم بدور شبيه بدور الاستقراء، بما أنها تستمد بدورها سلطتها من سلطة غيرها»([6]).
ولكن، حتى لا يُساء فهم المعنى المقصود من هذه المقارنة بين المعرفة المتعالية والمعرفة الحسية، من الضروري أن نُضيف أن هذه المقارنة، كما هو حال أي تشبيه حقيقي، يجب أن تُفهم بالعكس([7]): فبينما الاستقراء يرتقي فوق الإدراك الحسي ويتيح الانتقال إلى مستوى أعلى؛ فإن الإدراك المباشر أو الإلهام، في المجال المتعالي، هو وحده ما يبلغ المبدأ الأول، أي ما هو أسمى وأعلى، والباقي لا يكون إلا استخراجًا للنتائج وتطبيقات مختلفة انطلاقًا منه. ويمكن القول أيضًا إن التمييز بين Shruti وSmriti يعادل، في جوهره، التمييز بين: الحدس العقلي المباشر والوعي التأملي أو الاستدلالي؛ وإذا كانت الـShruti تُسمّى بكلمة معناها الأصلي هو "الاستماع"، فذلك بالضبط لتأكيد طابعها الحدسي، ولأن الصوت يحتلّ، بحسب العقيدة الكونية الهندوسية، المرتبة الأولى بين الخصائص المحسوسة.
أما بالنسبة إلى الـSmriti، فإن المعنى الأصلي لاسمها هو "الذاكرة"؛ ذلك أن الذاكرة، باعتبارها انعكاسًا للإدراك، يمكن، من خلال التوسّع في المعنى، أن تُستعمل للدلالة على كل ما يتصف بطابع المعرفة التأملية أو الخطابية، أي: المعرفة غير المباشرة. وإذا كانت المعرفة يُرمَز لها غالبًا بـالنور، فيمكن تمثيل كلّ من: العقل الخالص (الإدراك الحدسي)، والذاكرة (أو العقل التحليلي)، برمزين كونيين، هما على التوالي: الشمس والقمر؛ هذا الرمز (أو التشبيه)، الذي لا يمكننا التوسّع فيه هنا، قابل مع ذلك لتطبيقات كثيرة ومتنوّعة([8]).
إن البراهما-سوترا، التي يتميّز نصها بقدر كبير من الإيجاز الشديد، قد أثارت العديد من الشروح والتعليقات، وأهمّها على الإطلاق هما تعليقا كلّ من شانكارا-تشاريّا ورامانوجا؛ وهذان التعليقان كلاهما متوافق تمامًا مع الأرثوذكسية، بحيث لا ينبغي المبالغة في تقدير الخلافات الظاهرة بينهما، إذ إنها، في الجوهر، ليست سوى اختلافات في التكييف والتوجّه. صحيح أن كل مدرسة تميل، بشكل طبيعي، إلى الاعتقاد والتأكيد على أن وجهة نظرها الخاصة هي الأجدر بالاهتمام، وأنه ينبغي أن تسود، دون أن تنفي بالضرورة مشروعية وجهات النظر الأخرى. لكن، لحسم هذه المسألة بمنتهى الإنصاف، يكفي أن ننظر في هذه الآراء من حيث هي، وأن نُقَيِّم إلى أي مدى يمكن لكلٍّ منها أن يُوسِّع الأفق المعرفي الذي يتيحه. ومن البديهي، في هذا السياق، أنه لا يمكن لأي مدرسة أن تدّعي أنها تمثّل العقيدة الكاملة بصورة شاملة وحصرية. ومع ذلك، من المؤكد جدًا أن وجهة نظر شانكارا-تشاريّا أعمق وأبعد مدى من وجهة نظر رامانوجا؛ ويمكن التنبّه إلى هذا منذ البداية بملاحظة أن الأول ذو نزعة شِفائية (نسبة إلى شيفا)، في حين أن الثاني ذو توجّه فيشنوي واضح (نسبة إلى فيشنو).
لقد أثار السيد ثيبو، الذي ترجم إلى الإنجليزية تعليقي رامانوجا وشانكارا-تشاريّا، نقاشًا غريبًا من نوعه؛ إذ يدّعي أن تعليق رامانوجا أكثر وفاءً لتعليمات البراهما-سوترا، لكنه يعترف، في الوقت نفسه، بأن تعليق شانكارا-تشاريّا يتوافق أكثر مع روح الأوبانيشاد. ولكي يتمكّن المرء من الدفاع عن مثل هذا الرأي، لا بد له، بطبيعة الحال، من افتراض وجود اختلافات عقائدية بين الأوبانيشاد والبراهما-سوترا؛ ولكن، حتى لو صحّ هذا الافتراض، تبقى سلطة الأوبانيشاد أسمى، كما أوضحنا سابقًا؛ وعندئذٍ، تكون أفضلية شانكارا-تشاريّا قد ثبتت بهذه المقارنة، وإن لم يكن ذلك بالضرورة هو مقصود السيد ثيبو، الذي يبدو أنه لا يعبأ كثيرًا بمسألة الحقيقة الجوهرية للأفكار. في الواقع، إن البراهما-سوترا، كونها مستندة بصورة مباشرة وحصرية إلى الأوبانيشاد، لا يمكن بأي حال أن تحيد عنها؛ وإنما الاختصار الشديد في نصوصها هو ما يجعلها، في معزل عن الشروح، تبدو غامضة إلى حد ما، وهذا ما قد يعذر به أولئك الذين يعتقدون أنهم يجدون فيها شيئًا مغايرًا لما تمثله القراءة الفاهمة والموثوقة للعقيدة التقليدية. وعليه، فإن هذا النقاش عديم الفائدة في جوهره؛ وكل ما يمكن أن نستخلصه منه، هو أن شانكارا-تشاريّا قد أبرز وطوّر بصورة أوفى ما هو كامن جوهريًا في الأوبانيشاد. ولا يمكن الطعن في سلطته إلا من قِبَل من يجهلون الروح الحقيقية للتقليد الهندوسي الأرثوذكسي، وهؤلاء، بالتالي، لا يُعتدّ بآرائهم مطلقًا في نظرنا. لذلك، وبوجه عام، سنتبع شرحه هو على وجه التفضيل، على أي شرح آخر.
ولإتمام هذه الملاحظات التمهيدية، ينبغي لنا أن نشير، على الرغم من أننا أوضحنا ذلك في مواضع أخرى، إلى أن من الخطأ وصف تعاليم الأوبانيشاد، كما فعل بعضهم، بأنها تمثّل "البراهمانية الباطنية". إن عدم دقة هذه التسمية يرجع بصورة رئيسية إلى كون مصطلح "الباطنية" (ésotérisme) هو صفة تفضيل نسبية، واستخدامه يفترض ضرورة وجود مقابل له، هو الظاهرة الخارجية أو الظاهريات (exotérisme). لكن، لا يمكن تطبيق مثل هذا التقسيم الثنائي على الحالة التي نحن بصددها.
إن مفهومي الظاهري والباطني، إذا لم يُفهما على أنهما عقيدتان مختلفتان أو متعارضتان، — وهو فهم مغلوط تمامًا — بل كأنهما وجهان لعقيدة واحدة، فإنهما وُجدا في بعض المدارس اليونانية القديمة؛ ونجدهما واضحين بجلاء في الإسلام أيضًا. غير أن الأمر ليس كذلك بالنسبة للعقائد الشرقية الأعمق. فبالنسبة لهذه الأخيرة، لا يمكن الحديث إلا عن نوع من "الباطنية الطبيعية"، التي توجد ضرورةً في كل عقيدة، وخاصة في المجال الميتافيزيقي؛ ذلك أن العنصر غير القابل للتعبير عنه بالكلام يجب دائمًا أن يُؤخذ في الحسبان؛ وهو في الحقيقة العنصر الجوهري بامتياز، لأن الألفاظ والرموز ليست في النهاية إلا وسائل مساعدة على تصور ذلك العنصر، إذ تقدم "دعامات" عقلية وتأملية لمسار لا يمكن أن يكون إلا ذاتيًا صرفًا.
من هذا المنظور، لن تكون التفرقة بين الظاهري (exotérisme) والباطني (ésotérisme) إلا مماثلةً للتمييز بين "اللفظ" و"الروح"؛ ويمكن أيضًا تطبيق هذا التمييز على تعدد المعاني في النصوص التقليدية، أو، إن شئنا، في الكتب المقدسة لدى مختلف الشعوب، بحسب ما تحمله من دلالات عميقة بدرجات متفاوتة. ومن جهة أخرى، من البدهي أن التعليم العقائدي الواحد لا يُفهم على ذات الدرجة عند كل من يتلقّاه؛ فمن بين هؤلاء، يوجد من ينفذ إلى الباطن والمعنى العميق، بينما يكتفي آخرون بالمظهر أو الشكل الظاهري نظرًا لضيق أفقهم العقلي؛ ولكن، هذا ليس هو المعنى المقصود عند من يتحدثون عن "براهمانية باطنية". في الحقيقة، في البراهمانية، فإن التعليم العقائدي متاحٌ بالكامل لكل من هو "مؤهَّل" عقليًا (adhikârî), أي: القادر على الاستفادة الفعلية منه. وإذا كانت هناك تعاليم مخصصة للنخبة، فذلك لأنه لا يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك حيث يكون نقل التعليم خاضعًا للتمييز ومراعياً للكفاءات الحقيقية لكل فرد. وإذا لم يكن التعليم التقليدي باطنيًا بالمعنى الدقيق للكلمة، فهو على الحقيقة تعليم "تحقيقي" أو "إيحائي" (initiatory)، ويختلف اختلافًا عميقًا، في جميع أوجهه، عن التعليم الدنيوي أو العلماني الذي يُبالغ الغربيون المعاصرون في تقديره وتوهّمه. وقد أشرنا إلى ذلك بالفعل عند حديثنا عن "العلم المقدّس" وعن استحالة نشره على نطاق شعبي أو جعله مشاعًا.
تؤدي هذه الملاحظة الأخيرة إلى ملاحظة أخرى: في الشرق، تظل العقائد التقليدية تُنقَل بوساطة التعليم الشفهي بوصفه وسيلة الانتقال المنتظمة والدائمة، حتى في الحالات التي تم فيها تثبيت هذه العقائد ضمن نصوص مكتوبة؛ وهذا لاعتبارات عميقة للغاية، لأنه ليس المقصود نقل الكلمات فحسب، بل الأهم من ذلك هو ضمان المشاركة الفعلية في التقليد ذاته. وفي ظل هذه الظروف، لا معنى لِما يقوله ماكس مولر وغيره من المستشرقين، حين يزعمون أن كلمة "أوبانيشاد" تدل على "المعرفة المكتسبة من خلال الجلوس عند أقدام المعلّم"؛ إذ لو كان هذا هو المعنى حقًا، لكانت التسمية تنطبق دون تمييز على جميع أجزاء الفيدا. وعلاوة على ذلك، فإن هذا التأويل لم يُقترح قط ولا اعتُمد من قِبل أي هندي مؤهَّل في الفهم الصحيح لتراثه. في الحقيقة، إن اسم "أوبانيشاد" يشير إلى كونها مخصصة لـ إزالة الجهل من خلال توفير الوسائل اللازمة للاقتراب من المعرفة العُليا؛ وإنما يُقال "للاقتراب منها"، لأن هذه المعرفة العليا هي، في جوهرها، غير قابلة للانتقال أو الإبلاغ بشكل تام، حتى إن أحدًا لا يمكنه بلوغها إلا بنفسه، وعن طريق ذاته الخاصة.
تعبير آخر يبدو لنا أشدّ تعسفًا حتى من عبارة "البراهمانية الباطنية"، هو تعبير "الثيوصوفيا البراهمانية"، الذي استعمله السيد أولترامار؛ وهذا الأخير، على أية حال، يعترف بنفسه بأنه لم يتبنَّ هذا التعبير دون تردد، لأنه يبدو وكأنه "يمنح الشرعية لمزاعم الثيوصوفيين الغربيين" في استنادهم إلى الهند، وهي مزاعم يعترف هو نفسه بأنها غير قائمة على أساس صحيح. ومن المؤكد أنه ينبغي تفادي كل ما من شأنه أن يغذّي بعض الالتباسات المؤسفة؛ لكن، هناك أيضًا أسبابًا أخرى، أعمق وأشدّ حسماً، لعدم قبول هذه التسمية المقترحة. فالثيوصوفيون المزعومون الذين يتحدث عنهم السيد أولترامار يجهلون تقريبًا كل شيء عن العقائد الهندوسية، ولم يقتبسوا منها إلا بعض الكلمات التي يُسيئون استخدامها بلا ضابط ولا فهم؛ وهم، من جهة أخرى، لا ينتسبون إلى الثيوصوفيا الحقيقية، ولا حتى الغربية منها. ولهذا السبب، نحن نحرص على التمييز الدقيق بين "الثيوصوفيا" (théosophie) وما يُسمى "الثيوصوفيّة" (théosophisme).
ولكن، تاركين جانبًا الثيوصوفيّة (théosophisme)، نقول إنه ليس هناك أي عقيدة هندوسية، ولا حتى، بشكل أعم، أي عقيدة شرقية، تشترك مع الثيوصوفيا (théosophie) في ما يكفي من النقاط لكي يمكن إعطاؤها الاسم ذاته؛ وهذا يتبيّن بشكل مباشر من كون هذا المصطلح يُطلق حصريًا على تصورات ذات إلهام صوفي، أي ديني، بل ومسيحي تحديدًا. فالثيوصوفيا هي أمر غربي خالص؛ فلماذا إذًا الإصرار على إقحام هذا الاسم فيما يتعلق بعقائد لم يُصنع من أجلها، ولا يناسبها أكثر من أسماء الأنظمة الفلسفية الغربية؟ مرةً أخرى، ليس ما نحن بصدده دينًا، وبالتالي، لا مجال للحديث لا عن ثيوصوفيا، ولا عن لاهوت (théologie)؛ هاتان التسميتان، على كل حال، كانتا في بدايتهما شبه مترادفتين، رغم أنهما، لأسباب تاريخية بحتة، انتهتا إلى اكتساب معانٍ مختلفة للغاية([9]).
قد يُعترض علينا، ربما، بأننا نحن أنفسنا استخدمنا في موضع سابق عبارة "المعرفة الإلهية" (Connaissance Divine)، وهي، في جوهرها، تعادل المعنى الأصلي لكلمتَي "ثيوصوفيا" و"لاهوت"؛ وهذا صحيح، لكن، أولًا، لا يمكننا أن نتناول هاتين الكلمتين مع الاكتفاء بأصلهما الاشتقاقي فقط، لأنهما من بين المصطلحات التي أصبح من المستحيل تمامًا تجريدهما من تغيرات المعنى التي فرضها عليهما الاستخدام الطويل والمستمر. ثم إننا نعترف، بكل سهولة، بأن عبارة "المعرفة الإلهية" نفسها ليست تعبيرًا دقيقًا تمامًا؛ لكن لا نملك تعبيرًا أفضل منها لجعل المقصود أكثر فهمًا، نظرًا لعجز اللغات الأوروبية عن التعبير عن الأفكار الميتافيزيقية الخالصة. وعلى أي حال، لا نظن أن هناك ما يثير إشكالًا كبيرًا في استعمالها، ما دمنا نحرص على التنبيه بأنّه لا ينبغي تحميلها الدلالة الدينية التي كانت ستبدو شبه حتمية لو أُسقطت على مفاهيم غربية.
رغم ذلك، قد تبقى هناك شبهة في الفهم، لأن الكلمة السنسكريتية التي يمكن ترجمتها إلى "إله" بأقل قدر ممكن من الخطأ ليست "براهمه" (Brahma)، بل هي "إيشورا" (Îshwara)؛ غير أن استخدام الصفة "إلهي"، حتى في اللغة العادية، يكون أقل تقييدًا، وربما أكثر غموضًا، ولذلك فهو أنسب لهذا النوع من التحويل الاصطلاحي الذي نقوم به هنا، من استخدام الاسم المشتق منه.
ما ينبغي الاحتفاظ به من كل ذلك، هو أن مصطلحات مثل "لاهوت" (théologie) و"ثيوصوفيا" (théosophie)، حتى وإن أُخذت من منظورها الاشتقاقي وبمعزل عن أي تدخل من المنظور الديني، فلا يمكن ترجمتها إلى السنسكريتية إلا بلفظ "إيشوارا-فيدْيا" (Îshwara-Vidyâ). أما ما نترجمه بشكل تقريبي بعبارة "المعرفة الإلهية" حين يكون الحديث عن الڤيدانتا (Vêdânta)، فهو بالأحرى "براهمه-ڤيديا" (Brahma-Vidyâ)، لأن منظور الميتافيزيقا الصافية يفترض بشكل جوهري النظر إلى براهمه أو المبدأ الأسمى (Principe Suprême)، في حين أن إيشوارا أو "الشخصية الإلهية" ليست سوى تعيينٍ (détermination) لهذا المبدأ باعتباره أصل التجلي الكوني، وبالنسبة إليه. وبالتالي، فإن النظر في إيشوارا هو بالفعل نقطة نظر نسبية: إنها أعلى درجات النسبية، وأول تعيّن على الإطلاق، ولكن مع ذلك، يظل "موصوفًا" (saguna)، و"مميزًا" (savishêsha)، في حين أن براهمه هو "بلا صفات" (nirguna)، و"بلا أي تمييز" (nirvishêsha)، وغير مشروط بشكل مطلق؛ والتجلّي الكوني بأسره منعدم تمامًا بالقياس إلى لانهائية براهمه. ومن الوجهة الميتافيزيقية، لا يمكن النظر إلى التجلّي إلا من حيث تبعيّته للمبدأ الأسمى، وكـ"وسيلة" للترقي نحو المعرفة المتعالية؛ أو، إذا عكسنا المنظور، كـ"تطبيق" للحقيقة المبدئية. وفي كلا الحالين، لا ينبغي أن نرى في كل ما يتعلق بالتجلّي أكثر من كونه "تمثيلًا توضيحيًا" يساعد على تسهيل إدراك "اللا متجلّي"، وهو الموضوع الجوهري للميتافيزيقا، ويسمح، كما قلنا عند شرح تسمية الأوبانيشاد، بالاقتراب من المعرفة الفائقة بامتياز([10]).
[1]- لا يمكن استثناء أي استعمال من ذلك، إلا في حالة واحدة خاصة جدًا، وهي المعنى المقصود بعبارة «الفلسفة الهرمسية» (philosophie hermétique)؛ ومن البديهي أننا لا نقصد هذا المعنى هنا، وهو معنى يكاد يكون مجهولًا تمامًا لدى المحدثين.
[2]- رينيه غينون يميز هنا بوضوح بين الميتافيزيقا بمعناها الأصيل — كما تتجلى في الفيدانتا — وبين ما يُطلق عليه في الغرب من "فلسفة" أو "ميتافيزيقا فلسفية"، التي لا تخرج عن كونها اجتهادات عقلية فردية، مغلقة، نسبية.
[3]- الجذر "vid"، الذي تُشتق منه كلمتا Vêda وvidyâ، يعني في آنٍ واحد: «الرؤية» (كما في اللاتينية videre) و«المعرفة» (كما في اليونانية οἶδα). فالرؤية تُؤخذ كرمز للمعرفة، لأنها هي الأداة الرئيسية لها في المجال الحسي؛ وقد تم نقل هذا الرمز حتى إلى المجال العقلي الخالص، حيث تُشبَّه المعرفة بـ«رؤية داخلية»، كما يدل على ذلك استعمال كلمات مثل «الحدس» (intuition) على سبيل المثال.
[4]- نجد شيئًا مشابهًا في تقاليد أخرى: ففي الطاوية، هناك الحديث عن ثمانية «خالديْن»؛ وعلاوة على ذلك، هناك ملكي صادق «الذي ليس له أب ولا أم، ولا نسب، وليس له بداية ولا نهاية لحياته» (القديس بولس، رسالة العبرانيين، 7:3)؛ ومن المؤكد أنه سيكون من السهل أيضًا العثور على المزيد من التشابهات من نفس النوع.
[5]- لقد فسَّر رامانوجا مصطلح شَارِيرَكَ في شرحه (Shrî-Bhâshya) على الـ Brahma-Sûtras، الإصحاح الأول (Adhyâya 1)، القسم الأول (Pâda 1)، السوترا 13، باعتباره يتعلق بـ«الذات العليا» (Paramâtmâ)، التي تتجلّى — بطريقة ما — «متجسدة» (shârîra) في جميع الموجودات.
[6]- الإدراك الحسي (pratyaksha) والاستدلال أو الاستنباط (anumâna) هما، حسب المنطق الهندي، الوسيلتان الشرعيتان للدلالة (pramânas) اللتان يمكن استخدامهما في مجال المعرفة الحسية.
[7]- في التقاليد الإحيائية (الهيرميتية)، يُعبّر عن مبدأ التناظر بهذه العبارة من «اللوح الزمردي»: «كما هو في الأسفل، كذلك هو في الأعلى، وكما هو في الأعلى، كذلك هو في الأسفل»؛ لكن لفهم هذه الصيغة بشكل أفضل وتطبيقها بشكل صحيح، يجب ربطها برمز «ختم سليمان» الذي يتكوّن من مثلثين موضوعين بشكل معاكس لبعضهما البعض.
[8]- يوجد آثار لهذا الرمزية حتى في اللغة نفسها: فليس من قبيل الصدفة أن نفس الجذر "man" أو "men" قد استُخدم في لغات مختلفة لتشكيل العديد من الكلمات التي تدل على القمر، والذاكرة، والعقل أو الفكر التأملي، والإنسان نفسه بوصفه كائنًا «عاقلًا» أو «عاقلًا بشكل خاص».
[9]- يمكن توجيه ملاحظة مماثلة للكلمتين «علم التنجيم» و«علم الفلك»، اللتين كانتا في الأصل مترادفتين، وكان كل منهما عند الإغريق تشير في الوقت نفسه إلى ما أصبح كل منهما يشير إليه لاحقًا بشكل منفصل.
[10]- لمزيد من التفاصيل حول جميع الاعتبارات التمهيدية التي اقتصرنا على الإشارة إليها بشكل موجز في هذا الفصل، لا يمكننا أن نفعل أفضل من أن نرجع إلى مقدمتنا العامة لدراسة العقائد الهندوسية، حيث تعمدنا معالجة هذه المسائل بشكل أكثر تحديدًا.
تعليقات
إرسال تعليق