القسم الثالث: أبجدية اللسان المُقدَّس
الفصل الأول: أبجدية اللسان المقدس
سنضع بين يدي القارئ الكريم مجموعة من الرموز العالمية مع تأويلاتها، وسيكون ذلك توسعة للمفتاح الرابع آنف الذكر. وستكون الرموز مع تأويلاتها مرتبة أبجديًّا. ولا شك فنحن نتوجه بها إلى القارئ الذي تقبَّل الطريقة المنهجية التي ما برحنا نذكرها في الفصول الماضية من هذا العمل، وهي أنَّ جميع الكتب المقدسة مكتوبة بلسان مقدس خاص وبأسلوب القصص التمثيلي والرمز والأمثال ونحو ذلك.
التَّطَهُّر والغُسْل والاستنجاء |
Ablution, bathing, cleansing |
يُشيرُ كل من التَّطَهُّر (أو الوضوء) والغُسْل والاستنجاء([1]) إلى تطهير الذات، وغسلِ التراكمات المادية عن الجسد المادي، وتخليص العواطف (emotions) من الأنانية والشهوانية، والعقل أو البال (mind) من الكبرياء والتملك. فنجد أنَّ في واقعة غسل عيسى أقدامَ تلامذته إشارةٌ إلى التطهير التام الذي يفعله الروح بالطبيعة المادية الخاصة بالإنسان، حتى أدنى مظاهرها وهي القدمان، إذ ترمز القدمان إلى أدنا تجليات الذات الروحية فيه، أي المظهر الجسماني. ونجد أن حدث غسل المعلّم أقدام تلامذته ينطوي كذلك على دلالة أخرى أخفى، وهي تنقية الذهن وتصفيته، وبالتالي الفهم العميق أو الإدراك الباطني.
الآلام والأوجاع |
Aches and pains |
الآلام والأوجاع والتحرق شوقًا ونحو ذلك كلها ترمز لاضطرابات النفس (soul)، وعدم الانسجام والمرض الناتجين عن أخطاء في السلوك ومراحل القحط الروحي.
الأثير |
Aether |
الأثير، باعتباره المادة الأساسية التي تشكَّلَ منها الكون، يُمثل أعلى طبيعة روحية للإنسان، الأتمان الإلهي (divine Atman). ترمز العوالم الأثيرية التي تنتمي للأرباب إلى أسمى مستويات الوعي في الكون، فهي تلك المجالات الروحية التي تنبثق منها العوالم الأدنى، والتي تُستقى منها نماذجها، والتي ستؤول إليها في نهاية المطاف.
الهواء |
Air |
يبدو أن الهواء يشير بشكل رئيسي إلى أنشطة العقل المجرد والحدس أو الطَّوِيَّة (intuition). أمَّا السُّحُب (Clouds)، في أحد التأويلات، تمثل حِجابًا يحول دون الرؤية بوضوح، أو تجعل العقل الأدنى غائمًا، أي محجوبًا، فتحول دون إشراقه أو وصول «ضياء الشمس» من الأعلى إليه. وللسحب معانٍ أخرى متنوعة. فالسحابة البيضاء، مثلًا، ترمز إلى منزلة أو مركبة وعي المسيح (Christ-consciousness)، لا سيما في جانبها النوراني الحدسي الذي ينير العقل بالعرفان المُباشِر. فعندما تتجه أفكارنا السامية وتأملاتنا نحو أرفع منازل طبيعتنا، فإننا نفتح آفاق الحدس ونستقبل فيضًا من الإلهام الروحاني، يتجلى في إدراك مباشر للحقيقة، وحكمة في تدبير الأمور، ونيل بركات من مصادر علوية. إن هذه المنزلة أو المركبة الحدسية هي في جوهرها غلاف لتجلي وتعبير الإرادة الروحية، أي الذات الملكية فينا، في مستويات الوعي الدنيا. فعندما يسمو الوعي إلى مقام الحكمة الخالصة، والحدس الروحاني، والإدراك الكامل للوحدة، وهي حالة يُرمز إليها أحيانًا بالسحابة البيضاء، حينها تتجلى القوة شبه المطلقة لإرادة الذات العليا في كل واحد منا. وقد عبر مؤلف سفر الرؤيا عن ذلك بقوله: «ثُمَّ نَظَرْتُ وَإِذَا سَحَابَةٌ بَيْضَاءُ، وَعَلَى السَّحَابَةِ جَالِسٌ شِبْهُ ابْنِ إِنْسَانٍ، لَهُ عَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَفِي يَدِهِ مِنْجَلٌ حَادٌّ. (رؤ 14: 14)»
ولأن الغيوم، بطبيعتها، تحجب ضوء الشمس، فهي كما أُشير سابقًا، رموزٌ لتلك العتمة التي تُغلف طبيعة الإنسان العليا في نظر العقل التحليلي الذي يميل إلى التركيز على المنطق والتحليل بدلاً من الحدس والروحانية. أمَّا العواصف البدائية فتشير عمومًا إلى اضطرابات ذهنية وعاطفية. والهواء الساكن يمثل المشاعر الراقية والحدس معًا، بينما الرياح العاتية قد ترمز إلى حالات ذهنية وعاطفية مضطربة. في معنى آخر، السحاب يجسد ذلك الأثر الذي يتركه نزول وتجلي النور على المركبات أو المنازل الدنيا، فيظهر كضباب مضيء. لذا، غالبًا ما يتجلى الإله في السحاب:
· فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «هَا أَنَا آتٍ إِلَيْكَ فِي ظَلاَمِ السَّحَابِ لِكَيْ يَسْمَعَ الشَّعْبُ حِينَمَا أَتَكَلَّمُ مَعَكَ، فَيُؤْمِنُوا بِكَ أَيْضًا إِلَى الأَبَدِ». (خر 19: 9)
· فَصَعِدَ مُوسَى إِلَى الْجَبَلِ، فَغَطَّى السَّحَابُ الْجَبَلَ، وَحَلَّ مَجْدُ الرَّبِّ عَلَى جَبَلِ سِينَاءَ، وَغَطَّاهُ السَّحَابُ سِتَّةَ أَيَّامٍ. وَفِي الْيَوْمِ السَّابعِ دُعِيَ مُوسَى مِنْ وَسَطِ السَّحَابِ. (خر 24: 15-16)
· «فَنَزَلَ الرَّبُّ فِي السَّحَابِ، فَوَقَفَ عِنْدَهُ هُنَاكَ وَنَادَى بِاسْمِ الرَّبِّ.» (خر 34: 5).
المذبح |
Altar |
المذابح ترمز إلى الجسد المادي بكل ما فيه من صفات عاطفية وعقلية، حيث تتربع الذات الإلهية. أحيانًا، يُشار إلى القلب باعتباره المذبح الذي يجب أن تُقام فيه عبادة الإله. المذابح، في صورتها المثالية، تؤدي وظيفة مزدوجة. فهي مراكز تنطلق منها التطلعات والدعوات من الأدنى إلى الأعلى، وإليها تهبط البركات والقوة الروحية استجابةً.
الأجداد أو الأسلاف |
Ancestors or progenitors |
الأجداد، أو الأسلاف، يرمزون إلى الدورات السابقة: الشمسية، الكوكبية، العرقية، وإلى التجسدات البشرية الماضية؛ فهم بمثابة الأصل الذي انبثق منه نظامنا الحالي، وتجلياتنا، وفرديتنا، وشخصيتنا. وبهذا الفهم، فإن انتقال تبعات أفعال الآباء (الحيوات السابقة) إلى الأبناء (الحيوات اللاحقة) لا يبدو ظلمًا قاسيًا، كما قد يبدو عند التفسير الحرفي للآية الخامسة من الإصحاح العشرين في سفر الخروج:
· «لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ، لأَنِّي أَنَا الرَّبَّ إِلهَكَ إِلهٌ غَيُورٌ، أَفْتَقِدُ ذُنُوبَ الآبَاءِ فِي الأَبْنَاءِ فِي الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابعِ مِنْ مُبْغِضِيَّ» (خر 20: 5).
بعبارة أخرى، أن الإله سيؤاخذ الأبناء بجريرة آبائهم وأجدادهم وأسلافهم عمومًا. أي انتقال كارمات الأسلاف لنا أي نرثها منهم، وبها نعاقب إذا لم نصحح هذه الكارمات.
الملائكة |
Angels |
عندما لا يُقصد بكلمة الملائكة الخلق الكثير من الملائكة مباشرة، كما هو الحال في كثير من الأحيان، فإنها تشير إلى أعلى مبدأ روحي في الإنسان، وهو الأتمان (Atma)([2])، وأحيانًا إلى الموناد نفسه (Monad). الموناد متحدة أبدًا مع اللوغوس، ولذلك يصدق على جميع البشر القول: «...ملاكهم في السماوات كل حين ينظر وجه أبي الذي في السماوات([3]).» وهذا يشير إلى حقيقة أن الموناد دائماً متصل بحضرة المصدر الروحي، الرب الأعلى.
الحيوانات |
Animals |
الحيوانات، عندما تكون مفترسة، ترمز إلى الرغبات والشهوات الجسدية. وترويضها، أو إهلاكها، يرمز إلى السيطرة على الطبيعة الدنيا. يجب على كل فرد أن يحقق ذلك بنفسه، وبجهوده الذاتية إلى حد كبير. لذا، في القصص التمثيلية (allegories) التي تصور قتل الأسد، لا تكفي الأسلحة؛ لكونها أدوات خارجية. وعندما استخرج شمشون([4]) العسل من جثة الأسد([5])، كان ذلك إشارة إلى تصفية القوة الخلاقة وتساميها.
النمل |
Ants |
استُخدم النمل كرمز للموناد الروحي، ولتلك القوة الكهربائية الكونية المعروفة في التبت باسم فوهات([6]) (Fohat) التي، عبر حفر ثقوب في الفضاء أو بدء عملية تكوين الذرات، تُهيئ مادة الفضاء للرعاية الإلهية. الحشرات الطائرة، خاصة الفراشات والطيور الصغيرة، تشير أحيانًا على نحو رمزي إلى الجيوش الملائكية.
الأبقار أو الماشية |
kine |
في العديد من الكتب المقدسة العالمية، تُستخدم الأبقار كرموز للخصوبة الإلهية، والقدرة الإنجابية، والعطاء الذي لا ينضب. ويضيف الثيران صفة الخدمة، بينما يبرز العجول صفة الرجولة الخصبة والقدرة الخلاقة. يُنظر إلى كليهما كتجليات لتلك الصفات الإلهية في الطبيعة والإنسان. أما غير العارفين، الجاهلين بهذه المعاني الروحية، فيعبدون الرمز، وهو مثال شائع جدًا على انحدار الحقيقة السامية إلى خرافة فجة. أما الحكماء، إدراكًا منهم لعمق الرمزية، فيجلّون القوة الإلهية التي تمثلها، ويرون في تلك الكائنات الحية تجليات لهذه القوة.
الدهن أو الزيت |
Anointing |
الدَّهْنُ بالزيت أو المسح به يرمز إلى تلقي الشخصية للحكمة الروحية، والحب، والحياة، والتكريس. ولكل جزء من أجزاء الجسم معناه الخاص، والذي سنوضحه في المواضع المناسبة. فدهن الرأس بالزيت، على سبيل المثال، يعني أن العقل قد استنار بالحدس، وأن حياة المسيح، والنعيم، والانسجام قد تجلت في الحياة الشخصية ومن خلالها، بعد أن أصبحت مقدسة تمامًا. يُستخرج الزيت من الأشجار بنفس الطريقة التي تُستخرج بها الصفات المسيحية من شجرة الحياة الروحية، وهي الرب.
العُقم أو العُقْر |
Anointing |
يُستخدم العقم في اللسان المقدس (Sacred Language) كرمز لحالة من عدم الإثمار الروحي في الوعي البشري، أي قحطًا روحيًا، وعدم استجابة العقل (الزوجة) للأشعة المُخْصِبَة الآتية من الثالوث الروحي (الزوج)، وخاصة النازلة من شعاع الموناد([7]). وبالمثل، ترمز الخصوبة إلى المرحلة التطورية التي تم فيها تدارك ذلك، حيث تُنار الشخصية الخارجية بعد ذلك بنور الذات الخالدة. ونتيجة لذلك، يُقال إن الابن (الحدس الروحي) يُحمل به ويولد في الشيخوخة المفترضة (المكانة التطورية المتقدمة) لزوجة كانت عاقرًا (ما قبل التلقين أو المُسَارَّة)([8]).
المعارك |
Battles |
المعاركُ رموزٌ للصراعِ القائمِ بينَ الروحِ والمادةِ، وبينَ الدوافعِ والعملياتِ الانطوائيةِ والتطوريةِ، وبينَ الإرادةِ والرغبةِ، وبينَ ما يُعدُّ خيرًا وشرًا في البشريةِ - عرقيًّا وفرديًّا. في اللسان الرمزي، تشير جميع الحروب، على المستوى الصغير، إلى مرحلة أو مراحل من الصراع بين الموناد-الأنا في الإنسان ومركباته الفانية، بين الذات الصاعدة وحياة المادة الهابطة التي تشكل تلك المركبات. يُنظر إلى ما يسمى بأعداء البطل أو أعداء الشعب المختار، على أنهم الشهوات والرغبات والمقاومة وجمود المادة نفسها، التي تعارض الروح باستمرار. كما يُبينُ ذلك العهدُ القديمُ، فيجبُ قتلُهم واستئصالُهم من جذورِهم. وعندَ النظرِ إلى الأمرِ بهذهِ الطريقةِ، فإنَّ الوحشيةَ والعطشَ للدماءِ اللذينِ يُظهرهما الإله التوراتي يهوه يُنظرُ إليهما كرموزٍ للقسوةِ التي بها يقتلعُ الإنسانُ المُلهمُ روحيًّا الميولَ غيرَ المرغوبِ فيها في طبيعتِهِ الدنيا. بالحقيقة، إن العهد القديم يتجلى في صورة أنقى، ويُنزع عنه ما قد يثير استياءً أو اعتراضًا، عندما ندرك أن مؤلفيه في كثير من الأحيان لم يكونوا يسردون وقائع تاريخية بحتة، بل كانوا يكشفون عن قوانين ومبادئ الجوانب الخفية للطبيعة، وعن الحياة الروحانية الخفية للمبتدئين والمتنورين في مدارس الأنبياء العبرية([9])، وفي مراكز الأسرار الموازية لها في الأمم الأخرى.
الطيور |
Birds |
تمثل الطيور الذات الروحية، سواء ذات الكون أو الإنسان. وغالبًا ما يُرمز إليها بطائر مائي مثل البجع أو اللقلق، الذي يعيش على الماء (رمز الفضاء) ويحلق فوقه.
يرمز النقش الرسومي للبجعة أو الحَوْصَل الذي يمزق صدره لإطعام صغاره السبعة أولًا إلى العقل الإلهي الحاكم للنظام الشمسي (اللوغوس)، الذي يفيض باستمرار بطاقة حياتية لا تنضب، لتبعث الحياة في الأنظمة الكوكبية السبعة، التي تتفرع بدورها إلى أقسام متعددة تتبع مبدأ السباعية([10])؛ وثانيًا، يُرمز به إلى الموناد (النقطة الروحية الجوهرية) في الإنسان، التي تبث الحياة الروحية وتنشط المبادئ السبعة أو الأجساد التي تشكل وجوده، حيث تعمل هذه المبادئ كأوعية تحمل وعيه وتُمكّنه من التفاعل مع مختلف المستويات الوجودية.
يرمز غطاء الرأس الذي يتخذ شكل الطائر إلى اتحاد العقل المنطقي بالعقل الروحي، كما يعبر عن سيطرة الذات العليا على الذات الدنيا وحمايتها. أما الرموز الأخرى المتعلقة بالطيور، فسيجري تأويلها وفق ترتيبها الأبجدي.
المُحرَقَات أو القرابين المحروقة |
Burnt Offerings |
تُعد المُحرَقات رمزًا لتطهير الذات (self-purification). تُنبذ جميع المشاعر الغليظة والرغبات الحسية الحيوانية على الطريق الروحي، حيث تُحوَّل الطاقة التي تُستهلك عادة في هذه الرغبات إلى قوة روحية. وعندما تُصعَّد هذه الرغبات الحيوانية، فإنها، رمزيًّا، تُستهلك، بينما ترتقي الطاقة التي كانت تُستخدم في إشباعها لتصبح كأنها عطر يتلقاه الإله الداخلي في الإنسان، فتجد تعبيرها في الجوانب العليا من الطبيعة البشرية وفي أرقى نشاطات الإنسان الأرضي. ومن هذا المنطلق، يزول النفور الذي قد يسببه تصور إله يرحب بذبح وحرق الحيوانات كجزء من العبادة الطقسية، وذلك عند فهم القصد الرمزي للمؤلفين.
الشمعدان |
Candlestick |
الشمعدان ذات السبعة فروع، أو المنارة الذهبية، قيل إنها صُنعت وفقًا لتوجيه إلهي تلقاه موسى على الجبل. يشير موقعها المحدد في المعبد العبري إلى أنها لم تكن معدة للإضاءة، إذ كانت الشمعة المركزية فقط تُبقى مشتعلة خلال النهار. تُوقد الشموع الست الأخرى منها، مما يشير ربما إلى وجود ذلك النور الواحد الذي تنبثق منه جميع الأنوار الأخرى. علاوة على ذلك، كان المعبد الأصلي في الصحراء مظلمًا، إذ لم تكن له نوافذ، وحتى سبع شموع لم تكن لتوفّر الإضاءة اللازمة. إذًا، كان القصد واضحًا من المنارة الذهبية أن تكون زينة ورمزًا فلسفيًا عميقًا، يمثل جميع السباعيات في الطبيعة والإنسان. وهي غير مشتعلة، ترمز إلى الحكمة الخفية، بينما ترمز وهي مشتعلة إلى الحكمة المُعلنة. ويُفترض أيضًا أن شجرة الحياة القبالية، بسفيروتها العلوية الثلاثة، ودلالاتها الكونية الكلية والجزئية السباعية، وعدد لا نهائي تقريبًا من المتطابقات، يُشار إليها برمز المنارة الذهبية ذات السبعة فروع.
المركبات |
Chariots |
العربة ترمز إلى الشخصية البشرية بكاملها، سواء في مستواها الروحي غير المادي أو في وجودها المادي داخل الجسد الفيزيائي. الجوانب وأرضية العربة تشير إلى حدود الجسد المادي التي يحيط بها الجلد، في حين أن العجلات تعبر عن قدرة الإنسان على التحرك بحرية والتفاعل مع قوة الحياة. أما العمود الذي يربط بين الخيول والعربة، فهو يرمز إلى الجسد الأثيري، وهو الوسيط الذي يقوم بتخزين الطاقة الحيوية ونقلها إلى الجسد المادي، مما يسمح للحياة أن تتدفق داخله بسلاسة. هذا التصور يعكس كيف أن الإنسان ليس مجرد كيان مادي، بل هو مزيج من المادة والطاقة والروح، يتفاعل مع قوى الحياة عبر آليات داخلية دقيقة.
يوجد تأويل أكثر اكتمالًا في كاثوبانيشاد([11]) على النحو التالي:
«اعلم أن الذات هي سيد العربة، وأن الجسد هو العربة ذاتها، وأن العقل هو السائق، وأن الذهن هو اللجام. وأنَّ الحواس هي الخيول، وموضوعات الحواس هي الطرق التي تسير فيها. أما الذات، حين تكون مقترنة بالجسد والحواس والذهن، فهي ما يسميه الحكماء المُتمتّع.
من يفتقر إلى الفهم، ويترك ذهنه طليقًا بلا ضبط، تصبح حواسه جامحة، مثل خيول جامحة لسائق عاجز. أما من يملك الفهم ويُحكم السيطرة على ذهنه، فإن حواسه تكون منضبطة، مثل خيول مطيعة لسائق ماهر. ومن يفتقر إلى الفهم، ولا يسيطر على ذهنه، ويعيش في نجاسة، لا يبلغ الغاية، بل يعود إلى الحياة الدنيوية. أما من يملك الفهم، ويسيطر على ذهنه، ويحيا في نقاء، فإنه يبلغ الغاية التي لا يولد منها مجددًا. ومن يجعل الفهم سائقه، ويمسك بزمام الذهن بحكمة، يصل إلى نهاية الرحلة، إلى المقام الأسمى، حيث يسود المطلق في كل مكان.»
الذُّرَة |
Corn |
الذُّرَة ترمز إلى المادة الناتجة عن فعل الأب-الأم الخلّاق، والتي تتكوّن داخل رحم الأم وتُولد منه. هذا الفعل الخلّاق، حين يعمل وفق القانون، يستخدم هذه "الذرة" – أي المنتج المباشر للمصفوفة الكونية – لتشكيل الأكوان والشموس والكواكب، التي يُرمز إليها بأرغفة الخبز. لكن قبل أن يتم استخدامها في الخلق، يجب أن تُشحَن هذه المادة الثانوية بطاقة كهربائية خلاقة، أو أن "تُخمَّر". أما على مستوى الوعي البشري، فترمز الذرة إلى إرادة-ذهن؛ حيث يمثّل الجنين الإرادة، ويمثل البروتوبلازم الذهن، بينما يُمثل الغلاف المحيط الإحساس الأهمكاري (Ahamkaric Sense)، وهو العامل الذي يفرّق ويحدّد الفردية. أما القشرة الخارجية، فتمثل العقل الشكلي لكل دورة حياة.
تُمثّل حبّة الذُّرَة أيضًا رمزًا للأنا البشرية، ذلك المبدأ الخالد المتطور في الإنسان. الجنين فيها يرمز إلى الموناد-آتْما (Monad-Atma)، أما المكوّنات الكيميائية فهي الصفات والقوى الكامنة، بينما تمثل الطبقة الخارجية الغلاف الأوري، وخصوصًا ما يُعرف بـ أوغويديس (Augoeides). أما القشرة، التي لابد أن تموت لاحقًا، فترمز إلى الصفة الذهنية للشخصية المتضخمة بالذات. لكي ينمو الأنا، لا بد أن يتجسّد في أجسادٍ فانية، تمامًا كما يجب أن تُزرع الحبّة كي تُثمر. يجب أن تسقط القشرة، وأن تتحلّل الطبقة المحيطة، حتى يتمكن الجنين المخصّب من إنبات الساق والسنابل، حيث تنشأ من الحبّة الواحدة ثمارٌ كثيرة.
لكي يصبح الإنسان مثمرًا بقوى الأنا المتطورة (حبوب الذرة في السنبلة)، يجب أن يستخدم هذه القوى في العوالم المادية. كما ينبغي أن يسمح للقشرة والطبقة الخارجية بأن تفقد قدرتهما على تقييد النمو الداخلي. رمزيًا، يجب إزالة القشرة وتحلل الغلاف الخارجي، أي أن يتوقف الإنسان عن الاعتماد على وهم الأنا الفردية المنعزلة. فحينها فقط تتحقق الثمرة الكاملة من منظور التطور، ويصبح بمقدور الذات العليا أن تغذّي الذات الدنيا. ومرة أخرى، كما في معجزة الخبز والسمك، فإن الحدس بقدرته التوحيدية وكشفه للحقيقة الكونية (الكريستوس) هو الذي يجعل هذا التحوّل ممكنًا. فرمزياً، المسيح يغذّي الجموع بالخبز والسمك، إشارةً إلى هذه العملية الروحية العميقة.
التاج |
The Crown |
التاج هو رمز السيادة أو الملوكية على الطبيعة الدنيا، وتجسيد للملِك المتوَّج الذي يحكم من قمة السلطة. في المصطلحات الباطنية، يرمز الموناد-آتْما إلى القوة الحاكمة على كامل طبيعة الإنسان. فلسفيًا، يمثّل التاج أعلى المراتب، فهو المصدر الواحد في حالتيه الظاهرة والخفية، وهو قمة المثلث الروحي، والواحد الأحد. كما أنه يرمز إلى أسمى الحكمة وأخفى الأسرار، وهو جوهر الحقيقة ذاتها.
كان تاج مصر السفلى مُشكَّلًا على هيئة فم مفتوح بلسان بارز ملتف عند طرفه، مما قد يرمز إلى كلمة القوة التي ينطقها اللوغوس الملكي خلقًا للكون، أو إلى الكلمة التي ينطقها الموناد الملكي في الإنسان لإنارة فرديته وتوجيهها. كان التاج المصري غالبًا ما يقترن بالأوريوس الثلاثي، وهو عصابة ذهبية تتكوّن من ثلاثة أفاعٍ ملتفة، ترمز إلى الحكمة الثلاثية لأوجه الإله الثلاثة، وكذلك إلى التيارات الثلاثة للطاقة الخلاّقة للأفعى النارية (Serpent Fire)، وهي الإيجابية والسلبية والمتعادلة، والتي تُوقَظ باطنيًا، ثم تُصفَّى وتُوجَّه إلى رأس الفرعون المُسَارَر. وفقًا لتقليد قديم، كان يُنظر إلى الملك باعتباره تجليًا لإله، ومن هنا نشأت لاحقًا فكرة الحق الإلهي للملوك. تشير العلوم الباطنية إلى أن أوائل الكهنة العظماء والهيروفانت (Hierophants) وحُكّام الأمم القديمة كانوا إما مؤدبين أئمة (Adepts) أو أعضاءً رفيعي المقام في التراتب الباطني للكوكب. ويبدو أن هذه الفكرة لا تزال محفوظة في الأوريوس الثلاثي لملوك مصر، إذ إنه في جميع هؤلاء الرجال والنساء المتطورين روحيًا، كانت نار الكونداليني قد أُيقظت بالكامل.
يُستخدم التاج أيضًا كرمز في سفر الرؤيا، حيث توصف «امرأة متسربلة بالشمس» بأنها ترتدي تاجًا من اثني عشر نجمًا، مما يشير إلى أن القوى الروحية المرتبطة بالأبراج الاثني عشر قد اكتملت جميعها، وأصبحت تتلألأ كجواهر في الذات العليا المُنيرة. أما سُحُب المجد التي قيل إن المسيح صعد فيها، فهي ترمز إلى الهالة المشعّة أو الأوغويديس (Augoeides) الخاصة بالـمؤدب (Adept)، أي إشراقة الجسد السببي، والتي يجسّدها أيضًا نور وجمال قدس الأقداس في معابد الأسرار العُظمى.
يمثّل التاج بشكل دقيق المظهر الفعلي للجزء العلوي من الهالة المنيرة لدى الإنسان المتطور روحيًا. ففي هذه الحالة، يلتقي صعود الطموح الفردي مع نزول الاستجابة الإلهية، لينتج عنهما تدفّق طاقي من الأسفل والأعلى، يتخذ شكل إشعاع تاجي. هذا التألّق يُعدّ أيضًا سمة مميزة لبعض مراتب الديفات (Devas)، والذين يُعرفون في الهندوسية باسم «ذوو القمم الساطعة».
القطع الرأسي |
Decapitation |
القطع الرأسي (Decapitation) يُستخدم كثيرًا في القصص التمثيلية في الكتاب المقدس، حيث يحمل أحد تأويلاته دلالة خاصة على طريق المُبادرة أو المُسارَّة الروحية، مشيرًا إلى ضرورة «قطع» قوة العقل النقدي (الرأس) لمنعه من عرقلة الإشراق الروحي، الذي لا يُدرَك إلا عبر الحدس الروحي. في الهندوسية، يقال: «العقل هو القاتل العظيم للحقيقة، فليقتل التلميذ القاتل»، وهو لا يعني أن العقل ليس أداة قيّمة، أو أن القدرة التحليلية لا يجب استخدامها، بل كما كتب القديس بولس: «امتحنوا كل شيء، وتمسكوا بما هو حسن.»
كان توما الشكاك مُتاحًا له، بل مشجَّعًا، على لمس جراح المسيح القائم للتأكد تمامًا من هويته، ولم يُوبَّخ على طلبه هذا. وكذلك موسى، عندما طلب من الله دليلًا على قوته الإلهية لإنقاذ بني إسرائيل من العبودية في مصر، فكان الدليل بتحوّل عصاه إلى حية، ثم بجعل يده برصاء كالثلج قبل إعادتها إلى حالتها الطبيعية. لذلك، من المشروع للدارس في الميتافيزيقا أن يستخدم عقله في بحثٍ بناءٍ وتحليلٍ وتجريبٍ لاختراق الأوهام والوصول إلى الحقيقة. لكن لا بد من توجيه هذه العملية بعناية، حتى لا يُضلله عقله التحليلي، أو تثنيه إخفاقاته المحتملة عن متابعة البحث، فيُصبح أعمى عن نور الحدس الروحي. ومن هنا فقط—بمعنى التحكم والتوجيه—يجب أن يُقطع العقل (رمزيًا). ومع ذلك، هناك أوقات يجب فيها أن يهدأ العقل مؤقتًا، ليصبح مستقبِلًا صامتًا، كأنه ينصت إلى الصوت الإلهي الداخلي الذي يكشف الحقيقة من مستويات فوق-عقلية، مما يسمح للحدس بمنح الإنسان الإشراق. وعندما يكتمل لاحقًا التعميم والاستنباط، وتصبح المبادئ واضحة، يمكن عندها استخدام العقل المنطقي—على طريقة توما—لشرح الفكرة الميتافيزيقية والتعبير عنها بوضوح في الفكر والكلمة والسلوك.
قطع الرأس رمز لتهدئة العقل. إنه يُظهر كيف يُسلب العقل قدرته على قتل الحدس. في قصة داود وجالوت، اصطفت جيوش الفلسطينيين والإسرائيليين للحرب. هذا تصوير آخر لمعركة كوروكشيترا أو هرمجدون. كان الفلسطينيون أقوى عدداً، بينما كان الإسرائيليون بقيادة الملك شاول أضعف. خرج من صفوف الفلسطينيين عملاق يُدعى جالوت، يرتدي درعاً. مشى بين الجيشين بغرور كبير، يتحدى إسرائيلياً لمواجهته. ظهر حينها راعٍ صغير يُدعى داود، مسلح بمقلاع يستخدمه الرعاة لطرد الطيور والحيوانات المفترسة. لم يكن داود يرتدي درعاً، لكنه عرض القتال ضد جالوت. سخر الجميع من عرضه، وحاول الملك شاول ثنيه. لكنه أصر، فأخذ خمسة حجارة ناعمة من النهر. وضع حجراً في مقلاعه، اقترب من العملاق، ورمى الحجر إلى جبهته. ثم قتل جالوت بقطع رأسه. فرّ جيش الفلسطينيين فوراً، تاركاً الإسرائيليين منتصرين.
في التأويل البشري لهذه القصة التوراتية، أعداء إسرائيل هم الصفات غير المرغوبة للطباع الدنيا. يشمل ذلك الغرور في هذه الحالة. الصفات العقلية مثل الكبرياء والجمود (الدرع) مُشار إليها بوضوح. أما الإسرائيليون فيمثلون الأنا داخل الشخصية في رحلتها نحو الكمال. في طريقها، تمر بالعديد من العقبات، داخلية وخارجية (القبائل المعادية). داود هو المبتدئ/المُسَارَر الشاب. جميع الرعاة يرمزون إلى الأساتذة والمبتدئين. أخذه للحجارة من النهر يشير إلى المبتدئين، أي أنه «دخل التيار». أصبح متصلاً بوعي مع نهر الحياة الإلهية. الحجر الناعم من النهر، الذي أصاب دماغ جالوت، يمثل الحدس. الحدس وجد مدخلاً إلى العقل الملموس. تغلب على النزعات الأنانية المفرطة (العملاقة) التي يجسدها جالوت. ضوء الحدس يجب أن يخترق الرأس، كما فعل الحجر. يدخل الغدة الصنوبرية والنخامية (الجبهة). يقتل رمزياً الصفات المدمرة والمتغطرسة للعقل الدنيوي (جالوت).
يوحنا المعمدان، الذي قُطع رأسه أيضاً، يمثل الأنا التي تُعد الشخصية للابتداء. مهمته، رسالته، وأسلوب حياته تشير إلى ذلك رمزياً. قبض عليه هيرودس، الذي يجسد العقل المتغطرس والطماع والعدواني. أصبح ضحية الراقصة سالومي، التي تمثل الحسية. طالبت برأسه «على طبق» وحصلت عليه. العاطفة الحسية «تقطع» سيطرة العقل. قطع الرأس يشير عموماً إلى «قتل» الذات الدنيا، خاصة العقل الرسمي. هذا يحدث بواسطة المرشح الناجح للابتداء، وكذلك كل من يسعى للتنوير بضوء الحدس.
الجنس البشري حالياً في مرحلة جالوت إلى حد كبير، لكن ليس كلياً. أعداؤه هم الدول وقادتها الذين، مثل الفلسطينيين وجالوت وهيرودس والملك كامسا، يسعون لمنع الوحدة. يحرفون الولاء ويستعبدون الشعوب الأضعف. لكنهم لن ينجحوا دائماً. داود، كالإدراك الحدسي، يولد في الإنسان. سينمو و«يقتل» المدمر المحتمل. الإنسان يتطور ويكتشف قدرات جديدة. منها الإدراك الحدسي لوحدة الحياة كلها. وبالتالي أخوة جميع البشر. مع الوقت، ستصل البشرية إلى مرحلة تنتهي فيها الحروب والظلم والجريمة والرذيلة. هذا نتيجة تطور الإنسان ونظرته الأوسع للعلاقة الحقيقية بين البشر. وللهدف الحقيقي لوجودهم. «هروب» شري كريشنا، نجاح داود، وميلاد المسيح الطفل تشير رمزياً إلى مستقبل الجنس البشري.
الحمائم |
Doves |
الحمائم، بجمالها الناعم وألوانها الهادئة وأصواتها المتناغمة، ترمز للحكمة النقية. هذه الحكمة تنزل إلى الطباع الدنيا. تُنظم كل شيء بقوة وحلاوة. باعة الحمائم الذين طردهم يسوع([12]) من الهيكل وقلب موائدهم يمثلون من نالوا بعض الحكمة والمعرفة الباطنية. لكنهم استغلوها تجارياً. يدَّعون الروحانية، لكنهم في الحقيقة يهينون العلم المقدس لمصلحتهم الشخصية. الكهنة الكبار يطردونهم من الحرم. في النهاية، قوة المسيح المستيقظة داخلهم تُطهر هيكل الطباع الدنيا من هذه الصفات غير المرغوبة.
النسر |
The eagle |
هذا الطائر الملكي المفترس يطير قرب الشمس. بصره حاد. يعيش في عش مرتفع ونائي. يهبط إلى الأرض، يصطاد الحيوانات الرباعية، ثم يصعد إلى أعلى ارتفاع يصل إليه طائر. على المستوى الكبير، النسر يرمز لأعلى مبدأ روحي في الخلق، الجانب الملكي للإلهي. على المستوى الصغير، يمثل الأنا الثلاثية الملكية. يمكنه الاتصال بالموناد (الشمس). ينزل إلى الشخصية (الرباعية)، يمسك بوعيها، ويرفعه قرب الموناد. النسر أسرع وأقوى وأنبل الطيور. لذا هو رمز مناسب للأعلى في الكون والإنسان. من المثير أن العديد من الكنائس المسيحية تستخدمه كعنصرٍ زخرفي داعم لمنبر القراءة الذي يُوضع عليه الكتاب المقدس وتُتلى منه نصوص الأسفار المقدسة.
الأرض |
Earth |
تشير الأرض وجميع الأجسام المادية والصلبة، في جوهر معناها، إلى الجسد المادي للإنسان وإلى حالات الوعي المرتبطة باليقظة. أما العناصر الأربعة — الأرض، الماء، الهواء، والنار — فهي تمثل، على نحوٍ عام، تجارب داخلية وأنشطة وحالات وعي تتصل بمستويات مختلفة من كيان الإنسان: فـالأرض ترمز إلى الطبيعة الجسدية، والماء إلى العواطف والانفعالات، والهواء إلى العقل والفكر، والنار إلى الروح الداخلية أو الجوهر الروحي للإنسان.
البيضة |
The egg |
تُعد البيضة رمزًا كونيًّا يُجسِّد أصل الوجود وسِرّه المستور. ولعلَّنا نتخيَّل الإنسان البدائي وهو يراقب بذهول تطوّر الجنين داخل قوقعة مغلقة، حيث تنمو الحياة في صمت، من دون أي تدخُّلٍ خارجي ظاهر أو قوة محسوسة، وكل ما تحتاجه هو الدفء فقط. وحين يكتمل الكائن — سواء كان فرخًا أو زاحفًا — ينكسر الغلاف الصلب من تلقاء نفسه، ويخرج هذا الكائن للعيان كأنه وُلد من ذاته، وخلق نفسه بنفسه، مما جعله في نظر الإنسان الأول رمزًا للخلق الذاتي والسر الإلهي الكامن في كل شيء.
استخدم الكُتّاب المُنتمون إلى تقاليد الاستنارة الروحية (Initiates) هذا الحدث الطبيعي — أي ولادة الكائن من البيضة — لتجسيد المبادئ المجردة للصدور الكوني أو الفيض (Emanation) والتطوّر الوجودي (Evolution) في صورة رمزية شاملة. فقد صوّر المعلمون الأوائل للإنسان فكرة العلّة الأولى على هيئة طائرٍ سرمدي خفيّ، غامض لا يُرى، يُسقِط «بيضة» في قلب الفوضى الأولى (الكاوس)، وهذه البيضة تصبح هي الكون بأسره. وفي مطلع كل ماها-مانفانتارا([13]) (الدورة الكبرى للخلق)، يُقال إن براهما يضع بيضة ذهبية، وهي تمثيل رمزي لـلدائرة العُظمى التي ترمز بدورها إلى الكون، بأجرامه الكروية، وحركاته الهوائية والمدارية في الفضاء.
العجل المُسمَّن |
The fatted calf |
العجل المسمن، الذي كان جزءاً من الوليمة المُعدة للابن الضال عند عودته، يرمز إلى اكتمال القدرات. يعبر عن ثراء القوى والإنجازات التي يتميز بها العائد، المحرر، والأستاذ الصاعد. وتُعد البصيرة الضمنية في الأسباب الأولى، والحدس الروحي اللافت للخطأ، والتمييز هي من بين هذه القوى أو «الثروات» المتطورة. أمَّا العجل الذهبي، الذي عبده بنو إسرائيل عند سفح جبل سيناء، يرمز إلى التعبير المادي الجسيم عن الخضوع لقوة الرغبة. فهو ينفي الحكمة الحدسية. كما يشير إلى القراءة الحرفية للكتب المقدسة. ويعكس الخضوع للأشكال والطقوس الخارجية للدين، بعيداً عن الروحانية الحقيقية.
الموت الرمزي |
Figurative Death |
الموت الرمزي هو تعبير عن القانون الكوني القائل إنَّ الشكل يجب أن يموت كي تتحرر الحياة، وهو ما عبّر عنه المسيح بكلماته الشهيرة: «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ. (يو 12: 24)» إن موت الحبّة هنا يُجسِّد نفس الموت الرمزي الذي مثّله المسيح على الصليب، تمامًا كما يموت اللوغوس (Logos) — الكلمة أو العقل الكوني — عند بداية الخلق، أي ذلك «الخروف المذبوح منذ تأسيس العالم». وتتجلّى هذه الحقيقة نفسها بشكل رمزي وتمثيلي في الضربة العاشرة التي سبقت الخروج من مصر، وعيد الفصح (Passover)، حيث تكشف كل من الحادثتين، من خلال الرمزية والدراما، عن ذات القانون الكامن في أن الموت شرط للعبور والتحول وبزوغ الحياة الحرة من رحم الفناء الظاهري.
الأيام السبعة |
The seven days |
تشير الأيام السبعة التي أُمر فيها بنو إسرائيل، عبر موسى وبأمر من الرب، بأن يأكلوا الخبز الفطير (غير المختمر)، إلى السبع مراحل الفرعية التي تكوّن الدورة الكبرى الأخيرة في مسار التطوّر الكوني. فعلى مستوى «الأكوان» (Cosmoi)، تمثّل هذه الأيام آخر دورة مكتملة في وجود الأنظمة الشمسية. أما في ما يُعرف بـالخطط الكوكبية (Planetary Schemes)، والسلاسل (Chains)، والدورات (Rounds)، فإن المرحلة الأخيرة المكتملة تتكون من سبع مراحل، وفي كل مرحلة منها يحدث توسّع تدريجي وامتداد في الوعي الكوني (Universalisation of Consciousness). ويُشار إلى أنَّ الوعي الكوني المُعمَّم يكون قد تمّ بلوغه بنهاية المرحلة ما قبل الأخيرة، ليُصبح الموضوع المحوري للدورة التالية بأكملها، منذ بدايتها وحتى اكتمالها. لكن هذا الوعي الشامل ذاته يخضع لعملية تطوّر وتوسّع تدريجي؛ إذ يبدأ أولًا بقدرة الكائن على أن يكون واعيًا بجميع أجزاء جسده المادي بإرادته، ثم يمتد هذا الوعي شيئًا فشيئًا ليشمل الأجساد الفوق-مادية (superphysical) — ابتداءً من الأدنى إلى الأعلى — وهي سبعة أجساد، يُمثّل كلٌّ منها يومًا من الأيام السبعة، أو فترة تطوّر مستقلّة، تُخصص لاكتساب الوعي الشامل في ذلك المستوى المحدد.
المؤدب |
The Adept |
لقد بلغ الأستاذ أو المؤدب حالة الوعي الكوني المُعمَّم — أي اتساع الوعي ليشمل الكل — بجهدٍ إراديٍ هائل، وبوقت يسبق بكثير تطوّر بقية الجنس البشري. فبدلاً من أن يخضع للمسار الطبيعي البطيء والمؤلم نسبيًا، الذي يمتد عبر مراحل العِرق (Race)، والدورة (Round)، والسلسلة (Chain)، والمخطط الكوكبي (Planetary Scheme)، اختار أن يحقق هذه الغاية عبر سعي داخلي متواصل ومتعمد عبر عدّة حيوات متتالية. ويقوم هذا السعي في جوهره على ممارسة راجا يوغا (Raja Yoga)، والتي تتمحور حول تأمل طويل المدى في الذات الإلهية العليا (البراماتما – Paramatma)، وفي طبيعة الكون، وفي وحدة الإنسان (الأتما – Atma) مع تلك الذات الكونية. وفي النهاية، يُدرِك اليوغي المُتقدِّم — إدراكًا لا نظريًا بل وجوديًا مباشرًا — أن الأتما والبراماتما ليسا كيانين منفصلين، بل هما واحد في الحقيقة. وحينها، يُعلن اليوغي المتحقّق بكل يقين ووعي: الأتما والبراماتما هما واحد.
من جهةٍ أولى، يُجبر من يسير نحو مرتبة المُتقدِّم الروحي (Adept-to-be) نفسه، عبر جهدٍ إرادي متدرّج، على التخلّي عن الإحساس بـ(الأنا)، وعلى نفي كل شعورٍ بالهوية الفردية، وعلى التخلي التام حتى عن أدنى أثر من التمسّك الذاتي أو التملّك الشخصي، بل حتى عن الإحساس بوجوده كـكائن منفصل. ويُشكّل هذا الإنكار والتخلّي عن الذات جزءًا جوهريًا من (الموت الرمزي) الذي تُعبّر عنه جميع طقوس الاستنارة والعبور (Initiatory rites). ومن جهةٍ ثانية، يعمل هذا السائر نحو الكمال على توسيع تجربته في الانسجام العميق (attunement) مع الحياة المتجلية في الكائنات من حوله، إلى أن يبلغ حالة الاتحاد الذاتي الكامل (self-identification أو at-one-ment) معها — وهي الحالة التي يُشار إليها بأنها «الكفّارة الحقيقية» (Atonement)، أي استرداد الوحدة الأصلية. وحين يُمارس هذا الاتحاد باستمرار، يُصبح حالة طبيعية لديه.
ومع كل جسد أو مركبة من مركبات وجوده (vehicle after vehicle)، يحقق هذا الاتحاد على مستوى أعمق، إلى أن يصبح واحدًا مع الحياة في كل الكائنات، وعلى جميع مستويات الوجود. ويبلغ هذا المسار ذروته في نهاية (اليوم السابع)، أو الـمانفانتارا العظمى، حين يظهر المُتقدّم ككائن كوني متّحدٍ اتحادًا تامًا مع مجموع ميدان التطوّر المخصص له. وفي حالة الكائن الأعظم، أي اللوغوس الشمسي (Solar Logos)، فإن هذا يُشير إلى الحضور الواعي المطلق في كل أرجاء النظام الشمسي، أي وعي شامل يُدرك ويتّحد مع كل جزء من أجزائه.
لا نهاية لمسار امتداد الهوية الذاتية واتحادها مع ذواتٍ أخرى؛ إذ إنَّ الأكوان المتجلّية (Manifested Cosmoi) لا تُعدّ ولا تُحصى، لأنها جميعًا في حالة تطوّر مستمر، ناشئة من المطلق (Absolute) وعائدة إليه في دورات لا تنقطع من الظهور والانطواء. لذلك، يمكن تعريف المطلق — بشكلٍ تقريبي — بأنه الوعي بالذات في الزمان والمكان: وعيٌ كامن في حالة البرالايا (Pralaya) (الكمون الكوني)، ووعيٌ فعلي في حالة المانفانتارا (Manvantara) (التجلّي الكوني)، في حركة أبدية لا انقطاع لها ولا حدود. ومع ذلك، فإن الوعي ذاته يُعتبر نفياً للمطلق، إذ أن حالة المطلق تفوق حتى مفهوم الوعي؛ فـالوعي المطلق يشمل كل طور ممكن من أطوار الإدراك، من التجاوز الكامل في البرالايا (transcendence) إلى التجلّي الكلّي في المانفانتارا (immanence).
وبما أن هذا الوعي المطلق يحتوي في ذاته اللاوعي كما يحتوي كل أشكال الوعي الممكنة، فهو إذًا يتجاوز طاقة التصوّر العقلي، ولا يمكن إدراكه إلا نظريًا، لا بالمباشرة أو الحدس. ويبلغ الكيانات العُليا ذروة الارتقاء التطوّري عند العتبة القصوى لهذه الحالة — أي على تخوم حالة المطلق — وهي ذروة التطوّر الوجودي. ومن هذا المنظور العميق، فإنَّ أكل الخبز الفطير (Unleavened Bread) يُصبح رمزًا لـتجاوز الفردانية، والاتحاد مع الحياة الواحدة في كينونتها الأزلية المتجانسة، حيث لا تمايز ولا تضخم، بل بساطة الكينونة النقية قبل أن تتخمّر وتنتفخ بفعل الذات المنفصلة.
النار |
Fire |
للنار في رحاب اللغة المقدسة دلالتان متضادتان. فحين تكون مدمرة، فإنها تشير إلى صفات العقل البشري المفرطة في النقد والتحليل. أما حين تكون مصدرًا للإضاءة، كما على قمة جبل أو عمود نار يهدي في الظلام، فإنها ترمز إلى القوة الإبداعية المتسامية في الإنسان، تلك التي تُعرف أحيانًا بـ(نار الأفعى)، والتي بها يتبدد ظلام العقل الدنيوي غير المستنير، ليحل محله نور الحكمة. وحينها، تتحول قفار الوعي القاحلة إلى (الأرض الموعودة) بثمار الروح، والاتحاد المحقق مع الذات الإلهية. وهذه القوة، عالميًا، ترمز إليها الأفعى.
الولادة الأولى - البِكر |
The First-Born |
إنَّ الولادة الأولى تُعدُّ رمزًا للإنسان أو المرأة الذين نالوا الاستنارة الأولى أو المُسَارَّة (Initiation)، أي دخلوا رسميًا عتبة التحوّل من طورٍ إنساني إلى طورٍ أسمى في مسار التطوّر الروحي. فهذه المبادرة الأولى الكبرى تُشكّل انتقالًا من مرحلة تطوّرية إلى مرحلة لاحقة أرقى. بعد هذه المبادرة، لم تعد المركبات الفوق-مادية (superphysical vehicles) — التي يستخدمها الأنّا العليا (Ego) المُستنيرة في المستويات الذهنية والعاطفية — تُفكَّك وتتفكّك كما في السابق بعد الموت. بل على العكس، فإنَّ (الأنا) تحتفظ منذ تلك اللحظة فصاعدًا بـالهوية العقلية والعاطفية الشخصية نفسها عبر كل حيوات التقمص التالية. وبهذا المعنى، يتحقق الخلود النسبي للشخصية (وإن لم يشمل بعد الجسد المادي)، حيث لا يعود الموت يمحوها بالكامل كما كان الحال في سابق أطوار الوعي. ولهذا يُقال إن الموت يعبر (passes over) هذه الأجساد (أو «البيوت») التي تسكنها الأنا المُستنيرة، في إشارة إلى رمزية حادثة الفصح، حيث لم يمسّ الملاك المُهلِك بيوت بني إسرائيل المعلَّمة بـ(دم الحمل). فـدم الحمل هنا يُمثّل رمزيًا يقظة طبيعة المسيح (Christ-nature) في داخل الإنسان، تلك الطبيعة التي أصبحت نشطة وواعية في ذاته، بحيث ينعكس تأثيرها وسلوكها في الحياة على الإنسان الظاهر (الشخصية الخارجية). هذه الأجساد أو (البيوت) التي تسكنها الـأنا المُستنيرة — والتي لم يَعُد الموت يُبيدها — هي منازل بني إسرائيل التي يتجاوزها الموت في المعنى الرمزي العميق.
أمّا المصريون، فيُجسّدون في هذا السياق الإنسانية العادية، التي لا تزال — في العصر الراهن — في مرحلة ما قبل الاستنارة (pre-initiate stage) ضمن المسار التطوّري العام. ونتيجةً لذلك، فإن الآلية الطبيعية لتفكك المركبات الثلاثة للشخصية — أي الجسد المادي المقرون بالإثيري، والجسد العاطفي، والجسد الذهني — ما زالت تحدث بعد الموت الجسدي.
إن الطبيعة الذهنية-العاطفية (mento-emotional nature)، التي كانت تُعتَبَر «الولادة البكر» في الحقبة التطورية السابقة، مكتوبٌ لها أن تموت مع الجسد، ما لم يكن الإنسان قد تلقّى مسًّا من عصا الـثيرسُس (Thyrsus) — وهي رمزٌ للمبادرة الروحية الكبرى. وإذا تمّ تقبُّل هذا الفهم الرمزي، فإنّ الإشكال الأخلاقي والعقلي الذي يُلازم الفهم الحرفي للنصوص الدينية — من حيث نسبُ الفظاعة إلى الله — يختفي تمامًا. فـالرب الإله (The Lord God) لا يكون هنا إلهًا دمويًا قبليًا يُحرّض أتباعه على ذبح الحملان، وأكل لحمها، ورشّ دمها على بيوتهم، ولا يكون أيضًا قاتلًا لا يرحم. بل يُمكن أن يُفهم الرب الإله هنا بوصفه تجسيدًا رمزيًا للقانون الكوني (Law)، وأن تُفهم أفعاله على أنها تمثيلات رمزية لمسارات التطوّر الكوني والعرقي والفردي، سواء على مستوى الطبيعة، أو على مستوى المسارات الروحية الكبرى (Initiatory progression)، وذلك في انتقالها من طورٍ إلى آخر ضمن تسلسل التطوّر.
السَّمك |
The fish |
السمك رمز عالمي ذو دلالات شتى. ففي إحدى هذه الدلالات، تشير إلى العواطف البشرية التي صُقلت حتى غدت غير مؤذية، وتسامت وتحولت لتُثمر نورًا وإدراكًا لوحدة الوجود، أو لتصبح «غذاءً». فالتسامي وحده هو المطلوب، إذ أن القوة المحركة للعاطفة هي ذاتها القوة المحركة للتعاطف. أما وعي المسيح، تلك الحكمة المولودة من اتحاد الإرادة والحب الكوني، الحب الشخصي الذي اتسع ليحتضن الكل، فهو أيضًا يتجسد في رمز السمكة.
هذا الساكن في أعماق المياه، أي العواطف، يرمز إلى تلك الحالة من الوعي. وتاج الأسقف، ذلك الذي يُصمم على شكل رأس سمكة بفم مفتوح، قد يكون إشارة إلى أن هذا المقام الرفيع قد بلغ ذروة الاستنارة الفكرية، وأن حياته قد وُهبت للتعبير عن هذا النور.
إضافةً إلى الصفات الفلكية المنسوبة لبرج الحوت—التعاطف المسيحاني والحكمة الحدسية—يبدو أن السمكة استُخدمت كإشارة سرية ليتعرف المسيحيون الأوائل على بعضهم البعض خلال فترة اضطهادهم. علاوة على ذلك، فإن حروف الكلمة اليونانية للسمكة، «إخثيس ichthys»، هي الحروف الأولى للعبارة اليونانية «يسوع المسيح، ابن الرب، المخلص».
المعالم الجغرافية |
Geographic features |
المعالم الجغرافية، تلك التي تُستخدم باستمرار كرموز طبوغرافية، تشير إلى حالات الوعي اليقظ، سواء كانت اعتيادية كالأرض المستوية، أو منحطة كالأودية، أو سامية كالجبال. ففلسطين والأردن، على سبيل المثال، ومصر والنيل، تحمل في طياتها دلالات روحية عميقة. وعلى المستوى الكوني، تمثل الأرض الكون برمته، والنهر يمثل مجرى الحياة الإلهية، الذي يتدفق فيه بشكل دائم، ليُحيي أوصاله. أما وعي ما قبل البدء، «الذين هم من خارج»، فلا يدرك سوى الكون المادي ورموزه الملموسة.
في البدء أو الاستهلال أو الإدخال (Initiation) الأول، يتجلى الوعي الذاتي بوجود الحياة الواحدة، ويبزغ فجر إدراك الوحدة الروحية معها. وتُستبدل الرموز بالرؤية المباشرة لما ترمز إليه، «وجهًا لوجه»، كما قال المسيح لتلاميذه. هذا التوحد الذاتي مع التيار الأبدي، الحاضر في كل مكان للحياة الإبداعية، يُعرف تقنيًا بـ«دخول التيار». ومع كل إدخال روحي، يتعمق هذا الإدراك، حتى يبلغ كماله في الإدخال الروحي الخامس. فيعرف العارف نفسه متطابقًا مع تيار الحياة الذي يملأ كل شيء، الحياة الروحية الساكنة التي تتدفق كنهر، فتُحيي كل شكل. وحينها، يُقال عنه تقنيًا أنه «عبر التيار». والأنهار المقدسة، كالأردن والنيل، تُستخدم كرموز لتلك الحياة الإلهية الخالدة، التي لا مكان لها ولا زمان، والتي لا تنضب. فبالوحدة الواعية معها، يحقق العارف الخلود.
على المستوى الصغير، تمثل فلسطين الجسد المادي للإنسان، حيث يمثل الأردن الحبل الشوكي، والبحر الميت المنطقة العجزية، وبحر الجليل القلب النابض، وجبال لبنان المغطاة بالثلوج الرأس، المستقبلة لأمطار السماء، رمز مياه الحياة. وفصل مياه الأردن (أو البحر الأحمر) بقوة سحرية إلى تيارين متوازيين، أحدهما إلى اليمين والآخر إلى اليسار، وحمل تابوت العهد، وعبور الشعب على أرض جافة، ليس سوى وصف رمزي لتحولات جسدية عميقة، واستيقاظ وصعود تيارات نار الأفعى الإيجابية والسلبية على امتداد الحبل الشوكي.
النصبان التذكاريان، اللذان شُيدا من اثني عشر حجرًا، أحدهما على الضفة الغربية لنهر الأردن، والآخر في قاعه، يجسدان الخاص والعام. وهما أيضًا، من منظورنا البشري، يمثلان العالم المصغر، بقواه الاثني عشر البروجية، والعالم الأكبر، بحزامه البروجي، ويكشفان عن دقة التوافق بينهما. فهما في جوهرهما واحد، متطابقان تمامًا، لا فرق بينهما سوى البعد. وكما يُقال، «الكون هو الإنسان، ولكن على نطاق أوسع بكثير».
حجز مياه الأردن، يرمز أيضًا إلى كشف النقاب عن الحقائق الجوهرية. والأحجار المتناثرة في قاع النهر، هي تجسيد للحكمة العلوية والأسس الراسخة التي يقوم عليها صرح الخلق بأسره. هذه الجذور الوجودية، هذه الحقائق والقوى، هذه الأرقام والقوانين، التي بُني عليها الكون والإنسان، تظل في العادة محجوبة تحت المادة الحية التي تشكلها. فالإنسان الذي أعمته المادة، العقل الذي لم يبلغ مرحلة البدء أو الإدخال الروحي (Initiation)، لا يستطيع أن يراها تحت «الطوفان». أما الإنسان المستنير روحياً، العقل المُبدأ/المُدخل، فإنه يخترق الحجب، ويحجز مياه الأردن رمزياً، فيدرك ويعرف إلى الأبد القوى والمبادئ والحقائق الاثني عشر التي بُني عليها الكون والإنسان، والتي هي جوهره.
المُبدأ أو الطالب المُستنير (Initiate)، بوعي تام، يستخرج من أعماق ذاته نهره الأردني الداخلي، حياته الروحية، والقوى الاثني عشر ذاتها، ويُنميها حتى تبلغ الكمال، لتكون شاهدًا أبديًا على وجودها الكوني. وفي هذه المرحلة من رحلة الإسرائيليين نحو الأرض الموعودة، تحت قيادة يشوع، يمثلون الإنسان في تلك اللحظة المستنيرة من تطوره، حيث يمسك بزمام حياته وقواه، ويسرع بتطويرها إلى الكمال المنشود. وحقًا، يُقال إن النصب التذكاري قائم إلى يومنا هذا، باثني عشر حجرًا، خالدًا؛ فالقانون الطبيعي أبدي، والإنسان الذي يحرر نفسه ويكملها، يظل كذلك إلى الأبد. فكل شيء داخلي، كل ما يحدث يحدث داخل الإنسان. وفي التفسير المصغر البدئي، تُصور القصص العظيمة رحلة التدريب والتجارب، الإخفاقات والانتصارات، لأولئك الذين يجدون الطريق إلى الكمال، «الباب الضيق» و«الطريق الوعر» المؤدي إلى الحياة الخالدة.
الجلجثة |
Golgotha |
يمكن اعتبارها المكان الذي يشهد «الصلب» الثلاثي، الجسدي والعقلي والروحي. فالتحقق النهائي والكامل لوعي المسيح، بكل ما يحمله من معانٍ، يجب أن يتحقق في كامل الوعي الجسدي اليقظ. والعقل والدماغ ذاتهما يجب أن يستقبلا هذا النور. والدماغ، كما نعلم، يقع داخل الجمجمة، ولعل هذا هو السبب في أن الصلب قد وقع في الجلجثة، «مكان الجمجمة».
الباز - الصقر |
The Hawk |
الصقر، رمز رع وحورس وآلهة أخرى، يجسد بشكل خاص فعل «الارتقاء»، التسامي الروحي، والتنوير، الذي تحدثه القوة الإلهية في الطبيعة، وفي الأنا البشري على الإنسان الفاني. على المستوى الكوني، «يفترس» الإله الثلاثي الكون المادي، «يمسكه بمخالبه»، ثم يمتصه، موحدًا الأدنى بالأعلى، رافعًا إياه إلى مرتبة الروح. وعلى المستوى المصغر، «يصطاد» الأنا الأحادي، «يقتنص»، يرفع ويمتص الرباعي الأدنى—ومن هنا نجد الصيادين الإلهيين (كإيروس)، والصيادات (كأرتميس)، والأقواس والسهام والأسلحة الأخرى، وكثير منها يحمل قوة سحرية.
القلب |
The Heart |
القلب، في رحاب اللسان المقدس، وفي معناه المصغر، يشير إلى الجسد السببي، ذلك المركز المتواجد في المستوى العقلي الأعلى، لاستقبال وتوزيع نبض الحياة الروحية للأنا، إلى الإنسان الأدنى، تمامًا كعمل القلب. وهذه الحياة المشحونة بالإرادة، جوهر المسيح الحقيقي للروح، تغمر في النهاية الإنسان الظاهر، وتسيطر عليه بالكامل. وهكذا، يصبح الجسد السببي، المستنير والمملوء بـ«أتما-بودي»، مركبة للنقل الإيقاعي للحياة الإلهية في كل جوانب طبيعة الإنسان. وجوهر «بودي» هو الوحدة والمحبة والقرابة والرحمة، لذا يشيع استخدام القلب كرمز لهذه الصفات والتجارب. ولكن، عندما نتحدث عن «القلب»، فإننا لا نعني فقط مقر العاطفة، عضو الشعور الرقيق، بل أيضًا الملجأ الأعمق، مركز التوليف ومصدر كل الطاقة والحياة والحكمة والحب والإرادة للذات العليا. فالقلب، إذن، هو رمز بليغ للحياة المركزية للروح، الحاكم الداخلي الخالد وقواه.
كان للقلب في مصر القديمة مكانة سامية، وتُرفع إليه الابتهالات: «يا قلبي، يا أمي! يا قلبي الذي به وُلدت. لا تقف ضدي في يوم الحساب. حقًا، ما أعظمك عندما [في لحظة البدء] تنتصر وترتفع!» والقلب الساكن، رمز مصري آسر، يمثل الذات العليا المستنيرة، في توازن تام، تستقبل وتنصت بصفاء إلى «الصوت» الإلهي. وفي تلك الأزمنة، كانت الصلوات تُرفع إلى القلب الساكن، الذي كان يُفسر أيضًا على أنه الحب الإلهي الكامن في أعماق الروح. وفي رمزية عميقة، كان القلب، الموضوع في جرة، يُوزن مقابل ريشة أمام أوزوريس (الأحادي) في قاعة الحكم (البدء) في العالم السفلي بعد الموت. القلب في الجرة يمثل الأنا في الجسد السببي، وتأثيره كضمير حي، بينما تشير الريشة إلى الحياة الشخصية، ومدى استنارتها بالأنا كان قيد الاختبار. وكان التوازن بينهما شرطًا لإثبات الجدارة. وإذا تحقق هذا التوازن، كانت الروح تُنطق «ما خرو»، أي «صادقة الصوت» أو «جوترا بو».
قلب المسيح المكشوف (القلب المقدس)، هو رمز لحالة الوعي التي يبلغها الإنسان الكامل. فقلبه مكشوف دائمًا، دلالة على أن الحب الإلهي للمعلم لا يُحجب عن أي كائن حي أو شيء. وعبر قرون وجوده المديدة—من خلال قلبه، كما لو كان—يشع في كل الاتجاهات حبه الإلهي الشامل ورحمته التي لا تنضب. هذا الحب يتدفق كفيضان عارم، يغمر العالم بأسره. ويُرمز إلى هذا الحب أيضًا بالوردة المتفتحة على صدر المتصوف.
يكمن معنى أعمق لرمز القلب المقدس في أن العارف، في إحدى تجلياته، يستقبل طواعيةً في قلبه كل الشر، كل قوى الكراهية والفتنة والتشتت والقبح، وبسحر حبه اللامحدود، يحولها إلى قوة وبركة، ويرسلها من جديد عبر قلبه كتيارات من النور والرحمة على العالم أجمع. والرمح الذي اخترق قلب يسوع، يمكن اعتباره تجسيدًا لكراهية العالم التي يستقبلها باستمرار، ويحولها إلى حب في أعماقه، بالكيمياء الروحية، ثم يرسلها ثانيةً لبركة العالم، وخاصةً لبركة أولئك الذين يحملون وزر الكراهية. هذا هو الفارق بين المعلم والإنسان. الأول لا ينفصل روحيًا عن البشرية أبدًا، وتحقيق وعد يسوع عند صعوده إلى السماء: «...ها أنا معكم كل الأيام إلى منتهى الدهر»، يتجلى بأبهى صورة في المسيح ذي الصدر المفتوح والقلب المتوهج النابض. وقد جسد المسيح هذه الوحدة الأزلية مع البشرية جمعاء عندما قال عن معذبيه: «...يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون». والوردة المتفتحة، بجمالها وعطرها، خاصةً عندما تقترن برمز القلب، هي شعار بليغ لهذه القوى والصفات والإنجازات التي يحققها الإنسان المستنير.
الكأس المقدسة |
The Holy Grail |
الكأس المقدسة، أو القدح، يمكن اعتبار الكأس رمزًا للأجساد الفوق-طبيعية لكل من الكون والإنسان. فقاعدة الكأس تُمثل العالم والجسم الأثيريين للإنسان. والساق تُمثل المستويين النجمي والعقلي ومركبات الإنسان، أما الوعاء فيُمثل المستوى السببي وجسم الإنسان السببي، والخمر يُمثل الحياة الروحية الكامنة في الكون وجميع الكائنات.
في الاستهلال الأول، تستحث مبادئ البوذي وقوة الحدس بشكل أعمق. وبالتدريج، مستوى فرعيًا تلو الآخر، ينتقل مركز الوعي الذاتي صعودًا إلى المستوى البوذي. وهذا يجلب «خمر» حياة الله الواحدة إلى الجسم السببي أو وعاء الكأس. حينها يصبح الذات الداخلية للمُستهَل روحيًا، وتُكرس الحياة الخارجية بعمق. وكما هو الحال في المُستنير الكامل (Adept)، يصعد مركز الوعي الذاتي إلى المستوى الأتمي، وينزل لهيب الإرادة الواحدة إلى الجسم السببي، أو بشكل رمزي، يُستقبل «خبز» المناولة المقدسة.
البحث عن الكأس المقدسة، هو رحلة بحث الشخصية عن الذات الروحية الكامنة في الجسد السببي. وبعد ذلك، يقود هذا البحث إلى اكتشاف الذات الداخلية (اللوغوس) للكون، الكأس الكوني الأكبر. وهذه الحقيقة لا تتجلى إلا عندما تُعرف الكأس المقدسة الفردية، ويُستقبل «خمرها»—حياة بودي ووعيها. لذا، يمكن اعتبار أسطورة الكأس المقدسة رمزًا لمسارات التلمذة والبدء (الاستهلال). فكل الأحداث والمغامرات تصف التجارب الداخلية للمبتدئين والتلاميذ والمُبدئين، والملك آرثر هو الكاهن الأعلى. والفرسان هم تجسيد للصفات والخصائص (كجلاهاد—النقاء) ونقاط الضعف (كلانسلوت—الشهوانية) لكل طالب روحاني.
الكأس المقدسة، أو القدح، تبدو رمزًا للجسد السببي للإنسان، ذلك الوعاء الذي تُسكب فيه الحياة الإلهية لله، عندما يبلغ الإنسان مرحلة معينة من التطور. والبحث عن الكأس، هو سعي الشخصية الإنسانية، في جسدها المادي، لتجربة واعية لحب الحكمة الكوني، الكامن في أعماق الذات الداخلية. قصة الكأس تحكي دراما الروح، حيث يخوض البطل تجارب الحياة الخارجية واختباراتها، ويصارع الجهل والشر، ويحرر أسمى الصفات (العذارى الأسيرات) من سجن الطبيعة الدنيا. وعندما تتصل الشخصية أخيرًا بالذات الإلهية الداخلية، وتعرف نفسها على أنها هي، «تأتي قوة عليا بكأس مملوءة بالحدس والحكمة والحصافة، وتهبها للروح». ورمزية الكأس والعناصر المقدسة تحمل وجهين، فهي تنطبق على الكون والإنسان على حد سواء. فالقربان يرمز إلى الألوهية، الكل الواحد الذي لا يتجزأ—وخاصة الله الآب. والخمر يمثل الله الابن، الذي تتدفق حياته إلى «كأس» الشكل المادي.
خيول فرعون |
The Horses of Pharoah |
خيول فرعون، هي تجسيد لقوة الحياة الذكية، القوة الدافعة المحركة لأنشطة العقل والعاطفة والجسد، والقوة الكامنة في أعماقها. وعندما تُوجه هذه الطاقة العقلية توجيهًا روحانيًا، فإنها ترفع مركز الوعي نحو العوالم الروحية، تمامًا كما حمل بيغاسوس، الحصان المجنح، فارسه إلى عنان السماء. ولكن، عندما تنفلت قوة الحياة المدفوعة بالعقل من عقالها، فإنها تقود إلى الاستسلام لأهواء الطبيعة الدنيا ورغباتها الجامحة. وتقول الأسطورة إن السحرة حاولوا أن يجعلوا الطفل زرادشت يُداس حتى الموت تحت سنابك الخيول. ولكن الحصان الرائد وقف فوق الطفل، وحماه من كل أذى.
الحصان الأبيض، رمز للعقل الأعلى المستنير بالحدس أو الطَّوِيَّة الروحانية (intuition). ويُقال إن الرب بوذا، شفقة على آلام العالم، حلق عبر السماوات على حصان أبيض، ودخل مناطق الشياطين ليجلب السعادة للبشرية. ويرتبط الحصان الأبيض رمزيًا بالشمس، وبالتالي بساكن الأعماق، جوهر الإنسان. ومخلص العالم، الملك المسيح، يوصف بأنه يمتطي حصانًا أبيض، يحمل قوسًا ويعتمر تاجًا. والسهم، رمز للسهام النارية، أشعة الشمس التي تمنح الحياة والطاقة والخصوبة للطبيعة في عالمنا المادي. وفي العالم الروحي، يرمز إلى اندفاع الروح، الطاقة النارية الكهربائية (فوهات) التي تبدأ بها رحلة التطور وتستمر. وفي الإنسان، السهم هو قوة إرادة الجوهر، التي توقظ ملكة الحدس الخاملة في الذات العليا، وتمنح الطاقة الدافعة التي تجعل الإنسان ينطلق في رحلة البحث العظيمة، كمتسلق جبال يخاطر بحياته ليفتح قمة مجهولة لم تطأها قدم من قبل. والأفاتار، مخلص العالم الإلهي، الممتطي حصانًا أبيض، هو المسيح؛ فيشنو عند الهندوس؛ اللوغوس للكون ولروح الإنسان.
في اختيار الحصان تحديدًا، دون غيره من الحيوانات المدجنة كالحمار أو الثور أو الفيل، يكمن التركيز المتعمد على سمة السرعة. فالسرعة في الحركة توحي بالنشاط المفرط، والنشاط هو أحد السمات الأساسية الثلاث لكل مادة، إلى جانب الإيقاع والقصور الذاتي. ولكن النشاط أو السرعة، إذا انفلت من عقاله، يقود إلى أفعال غير محمودة وتجاوزات في التعبير عن الذات. وهذا ما تجسده الحيوانات البرية سريعة الحركة. أما النشاط المنضبط، المتوازن مع الإيقاع والقصور الذاتي، فيقود إلى حركة قوية ورشيقة، تخضع للسيطرة، وهذا ما يمثله الحصان بأبهى صورة.
الحصان المجنح بيغاسوس، بالإضافة إلى ما ذُكر من معانٍ، يمثل حالة تطورية أكثر تقدمًا، إذ يستطيع بيغاسوس أن يترك الأرض ويحلق في السماوات. العوالم الأربعة الدنيا، التي يسجن فيها الشكل الحياةَ عادةً، والمركبات الأربعة الدنيا للإنسان، قد خضعت تمامًا للوعي والحياة الكامنة، وتشبّعت بالقوة الروحية المستيقظة، فلم تعد تقيد الكائن الذي يستخدمها بالحدود الزمنية والمادية. وجناحا هذا المركب يمثلان العقليات المجردة والملموسة المتناسقة، ولكن المنفصلة بشكل صحيح. وفي هذه الظروف، تتحرر الروح من القيود المادية السابقة، ويستطيع الإنسان أن يحلق بوعيه إلى عوالم تتجاوز تلك التي ينشط فيها العقل البشري ويدركها في العادة.
طائر أبو منجل |
The Ibis |
طائر أبو منجل هو رمز إله الحكمة المصري تحوت (Tehuti)، الذي غالبًا ما يُصور برأس هذا الطائر. يتغذى أبو منجل على الكوبرا، وبذلك ينقذ الأرواح. والثعبان السام، يمثل القوة الإبداعية التي أُسيء استخدامها. وهذه الظاهرة المألوفة تحولت إلى قصة تمثيلية (allegory) تُصور الإله ذي رأس أبو منجل وهو يحمي الإنسان من إساءة استخدامه لنار الأفعى الإبداعية، خاصةً في صورة الإفراط في الشهوة الجنسية.
المستنقع والأهوار |
Swamp and marsh |
يمثلان كلاً من المستوى الفلكي الأدنى، والحالة البدائية الأولى، التي منها وفيها تنشأ الحياة وتتشكل. (تأمل قصة موسى في البردي، والأسطورة الزولوية التي تقول: «الجد المسمى أونكولونكولو، تفرع من قصبة، أو خرج من مهد القصب»). وفي مصر القديمة، وُلد حورس الأصغر عذريًا لإيزيس، ونشأ في أهوار دلتا النيل، رمزًا على المستوى الكوني للكون «المولود» من «الطين» البدئي (المادة ما قبل الكونية)، بفعل القوة الإبداعية النشطة—أوزوريس. وكما رأينا، عندما يُسيء الإنسان استخدام نار الأفعى، تتحول إلى سُمٍّ قاتل. وأبو منجل، يأكل الثعابين، فيقلل من الخطر المُحدق. وتحوت، رمز الحكمة، ينير الإنسان، و«ينقذه» من هذه الخطيئة وآثارها السامة. ولعل هذا جزء من السر وراء رأس أبو منجل الذي يميز تحوت.
المثلثان المتداخلان |
The Interlaced Triangles |
تجسيد للثنائية الكونية. «المثلثان المزدوجان يرمزان إلى الساكن العظيم والفاعل العظيم؛ الذكر والأنثى؛ بوروشا وبراكريتي». وكل مثلث، في جوهره، ثالوث، لأنه يعكس جانبًا ثلاثيًا [للإله ذي الأقانيم الثلاثة، وكذا في الإنسان، المعرفة والعارف والمعروف... وأيضًا القوى الخلاقة والحافظة والمدمرة، المتصلة ببعضها البعض في علاقة تبادلية].
اتجاه المثلث، هو مفتاح دلالته. فإذا كان رأسه متجهًا للأعلى، فهو رمز للعنصر الذكري والنار الإلهية؛ وإذا كان متجهًا للأسفل، فهو رمز للعنصر الأنثوي ومياه المادة. ويكتب أحد الحكماء: لا يمكن الوصول إلى "الكلمة" الحقيقية، إلا بتتبع سر الحياة الأبدية، في رحلة داخلية وخارجية، عبر الحالات التي تجسدها هذه الأشكال الهندسية الثلاثة [المثلث المزدوج في الدائرة].
الشكل السداسي |
The Hexagon |
ينبثق الشكل السداسي من رحم المثلثات المتشابكة، ختم سليمان، إذا ما تم توصيل نقاطه ببعضها البعض. وهو رمز للخلق الكوني برمته، السفروت السبعة في تجليها الإبداعي، ويكتمل عددهم بتوحدهم في النقطة المركزية، من حيث ينبثق كل شيء.
القُبلَة |
The Kiss |
القُبلة بما تنطوي عليه من حاسة اللمس، فإنها تُمثل على المستوى الرمزي ذلك الاتصال الخلاق بين العامل المُبادر والمستقبل المُتقبِّل، لتُجسّد بذلك طورًا من أطوار العملية الإبداعية الكونية. وفي التجربة الإنسانية على صعيد الأبعاد الفوق-طبيعية، تتجاوز القُبلة البُعد الحسي لتُصبح ذات طبيعة نجمية-بوذية، دالةً على عمق المشاعر والاتحاد الروحي. أما على المستوى المادي، فتُمنح القُبلة بالشفتين، وهما بوابة حاسة الذوق، لتُعبر بذلك عن أسمى معاني الحب وذروة روحية سامية ومصونة. وعلى هذا المنوال من التجلّي الإلهي في العالم، فإن الأفَتار، أو مُخلّص العالم الرباني المُمتطي صهوة جواد أبيض يرمز للنقاء والقوة، ما هو إلا تجسيد لهذا المبدأ الخلاق، فهو كريستوس في التصور المسيحي، و فيشنو بين معتقدات الهندوس، واللوغوس الذي يُمثل العقل أو الكلمة الإلهية المنظمة لكل من الكون والنفس الخبيرة الإنسانية على حد سواء.
الوحدة الكامنة خلف التنوع الظاهر حقيقة لا تتزعزع، والحياة التي تسري في كل الكائنات واحدة لا تتغير، رغم اختلاف أشكالها. وغريزة الوحدة، تجد لها تعبيرًا دائمًا ومتجددًا في الإنسان. فالقُبلة، أو اتحاد «الأعضاء» الإبداعية العليا، هي التعبير الثابت والمستمر عن الحب. وفي قبلة الشفاه، تغلب العاطفة، أما القبلة على الجبين، فوق الغدة النخامية وشاكرا أجنا، فهي تلميح إلى البعد الروحي. ومن المثير للاهتمام أن القبلات الأبوية والأمومية والبنوية والأخوية والودية، نادرًا ما تكون على الشفاه، إذ يغيب عنها عنصر الرغبة. وعمومًا، قبلة الشفاه هي حكر على العشاق.
قبلة يعقوب لراحيل، بكل ما تحمله من إيحاءات بالجاذبية البصرية، والاتصال الحسي، والفعل الذكوري الإيجابي والاستجابة الأنثوية، تجسد بامتياز عملية الخلق الكوني، التي تبدأ بـ "قبلة" الروح للمادة. أما قبلة يهوذا، فهي خيانة تقود إلى سجن المسيح وإذلاله ومعاناته وموته ودفنه، بمعنى أن الروح، التي يمثلها المسيح، تُطوى وتُخان وتُسجن داخل المادة، حيث تُقيد الحرية الأصلية بشكل مؤقت.
زهرة اللوتس |
The Lotus |
زهرة اللوتس المتفتحة (Open lotus)، تجسد انبثاق النظام الكوني من فوضى العدم الأزلي، تجلي المتناهي من اللامتناهي، انبلاج الأكوان من "مياه" الفضاء المطلق. والنبات برمته، يرمز إلى الخصوبة والتلقيح والنمو، أما بذرة اللوتس، التي تكشف عند قطعها عن زهرة كاملة، فهي تمثل الأحادية، الجرثومة الخالدة—الكونية والمصغرة. وزهرة اللوتس المتفتحة بالكامل، تصور تجلي الأحادية في أبهى صورها، سواء كانت للكون، أو للملاك، أو للإنسان—الإله الكامن في الداخل، وقد تجلى بكامل مجده.
وإذا ما طبقنا هذه الرمزية على الإنسان تحديدًا، فإن بذرة اللوتس تصبح تجسيدًا للأحادية البشرية. وهذا التشبيه في محله، فالبذرة، عندما تنضج، تنفصل عن الزهرة وتغوص في الأعماق الموحلة (التجسد في جسد مادي)، وتستمد الجذور غذاءها من هذا العمق. والساق يرتفع عبر الماء (الطبيعة العاطفية)، والأوراق تستقر على سطح الماء وترتفع فوقه، مما يمثل ببراعة العقل المزدوج (الملموس والمجرد). أما الزهرة المتفتحة البديعة، ببتلاتها البيضاء النقية وقلبها الذهبي المتجه نحو الشمس، فهي رمز بليغ لطموحات الإنسان وقواه الحدسية الروحية.
تكوين البذور الجديدة، التي تغوص بدورها تحت سطح الماء، في قاع البحيرة أو النهر، لتنبت وتُخرج نباتات جديدة، وأزهارًا جديدة، وبذورًا أكثر، يجسد التعاقب الدائم للدورات الكبرى والصغرى (المانفانتارا والتناسخ). وهذا الاستمرار الموسمي لهذه العملية الطبيعية، يشير أيضًا إلى الطبيعة الخالدة للروح في الإنسان، وإلى قيامتها المحتومة من براثن الموت الجسدي، ومن قيود الوجود في المملكة البشرية للطبيعة.
الزواج والجِمَاع |
Marriage and Intercourse |
سواء كانا في إطار الشرع أو خارجه، لا يرمزان إلى علاقة جسدية، بل إلى "زواج" روحي، أو امتزاج للوعي، على أي مستوى كان. فالوعي الجسدي اليقظ، يمكن أن يرتقي ليتحد مع وعي الذات الروحية الداخلية. والمعلم العظيم، يمكن أن يمزج وعيه بوعي تلميذه في اتحاد وثيق، بينما المعلم الأعلى للجميع، يحافظ على مستوى روحي على اتحاد أبدي لا ينفصم بينه وبين كل الكائنات. ورمز الزواج، يحمل في طياته معنيين. أحدهما يشير إلى التوحيد الواعي بين الإلهي والإنساني في الإنسان. والآخر، إلى الاتحاد الروحي العميق الذي ينشأ بين المعلم الحق والنفس الروحانية للتلميذ، أو في حالة سيدنا (المسيح)، مع البشرية جمعاء. وهذا الأخير، يعتبره بعض المتصوفين المسيحيين التكفير الحقيقي، أو كما يمكن أن نكتبه، "التوحيد". وفي ظل هذه الظروف، يمكن القول إن زواجًا روحيًا قد حدث، وبالتالي، يمكن اعتبار سيدنا، بشكل مقبول، هو العريس.
حتى العلاقات غير الشرعية، يمكن أن تُستخدم كرمز لاندماج الطبيعة الدنيا بالعليا، والعليا بالإلهي. وفي العديد من الرموز، تظهر شخصيات البغايا وممارسة الزنا، للإشارة إلى تحقيق الاتحاد القسري أو المبكر، أو الوحدة الكاملة، مع الذات الداخلية والله العلي.
بما أن جميع الشخصيات في الرموز الملهمة هي تجسيد لمبادئ وصفات الإنسان الواحد، فإن الإشارات الكتابية الصريحة إلى النشاط الإنجابي، سواء كان مشروعًا أو غير مشروع، تفقد كل ما فيها من نفور. فذلك "الزواج" ليس جسديًا، بل نفسيًا روحيًا أو سماويًا، وتلك المفاهيم هي من الروح، فهي طاهرة ومعصومة.
الزواج، والمرأة كشريك، يُستخدمان كرموز بمعنيين مختلفين. في أحدهما، المرأة—أو الرحم، أو التابوت، أو المهد—تمثل العقل المجرد في مركبته، الجسد السببي. والزواج هنا، يشير إلى نزول شعاع الأحادية المثمر (الزوج)، الذي ينتج عنه حمل العقل الأعلى بملكة الحدس، والقدرة على إدراك وحدة الحياة في خضم تنوع الأشكال. وعندما تتطور هذه القوى، وتُستخدم بوعي تام، يُقال إن ابنًا قد وُلد. وهذا هو التفسير البدئي، الذي يُستخدم في جميع روايات الولادات الإلهية وشبه الإلهية.
في معنى آخر، المرأة تمثل الشخصية الخارجية، وخاصةً عقلها الشكلي. والزواج هنا، يصور المرحلة التي يتفاعل فيها التأثير المثمر عقليًا للذات الداخلية (الزوج)، عبر الذكاء المجرد، مع العقل الشكلي التحليلي بالكامل، العقيم روحيًا. ونتيجة لهذا الاتحاد، تتولد ملكة الفكر المجرد (المفهوم)، لتضاف إلى ملكات التحليل والاستنتاج. وعندما يُدرك هذا الأمر ويُستخدم بوعي، يُقال إن ابنًا قد وُلد. ولم ير القدماء أي فاحشة أو نجاسة في القوة الإنجابية، أو في العملية والأعضاء المرتبطة بها، ولم يجدوا أي عيب في استخدامها كرموز مادية للقوة الإبداعية الإلهية والتكوين الكوني، وللاتحادات الصوفية وثمارها التي يحققها المُدخَلون (Initiated). والرمزية القضيبية (Phallicism)، ليست بالضرورة دلالة على سوء النية.
الجبال |
Mountains |
الجبال التي شهدت أحداثًا جلية في الكتاب المقدس وسائر الكتب السماوية، هي رمز للارتقاء الروحي، الذي يشهده الوعي في الجسد المادي. والسهول، تمثل حالة العقل الاعتيادية، الضرورية للحياة اليومية، بينما الوديان، تجسد الأفكار والأنشطة المادية الغليظة، التي يختارها الإنسان بإرادته. أما البراكين، والجبال التي تتوهج قممها بنور سماوي، فهي ترمز إلى الرأس، وإلى حالة الوعي السامية التي يبلغها أصحاب النفوس المتقدمة، الذين استيقظت فيهم نار الأفعى، وأضاءت رؤوسهم بنورها، وفتحت (دحرجت حجر القبر) القناة الروحية، أو الدوامة الدوارة في تاج الرأس. وعندما يحدث هذا، يستنير الإنسان ويتجلى، كما تجلى موسى على سيناء، وإيليا على حوريب، والمسيح على جبل التجلي.
آلية الوعي البشري، تتكون جسديًا من الجسد ذاته، ومن نظامه العصبي المركزي، مع المراكز العصبية والغدد السبعة، المتمركزة في العجز، والطحال، والضفيرة الشمسية، والقلب، والحنجرة، والغدتين النخامية والصنوبرية. وعلى المستوى الأثيري، تربط النظائر الأثيرية لهذه المراكز والغدد، والدوامات الأثيرية المعروفة بالشاكرات، الذات الداخلية بالجسد المادي. وتوجد سبع شاكرات أخرى، في مواقع مماثلة، في كل من الجسدين العاطفي والعقلي للإنسان. وفي الكتاب المقدس، نجد إشارات إلى مراكز القوة هذه، في الأجساد فوق الحسية للملائكة والبشر، في سفر حزقيال، الفصل الأول، الآية الخامسة عشرة، والفصل الثالث، الآية الثالثة عشرة، والفصل العاشر، الآية التاسعة، وبشكل غير مباشر، في سفر الرؤيا، الفصل السادس، كالأختام التي فُتحت.
رموز التحليق في الهواء، أو الارتفاع فوق الأرض، تجسد الصعود إلى حالات الوعي والوجود فوق الحسية والروحية. وعندما تكون النار هي عامل الرفع، كما في حالة إيليا، وبشكل ما موسى (عمود النار والشجيرة المشتعلة)، فإن الطاقة الإبداعية المتسامية هي التي ترفع. وصعود يسوع في سحب المجد، يحمل تفسيرًا مشابهًا. وفي حالته، بلغ الصعود ذروته في التتويج على يمين الآب، وهذا يعني بلوغ المسيحية، مرتبة العارف؛ لأن الوحدة الأبدية والواعية تمامًا مع الألوهية العليا—النيرفانا—هي ما يدخلها العارف المتحرر.
الولادات |
Nativities |
الولادات هي رمز لبداية دورات جديدة، سواء كانت شمسية، أو كوكبية، أو عرقية، أو فردية، أو نفسية، أو روحية. وأبناء هذه الاتحادات، يمثلون حالة الوعي الجديدة التي تتبع، وخاصةً ملكة الحدس الروحي. والمتحققون من هذا الأمر، يُشار إليهم بأسماء مختلفة، كـ "الصغار"، والأطفال، والشباب، والمواليد الجدد. وحتى الإجهاض، يُعطى دلالة روحية، فهو يشير إلى تسريع التطور الروحي، والتبني الواعي لنمط حياة يسرع "الولادة الجديدة" الروحية، وتحقيق الوحدة.
الليل |
Night |
الليل، والموت، والعمى، والنوم، هي رموز كونية لفترات عدم التجلي، وبشرية لحالات عقلية يفقد فيها الوعي الروحي بريقه مؤقتًا. أما النهار، فهو يمثل فترة التجلي، وحالة الاستنارة الروحية، الثابتة في أعماق الذات الداخلية، ولكن يصعب بلوغها للإنسان الظاهر. والفجر، أو انبلاج الصباح، هو رمز للعودة إلى التجلي والاستنارة. وقصة إنكار بطرس لسيده في الليل، وندمه وتأنيبه عند انبلاج النهار، تجسد هذا التحول وتأثيره بوضوح. هذه القصة، هي إحدى تلك اللوحات المضيئة، التي تكشف عن التجارب النفسية الروحية في رحلة التلمذة (discipleship).
الزيت |
Oil |
الزيت هو أحد الرموز المتعددة التي تُستخدم للإشارة إلى: سمة خاصة للحكمة الروحية؛ الحب العالمي المقدس والتضحوي؛ مبدأ الحياة الكوني؛ والنعيم والتناغم والفهم العميق الذي يتدفق من حالات الوعي هذه. ويمكننا أن نجد مثالًا على استخدام الزيت كرمز في هذا المقطع من الكتاب المقدس:
وَصَرَخَتْ إِلَى أَلِيشَعَ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ بَنِي الأَنْبِيَاءِ قَائِلَةً: «إِنَّ عَبْدَكَ زَوْجِي قَدْ مَاتَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ عَبْدَكَ كَانَ يَخَافُ الرَّبَّ. فَأَتَى الْمُرَابِي لِيَأْخُذَ وَلَدَيَّ لَهُ عَبْدَيْنِ».
فَقَالَ لَهَا أَلِيشَعُ: «مَاذَا أَصْنَعُ لَكِ؟ أَخْبِرِينِي مَاذَا لَكِ فِي الْبَيْتِ؟» فَقَالَتْ: «لَيْسَ لِجَارِيَتِكَ شَيْءٌ فِي الْبَيْتِ إِلاَّ دُهْنَةَ زَيْتٍ».
فَقَالَ: «اذْهَبِي اسْتَعِيرِي لِنَفْسِكِ أَوْعِيَةً مِنْ خَارِجٍ، مِنْ عِنْدِ جَمِيعِ جِيرَانِكِ، أَوْعِيَةً فَارِغَةً. لاَ تُقَلِّلِي. ثُمَّ ادْخُلِي وَأَغْلِقِي الْبَابَ عَلَى نَفْسِكِ وَعَلَى بَنِيكِ، وَصُبِّي فِي جَمِيعِ هذِهِ الأَوْعِيَةِ، وَمَا امْتَلأَ انْقُلِيهِ».
فَذَهَبَتْ مِنْ عِنْدِهِ وَأَغْلَقَتِ الْبَابَ عَلَى نَفْسِهَا وَعَلَى بَنِيهَا. فَكَانُوا هُمْ يُقَدِّمُونَ لَهَا الأَوْعِيَةَ وَهِيَ تَصُبُّ. وَلَمَّا امْتَلأَتِ الأَوْعِيَةُ قَالَتْ لابْنِهَا: «قَدِّمْ لِي أَيْضًا وِعَاءً». فَقَالَ لَهَا: «لاَ يُوجَدُ بَعْدُ وِعَاءٌ». فَوَقَفَ الزَّيْتُ. فَأَتَتْ وَأَخْبَرَتْ رَجُلَ اللهِ فَقَالَ: «اذْهَبِي بِيعِي الزَّيْتَ وَأَوْفِي دَيْنَكِ، وَعِيشِي أَنْتِ وَبَنُوكِ بِمَا بَقِيَ»." (2 ملوك 4: 1-7).
إذا ما أدرك الإنسان، في أعماق وعيه، جوهر الحكمة الروحية، والحب المقدس والتضحوي، ومبدأ الحياة الكوني، وعزم على مشاركة هذا الإدراك مع الآخرين، فإن تجربته (أو فيض الزيت) لن ينقص، بل سيزداد غزارة.
هذا هو أيضًا المعنى الباطني لكل الرموز التي تصف كيف تتضاعف الكمية الصغيرة لتصبح كبيرة. هنا، لا نتحدث عن معجزة، بل عن حقيقة طبيعية. هذه الحقيقة تتجلى عندما يتحد الفرد بوعي مع الحياة الكونية، ويصبح قناة لتأثيرها المتناغم، الشافي، المغذي للعقل. فحينها، تتعمق تجربة الوحدة، وتزداد القدرة على الخدمة. والمتلقون لهذه الخدمة، يحصلون على توسع مماثل، ويعترفون ويصادقون على هذا القانون نفسه. وهكذا، فإن تعبيرات الحب الإلهي هذه لا تؤدي إلى نقصان، بل إلى زيادة دائمة.
الأرملة، إذًا، هي الذات العليا للإنسان، رجلاً كان أم امرأة، ممن استيقظت فيهم الروح. وأرملتها وفقرها، يرمزان إلى تجردها من كل ما هو خارجي، من مصادر السعادة والدعم. وجرة الزيت الوحيدة التي تملكها، تشير إلى أن وعيها قد بدأ يتسع ليشمل الكون بأسره. وابناها، هما تجسيد للمكونات العقلية العاطفية والمادية للشخصية الظاهرة. وخطر الفقر والعبودية الذي يتهددهما، يشير إلى أن رحلة التعميم الذاتي والتخلي لم تكتمل بعد. فهما لم يجدا بعد سبيلًا للتعبير عن نفسيهما، من خلال العقل، والعاطفة، والجسد المادي، والحياة.
في هذه اللحظة المفصلية الهامة في مسيرة التطور البشري، العون، لمن يسعى إليه بصدق (الآية 2)، متوفر دائمًا. الحكيم، المعلم الروحي، يستجيب بلا كلل لنداء صادق للمساعدة، ويطرح ويجسد القانون الذي ينص على أن الزيادة الروحية (إضافة إلى إمدادات الزيت للأرملة) تتبع دائمًا التعبير الحكيم عن الحب الكوني (الزيت). وإذا كان التلميذ قادرًا على الاستجابة، فإن الأسرة والنسل (الطبيعة الفانية) يمتلئون بوفرة من الحكمة الروحية والحياة والحب. وعندما يتحقق التعميم الفكري ويقبله العقل والدماغ، يتحرر الابنان (العقل والجسد) من تهديد العبودية.
الفعل الثيورجي للزيادة، أو ما يُعرف تقنيًا بـ "التضاعف"، هو أمر يقع ضمن قدرة المُنشَّأ روحيًّا رفيع المقام كأليشع. وهذا التضاعف، هو إنجاز ليس بالنادر بين الثيورجيين المتمكنين. لذا، يمكننا أن نتقبل الرواية بقراءتها الحرفية والرمزية على حد سواء.
الطاووس |
The Peacock |
الطاووس هو رمز للجهل والكبرياء الهابطة، الحالة التي قد يتهاوى فيها الإنسان. ومظهره الخارجي الباذخ، خاصةً ألوان ذكره الزاهية، لا يعكس قوة فكرية مماثلة. ومع ذلك، فإن قوة الحياة تجد لها متنفسًا حتى في هذا الطائر الذي قد يُعد أحمق، والذي لا يفعل سوى اتباع غريزة نوعه. وتلك الغرائز، تثبت جدارتها، حيث يستمر نوع الطاووس في البقاء على الأرض، كباقي مخلوقات الطبيعة.
الحكمة الفطرية تتجلى ببراعة رغم القيود التي تكبل الفكر. بل إن الحكمة الطبيعية الخالصة تجد لها تعبيرًا أوسع وأكثر حرية في عقل أقل انشغالًا. والإنسان نفسه قد مر بمرحلة "الطاووس" في مسيرة تطوره. وقد تجلى ذلك بشكل خاص خلالَ العرقِ الجذريِّ الرابعِ، حيثُ ازدهرَ الجانبُ العاطفيُّ وهالةُ الإنسانِ. وظل العقل في سبات عميق، إلا لدى النفوس الأكثر سموًا، ولم يظهر العقل كملكة وقوة يمتلكها ويستخدمها الجنس البشري الخامس على هذه الأرض إلا في الأعراق الفرعية اللاحقة، عندما كان العرق الجذري الخامس قد بلغ مراحل متقدمة.
بينما يحمل اليونيكورن (unicorn) دلالتين متلازمتين، فهو مرآة لسلالتين جذريتين — الثالثة في فجر التكوين، والسادسة في أفق التجدد — يتألق الطاووس كرمز للسلالة الرابعة التي تتراقص أرواحها بعيدًا عن أغلال العقل المتسائل. وفي أمدٍ لاحق، حين تتفتح السلالتان السادسة والسابعة، سيتلاشى صوت العقل المنطقي المتعنت، ليشرق بهاء الحدس في سماء الإنسانية. عندئذٍ، لن يسكن الإنسان في دهاليز فكره، بل في أعماق روحه النابضة، حاملًا في قلبه حكمة الحدس وبصيرةً تُدرك كل حقيقة أولية كما لو كانت نجمة ساطعة في كبد السماء.
هذا التقدم العرقي يظهر أيضًا في المُنشَّأ روحيًّا، الذي يكتسب قدرات السلالات اللاحقة ويجب أن يمتلك المهارات اللازمة ويظهرها. هالته تتألق بألوان الطاووس الزاهية، وحكمته الحدسية تشبه مئة عين تجعله يرى كل شيء تقريبًا. رغم أن الناس خارج المجتمع الروحي قد يعتبرونه ضعيفًا عقليًا، فهو في الحقيقة زينة الجنس البشري. ريش الطاووس اللامع وعنقه وذيله المزين يعكسان هالة وقدرات سلالات البشر المستقبلية، وكذلك الأفراد الذين يتفوقون على أقرانهم ويصلون إلى عظمة روحية ملكية تسبق عصرهم. الطاووس يُعتبر أيضًا رمزًا للملوكية.
البيليكان (البجعة) |
The Pelican |
استخدم الورديون، أي جماعة الصليب والوردة (Rosicrucianism) طائر البيليكان الأنثى ليعبر عن الجوانب الأمومية والحافظة للإله. تظهر الأم وهي تطعم صغارها السبعة من دم صدرها المفتوح بينما تطفو في عش على الماء. على المستوى الكوني، البيليكان يرمز إلى قوة الطبيعة الإلهية الخلاقة. الماء يشير إلى الفضاء، ولهذا تُختار الطيور المائية التي تطفو على الماء كرموز للإله. العش يمثل مادة الكون المنظمة المحصورة بحدود تُسمى "الحلقة التي لا تُعبر". الصغار السبعة يمثلون القوى الخلاقة السبع، مثل البناة والسفيروت، والمخططات، السلاسل، الجولات، المستويات، السلالات وتفرعاتها، والأشعة، وممالك الطبيعة، والمبادئ البشرية، وكلها تعتمد على الحياة الإلهية لتستمر. الدم يعبر عن الحياة الكونية التي يقدمها اللوغوس كتضحية دائمة.
على المستوى الفردي، البيليكان يمثل الموناد البشري (الجوهر الروحي الأعلى)، والعش هو الغلاف الهالي الذي يحيط بالإنسان، والماء يشير إلى الجوهر العنصري لمستويات الطبيعة وأجساد الإنسان. الصغار السبعة هم المبادئ السبعة أو الأدوات، وكلها تتغذى باستمرار من الحياة الروحية التي يقدمها الموناد، وهي "الدم" أو الجوهر الإلهي الداخلي. هذا الدم يعبر عن "آتما-بودي"، أي مبدأ المسيح، الحياة الداخلية، والإكسير (المعروف بـ"أمريتا"). من خلال هذه الحياة والنور من الموناد، تتخلص الروح تدريجيًا من الميول المادية والشهوانية وتتنقى. رمزيًا، تتغذى الروح وتصبح أدواتها العقلية والعاطفية (مثل الثياب) "بيضاء بدم الحمل"، أي تُطهر روحيًا.
الفينيق |
The Phoenix |
هذا طائر أسطوري مصري كان يُقال إنه يعيش 500 أو 1000 عام، ثم ينهي حياته بالجلوس على كومة أخشاب عطرية مشتعلة، ومن رماده يولد فينيق جديد. على المستوى الكوني، الفينيق يمثل اللوغوي (Logoi) (الكيانات الإلهية) التي تنسحب من الأكوان عند نهاية دوراتها الظاهرة وتعود مع بداية دورات جديدة. النار ترمز إلى القوة الخلاقة والمدمرة والمتجددة في الكون، فهي تخلق وتدمر معًا. الإله، من جهة، "يدمر نفسه" بإطلاق النار الخلاقة، أي يتوقف عن الوجود كمبدأ روحي خالص وحر وأبدي عندما يبدأ الخلق.
كتبت السيدة بلافاتسكي:
"الفينيق، رغم ارتباطه عادةً بالدورة الشمسية لـ600 عام عند الإغريق وغيرهم، هو رمز لعدة دورات مختلفة، وتتغير الأرقام حسب الدورة المقصودة. الفينيق — الذي يسميه العبرانيون «أونيخ» من «فينوخ» أو إينوخ كرمز لدورة سرية وطقس تهيئة، والأتراك يسمونه كيركيس — يعيش ألف عام، ثم يشعل نارًا ويحترق بنفسه، ويولد من جديد من رماده، ويعيش ألف عام أخرى، وهكذا حتى سبع مرات سبع (49 مرة)، إلى أن يأتي يوم القيامة. العدد سبع مرات سبع أو 49 هو رمز يشير إلى 49 مانو (قادة كونيون)، وسبع جولات، والدورات البشرية السبع في كل جولة على كل كوكب. كيركيس وأونيخ يرمزان إلى دورة عرقية، وشجرة أبابل الغامضة، أو شجرة الأب في القرآن، تنبت فروعًا جديدة كلما تجدد الفينيق، ويوم القيامة هنا يعني نهاية دورة صغيرة تُسمى برالايا. مؤلف كتاب الإله والرؤيا يؤمن بهذا التفسير."
"الفينيق هو نفسه السيمورغ في القصص الفارسية، والوصف الذي يُعطى عن السيمورغ يؤكد بوضوح أن موت الفينيق وإعادة ولادته يرمزان إلى تدمير العالم وإعادة خلقه مرات عديدة، وكثيرون يعتقدون أن هذا يحدث بسبب طوفان ناري أو مائي بالتناوب. عندما سُئلت السيمورغ عن عمرها، أخبرت كاهيرمان أن العالم قديم جدًا، فقد مُلئ سبع مرات بكائنات غير البشر ثم أُفرغ منها سبع مرات (يستخدم الماضي لأن الكتاب رمزي ويخفي الحقيقة). الجنس البشري الذي نعيشه الآن سيستمر سبعة آلاف عام، وقالت إنها رأت اثنتي عشرة من هذه الدورات، ولا تعرف كم عدد الدورات الأخرى التي ستراها."
ما سبق ليس فكرة جديدة. منذ بيلي في القرن الماضي وحتى الدكتور كينيلي اليوم، تحدث العديد من الكتاب عن هذه الأمور. لكن الآن يمكن ربط الوحي الفارسي بالنبي الناصري. يقول مؤلف كتاب كتاب الإله:
السيمورغ هو نفسه السينغ المجنح عند الهندوس والسفنكس عند المصريين. يقال إن السينغ سيظهر في نهاية العالم كأسد-طائر ضخم. من هذا، اقتبس الحاخامات فكرة طائر عملاق يقف أحيانًا على الأرض أو يمشي في المحيط ورأسه يساند السماء، ومع هذا الرمز تبنوا الفكرة المرتبطة به. يعلمون أن الأرض ستتجدد سبع مرات متتالية، كل مرة تستمر سبعة آلاف عام تقريبًا، وأن عمر الكون كله سيكون 49,000 عام. هذا الرأي يشمل فكرة أن الكائنات كانت موجودة قبل كل تجديد، وربما تعلموا هذا في الأسر البابلي أو كان جزءًا من دين قديم احتفظ به كهنتهم منذ زمن طويل.
النص يبين أن اليهود المطلعين اقتبسوا فكرة السبع جولات والتسعة وأربعين سلالة، لكن خلفاءهم غير المطلعين، التلموديين، فقدوا المعنى الحقيقي وطبقوا هذه الأفكار بطريقة خاطئة.
ليس فقط كهنة اليهود، بل كهنة كل بلد آخر كذلك. الغنوصيون، الذين تتنوع تعليماتهم لكنها تعود إلى عقيدة أولية واحدة، استخدموا نفس الأرقام بطريقة مختلفة ووضعوها على لسان يسوع في كتاب "بيستيس صوفيا" الغامض. ونقول أكثر: حتى مؤلف أو محرر سفر الرؤيا المسيحي احتفظ بهذا التقليد وتحدث عن السبع سلالات، مشيرًا إلى أن أربعًا منها وجزءًا من الخامسة انتهت، وبقي اثنتان ستأتيان. هذا مذكور بوضوح، وقاله الملاك:
"هنا العقل الذي له حكمة. الرؤوس السبعة هي جبال سبعة تجلس عليها المرأة. وهناك سبعة ملوك: خمسة سقطوا، وواحد موجود، والآخر لم يأت بعد. من يعرف اللسان الرمزي القديم قليلاً لن يخطئ في أن يرى في الملوك الخمسة الذين سقطوا السلالات الجذرية الأربع التي كانت وجزءًا من الخامسة الموجودة الآن، وفي الذي لم يأت بعد السلالتين السادسة والسابعة القادمتين، وكذلك السلالات الفرعية في سلالتنا الحالية." (من كتاب "العقيدة السرية"، المجلد الرابع، صفحة 188-189)
الأعمدة |
Pillars |
الأعمدة عادة ترمز إلى وسيلة تحمل القوة الخلاقة، سواء في الطبيعة أو في الإنسان. في الإنسان، تشير إلى الحبل الشوكي الذي تمر من خلاله هذه القوة. في الإنسان المستنير، تتحول هذه القوة وتصعد إلى الدماغ والعقل، فتظهر كنور كبير ووسيلة للتحرر، الرفعة، الإلهام، والعبقرية. لذلك، قاد موسى شعبه عبر البرية إلى أرض الميعاد بعمود من نار في الليل. كل الأشياء المنتصبة يمكن أن تُفسر بنفس المعنى.
البذور النباتية |
Plant Seeds |
البذور النباتية هي رموز للحقيقة الروحية، أو كلمة الله.
الأنهار |
Rivers |
بعض الأنهار تُستخدم كرموز جغرافية بمعانٍ مختلفة. إنَّ تطور الذات الإلهية للإنسان من حياة مادية بحتة عبر مراحل تؤدي إلى حياة روحية كاملة يُسمى "دخول التيار". الحبل الشوكي، الذي تتحرك عبره نار الأفعى أو الكونداليني من أسفل العمود الفقري إلى الدماغ بعد استيقاظها، يُرمز إليه أحيانًا بنهر. من الأمثلة: الأردن، يبوق، النيل، الغانج، والأنهار الأربعة التي خرجت من عدن: فيشون، جيحون، حديقل، والفرات.
الصخور |
Rocks |
الصخور تمثل الجسم المادي ومستوى الوعي.
الوردة |
The Rose |
رمزية الوردة الروحية تعود أساسًا إلى الصوفية، وهي طائفة إسلامية غامضة ظهرت في القرن السابع بقيادة أبو سعيد. يقال إنهم سُموا صوفيين بسبب ملابسهم الصوفية، لأن "صوفي" تعني "صوف"، لكن بلافاتسكي تقول إنها من "صوفيا" أي الحكمة. عاش الصوفيون حياة رهبانية، ركزوا على التأمل، واستخدموا لغة شعرية غامضة لإخفاء تعاليمهم الروحية. الشاعر حافظ، الذي عاش في شيراز بفارس في القرن الرابع عشر، كان يُلقب بـ"مفسر الأسرار"، وأعمالُه اعتُبرت كتابات الصوفية. شيراز كانت معروفة بحدائق الورود الجميلة ونسجها الممتاز، وفي سجاد شيراز يظهر اللون الوردي أو الأحمر الوردي بكثرة مع تصاميم تحتوي على الورد. عندما وصل فرسان الحروب الصليبية إلى الأراضي المقدسة، تعرفوا على هذا التصوف والفلسفة الشرقية. خلال القرون التالية، مع استمرار حملات الفرسان والجنود من أوروبا إلى فلسطين، اختلطت الفروسية الغربية بالفلسفة الصوفية الشرقية، فظهرت حضارة غربية جديدة، رمزها الوردة، وتجلى ذلك في شعر التروبادور.
في نفس الفترة، طور مهندسو البناء الكبار من كلية كوماسين في شمال إيطاليا أسلوبًا معماريًا جديدًا، تطورًا من الطراز الرومانسكي، وسُمي "القوطي"، ربما لأنه بدأ بين أحفاد الشعوب القوطية. في هذا الأسلوب، ظهرت نوافذ وردية جميلة من الزجاج الملون، أدخلت رمز الوردة إلى العمارة، أولاً في شمال فرنسا، ثم في إنجلترا، ألمانيا، وإيطاليا. في عام 1614، نُشرت قصة عن أخوية الصليب الوردي ومؤسسها المزعوم، كريستيان روزنكروتز، وهي كلمة ألمانية تعني "صليب الورود".
قصائد حافظ نموذجية للصور الصوفية عند الصوفيين، فهي تُظهر رمز الوردة الغامضة (البوذي)، وحديقة الورد (الوعي السببي)، والبلبل أو "مغني الوردة" (الأنا). رمز الوردة يشير إلى الجانب الثاني، الله كالحبيب الحقيقي، والحديقة تعبر عن حالة الاتحاد مع الله أو حضوره. الصوفيون استخدموا هذا الأدب الصوفي قبل حافظ بقرون لحماية تعاليمهم السرية، وعبروا عنه كالتالي:
حافظ يتأمل في حديقة الورد:
كل وردة في الحديقة تظهر وجهك...
كل وردة تزين الحديقة تحمل آثار لونك ورائحتك...
حديقة أفكاري مليئة بصورك وخيالاتك،
لم يرَ أحد وجهك، ومع ذلك ينتظرك الآلاف...
ما زلت مطويًا في برعم الوردة، مختبئًا عن أعيننا، ومئات البلابل تنتظر أن تتفتح الوردة، وردتهم، لترى وجهك.
قيل عن حافظ إن "كل أبيات قصائده هي معرفة إلهية".
حوالي عام 1200 ميلادي، كتب فارس يُدعى غيوم دو لوريس عملًا أدبيًا بعنوان رومان دي لا روز، حيث يرمز الورد إلى الحب. تروي القصة، باختصار شديد، حكاية عاشقٍ يحلم بحديقة رائعة الجمال (تمثل الوعي السببي) يدخلها، وهناك يكتشف نافورةً سحرية (ترمز إلى البوذي). يعلم أن هذه النافورة هي ذاتها التي سقط فيها الشاب اليوناني نرجس (الأنا الشخصية) وغرق فيها (في العوالم الزمنية) بسبب انشغاله بجماله المنعكس على مياهها المتلألئة (الأنا في عالمها الخاص).
في رومان دي لا روز، يخشى العاشق النظر في النافورة، وعندما يرفع بصره، يرى شجيرة ورد فائقة الجمال (تمثل الوعي البوذي) تنمو بجوارها، وعلى قمتها زهرة واحدة رائعة الجمال (تجربة الاتحاد مع الله). يملأ مشهد هذه الزهرة قلب الشاب بالنشوة، وبينما يتأملها بشغف (يمارس اليوغا)، يطلق عليه إله الحب (الآتمن) ستة من سهامه المجنحة (تمثل المثالية في طريق الروحانية). وهذه السهام، من منظور ظاهري، هي: الجمال، البساطة، اللطافة، الصدق، الرفقة، و"Beau Semblant"، وهو تعبير يصعب ترجمته لكنه قد يعني حسن السلوك أو المظهر المثالي.
عندها يصبح العاشق تابعًا مخلصًا لإله الحب ويقدّم له قلبه، فيقوم الإله بإغلاقه بمفتاح ذهبي (يرمز إلى التهيئة الروحية وثمراتها)، مما يجعله غير قادر على الوقوع في حبٍّ قائم على الشهوة وحدها. ثم يسمع العاشق صوتًا يخبره بأنه إذا أراد امتلاك الوردة، فعليه أن يلتزم بأوامر إله الحب، وأنه لن يتمكن من النجاح إلا بمساعدة الأمل، والأفكار الرقيقة، والكلمات العذبة، والنظرات الودودة. وبينما يظل العاشق وحيدًا يتأمل جمال الوردة، يقترب منه شابٌ نبيل يُدعى Bel Accueil (ويعني "الترحيب المحبّ")، وهو رمز للمريد الروحي المتقدّم، ويساعده على تسلّق الشجيرة (السير في الطريق الروحي)، حتى يتمكن من قطف إحدى بتلات الوردة ووضعها على قلبه. لكن الحارس الذي يحمي الوردة (رمز للعقبات التي تعترض طريق السالك) يستيقظ ويهاجم العاشق وBel Accueil، فيضطران إلى الفرار. وتتواصل أحداث رومان دي لا روز لتروي كيف يتمكن العاشق، بعد العديد من المصاعب والمغامرات، من الظفر بالوردة في النهاية.
إن رمز الوردة خالدٌ عبر الزمن، لأنه يجسّد حياةً ينبغي عيشها وتجربةً روحيةً يجب أن يبلغها كل سالكٍ في طريق الكمال. وعندما تُفهم القصة بهذا المعنى، فإنها تنطبق على كل طالبٍ يسعى إلى تحقيق الكمال، الذي ترمز إليه الوردة. ووفقًا لهذا التمثيل الرمزي، فإن الجميع في رحلةٍ نحو الحديقة السماوية للورد، حيث سيجدون يومًا ما الوردة الكاملة.
الوردة والصليب لدى الورديين |
The Rose and Cross of The Rosicrucians |
تمثل الوردة رمزًا للطبيعة، للأرض العذراء التي لا تزال خصبةً ومعطاءة، أو إيزيس، الأم والمغذية للبشرية، والتي يُنظر إليها ككيانٍ أنثوي، ويجسّدها المريدون المصريون القدماء في صورة امرأةٍ عذراء.
في العصور القديمة، كانت الوردة مكرّسة لكوكب الزهرة (Venus)، الذي يجسّد الطاقة الخلّاقة للطبيعة. ومن هذا المنظور، فإن اتحاد الوردة مع الصليب يرمز إلى الخلق الكوني بكل ما ينتج عنه. أما في الإنسان، فيمكن اعتبار الوردة رمزًا للنفس الروحية في كسائها النوراني، أي الجسد السببي، بعد أن تتلقى إشراق الروح (Atma)، فتثمر وتستنير وتنشر "عبير" الحكمة النقية. ويُقال إن هذه هي حالة المريد في أسرار المعرفة العُليا، حيث يُصوَّر هذا التكوين الداخلي الخلّاق في الروايات التمثيلية الرمزية من خلال مشاهد مثل البشارات، والولادات العذرية، وميلاد المنقذين العالميين.
تحيط الأشواك بالوردة لتحميها، وكما أن الأسرار العُليا لا يُمكن بلوغها إلا عبر المخاطر، فإن السيادة الروحية لا تُنال إلا بعد معاناة. فإكليل الشوك يُجسّد الملكية الحقيقية للروح، التي تبقى غير مرئية وغير معترف بها لمن لم ينل الإشراق الروحي، ولذلك يُنظر إليه على أنه إكليلٌ من الأشواك، إذ لا يُرى سوى المعاناة، بينما يبقى الانتصار مخفيًا. كما ترمز الأشواك إلى التطور المؤلم للعقل الأدنى الملموس، الذي يجب أن يجتازه الوعي في مسيرة تطوّره ليصل إلى المستويات العقلية العليا وإدراك الحدس. وحينما تكون الأفعال أنانيةً ومنفصلةً عن الوحدة الكونية، فإنها تجلب الألم والمعاناة—وهي وخزات الأشواك—وبما أن الرأس هو مركز الحياة الفكرية، فقد وُضعت الأشواك عليه كإكليل، كما حدث في صلب المسيح. علاوة على ذلك، وقبل بلوغ الكمال، يظل الصراع قائمًا بين العقل التجريدي المثالي والعقل المادي المتملّك داخل الإنسان، والجراح والآلام الناتجة عن هذا الصراع الباطني تتجسّد رمزيًا في الأشواك أيضًا.
على المستوى الميكروي (الصغير)، تمثل الوردة المتفتحة في أحد أوجهها الذات العليا داخل الجسد السببي للإنسان المستنير، حيث تولد منها وفيها المحبة الكونية، والحكمة، والسعادة، والتي يُرمز إليها بشكل خاص بعطر الوردة. أما الصليب، فغالبًا ما يُفسَّر على أنه رمزٌ للتضحية الذاتية، والخلود، والقداسة. غير أن الصليب، من منظور باطني، يعبّر عن سرّ الخلق بأكمله. فالروح، باعتبارها القوة الإيجابية المذكرة، أو "الأنفاس العظمى" أو "الكلمة" (Purusha بوروشا)، تهبط عموديًا وتتغلغل في المادة، التي تمثل القوة الأنثوية الخلّاقة، أو "العمق العظيم" (براكريتي Prakriti). وتُشكّل نقطة التقاطع المركز الحاسم الذي تحدث فيه عملية التكوين، والتي تنبثق منها الخليقة—أي الكون. وبهذا المعنى، فإن الوردة على الصليب ترمز إلى نشوء كونٍ جديد، على أي مستوى كان، وفي أي درجةٍ من الوجود.
إن نزول الروح في المادة، أي تقاطع الاتجاه العمودي مع الأفقي—الصليب—وما يترتب على ذلك من ارتقاء الحياة الواعية المكتملة—الوردة—يشير إلى العمليتين العظيمتين: التكوّن والانبعاث، أو المسير إلى الخارج والعودة إلى الأصل. ويحدث هذا كله ضمن نطاق المادة المتمايزة، حيث سيظهر الكون الجديد ويبلغ كماله. يحيط بهذه المنطقة "حلقةٌ لا يُتجاوز حدها"، أو ما يُعرف بـ"حبل الملائكة"، وهو رمزٌ يُجسَّد عادةً من خلال الصليب داخل دائرة. وتُمثل جدران المعابد والكنائس، والغلاف الأوري (الهالة النورانية) للإنسان، والأغشية التي تحيط بالأجسام والخلايا، جميعها هذا الحجاب الوقائي على المستويين الكوني والفردي، والذي يُرمز إليه بالوردة التي تتوسط الصليب، والدائرة التي تحيط به. أما في الإنسان، فإن Atma، الذراع العمودية، تنزل إلى Higher Manas، الذراع الأفقية، مما يؤدي إلى نشوء الوعي البوذي (Buddhic Consciousness)، الذي يمر بمراحل التفرّد، ثم الاستيقاظ، وأخيرًا الاكتمال أو البعث، ليصبح Christos الروح، الوردة المتفتحة.
يحمل هذا الرمز الوردي معاني أكثر خفاءً في التفسير الباطني العميق، إذ غالبًا ما يلتفُّ ساق شجرة الوردة حول الذراع العمودية للصليب. وعندما يُحيط ساق نباتٍ ملتفّ بشكلٍ حلزوني، أو تيار من الطاقة، أو حتى أفعى بخطٍّ عمودي، فإن ذلك يُشير إلى الحبل الشوكي وصعود نار الكونداليني (Serpent Fire). ينتج عن هذا الصعود تدفق القوة الخلّاقة داخل الإنسان، مما يؤدي إلى تفتّح "الزهور" أو "اللوتسات" أو "الورود" السبعة، وهي مراكز الطاقة (chakras)، بالتدريج. وإحدى هذه المراكز السبعة تقع عند القلب، الذي يتوسط الذراعين الأفقيتين للصليب. يُعد هذا المركز العظيم مقرًّا ومُعبّرًا عن الحكمة والمحبة الروحية المستيقظة لدى الإنسان المستنير، ويُرمز إليه بالوردة المتفتحة. ويُشار إليه أحيانًا بالوردة الصوفية التي تزهر على صدر المولود روحيًا من جديد.
يُمثَّل الإنسان بشكل مثالي برمز الصليب، حيث تُجسِّد الذراع العمودية الروح فيه، بينما تُعبِّر الذراع الأفقية عن طبيعته المادية. حتى الجسد البشري نفسه يحمل في تكوينه شكل الصليب بطرق معينة، فمثلًا، يُعتبر العمود الفقري دعامةً عمودية، تمتد منها الأضلاع أفقيًا بزاوية قائمة. إضافةً إلى ذلك، يعمل الحبل الشوكي ككابل كهرومغناطيسي، تتفرع منه أعصاب واردة وصادرة بشكل أفقي لنقل الطاقة العصبية في جميع أنحاء الجسم. وعندما يمد الإنسان ذراعيه حبًّا وتضحيةً، فإن جسده يُشكّل صليبًا كاملًا. ومن منظور رمزي، لا يتخذ هذه الوضعية حقًّا إلا عندما يكون قلبه، مثل الوردة، مفتوحًا بالمحبة والتعاطف تجاه العالم بأسره. وهكذا، فإن الوردة على الصليب ليست مجرد رمز جميل فحسب، بل هي أيضًا رمزٌ ديناميكيٌّ يُجسِّد المثل الأعلى الذي يسعى إليه الإنسان.
الحَمَلُ المُضَحَّى به أو الجَدْي |
The Sacrificial Lamb or Kid |
يمثِّل الحَمَلُ المُضَحَّى به أو الجَدْي دائمًا الشعار الذي يُجسِّد اللوغوس (Logos) في جانبه الحافظ، بينما يُعبِّر الدم عن الحياة الواحدة في نشاطها الحيوي المُحيي والمُغذي، والتي تُشكِّل الأساس الذي يقوم عليه الكون. فهذه الحياة هي القوة الكهربائية للـلوغوس، وهي القاعدة الفاعلة لجميع المواد الذرية. يرمز الحَمَل المُضَحَّى به إلى التضحية الأصلية والعظيمة للروح عند تأسيس العوالم الظاهرة، حيث يتم "خنق" و"قتل" الروح تدريجيًا داخل الكون المادي. وهذه قاعدة من قوانين الحياة، التي تُعبَّر عنها بالمبدأ: "إن لم تمت الحبة... فلن تحيا". وفي الريج فيدا (Rig Veda) يُروى أن "بوروشا ذو الألف رأس" (Purusha) قد ذُبِح عند تأسيس العالم، ومن بقاياه نشأ الكون. ويظهر الارتباط بين الاستخدام الهندوسي والمسيحي لرمز الحَمَل بوضوح من خلال معنى الكلمة السنسكريتية "أَجَا" (Aja)، التي تُشير إلى بوروشا أو الروح الأزلية، وفي الوقت ذاته تعني "الحَمَل". وبهذا المفهوم الكوني، يُمكن اعتبار رمز الحَمَل المُضَحَّى به إشارةً إلى التلاشي التمثيلي للروح أثناء اندماجها في المادة، أو بعبارة أخرى، إلى تضحية الروح في رحلتها نحو التجسّد المادي.
جُعَل الجعران |
The Scarab |
كان جُعَل الجعران مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالإله الخالق آمون رع، الذي كان يُلقَّب بـ "خبرى" (Khepera)، أي "الذي يتدحرج". ولكن لماذا ارتبط هذا الكائن المتواضع بالسيد الخالق لكل شيء؟ يُوحي نمط حياة الجعران بالإجابة على هذا السؤال؛ إذ إنه يُغلِّف بيضته، أو بذرة الحياة، داخل كرة من الطين، ثم يقوم بدحرجتها إلى مكان مشمس، حيث يتركها لتتأثر بدفء الشمس. وفي النهاية، تفقس البيضة وتخرج يرقةً تجد نفسها محاطةً بغذائها الضروري. ومع استهلاك هذا الغذاء، تمرُّ اليرقة بتحولاتها إلى أن تخرج في صورتها الجديدة كجعران مُجنَّح، ليصبح بدوره والدًا لبيضٍ جديد، وهكذا تستمر الدورة في تكرار دائم.
على نحو مماثل، يُنتِج اللوغوس الخالق من داخله بذرة الفكرة الخاصة بالكون الذي سيولد، والتي توصف أحيانًا بـ"البيضة الذهبية" أو "بيضة براهما". هذه الفكرة الديناميكية، ذات الطابع النموذجي (البيضة)، تُوضَع في ارتباط مع المادة السابقة للكون (الرمل)، أو بحر الفضاء العذري، تمامًا كما يودع الجُعَل بيضته في الطين ويدحرجها إلى منخفض رملي. المرحلة التالية في عملية الخلق هي تشغيل الدورة الكبرى للانبثاق والعودة، والتي تتفرع إلى دورات فرعية لا تُحصى، وهو ما يُمثله بدقة فعل الجُعَل في تشكيل كرة الطين حول بيضته ثم دحرجتها نحو موضع مشمس. وكما تجد يرقة الجُعَل نفسها محاطةً بالمصادر الغذائية الأساسية، فإن جميع الكائنات الحية، منذ بداية تجلّيها المادي، تتزود بالحياة الداعمة في داخلها، وبالغذاء الخارجي الذي توفره الطبيعة على جميع مستويات الوجود. علاوةً على ذلك، تمرُّ اليرقة بمرحلة التحول لتصبح مُجنّحة، متحررةً من قيود كرة الطين التي احتوتها، وعلى النحو ذاته، يموت الجسد المادي للإنسان، محررًا الروح من أسر المادة. ويمكن توسيع نطاق هذا الرمز ليشمل تطور الإنسان ككائنٍ صوفي، حيث ينتقل من حالة العمى المادي إلى الاستنارة الروحية، مُحققًا ما يُسمى "طيران الروح". وحينها، لا يبقى الجسد الفيزيائي ولا القيود النفسية (الأنا الوهمية) سجنًا للمريد المستنير.
وكما يصبح الجُعَل المتحوّل حديثًا والدًا بدوره، مُطلقًا نفس الدورة الدورية مجددًا، كذلك تتجسد أرواح البشر، فتتخلص عند الموت من شرنقة الجسد، ثم تعود إلى مصدرها الأصلي. وبهذا، فإن عادات حياة الجُعَل تجسّد قيامتين للروح البشرية على الأقل: القيامة الطبيعية بعد الموت، حيث تتحرر الروح من الجسد وتعود إلى جوهرها الروحي. القيامة أثناء الحياة، والتي تتحقق عبر التأمل العميق في الإلهي، مما يؤدي إلى الاستنارة الروحية. لذلك، فإن الجُعَل يُعدُّ رمزًا بليغًا من ناحيتين: أولًا، بوصفه تمثيلًا للوغوس الذي يطلق ناموس الدورات الكونية. ثانيًا، كرمز لخلود الروح وقيامة الإنسان الروحي، حيث ينجو الروح الأزلي من قيود المادة، تمامًا كما تتحرر يرقة الجُعَل من قيدها الأرضي لتُحلّق مجنّحة.
الوحوش البحرية |
Sea Monsters |
ترمز الوحوش البحرية إلى العواطف الغريزية الخام، تلك القوى النفسية غير المروّضة التي قد تعيق الوعي الروحي الأعلى. وعلى النقيض من ذلك، تمثل الأسماك الصغيرة حالة الوعي المسيحي أو "الوعي الحوتي" (Piscean Consciousness)، وهي حالة إدراك الوحدة والتآلف الكوني، والتي تُثمر المحبة النقية، والحنان، والرحمة، والقدرة على الشفاء، والخدمة الروحية. ومن هذا المنطلق، قد يكون شكل القلنسوة الأسقفية (mitre)، المصمم على هيئة رأس سمكة بفم مفتوح، رمزًا يشير إلى أن حاملها قد بلغ هذه الحالة الرفيعة من الوعي، حيث أصبح عقله وحياته مكرسين للتعبير عن هذا الإدراك الروحي العميق.
الثعابين |
Serpents |
الثعبان هو أحد الرموز الأكثر تعقيدًا وعمقًا في الفكر الروحي، إذ يظهر في سفر التكوين، الفصل الثالث، مرتبطًا بـشجرة معرفة الخير والشر وبـالحدث الرمزي لتناول آدم وحواء من ثمرها. في أحد مستويات التأويل العديدة، يمثل الثعبان الطاقة الفوهاتية (fohatic energy)، أي القوة الكونية المحركة والمبدعة، بينما ترمز الشجرة إلى الوعي وأدواته أو مستودعاته، التي تنشط فيها هذه الطاقة. معًا، يجسدان القوة الخلاقة على المستويين الكلي (الماكروكوزمي) والجزئي (الميكروكوزمي). أما إذا أخذنا الثعبان بمعزل عن الشجرة، فإنه يمثل القوة المتموجة، ذات القطبية الثلاثية، وهي القوة الفاعلة في الكون بأسره، سواء في مستوى المطلق (اللوغوس)، أو في أي مستوى آخر من الوجود، من أدق كائن حيّ كالأميبا، وحتى الكائنات العلوية. أما شجرة الحياة، فهي المادة المشحونة بالطاقة الحيوية، أي المادة التي تم تخصيبها واستنارتها بفعل القوة الفاعلة، بحيث تشكّل أوعية الوعي في أي كيان، سواء كان كوكبًا أو إنسانًا أو حتى كائناً مجرّدًا.
عندما تكون التيارات في حالة سكون، فإن التيار المحايد وحده — الذي يُمثِّل جذع الشجرة — يُعبّر عن الحضور الإلهي الكامن (الخامد). أمّا في حالة التفعيل والنشاط، فتكون التيارات المتفاعلة الموجبة والسالبة — ذات الطبيعة الحيّة والمتحركة — المعروفة بـنار الحيّة (Serpent Fire)، حاضرة وفاعلة ضمن الجسد والنظام الطاقي. وكما أُشير سابقًا، فإن الرموز المُعتمدة للتعبير عن هذه الحالة المُنشَّطة هي: الحية (الثعبان) والشجرة. وفي التصوير الرمزي، قد يُمثَّل هذا التفاعل أحيانًا بـحيةٍ واحدة ملتفّة حول جذع الشجرة، وأحيانًا أخرى بـحيّتين، كلٌّ منهما على أحد جانبي الجذع، ترمزان إلى التيارين الطاقيين المتقابلين والمتفاعلين.
رمز الحية قابلٌ لتأويلاتٍ عديدة، منها ما هو ظاهري (exoteric)، ومنها ما هو باطني (esoteric)، ومنها ما يندرج تحت أكثر المستويات غموضًا وعمقًا في العِلم السريّ (occult). وعلى وجه العموم، تُعدُّ الحية رمزًا للحكمة، وللحكيم نفسه، إذ يُشار إلى الحكماء في "اللسان المقدس" كثيرًا بلقب الثعابين. وما الـناغا (Nagas) في الأدبيات الهندوسية إلا الريشيون (Rishis) — اليوغيون المتحررون، المتحققون، المُتبحِّرون في العرفان. وقد اختيرت الحية لتكون رمزًا للحكمة لأسبابٍ عدة: فهي تنساب بصمتٍ وسرّية، وغالبًا ما تكون خفيةً عن الأنظار وهي تتحرك على سطح الأرض، وكذلك الحكمة، سواء أكانت منزلةً من العُلى أو متأصلة بالفطرة، فإنها قوة خفية، قادرة على أن: تُضيء وتُنير إن استُخدمت على الوجه الحقّ، أو تُهلك وتُضل إن أسيء استخدامها. كما أن نعومة حركة الحية والتواءاتها الإيقاعية تُجسِّد بشكلٍ رمزي التعبير المنسجم والمنتظم للحكمة، سواء على مستوى الكون أو في الإنسان الذي استيقظت فيه الحكمة وأخذت تتحرك من داخله. فهذا الإنسان يكون قد استُنير من الداخل، أي: أصبحت الإستنارة روحيةً وسرّية، لا تُستمدّ من خارج، بل تنبثق من جوهر الذات.
تقوم الحية بشكلٍ منتظم بطرح جلدها القديم، ومع كل تغيّر موسميّ، تُجدِّد غطاءها الخارجي، لكنها تبقى في جوهرها هي هي، فتظهر في صورةٍ جديدة لامعة دون أن يتغير كيانها الداخلي. وكذلك هي الحكمة: فهي، وإن ظلَّت ثابتة في جوهرها وأصلها، إلا أنها تتجلّى في أشكالٍ متجددة ومتنوعة، لا يمكن لأيّ شكل منها أن يحتويها بشكلٍ دائم أو نهائي. ولسان الحية مشقوقٌ إلى شقّين، أي ذو طبيعة ثنائية —وكذلك الحكمة، فهي: إما أن تُبتذل فتنحطّ إلى دهاءٍ خبيث يُستخدم في تحقيق أدنى الغايات وأحقر الدوافع، أو أن تسمو فترتفع إلى حدسٍ عالٍ نبيل، يتناغم مع المثل العليا المجردة من الأنانية. وحتى سمّ الحية يحمل في ذاته مفارقة: فقد يكون قوة مُدمّرة إن أسيء استعماله أو أُفرط فيه، أو دواءً شافيًا إن استُخدم بحكمة وفي الجرعة المناسبة. وهكذا الحال أيضًا مع الحكمة: فإن انحطّت، تُسمّم النفس المُجَرِّبَة؛ وإن وُظِّفت على الوجه السليم، كانت دواءً ناجعًا لكثير من العلل.
عيونُ الحيَّة آسرة، بل قد تكون منوِّمة ومُسيطِرة على الإرادة. وكذلك هي الحكمة: فمتى استيقظت في إنسان، لا تقبل مقاومة، وتُحطِّم كلَّ قيد، وتغدو في النهاية قوةً حاكمةً لا تُردّ، تمضي في طريقها بدافعٍ لا يُقاوَم. والحكماء أيضًا كذلك: قوتهم لا تُقاوم، وإن بدوا في الظاهر متواضعين، لا يطلبون لأنفسهم مقامًا أو رفعة. ومع ذلك، فإنهم يحيَون على مقربةٍ من نبع الحياة ومصدرها، تمامًا كما أن الحية تسكن قرب الجذور والبذور — أي: عند منابت الحياة وأصولها.
تتجلّى رمزية الحيّة في الإنسان من خلال وجهين متقابلين: فمن جهة، تمثّل الحيّة النورانية النفسَ العُليا، أي إرادة الحكمة المتجذّرة في الروح، ومن جهةٍ أخرى، تكمن في الطبيعة الشهوانية قوى هدّامة كامنة. أما العقل، فهو القوّة المُوازِنة، أو العصا، التي تتوسّط هاتين الطاقتين المتضادتين، أو "الحيّتين"، داخل الكيان الإنساني. وحين رفع موسى الحيّة على الصليب في البرية لتشفي بني إسرائيل من أمراضهم، كان ذلك رمزًا للحكمة حين تتّحد بالعقل، فتنقّي وتُعلِي النفس الدنيا، وتشفيها من ميولها المادية، ومن آثار تلك الميول حين تُترجَم إلى أفعال.
تُستَخدَم الحيّة أيضًا رمزًا للتأثير الموَحِّد والمُنسِّق للطبيعة المسيحية في الإنسان — تلك الطبيعة القادرة على الشفاء وإحياء الموتى، أي أنها تُمثِّل قوة التحوّل الداخلي التي ترتقي بالجوانب السُفلى في الطبيعة البشرية لتجعلها عُليا. وقد كان أسكليبيوس، إله الشفاء، يظهر كثيرًا في هيئة حيّة، كما اعتُبرت عصا هِرمس (العُصَيَّة ذات الحيّتين) رمزًا للقوّة الشافية، التي تُعبِّر عن قدرة روحية عميقة على التوازن والتحوّل والشفاء.
وُصِفَت الحيّات في الرموز القديمة بأنّها ثلاثية الرؤوس، أو مجنّحة، أو ذات سيقان بشرية، كما نُسب إليها نَفَسٌ هادر، وفحيحٌ مزمجر، وسُمٌّ أصفر يسيل منها. وفي بُعدها الأعلى، ترمز هذه الصفات إلى فعل الذات العليا الثلاثية الأبعاد، وبخاصة مبدأ الحكمة النقيّة الكامن فيها. أما في بُعدها الأدنى، فإن الأنشطة التدميرية التي تقوم بها الحيّة في الرمزية القديمة تشير إلى الرغبات الجشعة والنوازع الهدّامة في الإنسان. أما البطل الذي يُدمّر الحيّة، فهو يُجسِّد المُبادِر (Initiate) الذي نجح في تحويل الطبيعة السُفلى إلى عُليا، وبلغ التوازن التام بين هاتين القوتين المتقابلتين.
حين تُدخِل الحيّة ذيلها في فمها، فإنها تُشكّل دائرة لا نهائية، ترمز إلى أبدية الحكمة، بل إلى الأبدية نفسها. لكن على المستوى الباطني العميق، يُشير هذا الشكل — أي اتحاد الرأس بالذيل — إلى عمليات نشوء الكون (cosmogenesis)، من خلال اتحاد القطبين الرمزيين: الموجب والسالب، أو ما يُمثّل مبدأ التوليد الكوني عبر تلاقح القوى المتقابلة. إن جميع عمليات الخلق والتوليد تُشير إليها هذه الصورة الرمزية، ومن هنا تنبع الدلالة السرّانية العميقة للحيّة: فهي تمثّل القوة الإلهية الكونية الخلّاقة، الأزلية والنشطة على الدوام —أي ما يُعرف في الفلسفة السرّانية باسم "فوهات" (Fohat)، وهي القوّة الحيّة الكونية في قطبيتها الثنائية. وفي بعض الرموز، لا تُمثَّل هذه الطاقة بحيّة واحدة تأكل ذيلها، بل بـحيّتين متداخلتين ومتّحدتين —رمزًا إلى قوانين الكهرباء التي تحكم جميع العمليات التوليدية والطاقية في الوجود.
القوة الدافعة من الداخل — التي تُولِّد النشاط الخلّاق في الكائنات الحيّة، والتجاذب الكيميائي في المادة الجامدة — هي في جوهرها ثنائية القطب. ومن هنا تبرز ملاءمة اختيار الحيّة رمزًا لهذه القوة، إذ إن لسانها المشقوق إلى شقين يُجسّد القطبين المتقابلين: الموجب والسالب. وهذان التياران — الإيجابي والسلبي — هما تيارات "النفَس العظيم" (Great Breath)، والذي يُنفَخ باستمرار على هيئة "فوهات" (Fohat) في كل ذرة من ذرات الكون، ليُصبح حاضرًا في كل مكان وفاعلًا على الدوام في كل أرجاء الوجود. وقد تمّ إخفاء هذا المعنى وكشفه في آنٍ واحد في الأساطير القديمة، حيث كان جوبيتر وآلهة الخلق الذكور الأخرى يتحوّلون إلى حيّات ليُغووا الإلهات. وفي رمزية نشوء الكون، كانت هذه "الإلهات" تُجسّد المادة —أي "مياه الفضاء"، والجانب الأنثوي المُتلقّي والخلاّق. في المقابل، يُمثّل الموناد الإنساني (Monad) صورة الإله الأب على المستوى الصغير (الماكروكوزمي)، بينما تُجسّد الذات الروحية في حلّتها النورانية صورة الإلهة الأم. وعندما تُصبح هذه الذات الروحية مهيّأة بفعل التطور لأن يُولَد فيها الوعي المسيحيّ الأعلى، يحدث نوع من "الهبوط" — أي البشارة الصوفية —وهو نزول القوة الفوهاتية الخالقة من الموناد إلى الذات الروحية التي كانت حتى تلك اللحظة "عذراء"، تنتظر. وهذا ما تُسمّيه النصوص الباطنية: الزواج السماوي، والحَبَل الطاهر، والذي ينتج عنه ولادة الوعي المسيحيّ في الإنسان، أي القوة الواعية، المتّحدة بالله، والفاعلة بالحب والحكمة في العالم. وتُجسّد هذه الحقيقة الرمزية أشكالٌ عدّة: حيّة تأكل ذيلها، أو حيّتان متداخلتان، أو حيّة تلتف حول عصا أو عمود —وكلّها ترمز إلى الطاقة الكهربائية الخلاّقة، الفاعلة في الكون المادي، وبالتالي في الإنسان أيضًا، باعتباره الهيكل الميكروكوزمي المصغَّر للكون الماكروكوزمي.
في الإنسان، تُشير "العصا" (الـrod) إلى الحبل الشوكي، وكذلك إلى قناة أثيرية وفوق-مادية تمتد في مركزه، من جذره في العَجُز (sacrum)، على طوله كله، وصولًا إلى النخاع المستطيل (medulla oblongata) والدماغ. وهذه القناة هي الوعاء الحامل لقوة الحياة الخلّاقة، وهي الطاقة التي تنزل من العلو وتُشارك في عملية التوليد الجنسي، وهي تيار أحادي القطب أو حتى محايد، لأنه يعمل في كِلا الجنسين — الذكر والأنثى — بنفس الكفاءة. ويُعرف هذا الممرّ في العلوم الباطنية باسم "سوشومنا" (Sushumna)، ولكن هذا الاسم يُستخدم غالبًا عند الحديث عن توجيه الطاقة الخلّاقة إلى أعلى، أي في سياق الارتقاء الروحي وليس فقط العمليات الجسدية. لكن قبل أن يُصبح بالإمكان عكس تدفّق هذه الطاقة إلى الأعلى، يجب أولًا أن يتم إيقاظ التيارين الموجب والسالب في الإنسان —وهما اللذان يُجسَّدان كـ حيّتين ملتفّتين، تسريان صعودًا حول العصا، متداخلتين ومتماوجتين، فتُثيران بذلك صعود الطاقة المحايدة (الخالقة) في مركز العمود الفقري. وعندما تدخل هذه القوة الثلاثية (الموجبة، السالبة، والمحايدة) إلى الدماغ، فإنها تُضيء عقل الإنسان، وتجعل منه، تمثيليًّا، كإله يمتلك قوى روحية فائقة (Theurgy). هذا المعنى العميق تم ترميزه أيضًا في سِفر التكوين (Genesis)، حيث يُمثّل آدم وحواء التيارين المتقابلين، وتُشير شجرة معرفة الخير والشر — ولا سيما جذعها — إلى العصا أو العمود، أما الحية المُغرية فترمز إلى القوة الخلّاقة الصاعدة في قناة السوشومنا. ولهذا السبب قيل لآدم وحواء: "لا تأكلا من ثمر هذه الشجرة،" لأن الأكل منها يُعبّر عن تفعيل كامل لهذه القوى الإلهية، أي التحول إلى حالة الألوهة الواعية: "فإذا أكلتما، تصبحان كآلهة، عارفين الخير والشر." بهذا المعنى العميق، لم يكن "المنع" إلهيًا انتقاميًا، بل رمزًا لمرحلة نضوج روحي يجب أن تُسبق بالتحوّل الداخلي، حيث لا يُمنح الإنسان مفاتيح الطاقة الخلّاقة إلا بعد أن يُصبح قادرًا على استخدامها بحكمة ونقاء.
إن الاهتزازات المُكثفة والمُتصاعدة للدماغ والغدد والخلايا والمادة الأثيرية في البطينات، تجعل الدماغ والجمجمة مُستجيبين لحياة ووعي الأنا والموناد. حينها، يسود الروح في الفرد، وتفقد المادة سلطانها. وبشكل رمزي، فبواسطة حية وعصا قابلتين للتبادل، يتحرر بنو إسرائيل من العبودية في مصر. إن جذع نار الأتمان الذي يشكل جوهر القوة السارية على طول قناة السوشومنا يُنزَل إلى أدنى مستوى مادي كثيف، أو يُلقى "على الأرض" بشكل رمزي. وعندما يحدث ذلك، تستيقظ قوة الحياة الخلاقة الكامنة نسبيًا، ذات القطبية الموجبة-السالبة، والمستقرة في العجز، لتبدأ نشاطها. حينها، يسلك كل قطب مسارًا حلزونيًا متشابكًا حول قناة السوشومنا. وبصورة رمزية، تتحول العصا إلى حية. هذه العملية لا تخلو من صدمة معينة وبعض الألم، فيرتد المُستهَل لحظيًا عنها، لكنه يثابر مع ذلك. ولذلك، يُجعل موسى يهرب من أمام الحية. ولكن عندما يوحد إرادته بإرادة الكاهن الأعظم نفسه، ويُعلي القوة الخلاقة، مُجبرًا إياها على التدفق صعودًا من الحوض، فإنها تصبح في يده عصا الساحر ذات القوة. وبشكل رمزي، يمسك موسى نار الحية من ذيلها فتتحول إلى عصا في يده.
حين تشتدّ الذبذبات في الدماغ والغدد والخلايا، وفي المادة الهوائية الكامنة في بطينات الدماغ، تبلغ الجمجمة والعقل حالة من التهيّؤ الكامل لاستقبال شعور الذات العليا ووعي الروح الإلهية. في هذه اللحظة، تتسيّد الروح كيان الإنسان، وتنزاح سطوة المادة وتضمحلّ. ورمزيًّا، يتحرّر بنو إسرائيل من عبودية مصر بواسطة عصا تتحوّل إلى حيّة، أو حيّة تُستردّ عصاً؛ كلاهما وجهان لقوة واحدة تتبدّل بحسب المقام. إن عمود النار الأتمي، الذي يمثّل نواة الطاقة المتدفقة في قناة السوشومنا، يُنزَل إلى أدنى المستويات المادية، أو يُلقى "على الأرض" وفق الرمز. عندئذ تستيقظ القوة الخلّاقة، الإيجابية والسلبية، الراقدة في العجز، وتدخل حيّز الفعل. ينطلق القطبان في مسار متشابك متعرّج حول قناة السوشومنا، على هيئة أفعى مزدوجة الحركة. وهنا، تتحوّل العصا إلى حيّة – رمز التحوّل العميق للطاقة الكونية داخل الإنسان. وهذه الرحلة الروحية ليست خالية من الصدمة والألم؛ فالمريد، وإن ارتعد للحظة أمام هول ما يُكشف له، لا يتراجع، بل يثبت ويواصل السير. وهكذا يُصوّر موسى وهو يفرّ من الحيّة، لا جبنًا بل رهبة من الحقيقة. لكنه، حين يقرن إرادته بإرادة المعلّم الأعظم، ويصعد بالقوة الخلّاقة من موطنها في الحوض إلى الأعالي، تتحوّل في يده إلى عصا الساحر – أداة القوة والحكمة. وفي قمة الرمز، يُقال: "أمسك موسى الحيّة من ذيلها، فعادت عصًا في يده."
كما تُصوّر ذلك الرموز المصرية، التي تظهر فيها الأفاعي ملتفّة حول عصيّ أو أعمدة، يكون ذيل الأفعى عند قاعدة العمود، وهو ما يرمز إلى العجز، بينما يتّجه رأسها نحو القمة، حيث كثيرًا ما تتفتح زهرة لوتس. وهذا رمز شائع الاستخدام في الثقافات الروحية القديمة. فالعصيّ التي تُزهر، كما أزهرَت عصا هارون، تحمل دلالة مماثلة؛ إنها ترمز إلى انفتاح مراكز الطاقة في الأجسام ما فوق الفيزيائية، نتيجة لانبعاث قوة الحيّة وصعودها إلى الأعلى. ولقد أُطلق على التيارين المتعاكسين لهذه القوة في التقاليد السرّانية أسماء تاريخية: إيدا للقوة السالبة، وبينغالا للقوة الموجبة. أما حركة التدفق الثلاثي الصاعد للطاقة، فتمثّلها بأكمل وجه رمزية العصا المجنّحة (الكادوسيوس) في التراث اليوناني. وهِرمس هو نظير موسى في الأسطورة اليونانية؛ فكلاهما رسول من الإله إلى الإنسان، يتجلّى رمزهما في العصا التي يحملها كلٌّ منهما: عصا موسى، وعصا هرمس التي تلتفّ حولها الحيّات. وكما حرّر موسى بني إسرائيل من عبودية مصر، هكذا أنقذ هرمس بيرسيفوني من عالم الأموات، من هايدِس السفلي، وأعادها إلى النور.
الأفعوانان، الداكن والفاتح اللون، الملتفّان حول عصا الكادوسيوس، يرمزان إلى القوة المزدوجة للحكمة السرّانية: السحر الأسود والسحر الأبيض. أما تحوت (Tehuti)، أو عطارد، أو هرمس، الذي يمتلك نار الأفعى الثلاثية وقد أحكم السيطرة عليها، فهو يُجسّد الحكمة الخالصة التي تهدي الروح بعد الموت، سواء كان موتًا طبيعيًّا أو رمزيًّا كما يحدث عند نيل درجات التلقين الروحي. إن هرمس يدعو إلى الحياة ما كان في عِداد الأموات – يوقظ النائم، ويبعث المطمور في العتمة. هذه القوة هي من خصائص كل مُتبحّر، أو "أفعى"، من أهل التحقّق الروحي. والرمز الصيني القديم لعرش الإمبراطور – "مقعد التنّين" – وكذلك تطريزات التنّين على لباسه الرسمي، كلها تشير إلى هذه القوة المُهذّبة ونتائجها الروحية. وقد أوصى يسوع تلاميذه قائلاً: «كونوا حكماء كالحيات، وودعاء كالحمام». ويمكن اعتبار هذه الوصية إشارة رمزية – مستترة – إلى نار الحيّة (Serpent Fire)، أو إلى حكمة المتحقق الروحي واحترازه، ذاك الذي يُشار إليه أيضًا بـ"الأفعى" لما أحرزه من معرفة وسداد.
تمثّل الحيّتان في رمز الكادوسيوس جميع الأزواج المتقابلة والمتعارضة، الظاهرة منها كمتضادّات وعداوات، في أساطير العالم ورموزه. إنهما تجسّدان فكرة الثنوية، والصراع المتوهَّم بين الخير والشر، الروح والمادة، النور والظلمة، الآلهة والشياطين، المنقذين والتنانين، قابيل وهابيل، عيسو ويعقوب، أوزيريس وأبوللو وبايثون. والبطل المُخلّص يُمثّل الحكمة النقيّة، وهي وحدها القادرة على حسم هذا الصراع، حين يقع داخل الإنسان، بانتصار الروح، والنور، والخير. إن الرسل الإلهيين المبعوثين لخلاص البشرية، والمسيح باعتباره ابن الله، والعذراء السماوية المُرسلة من السماء إلى الأرض لإنقاذ الإنسانية الهالكة – جميعهم تجسيدات للحكمة الإلهية الصافية. وبوساطتها، لا ينتهي صراع الأضداد بانتصار طرف على آخر، بل بتآلفهما التام وتوازنهما المُتكافئ، حيث يتم الاحتفاظ بكامل قوى الطرفين – حيّة النور وحيّة الظلمة – ويُكتسب الوعي والقدرة على توجيه أيّ منهما أو كليهما، ضمن حالة من التوازن الديناميكي المستمر. هذا الإدراك العظيم يُرمز إليه بـ"سحق رأس الحيّة" على يد شري كريشنا، وبانتصارات المخلّصين والأبطال على الكائنات الزاحفة في أساطير الشعوب القديمة. إنها رموز لانتصار الإنسان على التمزّق الداخلي، لا عبر القمع، بل عبر التوحيد الواعي لقوى الكون في ذاته.
إن التأمّل في رمز الكادوسيوس يكشف بجلاء مدى كماله في تمثيل ذلك المسار وتلك المرتبة العليا من الإدراك. فهذا الرمز يُجسّد، على نحو دقيق، عملية التحوّل الباطني وبلوغ حالة التوازن والتسيّد الروحي. إن قوة الخلاص، التي يُرمز لها بالمسيح (الكرِستوس)، قد دخلت في يسوع – الإنسان الحامل لهذا الوعاء البشري – في لحظة تعميده في نهر الأردن. ومنذ تلك اللحظة، بدأ يسوع يصنع المعجزات بسلطان إلهي. إن حمل عصا الكادوسيوس (أو العصا، أو الحيّة) في اليد هو بحد ذاته رمز، يُشير إلى السيطرة على قوة بعينها، وإلى امتلاك المعرفة والمهارة في استخدامها.
من الجدير بالتنبيه أن تحوّل العصا إلى حيّة لا يمكن أن يتمّ إلا بأمر من الإله، وبقدرته السحرية. ففي الحقيقة، لا بدّ من نزول الـ"آتما المونادي" – الروح العُليا – عبر جميع مركبات الوجود، وانسيابه نزولًا في امتداد الحبل الشوكي حتى العجز، كي يتحقّق الاستيقاظ المبكّر والكامل للنار الخلّاقة الثلاثية، وكي يُصار إلى تهذيبها ورفعها واستخدامها كأداة سحرية سامية. إن استحضار قوة الـ"آتما" إلى المستوى الأدنى من الوجود هو أحد أدوار "الهايروفانت"، المعلّم الأعظم في طقوس الأسرار الكبرى. ومنذ تلك اللحظة يبدأ المريد حياة جديدة، ولهذا دُعي هذا الحدث منذ القدم باسم "الاستنارة" أو "البدء" (Initiation) على نحو دقيق. فالمُستَنير هو ذاك الذي استيقظت فيه القدرة على التحرّر من قيود المادة، والرغبة، والانعزال الأناني، ليدخل في فضاء الوعي الكوني، والحياة الكلّية، والقوة اللامحدودة.
إن نار الحيّة، أو الكُنداليني، هي في جوهرها قوة خلّاقة. وعلى الرغم من أنها لم تُستَحثّ بالكامل بعد، فإنها، كسائر القوى والطاقات الكونية، متجلّية في الجسد المادي للإنسان. وفي هذه المرحلة من تطوّر البشرية، تظهر الكنداليني كمصدر مزدوج: فهي منبع الدافع الجنسي، وكذلك السائل العصبي الذي ينقل الإحساس والحركة. وهي تقيم، ملتفّة على ذاتها كالأفعى، في مركز العجز – أي في شاكرا الجذر، أو "العجلة" السفلى عند قاعدة العمود الفقري. وهذه الشاكرا تعمل كمحطة وسيطة للطاقة الملتفّة على نفسها أيضًا في مركز الأرض، حيث تختزن الأرض نارها الشمسية – الكنداليني الأرضية. وعندما تُستثار هذه القوة بشكل كامل، إمّا عبر ممارسة اليوغا أو كنتيجة طبيعية للتطور الروحي، فإنها تبدأ بالصعود عبر قناة أثيرية دقيقة داخل العمود الفقري تُعرف باسم قناة السوشومنا (Sushumna Nadi)، مارّة بكل شاكرا على امتداد مسارها. ومع عبورها لمراكز الطاقة (الشاكرات) المتوضّعة في العمود الفقري، يتفرّع جزء من قوتها لينساب نزولًا على محور كل "قُمع" شاكري، مُحييًا إياه من الداخل بشكل سرّي، وموقظًا في الإنسان الوعي الذاتي بالوجود في العوالم ما فوق المادية.
عندما تلامس طاقة الكُنداليني مركز الطحال، يُمنح الإنسان القدرة على السفر في العالم النجمي بإرادته، خارج جسده الفيزيائي. وعندما تلامس وتفتح مركز القلب، تبدأ قوى الوعي البوذي أو الوعي المسيحي – المقيمة في مركبة الحدس – بالتدفّق من خلال التلميذ الروحي، إذا كان قد بلغ درجة من التفتح الكافي، حتى تنعكس على المستوى الجسدي. وهنا، "تتفتح الوردة الصوفية" – أي شاكرا القلب – على صدره، وتزهر. وتبدأ حينها خصائص الوعي المسيحي بالظهور في فكره وكلامه وأفعاله: معرفة وحدة الحياة، البصيرة الروحية المباشرة، الحكمة، والرحمة العميقة التي تتجاوز الذات. أما مركز الحلق، فعندما يُنشّط، يهب الإنسان السمع الروحي (clairaudience)؛ أي القدرة على تلقّي الذبذبات الصوتية ما فوق المادية، بالإضافة إلى الأصوات المادية التي تقع خارج نطاق السمع الطبيعي. وعند تنشيط مركز الجبين (العين الثالثة)، يُمنح الإنسان الرؤية الروحية (clairvoyance)، وعندما تنفتح شاكرا التاج (قُبّة الرأس)، يكتسب التلميذ قدرات الإدراك ما فوق الحسي بينما لا يزال واعيًا في جسده المادي، إلى جانب القدرة على مغادرة الجسد والعودة إليه بإرادته، من دون انقطاع في وعيه. عند هذه المرحلة، تبدأ الغدّتان النخامية والصنوبرية بالعمل كما تفعل الصمّامات أو المضخّمات في جهاز الاستقبال الإذاعي، مما يُمكّن الوعي الموجود في الدماغ من التقاط القوى والظواهر ما فوق الحسية والتفاعل معها. في الواقع، يُشبه النظام العصبي الدماغي النخاعي للإنسان، حين يُنشّط روحيًا، جهاز تلفاز متقدّم في استقباله. غير أنّ الفرق الجوهري هو أن البثّ الباطني يُعرض على شاشة "العقل – الدماغ"، ويُدرَك عبر البصيرة الروحية. لكن بلوغ هذا التفتح الكامل للقدرات الخفية خلال اليقظة الواعية يتطلب تدريبًا طويلًا وشاقًا، ويعتمد على التنشيط التام للغدتين الصنوبرية والنخامية بفعل الكُنداليني وقواها المُكمّلة.
السفن، والفُلك، والمهاد |
Ships, Arks, Cradles |
ترمز إلى أي وعاءٍ حاوٍ وناقِل للوعي، سواء كان ماديًا أو عقليًا أو روحيًا—وسواء كان بشريًا، أو فوق بشري، أو إلهيًا، أو كونيًا. أما ركّابها—من حيوانات وبشر وكائنات سامية—فيُجسّدون القوى والصفات المتعددة التي تتألّف منها الطبيعة الإنسانية.
الجمجمة |
The Skull |
رمز يحمل تأويلاً بالغ العمق، إذ إنها الوعاء الذي يحتوي الدماغ، والذي يُعدّ بدوره مركبة العقل، بشقّيه المجرّد والمحسوس. وفي العقل، يتجلّى النور الباطني عبر الحدس أثناء طقس الاستنارة، وهو الذات الخالدة، في وعائها العقلي الأعلى، التي ترتقي لتُصبح المُعلّم الكامل أو الـ"Adept". وهكذا، فإن الجمجمة تُصبح المسرح الذي تُؤدّى فيه الملحمة الكبرى لتكميل الإنسان. هذا المعنى يوحي به الإنجيليون الأربعة بجلاء، إذ يجعلون صَلب يسوع—أي موت وهم الانفصال وتنوير العقل الناتج عن ذلك—يحدث على تلّة غامضة الاسم والموقع تُدعى "الجلجثة"، أي "مكان الجمجمة".
أبو الهول |
The Sphinx |
أبو الهول، ذلك التمثال العظيم القابع في الجيزة، يحرُسُ مدخل وادي النيل، يتّخذ هيئة أسدٍ ضخم منحوت، برأس إنسان. ورغم كونه أشهر معلم منفرد من آثار مصر القديمة، فإن أصله يظلّ مجهولًا على نحو يثير الدهشة. أما أبو الهول اليوناني، فعلى خلاف المصري، كان له أجنحة وجذع امرأة بشرية. وتنتشر تماثيل أبي الهول في مختلف أرجاء الشرق الأدنى—في مصر، وقبرص، وآسيا الصغرى، وفارس (على الأحجار الكريمة)، وآشور. ويبدو أن هناك صلة مباشرة بين الغريفونات المجنّحة القديمة وأبو الهول المجنّحة، ومنها مع أبو الهول المصرية. ثمة أسطورة قديمة تقول إن روح امرأة فاتنة تسكن أبو الهول في الجيزة. كانت تُدعى "نيتوكريس" أو "رودوفيس"، وهي غانية مشهورة في زمانها. وذات يوم، وبينما كانت تستحمّ، انقضّ نسر على إحدى نعليها التي كانت بيد جاريتها، وحلّق به إلى منف، حيث كان الملك جالسًا يحكم بين الناس في ساحة القضاء المفتوحة. ألقى النسر النعل في حجر الفرعون، فدُهش للمصادفة، ولجمال النعل وشكله، حتى أمر بالبحث عن صاحبته. وحين وُجدت، تزوّجها. وبعد وفاتها، دُفنت نيتوكريس في الهرم الثالث، ويُقال إن روحها لا تزال تَجوس قرب أبي الهول المجاور، وتظهر أحيانًا خارجه على هيئة امرأة عارية فاتنة تُغوي المسافرين، فتسلب عقولهم، وتجعلهم يهيمون على وجوههم في جنون. يمكن النظر إلى "نيتوكريس" كرمز للروح البشرية، وإلى النعل كدليل على الهوية الفردية، وإلى النسر كرمز للفكر السامي، وإلى زواجها من الفرعون كرمز لتحقّق الطموح الروحي وبلوغ الكمال.
كان هناك أيضًا أبو الهول آخر شهير في طيبة، بوجه امرأة، وأقدامٍ وذيل أسد، وأجنحة طائر. كان يقيم على جبلٍ صخري يُدعى فيكيوم. وقد لقّنته الميـوزات (ربّات الإلهام) لغزًا، وكان يأسر كل من يعجز عن حلّه، ثم يفترسه. إن الحكمة حين يُساء فهمها قد تتحوّل إلى قوةٍ مدمّرة. وهكذا، فإن "الاسرار" – أي العلوم الباطنية المقدّسة – لا تخلو من خطرٍ على غير المُهيّئين لها. وكان لغز أبي الهول يقول: "ما هو الشيء الذي يمشي على أربع، ثم على اثنتين، ثم على ثلاث؟" فأجاب أوديب، وقد استخدم منطقه وحدسه: إن الجواب هو الإنسان؛ فالطفل يزحف على يديه ورجليه، والبالغ يمشي منتصبًا على قدمين، والشيخ يتّكئ على عصا تُضيف ثالثة إلى خطاه. وعندما حلّ أوديب اللغز، ألقت أبو الهول بنفسها من قمة الجبل، وتكسّرت على الصخور في الأسفل.
وإذا أُوِّل اللغز في ضوء الإنسان ذي البنية السباعية، فإن الأرجل الأربع ترمز إلى الرباعية الفانية، أي الجوانب الأربعة الدنيا من الكيان البشري، بينما تمثل الأرجل الثلاث الذات الثلاثية، أي الجوهر العقلي الأعلى. أما القدمـان، فيُجسّدان الأنا (Ego) والجوهر الروحي الأعلى (Monad). وعندما يتّحد هذان الأخيران، كما هو الحال في حالة المُعلّم الروحي (Adept)، ينحلُّ لغز الحياة، وتُفكُّ رموزها. وبالمعنى الرمزي، فإن أبو الهول، بوصفه كائنًا غامضًا، يتلاشى من الوجود، لأن سِرّه قد كُشف، ورمزه تحقّق. ويمكن أيضًا تأويل أبو الهول على أنه يُجسّد الحدث الكوني العظيم المعروف في الفلسفة الباطنية بـالتمفرد (Individualisation)؛ حيث يمثّل الجسد الحيواني الحالة الحيوانية الصِرفة السابقة، والتي يسودها الوعي الجمعي. أما الرأس الإنساني فوق الجسد الحيواني، فيرمز إلى ظهور الذكاء الفردي الواعي بذاته، وهو ما يُميّز الجنس البشري. وحينما يكون أبو الهول مجنّحًا، فإن في أجنحته إشارة استباقية إلى رحلات مستقبلية نحو حالات من الوعي الروحي والصوفي.
الينابيع |
Springs |
الينابيع والعيون ترمز إلى الحياة الروحية المتدفقة، التي لا تنضب، والمنبعثة من الذات العليا في الإنسان. أما الأنهار والجداول، فتمثّل انسياب تلك الحياة وانتشارها في مختلف طبقات النفس وأجزاء الجسد، حاملة معها القوة والإشراق والتجدّد المستمر.
النُّجُوم |
Stars |
تشير النجوم إلى عقول كونية، وسدنة لدى الإله العلي، وبناة للكون. أما الأبراج الاثنا عشر، فتمثّل – على المستوى الميكروكوزمي (الصغير) – مجمل قوى الإنسان وطبائعه، أي المبادئ والملكات والطاقات الاثنتي عشرة الكامنة فيه. وفي المقابل، تُجسّد الأسباط الاثنا عشر – على المستوى الماكروكوزمي (الكبير) – النوّاب الكونيين للأبراج الاثني عشر، شأنهم في ذلك شأن الحواريين الاثني عشر، الذين يتّخذ فيهم السيّد المسيح موضع الشمس في مركز الدائرة.
الشمس |
The Sun |
الشمس وأشعتها المُخصِبة ترمز إلى أسمى الحالات الروحية وإلى الروح الإنسانية العليا، أي الموناد، الساكن في الأعماق. غير أن الشمس، لِما لها من أهمية رمزية كبرى وتكرارٍ كثيف في الاستعمال، ولتعدّد معانيها وتجلّياتها، خُصّص لها الفصل الخامس من الجزء الأول في المجلد الأول من هذا العمل. فهي، بوصفها مصدرًا للطاقة المادية والروحية معًا، تُقدّم مثالًا على القانون الكوني القائل إن التدفق الفعّال للضوء والحياة من الجوهر لا يعقبه نضوب، بل يتبعه تجدُّد دائم وغزير. فعلى الرغم من أنّ الحياة تتغذّى روحانيًّا وجسديًّا من جميع المبادئ السبعة للشمس، كلٌّ منها على أحد المستويات السبعة للطبيعة، حيث تُسكب منها قوة الحياة في جميع أشكال أنظمة الكواكب وكواكبها وساكنيها، إلا أن قوة الشمس ونورها ومجدها لا تنقص بحال. فالتجدد يتم باستمرار من مصدر داخلي لا ينضب، شامل وكوني.
الشمس ذات المبادئ السبعة، ومعها الأرواح السبعة الجبارة الواقفة أمام العرش، يُرمز إليهما أيضًا بـ "حَمَلٍ كما لو كان مذبوحًا، له سبعة قرون وسبع أعين، هي أرواح الله السبعة المُرسَلة إلى الأرض كلها"؛ كما يُمثّلان صورة الـ"كريستوس" الذي من جسده المصلوب تسيل الدماء والماء بلا انقطاع، لتنزل إلى الأرض وتطهّر الأرواح وتخلّصها وتُروحنها. وتُجسّد معجزات المسيح أيضًا هذا القانون نفسه المتعلّق بالعطاء الذي لا ينضب: فهو، مرتين، أطعم جمعًا غفيرًا بالقليل من الخبز وشيء من السمك، وكان الفائض بعد الأكل أكثر مما كان قبلَه.
في إطار الحياة الإنسانية العادية، لا يضيع أي عطاء صادق وأصيل ومُحكم في نواياه وطريقته، مهما بدا أن نتائجه قد خابت. فأن تُعطي بحكمة وبغير أنانية، يعني أن تبلغ اكتمالًا أوسع في التعبير عن الذات، وقدرةً أرقى على العطاء والخدمة، وتناميًا مستمرًا في وسائل العطاء—سواء كانت روحية أو فكرية أو مادية—تمكِّن الإنسان من الاستمرار في العطاء والبذل. والمشاركة الحكيمة، ولا سيما حين تكون في جوهر الحياة والمحبة والسعادة—وهي مغذّيات النفس الكبرى—تزيد في رصيد المُعطي من هذه البركات. إن جميع أعمال التضحية، ومواقف التفاني، والاستشهادات التي سطّرها التاريخ الروحي في شخصياتٍ إلهية، أو منقذين، أو قديسين، كما ترويها الأساطير والكتب المقدسة في العالم، إنما تجسِّد هذا القانون في تجلّياته الشمسية والإنسانية على حد سواء.
البجعة |
The Swan |
تُجسِّد البجعة (اللغة السنسكريتية: Hamsa وPara-hamsa)، من خلال طبيعتها وسلوكها، نظامًا كاملًا في نشأة الكون (الكوزموغونيا) على نحو رمزي.
يضع اللوغوس، في جانبه الأُمومي الخلّاق، البيضة الذهبية (Hiranyagarbha) فوق "مياه" الفضاء. ومن خلال الخفق المنتظم لجناحيه، تفقس هذه البيضة، فينبثق منها الكون. وتمثل البيضة، في هذا السياق، الكون الكامن الذي سيظهر، أو الجنين الذهبي، أي النواة الأولى للوغوس الشمسي وكل ما سيتولد عنه. أما قشرة البيضة فتمثل "حدّ المرور" (Ring-pass-not)، في حين تمثل محتوياتها الحياة الكامنة، والتصور المجرد للكون في العقل الكوني (Mahat). يبدأ هذا كله في حالة ابتدائية. ثم تأتي عملية التطور، فتخصب هذه البذرة، وتنمو لتصبح صورةً مماثلة للطائر الأب. وعلى المستوى الإنساني، تتمثل رحلة الانكشاف الداخلي في سلسلة من التفقسات التدريجية للوعي البدائي إلى وعي أشمل، بدءًا من المستوى الفيزيائي، فالنجمي، ثم العقلي، فالعقلي العلّي (السببي)، فالبوذي، وأخيرًا الأتمي. وفي التصوف، تُسمّى هذه الرحلة "طيران الروح"، وكل هذه المعاني مجتمعة تتجلى في رمزي البيضة والطائر.
السيف |
The Sword |
رمزٌ للإرادة الروحية في الإنسان (Atma). وقد أشار إليه القديس بولس بقوله: "سيف الروح، الذي هو كلمة الله". ويُشير تسليح المنقذين، والأبطال، والمرشدين الروحيين بالسيوف إلى الصراع الأزلي بين النور والظلمة، بين الفضيلة والرذيلة، وبين النظام والفوضى. فبواسطة سيف الإرادة أو رمحها—حين تكون موجهة بالعقل، ومضبوطة بالذهن، ومنفذة باليد والذراع—يخوض الحق معركته ضد الباطل، وتُصبح الإرادة أداةً لانتصار النور على قوى الظلام.
لا يمكن للروح أن تكون خاملة في أي جزء من أجزاء الكون؛ فهي في كل مكان عدو للشر وصديق للخير. ولهذا، فإننا نرى في أرجاء هذا العالم المضطرب المتشابك وميض السيف الروحي المتألق في أيدي الفرسان الحقيقيين، خُدّام النور وحملته. ويُضفى على هذا الرمز بعدٌ ديني حين يُمسك بالسيف من نصله وتُرفع قبضته لأعلى، مُشكِّلة بذلك علامة الصليب، في دلالة على أن الإرادة الروحية المسلّحة بالنور تقف دائمًا في مواجهة قوى الظلمة، بسطوةٍ مقدسة تتجاوز المادة.
المعبد |
The Temple |
الهيكل، في تصوره الأوسع، مرآة للكون بكل ما فيه، من بنيانه الظاهر إلى الروح الإلهية السارية فيه أو السحابة المستقرة فوق قدس الأقداس. وفي صورته المصغرة، هو تمثيل للطبيعة البشرية بجملتها، من الجسد المحسوس إلى الذات المفردة المتعالية (الموناد). وعندما يرد ذكر الهيكل في نصوص العهدين، القديم والجديد، سيُجلَّى معناه في سياقه، وسيُولى اهتمام خاص بهيكل سليمان الشامخ، بتفصيل بنيانه وأبعاده وزينته الباهرة، لنستشف منه عمق الدلالات.
ظهر المسيح في الهيكل وهو في الثانية عشرة من عمره. وقد أجرى لاحقًا معجزات في الهيكل، كما ورد: "وجاء إليه في الهيكل العمي والعرج فشفاهم". طهر المسيح ساحات الهيكل، صارخًا في وجوه المحتكرين: "قد كُتب أن بيتي مأوى للعبادة والخشوع، فحولتموه وكرًا للخداع والجور". وببصيرة النبوة، أشار المسيح إلى مصير الهيكل، قائلاً: "أترون هذه البنيان الشامخ؟ الحق أقول لكم، سيأتي يوم لا يبقى فيه حجر على حجر، بل يصبح أثرًا بعد عين".
وإن كنا لا ننكر هنا البعد التاريخي لتلك النصوص، فإن تأويلها الرمزي يفتح آفاقًا لفهم أعمق. فالهيكل، في جوهره، تجسيد للإنسان في وحدته الشاملة، بجسده المدرك وعقله المفكر وروحه المتسامية. أما أسواره الخارجية، فهي حجاب الجسد ومرآة الوعي حين يحجبه الحس. والباحة وما تحتويه من ملحقات، هي ساحة النفس وميدان الروح الشخصية. والداخلون والخارجون من بواباته، هم تجسيد لعواطفنا وأفكارنا المتدفقة في كل يوم، والتي يُعبِّر بها باطننا جزئيًا عبر أبعادنا الدنيوية الأربعة التي تشكل كياننا الظاهر (الجوانب الأربعة للصرح الكامل). أما صلب البناء، بما فيه أساساته الراسخة وجدرانه الشامخة وسقفه الحامي وزخارفه البديعة وقبابه الشاهقة ومآذنه السامقة وشرفاته البارزة، فهو رمز لذاتنا الداخلية الخالدة، تلك الروحانية المتألقة بصفاتها النيرة في ثوبها النوراني، وهو ما يُعرف بالجسد السببي، والذي تتجلى رمزيته في هذا الصرح المادي.
أما جوف الهيكل، فهو مرآة لعقل الإنسان، وتحديدًا لتلك البقعة النيرة فيه التي تتوق إلى المُثل العليا والأفكار الروحانية المجردة. والحاضرون فيه هم تجسيد لحركة الذهن الدائبة، وسيل الأفكار المتلاطم، وبوجه أخص، هم رمز لتطلعاتنا السامية، وإشراقات الفهم التي تضيء دروبنا، والإلهامات التي تهبط على أرواحنا عندما يرتفع الذهن إلى آفاق أسمى، أو عندما يبلغ حالة الوعي المشابهة لقدسية الهيكل.
يمثل القدس، أو قدس الأقداس، رمزًا لمركبة الحدس الروحي، و"محراب" الإله الكامن في الداخل، الساكن في أعمق الأعماق. والمسكن المقدس وما يحتويه من نفائس، كلها تجسيد للمبدأ السابع في الإنسان، ذلك الشعاع المنبثق من الجوهر الفردي المتوهج، بقواه الروحية الخالقة، وهو الحضور الإلهي الحق، المتعالي والجوهري، الساكن في حرم الروح الطاهر.
أما حجاب الهيكل، فهو يمثل ذلك الحاجز الحامي، على أي صعيد وجد، الذي يفصل بين الباطن الأعمق والظاهر الأبعد. فالمجد الحقيقي لا بد له أن يظل مستورًا، صونًا له من دنس الدنايا، وحفظًا له من أن يُكشف قبل أوانه أو أن تُساء استخدام أسمى الحقائق وأعظم القوى.
إن جوهر الحقائق يكمن في وحدة الخالق والمخلوق. وقوام القوى هو القدرة الخلاقة الروحية. وكلاهما يمثل خطرًا محدقًا بالإنسان ما لم يتطهر ويتقدس تمامًا، فيعصمه ذلك من دنس الاستغلال. فمركبة النار التي حملت إيليا عن أعين أليشع، وتجلي الرب لموسى في غمام، والسحابة النورانية التي خيمت على يسوع فوق الجبل، والغمام الذي احتضن صعوده إلى السماء، كلها، في أحد التأويلات، تجسيد لهذا الستر الواقي الذي يلف أسمى الحقائق الروحية، وتلك القدرة المطلقة التي تُوهب لمن يدركونها.
إن مراسم التنصيب والتكريس والتقديس، التي تخول الكاهن ولوج حرم القدس، ترمي في جوهرها إلى تجاوز تام لإحساس الانفصال عن الذات الإلهية وعن كل تجلياتها، وإلى نبذ نهائي، بعد تجاوزه، لأغلال التملك الأناني وغرور الذات. وعندما يتحقق هذا التحرر الروحي، ينكشف حجاب الهيكل، إيذانًا بالاتحاد والوصول.
إن حكاية الفتى يسوع ذي الاثني عشرة سنة في رحاب الهيكل (شأنها شأن كل رمز، تجربة باطنية تختبرها الذات) تجسد النفس المُجرِّبَة الثلاثية الأبعاد (فمجموع رقمي اثني عشر هو ثلاثة) وقد استنارت بنور الحكمة، فأصبحت قادرة على إظهار فطنة فائقة وإفاضة الإشراق على العقل، الذي يمثله هنا العلماء بما لديهم من محفوظات المعرفة، والمعتقدات الموروثة، والطرائق الفكرية الجامدة.
لقد ابتعدت مريم ويوسف عن حرم الهيكل، فغاب عن وعيهما، وخشيًا أن يكونا قد فقداه. إنهما يرمزان إلى أسمى تجليات الوعي الشخصي، إلى العقل المدرك الذي استغرق برهة في لجج المادة وهمومها. وعودتهما إلى الهيكل بحثًا عن ذلك النور الذي خبا مؤقتًا، تشير إلى صفاء التأمل الذي ارتقى بوعيهما الشخصي إلى مرتبة إدراك الذات، واكتشاف الكينونة الروحية الخالدة الكامنة في "هيكل" النور، أو الأوغويدس. أما العثور على ابنهما، فيصور نجاح هذا السعي الروحي والإشراق الذي يفيض على العقل المدرك من العقل الأعلى المجرد، ومن ينابيع الحدس والإرادة الروحية. وتوبيخ مريم ليسوع على غيابه، يعكس رد الفعل الطبيعي وقلة الاستيعاب التي تبدو على أولئك الذين، حين يواجهون الحقائق الروحية، غالبًا ما تنشغل أذهانهم بالاعتبارات الدنيوية وحب التملك. فغالبًا ما يميل الناس إلى قياس القوانين والحقائق والأنشطة الروحية بمقاييس عالمهم المادي.
أما قول يسوع: ...«لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟»، فهو تصحيح لهذا الزلل وتوجيه للعقل نحو العلو، نحو الذات الباطنة، الأب الروحي، ونحو المبادئ والأهداف المجردة التي تحرك الذات العليا. وفي هذا المشهد، تُوصف أيضًا تجربة صوفية، ويُهدى السالك سبيل بلوغها. فالعقل المدرك يكتشف أن الإشراق يستلزم توسيع آفاق الوعي والنظرة الكونية. بعبارة أخرى، لا بد من ولوج حالة الوعي المشابهة لقدسية الهيكل. يجب تبني القيم الروحية لا الدنيوية. على العقل أن يتسم بالمرونة كي يستقبل الحكمة، كما فعل العلماء في الهيكل، مهما بدا في البداية منافيًا للأفكار وأنماط التفكير الموروثة. وعندئذ يتجلى إدراك ذلك الحضور الإلهي الدائم الشباب والتجدد، القابع في صميم الهيكل - قوة طبيعة المسيح وحكمتها ومعرفتها - والتي يرمز إليها يسوع الفتى ذو الاثني عشرة ربيعًا.
في التأويل الباطني، تتجلى حقيقة أن الوليد الروحي، أو المستنير الجديد، لم يعد أسيرًا لعلاقاته الشخصية من أسرة أو وطن أو عرق. لقد أصبح مواطنًا للعالم بأسره وخادمًا للإنسانية جمعاء. وقد استوعبت أمهات موسى ويسوع هذه الحقيقة وأذعنّ لها، وإن خالط ذلك بلا شك بعض وخزات الفؤاد الأمومي. وفي تأويلهن المصغر، تمثل جميع الزيارات التي سجلها التاريخ للمسيح إلى الهيكل وصفًا رمزيًا جامعًا لسبيل الإشراق الروحي.
لا بد من تطهير الهيكل الظاهر وساحاته الخارجية. يجب إخراج صرافة المال، أي تخليص مسيرة الحياة اليومية من شره التملك، وخاصة من تدنيس المقدسات الروحية. وفي نهاية المطاف، سيزول كل شعور بالذات المنفصلة - سينهار الهيكل المادي - وتتحرر الذات الروحية الكامنة أو "تنجو"، كما يشير إلى ذلك تأكيد المسيح على قدرته، متى شاء، على هدم الهيكل وإعادة بنائه، ونبوءته بخرابه الوشيك. ومع الاقتراب من هذه الحال، يصبح الإنسان الظاهر كاملًا حد الإعجاز. ورمزًا لذلك، يُشفى العرج والمرضى في رحاب الهيكل.
وهكذا يتجلى لنا بحث الوالدين عن يسوع اليافع إذ يجدانه في الهيكل يُفيض نور العلم على الحكماء، كرمز بديع لسعي الروح (مريم ويوسف) المكلل بالنجاح نحو ضياء الروح. فالنجاح حليف كل من يسلك هذا الدرب؛ فالمسيح الفتي ما زال جالسًا في هيكل الروح الإنسانية. والحكمة منهل عذب لكل من يطأ عتبات الهيكل وقد طهر ذاته وشفى روحه، وسعى إلى النور بلهفة الوالدين المحبين اللذين يبحثان عن فلذة كبدهما الغائب مؤقتًا.
الأشجار |
Trees |
يُستخدم هذا الرمز في الكتاب المقدّس على امتداده للدلالة على قوة الحياة الخلّاقة الكامنة في كل مادة، سواء كانت مادية أو ما فوق مادية، أي الطبيعة ذاتها بكل حيويتها وفاعليتها المستمرة وشمولها الوجودي. وقد أُحسن اختيار هذا الرمز، إذ إن الشجرة تستمد غذاءها من الأرض (برَكْريتي – Prakriti)، من خلال الجذور التي تمثل الوسيلة التي تُسحب بها هذه القوى من التربة وتُجمَّع وتُفرَد في نقطة محلية واحدة للنشاط الحي. وهكذا تُركّز العناصر الغذائية والطاقة الطبيعية في الجذور، ثم تتصاعد عبر الجذع الرأسي. وعند انفصالها عن الأرض، تدخل إلى عنصر الهواء، وفي نقطة معينة من الارتفاع، يُعاد إنتاج شكل الجذور بصورة جزئية في شكل الأغصان العلوية، وكأن الشجرة تعيد في الأعالي ما كانت قد أخفته في الأعماق، دافعة الحياة إلى أعلى كما جذبتها من الأسفل، في دورة كونية رمزية تمثل الصعود الروحي من أصل مادي.
إنَّ الأشجار، سواء كانت نفضية أم دائمة الخُضرة، تخضع لقانون الدورات، كما يتجلى في تعاقب فصول نشاطها الخلّاق وسكونها ضمن فترات موسمية منتظمة ومتساوية. ويُظهر هذا انتظامها في التبدّل كيف أنَّها تسير وفق نمط كوني شامل يُنظم كل الحياة. ويُجسَّد مبدأ النمو من حالة كامنة أو شبيهة بالبذرة، وهو المبدأ الذي يميز التطور الروحي كما التطور المادي، في حياة الشجرة بوضوح. فكل طور من أطوارها يبلغ ذروته بإنتاج بذور جديدة، وفي هذا تتجلّى القاعدة الكونية التي بموجبها تسهم الدورات الصغرى في بلوغ غايات الدورة الكبرى. أما الأوراق، فإنها من خلال عمليتي الشهيق والزفير (التنفس الضوئي والتبادل الغازي)، تُعبّر أيضًا عن مراحل التناوب التي تمر بها جميع الظواهر المتجلية في الكون، لتُصبح الشجرة بذلك صورة رمزية دقيقة للأنفاس الكونية، ولصيرورة الحياة ذاتها، في مدّها وجزرها، خَلقها وانحلالها.
وعلى الصعيد الصغَري (الميكروكوزمي)، تُشير الأشجار إلى قوة الحياة الخلّاقة وقد تمركزت وتفرّدت في الإنسان بوصفها القوّة التوليدية. وإنَّ تسلّق شجرة لرؤية المسيح، كما فعل زكّا، أو التعلّق على شجرة، إنما يُعبّر رمزيًا عن اكتمال عملية تصعيد تلك القوة الحيوية وتحويلها من سفليتها الغريزية إلى سموّها الروحي، وما يترتب على ذلك من بلوغ الوعي الإلهي الذي لا يُمكن إدراكه إلا عبر هذا التحوّل. أمّا الثمار، فترمز إلى نتاج فاعلية قوّة الحياة في الطبيعة والإنسان على السواء. ويبدو أنَّ التفاحة، على وجه الخصوص، تُجسِّد التجربة الذاتية الواعية لعملية الخَلق، كما هو الحال مع ثمر شجرة معرفة الخير والشر الذي أكل منه آدم وحواء، والذي أدى إلى ما يُعرف خطأ بـ"السقوط". وعندما تكون التفاحات ذهبية، فإنها تُشير إلى بلوغ وعي المسيح في النفس، إذ تكون هذه الثمرة هي النتيجة الباطنية العليا لتفاعل الحدس الصافي (الحدس الإلهي) في الإنسان مع طاقته الخلاّقة، بحيث يُصبح ثمرة ناضجة على شجرة الحياة الروحية.
البُوق |
The Trumpet |
البُوق وصوت البُوق هما أيضًا من الرموز المستعملة في الكتاب المقدّس، وتكمن أهميتهما الرمزية في درجة تستوجب تفسيرًا مستفيضًا. فصوت البُوق في الكون يُمثِّل قوّة "الكلمة"، أي القوّة الخلاّقة المُنطلِقة بكل تمامها، مركَّزة وموجَّهة نحو غاية. لكن صوت البُوق يرمز بالأخص إلى ظهور هذه القوّة في صورة مسموعة، أي تجلّي "الكلمة" عبر جميع أوعية الإنسان، من مستواها المونادي (الروحي الأعلى) وصولًا إلى الجسد الفيزيائي. أما البُوق نفسه، فهو أنبوب يُدفَع فيه النَفَس—الذي هو بدوره رمز لنفس القوة—فيُحاصَر ويُحَدّ داخل ذلك الأنبوب. ونتيجة لهذا الزفير المُفعم بالقوة، المركّز والمحتوى داخل قناة محددة، تهتزّ بنية البوق بأكملها، فتصدر نغمة أو صوتًا هو في جوهره تجسيدٌ سمعيّ لطاقة الخلق، أي لما يُعرف بالـ"كلمة" الكونية المُنشئة، أو "اللوغوس" في التعبير الفلسفي.
على المستوى الكوني (الماكروكوزمي)، يُمثّل البوق مادة الكون ذاتها، قبل أن تُصاغ في هيئة، وبعد أن تتشكّل في صورة، كما يُمثّل أيضًا أي عنصر من عناصر الكون بلغ درجة عالية من الاستجابة والشفافية. أما على المستوى الإنساني (الميكروكوزمي)، فإن البوق يرمز إلى الإنسان ذاته، وبالأخص أوعيته المختلفة للوعي — الروحية، والعقلية، والجسدية — حين تكون في حالة تجاوب وتفاعل مماثلة.
كلّما قيل، على نحو رمزي صادق، إن صوت البوق كان يزداد علوًّا ووضوحًا على الجبل، أو إن الشعب سمع صوت البوق أمام أسوار أريحا، فإنما يُراد بذلك الإشارة إلى أن الإنسان قد نجح في إدخال جميع مبادئه السبعة، وكل عناصر كيانه، في حالة تناغم وتوافق تامّ مع الموناد، ومن خلاله مع اللوغوس، الذي يتّحد معه الموناد اتحادًا أبديًّا. وعند بلوغ هذه الغاية العظمى، يُسمع "الصوت الإلهي" ويتردّد صداه في سبعة أطياف أو أنماط من الأصوات، واحد لكلّ وعاء من أوعية الوعي، عابرًا الكيان الأعلى والأدنى للإنسان. عندئذٍ تتحطّم أهـمكارا (وهي ترمز إلى أسوار أريحا)؛ إذ تُبتلع النغمة الشخصية، التي كانت في السابق نشازًا منفصلًا، داخل نغمة البوق العظيمة المنبعثة من نَفَس الإله، وتذوب في تناغمها الكليّ.
عند بلوغ هذه الحالة، يتحقّق الوصلُ والتواصل بين الذات العليا والموناد؛ فيُقال إن موسى يُناجي الله، وأن الله يُجيبه بـ"صوت"—إلا أنّه ليس صوتًا بالمعنى الحسي، ولا هو صوتٌ على الإطلاق؛ بل هو إرادةٌ خالصةٌ تعبّر عن القصد أو الغاية الكامنة في الأب-الأم الإلهيّ في إظهارهما للكون إلى الوجود. إنه الدافع الكامن الذي لا يُقاوم، والمُنتشر في كل شيء، والدافع الفطريّ للتعبير عن الذات، وللتوسّع والامتلاء—ومن هنا اشتقّ اسم بْرَهما من الجذر bṛh، أي "يتوسّع" أو "ينمو". هذا هو دافع الإرادة البراهْمية نحو الاكتمال، والذي، حين يظهر في لحظة الخلق الكونية، يُطلق صوت ڤاتش (Vach)، أي التعبير الصوتيّ عن الإرادة الإلهية، لحظة انبثاق الفكرة الكونية من المطلق على هيئة إرادة–نور–صوت. وعلى مدى الأيام والسنين الكونية التي تلي، تقوم هذه الإرادة-النور بخلق الشموس والكواكب والكائنات بحسب قوانين محدّدة. وتتجلّى طبقةً بعد طبقة، ومستوىً بعد مستوى، من الكثافة المتزايدة، متجسّدةً في أشكال تعبّر عن هذه الإرادة النورانية. تتقدّح أشعة المونادات، وتنطلق الكائنات لتسكن المستويات الكونية المختلفة. ويستمرّ الفكر–الإرادة–الكلمة الكونية في التوغّل أعمق فأعمق، موقظًا المواد الساكنة، دافعًا ذراتها لتُجيب، لتردّد أو لتُعيد صدى "الكلمة" الكونية. يشعّ النور من المركز الخلّاق ليبدّد الظلمة، ويكشف عن الثياب غير المنظورة التي كانت تحتجب بها الأم الكونية.
تزداد الإرادة قوةً، ويعلو الصوت، ويزداد النور إشراقًا كلّما مضت الدهور وتقدّمت الأحقاب. تغدو المونادات أكثر توهّجًا، وتتّسع أشعّتها الأحادية لتنبثق على هيئة أضواء أشد سطوعًا وأوسع انتشارًا. وتبدأ المناطق الكثيفة في الاتّخاذ التدريجي للصور المقصودة، فتنسحب الظلمات الخارجية أمام إشراق النور، ويتحوّل حيث كان الفوضى إلى انتظام تحكمه الإرادة الإلهية والنظام الكوني المقدّس.
في كل كائن من الكائنات التي دُعيت إلى الوجود، لتكون ساكنةً وعاملةً في العوالم المخلوقة، يُعاد تمثيل العمليات الكونية وتُستكمل بصورة مصغّرة وموازية. فكما يستجيب الكل، كذلك تستجيب الأجزاء. وفي الإنسان، باعتباره أحد هؤلاء الساكنين والعاملين في العوالم، تحلّ الحركة الإيقاعية محلّ الجمود والصمت الكامنَين في المادة (فتنهار أسوار أريحا)، ويُسمع "الصوت الكوني" ويُجاب، بعد أن كان خفيًا. وكما في الكون، كذلك في الإنسان: تزول الظلمة أمام إشراق النور. وهذا هو المستوى من العملية الخَلْقية والتطورية الذي صُوِّر رمزيًا في صوت البوق الذي يزداد علوًا وقوة، وفي الحوار اللفظي الذي جرى بين موسى والله على جبل سيناء.
لم يُبلَغ القمّة بعد، ولم تتحقّق الوحدة؛ إذ إن وجود الوحدة الحقيقية ينفي الحاجة إلى أي تَبادُل خارجي أو حتى إمكانيّته. فتحقّق الوحدة يُصوَّر عمومًا عبر رمزية الموت أو الصعود السحري للجسد (كما في حالات أخنوخ، وإيليا، والمسيح)، حيث تُختَطف النفس وتُمتَصّ في إلهها. أما "بنو إسرائيل" في هذا السياق الرمزي، فهم يُجسّدون الصفات والقدرات والقوى المتنوّعة التي نماها "الذات العليا" واكتسبها، والتي أصبحت متأصّلة فيه نتيجة سلسلة طويلة من الحيوات المتعاقبة.
وهكذا، بعد أن نما وارتقى واغتنى، تنسجم الذات العليا مع سيدها أو مونادها، وتصعد "الجبل" أو مدارج التطور والوعي الأسمى، فتسمع هناك وتردد في كل كيانها "كلمة" الموناد، أو نفير البوق الذي أضحى الآن عاليًا مدويًا. وعندها يُمنح المستنير استهلالًا في غوامض الأسرار الكبرى، اعترافًا في العوالم الموضوعية الظاهرة بما بلغته الذات العليا من مراتب التطور في العوالم الباطنية الخفية. لقد وطئ "درب القداسة"، ووجد "الباب الضيق" وصعد "الطريق الوعر". إن الدرب النبيل ذي الثمانية مسالك، الحاد كحد السيف، يُرتقى بنجاح، وقمة الجبل باتت تلوح في الأفق.
اليونيكورن |
Unicorn |
رمزية اليونيكورن (الحصان ذو القرن) تعبّر، ضمن منظومة الرموز القديمة ذات الجذور الباطنية، عن قوّة مبدعة مكرّسة ومُهذَّبة في الإنسان. ويبدو أن كثيرًا من أساطير الشعوب القديمة، بما تحمله من رموز ورسومات، قد وُضِعت بإلهام من حكماء ومُبادرين (Adept and Initiate) بهدف الحفاظ على معرفة مانحة للقوّة، وكشفها بذكاءٍ في حين تُخفى في الوقت ذاته عن غير المستعدّين. في هذا السياق، يُمثّل القرن الخارج من جبهة اليونيكورن التعبير المتسامِي للقوّة الخَلّاقة، والتي يتمّ تصعيدها من الغريزة إلى الفكر والإرادة. خروج القرن من الدماغ يرمز إلى أن هذه الطاقة الخلّاقة تُعبّر عن نفسها من خلال الفكر الملهم بالإرادة، وخاصة عبر مركز الغُدّة النخامية (pituitary gland)، التي تُعتبَر مقرًا للقوى الروحية في الإنسان في بعض أنظمة التصوّف. أما الحصان نفسه، فهو غالبًا ما يُمثّل الطبيعة البشرية الدنيا (the lower quaternary)، أي الجوانب الأربعة للإنسان: الجسد، والعواطف، والرغبات، والعقل الأدنى. وعند إضافة الأجنحة والقرن له، يُصبح "بيغاسوس" (Pegasus)، الحصان الأسطوري المجنّح الذي يرمز إلى طبيعة الإنسان حين تُروَّض ويُهيمن عليها. في الأسطورة، يقوم البطل بيليروفون (Bellerophon) – والذي يُمثّل الأنا العُليا أو الذات المُبادِرة – بإمساك بيغاسوس عند نبع ماء (رمزًا لمصدر الحياة)، ويُسيطر عليه بلجام ذهبي، واللجام الذهبي هنا يرمز إلى الفكر الإرادي المتطوّر، أي سيادة العقل المستنير على قوى الغريزة والطبيعة. وبمجرد أن يمتطيه، يحلق في الأعالي ويقتل الوحش الكيميرا (Chimaera)، الكائن الذي ينفث نارًا، والذي يُجسّد الأهواء والرغبات الجامحة. بهذا الانتصار، يتحرر الإنسان المُستنير من حدود الجسد والعالم المادي، ويبدأ رحلته في العوالم العُليا للوعي، وكأن له أجنحة.
في إحدى روايات العهد القديم، يُختبَر أيوب عبر استجواب طويل بينه وبين الإله. ويجب أن لا يبقى اليونيكورن في داخله بريًّا، وإن ظلَّ طابعه الكوني، المرموز إليه بالوحشية والحرية، قائمًا ومعترفًا به.
في سفر أيوب، يُعدّ التحوّل من الحمار الوحشي إلى اليونيكورن ذا دلالة عميقة، إذ يُمثّل الحمار رمزًا للعناد، وفي حالته البرية تبقى خصاله كلها طليقة غير مروّضة. وعلى المُرشّح لنيل الإشراق الروحي أن يُخضع هذا الحمار البريّ، حتى يصير لاحقًا رباعيًا منقادًا، يحمل الذات الثلاثية نحو غايتها، كما حمل الحمار العائلة المقدسة إلى مصر، وحمل المسيح في دخوله الظافر إلى أورشليم.
مصر تمثّل رمزًا طبوغرافيًا لملاذ الأسرار الكبرى، وقاعة التنشئة التي فيها تَقَدَّس يسوع، كما يتقدّس كلّ مُبادَر، وتُكرَّس فيها ذاته لمهمّته العظمى. أما أورشليم، فهي الذات الخالدة في الإنسان، الثالوث الروحي الذي يَعيه المُبادَر ويدركه إدراكًا تامًّا. وهذه الحالة من الوعي، "أورشليم"، لا تُنال إلا في اليقظة الكاملة، من خلال الجسد الرباعي الذي غالبًا ما يقاوم. وفي الرمز، يدخل المسيح الظافر أورشليم راكبًا حمارًا.
اليونيكورن هو كائن أسطوري يُفترض أن حبله الشوكي يمتدّ إلى ما بعد النخاع المستطيل، مارًّا بالغدة النخامية، ويخرج من بين العينين، ثم يتصلّب ليُشكِّل قرنًا. وبتفسير باطني، لا يُراد بهذا الوصف الحبل الشوكي المادي بقدر ما يُقصَد به القناة الأثيرية الداخلية التي تمتدّ على طوله، والتي تُعرف – كما ذُكر سابقًا – باسم "سوشومنا". ويتدفّق عبر هذه القناة، في الإنسان، التيار الخلّاق ذو القطبَين المتعادلَين، المسمّى "نار الأفعى" أو "الكنداليني"، صاعدًا من العجز إلى الدماغ، ويصاحبه في تدفّقه تياران منفصلان، إيجابي وسلبي، يسلك كلٌّ منهما مجراه الخاصّ المعروف باسم "بينغالا" و"إيدا" على التوالي، ملتفَّين حول السوشومنا أثناء الجريان.
إن تصعيد القوة الخلّاقة، وصعود النار الخلّاقة الدوّارة ذات الطبيعة الحيَّوية الأفعوانية، يتحقّق نتيجةً لتهذيب الطاقة الجنسية ورفعها، وذلك من خلال الممارسة المتواصلة لليوغا، مدعومة بالمرور في طقوس التلقين الحقيقية. وقد ظلَّ هذا النوع من المعرفة، لفترة طويلة من الزمن، جزءًا من الأسرار المصونة بدقّة في مدارس الأسرار الباطنية، ولا يزال حتى اليوم أسلوب إيقاظ هذه الطاقة خفيًّا عن عامة الناس.
إن الغرض من هذا الكتمان ليس حجبَ معرفةٍ ثمينة، بل حمايةُ غير المستعدين والمستهينين من الأخطار والمشقّات التي لا تنفكُّ عن الإيقاظ المُبكّر لقوة الكونداليني. ولهذا السبب، استُخدِمت رموزٌ عديدة للإشارة إلى هذه القوة المُحرّرة والمُخلِّصة في الإنسان، وتظهر الأفاعي—غالبًا في هيئة متشابكة—بشكلٍ بارز في أغلبها. فقصصُ تحوُّل عصا موسى وهارون إلى أفاعٍ لتحرير بني إسرائيل، ورموز لاوكوون وابنيه، والحية النحاسية المرفوعة على الصليب بيد موسى، وعصا الكادوسيوس في يد هيرمس الذي يُحرِّر الروح (بيرسيفوني) من الهاوية (أي من سجن الجسد والعالم المادي)—كلّها تُصوّر عمليّة تهذيب القوة الخلّاقة وارتقائها، وما ينتج عنها من تحرّر الوعي من قيود الحياة الجسدية.
استخدم مؤلفو سفر أيوب رمزي الحمار الوحشي والوحيد القرن مجتمعين للدلالة على أن أيوب قد تجاوز المراحل الجامحة، العنيدة، والجنسية من تطوّر الإنسان، وأنه – على غرار موسى – قد أصبح "مقرنًا"، ولو بقرنٍ واحد. ويُصوَّر قرنُ الوحيد القرن أحيانًا بشكلٍ حلزوني، وهو إشارةٌ مستترة إلى القوى المتداخلة لولبيًا للكونداليني، "القوة التي تسير في مسارٍ أفعواني".
الوحيد القرن هو أيضًا رمز لتلك السلالة الأولى من البشر الذين كانت العين الصنوبرية لديهم في سطح الرأس. هؤلاء هم من يُطلق عليهم اسم "اللموريون"، وهم السلالة الجذرية الثالثة في تسلسل الأجناس على الأرض، لكنهم أول من ارتدى أجسادًا مادية وجدد الحياة البشرية الفيزيائية على هذا الكوكب. كانوا رجالًا عمالقة، ضخام البنية، غير مهرة في التحكم بالجسد المادي، لكنهم كانوا لا يزالون يمتلكون تلك الرؤية النفسية (الروحية) التي استخدمها أول جنسين على الأرض بطبيعتهم الفطرية، إذ كانا جنسين نجميين-أثيريين. أما رؤيتهم الفيزيائية فكانت محدودة، لأن العينين الاثنتين كانتا لا تزالان في طور التكوين، في حين كانت رؤيتهم النفسية في بدايتها شديدة الوضوح.
مع تطوّر العِرقين الثالث والرابع من سلالات البشر، أصبحت الأجساد أصغر حجمًا، أكثر تكاثفًا، وأسهل انقيادًا لإرادة الإنسان. وفي هذه المرحلة، تطوّرت العينان كما نعرفهما اليوم، لتمنحا الإنسان رؤيةً مجسّمة واضحة التفاصيل. أما العين الثالثة، المعروفة بعين الغدة الصنوبرية، فقد تراجعت إلى الداخل، لتصبح ما يُعرف اليوم بالغدة الصنوبرية في الدماغ. ويُقال مجازًا إن وحيد القرن كان يجوب الأرض إلى أن اكتمل هذا التحوّل. ثم اختفى (رمزيًا)، وبقي فقط كرمزٍ لماضٍ إنساني غابر، وكتعبير عن ذاكرة عرقية غامضة لشكلٍ من أشكال الإنسان الذي كان قد تحصّل على جسدٍ مادي، وكان في طبيعته الفانية رباعي البُنية، ككائنٍ رباعيّ الأرجل، كـحصانٍ ذي قرنٍ واحد، أي وحيد القرن. غير أن وحيد القرن لم يمت؛ بل، كما العين الصنوبرية، انسحب إلى الداخل وظلّ خامدًا عبر العصور، لكنه بقي حاضرًا كرمز كامن في الذاكرة العرقية للبشر. أما العرق اللموري (Lemurian)، وهو أقل رمزية وأكثر ارتباطًا بالواقع الأسطوري، فقد أُشير إليه في الميثولوجيا الإغريقية بـالكيكلوب، العمالقة ذوي العين الواحدة. وهكذا، بقيت حقيقة الوجود القديم لعرقٍ ذو عينٍ واحدة نائمة في أعماق العقل الباطن للأجناس البشرية اللاحقة، كـذكرى وكـقوةٍ محتجبة.
الدولاب يدور. وكلُّ ما كان موجودًا في سالف الأزمنة، لا يلبث بعد رقاده أن يعود للظهور من جديد. إن وحيد القرن والإنسان السيكلوبي يفيقان الآن من سباتهما الطويل. وها هو الكيان الرباعي للإنسان يوشك أن يُبدي قرنه الأثري القديم من جديد—لا على هيئة نسيج متصلّب، بل كنارٍ دَوّارة خَلّاقة تتوهّج في مركز الجبهة. وها هو الإنسان المعاصر، وقد صار عملاقًا من جديد، وإنْ على صعيد الفكر فقط حتى الآن، يشهد انفتاح عينه الثالثة، عين الرؤيا النفسية والحدس العقلي، بعد طول إغلاق. لم تَعُد القدرات النفسية الكامنة في الإنسان، ولا بصيرته الفطرية، مجرد ذكرى باهتة لقوة عرقية ماضية تظهر لمامًا في الأطفال أو الأرواح البسيطة. لقد فرضت نفسها على الذهن البشري، وأصبحت موضع بحث علمي، حتى باتت معترَفًا بها بوصفها قدرة فعّالة وشبه كونية، وقد سُمّيت اليوم باسمها الحديث: "الإدراك الفائق للحواس" (ESP).
وهكذا، فإن وحيد القرن، رمزًا ناصع البياض، لامعًا متوهّجًا بنارٍ متقدة تتلألأ وتدور وتندفع من بين العينين، ها هو يعود ليجوب سفوح الجبال، وقمم الصخور، وغابات الضباب من جديد. بوليفيموس يتحرّر من كهفه الجبلي – ذلك الكهف الذي يمثّل الأجساد المادية الخاملة نفسيًا لأواخر الجنس الرابع وبدايات الجنس الخامس – ويقف منتصبًا مرة أخرى، تشتعل نيران إيتنا في صدره أشد من ذي قبل. إن السيكلوبيين قد عادوا إلى الأرض، لكنهم لم يعودوا أصحاب عين واحدة، بل باتوا يمتلكون ثلاث وسائل للإبصار: عينين ماديتين، وعينًا ثالثة فائقة الحس، باطنية الرؤية. وهم اليوم يمثَّلون جزئيًا بأولئك الرجال والنساء الذين يمتلكون بالفعل هذه القدرات الحدسية والنفسية، والتي ستكون طبيعية ومألوفة في الأجناس القادمة من البشرية.
يُجسِّد أوليس في رمزيّته مسار التطوّر الإنساني، أما الوتد الذي غرزه في عين العملاق داخل الكهف – وهو رمز لرأس الإنسان – فيمثّل اندفاع الحياة الروحية نزولًا، حين تخترق شعلة الروح الإلهية (الموناد) مراحل العمى المؤقّت في أطوار الإنسان الأولى، تلك التي يغلب فيها الطابع الفيزيائي، والانفعالي، والعقلي الأدنى، قبل أن يشرق فيه نور البصيرة.
لقد صاغ الحكماء والمُبادرون الأوائل معارفهم — الإثنولوجية، والتاريخية، والباطنية — في قوالب من الرمز والأسطورة، فأودعوها ظاهرة للعين البصيرة، ومستورَة في الوقت ذاته عن الأنظار، ليس لأنّها بلا فائدة، بل لأنها كانت سابقة لأوانها، ومشحونة بخطرٍ محتمل على من لم يُعدّ بعد لحملها. لكن الآن، قد أزف زمن الكشف. وفي هذا العصر، يُعيد المعاصرون من أهل الحكمة إيقاظ الذكريات الراقدة والقوى النائمة منذ أحقاب في إخوانهم الأصغر — البشرية التي لم يكفّ أخوّة المُبادرين عن رعايتها الخفية وقيادتها الصامتة.
الحِجاب |
The Veil |
الحجاب، كما ورد في كلٍّ من العهدين القديم والجديد، رمزٌ بليغ لما يحول دون توسّع الوعي وامتداده أثناء التجسد الجسدي؛ إذ يشير إلى الحاجز العقلي الذي يقصر الإدراك والتفكير على حدود الذهن المقيَّد والعقل التحليلي المادي. وبسبب هذا "الحجاب"، يصبح نقل النور العقلي، والإلهام، والعبقرية الخلّاقة من الذات العليا إلى الذات الدنيا أمراً عسيرًا، وغالبًا ما يكون مشوبًا بالتشويه أو مفضيًا إلى العُقم العقلي، أي ضعف القدرة على التعبير الكامل عن الأفكار المجردة وتحويلها إلى إدراك فعّال. ويُرمز إلى هذا الوضع الذهني المُقيَّد بالعُقم — كما في رمزية النساء العاقرات في النصوص المقدّسة. أما الاتحاد السماوي والولادة الروحية، وهما إشارة إلى اندماج الذات العليا بالذات الدنيا، فهما الغاية القصوى من مسيرة الوعي. ويُقدَّم مثال على ذلك في قصة امرأة "عاقر" تُبشَّر بمولود على كِبَر: "فجاءت المرأة وأخبرت رجلها قائلة: قد جاء إليّ رجل الله، وكان منظره كمنظر ملاك الله، مرهب جدًا، ولم أسأله عن أصله، ولم يخبرني باسمه." هذه العبارة تُجسِّد — رمزيًا — الشرط الأول لعبور مرحلة التلقي الروحي، أو ما يُعرف بالمُشاهدة الأولى لـ"رجل الله"، وهو تمثيل رمزي لـ الذات النورانية (الأوجوئيدس). وفي ذات الوقت، تُشير القصة إلى الحالة النفسية-الروحية التي يبلغها المُرشَّح المكتمل الاستعداد: تلك العلاقة الحميمة المُثمِرة (الزواج المقدّس) التي تتأسس بين الذات العليا المتجلية في لباس من النور، وتجسّدها الأدنى في الوعي الفردي والتفكير التحليلي (وهو ما تمثله "الزوجة" التي كانت عاقرًا ثم حملت). "رجل الله" يُمثّل النور العقلي المجرد، و"الزوجة" تُجسد الوعي الأدنى المتحوّل والمستعد الآن للتلقي والولادة.
حتى يحين وقت الاستعداد للدخول في التهيئة الكبرى، أو ما يُعرف بالمبادرة الروحية الأولى (Initiation) على المستوى الفردي، وكذلك حتى يحين أوان تفتّح ملكة الحدس على نطاق واسع في الجنس البشري، يبقى هناك حاجزٌ أو حجابٌ فاصل بين شطري الطبيعة الإنسانية: الذات الأسمى أو النفس الروحية (Egoic Self) والذات الشخصية أو الفردية السفلى (Personal Self) هذا الحجاب، الذي يتسبّب في حالة من العُقم الروحي والفكري، يُشبه تمامًا الحجاب الذي كان يُغلق على قدس الأقداس في الهيكل—أي الهيكل الرمزي الذي هو "الإنسان" ذاته. فالإنسان، بحسب هذا المفهوم الرمزي، هو المعبد الحي، وفي أعماق ذلك المعبد الداخلي يحلّ الروح الإلهي الأعلى، المُشار إليه في التعاليم الباطنية بـ الـ"موناد" (Monad)، وهو الجوهر الإلهي الأسمى، الحيّ في كل كيان إنساني. حتى يتم رفع هذا الحجاب، فإن التواصل بين الروح والفكر يظل محجوبًا أو مُشوَّهًا، ولا تُثمر العلاقة بين الذات العليا والذات السفلى، بل تظل المرأة عاقرًا، أي الوعي السفلي غير قادر على أن يلد الحقائق الروحية.
في سياق التطور البشري كما يُقدَّم في الفلسفات الباطنية، يُقال إننا نعيش حاليًا في الجذر البشري الخامس (Root Race) من الدورة الكوكبية الرابعة (Fourth Round) على كوكب الأرض. وفي هذه المرحلة، يظل الحجاب (الذي يفصل بين العقل الأعلى والعقل الأدنى في الإنسان) غير قابل للاختراق إلا في حالات استثنائية، منها: أولئك الذين يتقدّمون عَلى رفاقهم في السلالة البشرية من حيث التطوّر الروحي والعقلي؛ أو الذين يتعرّضون لتحفيزٍ خاص من أنفسهم العليا (Egos) أو مرشدين روحيين متقدّمين في التطور، أو الذين يتلقّون إشعاعات أو تأثيرات كونية نادرة عبر أوضاع فلكية نادرة وقوية (أي تحفيز تنجيمي نادر ومؤثّر). ومع دخول وتطوّر السلالة السادسة من الجذر الخامس (السُلالة السادسة للـ Root Race الخامسة)، يبدأ هذا الحجاب بين الذهن الأعلى والأدنى بالتخفف والتلاشي تدريجيًا، فيظهر نتيجة لذلك نشاط ملكة الحدس لدى عدد متزايد من البشر. وبحلول نهاية السلسلة الكوكبية الرابعة (Fourth Chain)، — وهي دورة تطورية كونية كبرى ضمن السلسلة الكوكبية — يكون هذا الحجاب قد تمزق تمامًا لدى: الأنسان الكامل أو المُتمكّن (الـAdept) والإنسانية ككل في تلك المرحلة المستقبلية القصوى من النضوج. هذا هو المعنى الأعمق لما رُوي في الأناجيل عن "انشقاق حجاب الهيكل إلى اثنين عند موت المسيح". فهو ليس مجرد حدث خارق للطبيعة في مكان مادي، بل رمز لحالة من الوعي، حين تتحرّر النفس البشرية من الانفصال عن روحها الأسمى، ويتم الاتحاد الداخلي بين العالمين، الأعلى والأدنى، في كيان الإنسان.
إنَّ ما ورد من أنَّ "امرأة صُرعة جاءت وأخبرت زوجها مَنُوح بما حدث لها من بشارة"، إنما يُعبِّر رمزياً عن حالة التواصل العميق والداخلي التي تكون قد ترسَّخت بين جانبي العقل — الأعلى الأدنى — لدى الإنسان الذي أعدَّ نفسه تماماً ليُقبَل في "الأسرار العُليا"، ويتهيّأ لنيل الاستنارة، ولعيش ولادة جديدة هي ولادة القوة البوذية أو وعي الحدس الروحي.
قصة بيلاطس تكتسب أهمية خاصة من هذا المنظور الرمزي. فزوجته رأت حلمًا أثناء النهار، أي في حالة اليقظة الواعية — وهو ما يُعبّر عن إشراق الأنا العليا (Egoic illumination). لكنها لم تذهب بنفسها إلى بيلاطس كما فعلت امرأة صُرعة مع زوجها، بل أرسلت رسولًا، وهذا يُشير إلى غياب الاتصال الشخصي المباشر بينهما، وإلى وجود حاجز من المسافة أو حجابٍ يفصل بين العقلين. ومع ذلك، فإن بيلاطس لم يُصغِ للتحذير. لم يكن بعدُ منفتحًا على نور الحدس. فهو يُجسّد "العقل الأدنى" الذي لم يُضأ بالكامل بعد، لكنه يقترب من ذلك. وبهذا، سلَّم يسوع — وهو الرمز هنا لـ الحدس ذاته والطبيعة المسيحية في الإنسان — للصلب على يد الرعاع. ويمثل الجمع الدموي هذا، جميع الصفات المضادة للروحانية في الإنسان الظاهري، بما فيها التعصّب، سيكولوجية الحشود، الجمود العقائدي، وحبّ سفك الدماء — سواء تعلق الأمر بلحم ودم حقيقي، أم بقتل الأفكار والمبادئ الجديدة بازدراء. إن الإنسان الذي تمثّله شخصية بيلاطس، والقادر على مثل هذا التسليم، والذي يتجاهل أصوات الضمير والحدس حتى وإن سمعها، لا يزال غير متجاوب مع ذاته الروحية. لا يزال حجابٌ يفصل بينهما، يحجب الإله الكامن في قدس أقداس كيانه عن بصر الإنسان العالق خارج الهيكل الداخلي.
يمكن أيضًا تفسير الحجاب على أنه الصمت المفروض على كل عضو في أسرار الدرجات العُليا فيما يتعلق بالأسرار التي كُشِفَت له. ووفق أحد التفسيرات الطقسية، فإن إشارة الإصبع على شفاه الإله حورس هاربوكراتس (Horus Harpocrates) تشير إلى هذا النذر بالصمت. ومع ذلك، فقد تكلّم المُتنوّرون، لكن ليس بلغة دنيوية مفهومة للعامة؛ لأن القيام بذلك يُعد خرقًا لنذرهم المقدس، و"طرحًا للدرر أمام الخنازير". وعندما تكلّم هؤلاء المستنيرون، فإنهم استخدموا لسانًا اخترع خصيصًا لهذا الغرض — اللسان المقدس، القائم على الرمز والقصص التمثيلي، وهي بحد ذاتها حجاب يخفي تلك المعرفة الباطنية (الگنوسيس) التي هي قوة.
تشير الكروم والحدائق والحقول، على المستوى الكوني، إلى حقل التطور المادي؛ وعلى المستوى الإنساني، ترمز إلى الظروف المثمرة للوعي، وخصوصًا عند بداية دورات جديدة من الخبرة والتطور. وهكذا تبدأ القصة التوراتية لخلق الأرض والإنسان في "جنة عدن"، وكما أنه في حديقة أيضًا التقت مريم المجدلية بالرب القائم من الموت، وتعرفت عليه في نهاية المطاف. أما الصحارى والقفار، فترمز إلى حالات الجفاف الروحي التي يشهد بها جميع العارفين والمتصوفة، كأوقات من الفراغ الداخلي أو التيه الوجودي، والتي تسبق غالبًا انبثاق النور والإلهام.
النسر |
The Vulture |
النسر، في رمزيته، يشترك مع سائر الطيور الجارحة، لكنه يحمل معانٍ إضافية تتعلق بـكشف الحقيقة من خلال إزالة الزوائد، أو التهام اللحم عن العظام، كما يظهر في وظيفته كطائر منظّف للجيف، وكما يُستخدم في طقوس الزرادشتيين (الفرس) في "أبراج الصمت" حيث يُترك الموتى لتلتهمهم النسور. في هذه الوظيفة التطهيرية والتنظيفية، يرمز النسر إلى قوة الروح في الإنسان، التي تقوم بـتحويل الغلظة والضلال الشخصي الأدنى (اللحم) إلى الحدس والإدراك الروحي (العالم العلوي أو الهواء الأعلى). وقد كانت تيجان الإلهات والملكات المصريات تتضمن صورة النسر، للدلالة على أن هذه العملية التحويلية قد اكتملت في الوعي. كما أن التعويذة الذهبية على شكل نسر، عندما توضع حول عنق المومياء، ترمز إلى الأنا العليا (Ego) وهي تطهر العواطف وتحرر النفس من قيودها.
الماء |
Water |
الماء يرمز عمومًا إلى المادة الجذرية الكونية السابقة للخلق، أو ما يُعرف بـ"مياه الغمر" أو "مياه العمق". وعندما يُطبّق الرمز على الإنسان، فإن الماء يُمثّل العالم العاطفي أو الجسَد الرغبي، أي تلك الطبقة من الكيان البشري التي ترتبط بالمشاعر والانفعالات، والتي قد تكون هادئة أو مضطربة أو عاصفة، بحسب أحوال النفس. أما الخمرة والدم واللعاب والدموع، فإنها عادةً ما ترمز إلى التعبير الروحي المصفّى لقوى الرغبة، أي حين تتحول الرغبات البدائية إلى قوى نورانية. وتأخذ هذه القوى المتحوّلة أشكالًا مثل: قوة الإرادة المعززة، الحدس الروحي والحكمة الباطنية، والحب الشامل والرحمة الكونية.
النبيذ - الخمر |
Wine |
الخمر ترمز إلى الحدس، وبشكل خاص إلى الغرائز العاطفية المُهذّبة والمتحوّلة حينما تُستخدم بوعي كوسيلة للإدراك المباشر الحدسي. عندما يتّحد الذات الدنيا مع الذات العليا، ويُدرك المبدأ الإلهي ويُصبح حاضرًا وفعّالًا، فإن الماء (رمز العواطف) يتحوّل تلقائيًا إلى خمر (رمز الحدس). وقد تم تصوير هذه الحقيقة الرمزية بوضوح في قصة وليمة الزواج في قانا، حينما حوّل المسيح الماء إلى خمر — وهي إشارة رمزية إلى تحوّل العواطف البشرية عند الاتحاد الإلهي إلى إدراك حدسي روحاني. كما أن الفعل السحري الذي تحوّل فيه "المياه المُرّة إلى مياه حلوة" يخضع لتفسير مشابه، باعتباره رمزًا لعملية التحوّل الداخلي التي تتم داخل النفس البشرية حين تُطهّر وتُروحن.
تم بحمد الله
في 16/4/2025
[1]- الاستنجاء مِن اسْتَنْجَى المُحْدِثُ استنجاءً، وهو عملية تطهَّر بالماء أو غيره، وهو إزالة النجس وهو العذرة، أي إزالة النجاسة من المخرجين. المعرب
[2]- الأتمان (Atma): الروح الكونية، الموناد الإلهي، المبدأ السابع في التركيب السباعي للإنسان. وعلى المستوى الكوني، هو النفس العليا.
[3]- «اُنْظُرُوا، لاَ تَحْتَقِرُوا أَحَدَ هؤُلاَءِ الصِّغَارِ، لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلاَئِكَتَهُمْ فِي السَّمَاوَاتِ كُلَّ حِينٍ يَنْظُرُونَ وَجْهَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.» (مت 18: 10).
[4]- شمشون بن منوح الدني من شخصيات العهد القديم، هو بطل شعبي من إسرائيل القديمة اشتهر بقوته الهائلة وورد ذكره في سفر القضاة في الأصحاحات 13 إلى 16، وفي الرسالة إلى العبرانيين من العهد الجديد في الأصحاح 11، وقصصه شاعت في القرن الحادي عشر قبل الميلاد. ويكيبيديا
[5]- «وَلَمَّا رَجَعَ بَعْدَ أَيَّامٍ لِكَيْ يَأْخُذَهَا، مَالَ لِكَيْ يَرَى رِمَّةَ الأَسَدِ، وَإِذَا دَبْرٌ مِنَ النَّحْلِ فِي جَوْفِ الأَسَدِ مَعَ عَسَل. فَاشْتَارَ مِنْهُ عَلَى كَفَّيْهِ، وَكَانَ يَمْشِي وَيَأْكُلُ، وَذَهَبَ إِلَى أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَأَعْطَاهُمَا فَأَكَلاَ، وَلَمْ يُخْبِرْهُمَا أَنَّهُ مِنْ جَوْفِ الأَسَدِ اشْتَارَ الْعَسَلَ.» (قض 14: 8-9).
[6]- فوهات هي قوة كهربائية كونية أساسية، ذات قطبية مزدوجة، دائمة الحضور، وتعمل كقوة دافعة وحيوية في الكون.
[7]- تُؤمن الفلسفة الروحية بأن البشرية تتجلى في سبعة أنماط جوهرية، أو طبائع أساسية، تُعرف بـ «الأشعة». ويُقال إن لكل شعاع سيدًا عارفًا، يُشرف على مسيرة تطور المنتمين إليه، يرعاهم ويُعينهم.
[8]- ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ یَكُونُ لِی غُلَـٰمࣱ وَقَدۡ بَلَغَنِیَ ٱلۡكِبَرُ وَٱمۡرَأَتِی عَاقِرࣱۖ قَالَ كَذَ ٰلِكَ ٱللَّهُ یَفۡعَلُ مَا یَشَاۤءُ﴾ [آل عمران ٤٠] ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ یَكُونُ لِی غُلَـٰمࣱ وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِی عَاقِرࣰا وَقَدۡ بَلَغۡتُ مِنَ ٱلۡكِبَرِ عِتِیࣰّا﴾ [مريم ٨]. المعرب
[9]- "ثُمَّ قَالَ لَهُ إِيلِيَّا: «يَا أَلِيشَعُ، امْكُثْ هُنَا لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَرْسَلَنِي إِلَى أَرِيحَا». فَقَالَ: «حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ، وَحَيَّةٌ هِيَ نَفْسُكَ، إِنِّي لاَ أَتْرُكُكَ». وَأَتَيَا إِلَى أَرِيحَا. فَتَقَدَّمَ بَنُو الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ فِي أَرِيحَا إِلَى أَلِيشَعَ وَقَالُوا لَهُ: «أَتَعْلَمُ أَنَّهُ الْيَوْمَ يَأْخُذُ الرَّبُّ سَيِّدَكَ مِنْ عَلَى رَأْسِكَ؟» فَقَالَ: «نَعَمْ، إِنِّي أَعْلَمُ فَاصْمُتُوا»." (2 مل 2: 4-5). "وَرَجَعَ أَلِيشَعُ إِلَى الْجِلْجَالِ. وَكَانَ جُوعٌ فِي الأَرْضِ وَكَانَ بَنُو الأَنْبِيَاءِ جُلُوسًا أَمَامَهُ. فَقَالَ لِغُلاَمِهِ: «ضَعِ الْقِدْرَ الْكَبِيرَةَ، وَاسْلُقْ سَلِيقَةً لِبَنِي الأَنْبِيَاءِ». وَخَرَجَ وَاحِدٌ إِلَى الْحَقْلِ لِيَلْتَقِطَ بُقُولًا، فَوَجَدَ يَقْطِينًا بَرِّيًّا، فَالْتَقَطَ مِنْهُ قُثَّاءً بَرِّيًّا مِلْءَ ثَوْبِهِ، وَأَتَى وَقَطَّعَهُ فِي قِدْرِ السَّلِيقَةِ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا." (2 مل 4: 38-39).
[10]- مبدأ السباعية هو مفهوم شائع في الفلسفات الروحية والباطنية، يشير إلى أن الوجود منظم وفق نمط سباعي متكرر يظهر في جوانب مختلفة من الكون والحياة. يُعتقد أن هناك سبع طبقات للوجود تمتد من المادي إلى الروحي، وسبعة كواكب مقدسة تعمل كقنوات للطاقة الكونية، بالإضافة إلى سبعة مستويات للإنسان تشمل الجسد المادي والأثيري والعاطفي والعقلي وغيرها. كما يتجلى المبدأ في فكرة الأشعة السبعة، التي تمثل طاقات كونية تؤثر في تطور الوعي، وكذلك في التقسيمات الزمنية مثل أيام الأسبوع والمراحل السبعة للنمو. في سياق الأنظمة الكوكبية، يعكس هذا المبدأ تنظيم الكون حيث تُقسم أنظمة الكواكب إلى سباعيات متعددة، مما يعكس انسجامًا كونيًا قائمًا على هذا النمط المتكرر.
[11]- Kathopanishad 1-3 -3 to 1-3-9, Dr. Radhakrishnan’s translation from his The Principal Upanishads.
[12]- «وَوَجَدَ فِي الْهَيْكَلِ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ بَقَرًا وَغَنَمًا وَحَمَامًا، وَالصَّيَارِفَ جُلُوسًا. فَصَنَعَ سَوْطًا مِنْ حِبَال وَطَرَدَ الْجَمِيعَ مِنَ الْهَيْكَلِ، اَلْغَنَمَ وَالْبَقَرَ، وَكَبَّ دَرَاهِمَ الصَّيَارِفِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ. وَقَالَ لِبَاعَةِ الْحَمَامِ: «ارْفَعُوا هذِهِ مِنْ ههُنَا! لاَ تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ!» فَتَذَكَّرَ تَلاَمِيذُهُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي».» (يو 2: 14-17).
[13]- مصطلح سنسكريتي يُشير إلى الدورة الكونية الكبرى التي تشمل الخلق، والحفظ، والانحلال.
تعليقات
إرسال تعليق