الفصل الثاني: اللغةُ الرمزيَّةُ أو اللسان الرمزي
بعضُ المبادئ العامة
منذ أمدٍ بعيدٍ، كان يُنظر للكتاب المقدس، وكُتب الأديان الأخرى المُقدسة، على أنَّه ينتمي إلى فئة خاصة من الأدب عزَّ نظيرها. وكان شُرَّاحُ الكتابات الدينية الشـرقية، والقبَّاليون الأوائل، وتلاميذ أمونيوس ساكوس، وغيرهم من الأفلاطونيين الجدد في الإسكندرية المعروفين باسم «التناظريين/القياسيين» (Analogeticists) وخلفائهم حتى العصـر الحديث- كل هؤلاء اعتبروا الكتب المقدسة العالمية «أُمْثُولِيَّة» أو قَصًّا تمثيليًّا (allegorical) إلى حد كبير، ولكن ليس بالكامل. ونظروا إليها على أنها مبنية من الرموز والتشبيهات (analogies) والحكايات التَّمثِيليَّة الرمزية أو الأمثال (parables). ويقال إن هذه القصص التمثيلية (allegories) الرمزية غايتها أن تحفظ، للأجيال اللاحقة، وتصون، وتكشف تارة وتُخفي أخرى، الحقائقَ الروحيَّةَ العميقةَ التي تمنحُ القُوَّة والسُّلطان.
أسباب السِّرية والتَّكتُّم
يُشار إلى هذا النهج بالكتابة باسم اللسان المقدس أو المستور (Sacred or Mystery Language)، وقد ابتدعها حُكماء العُصور القديمة واستخدموها لغايتين، وهُما: لرفع الحِجاب، أي الكشف، عن حكمة روحية عميقة، لتصل إلى مَن هُم بأمسِّ الحاجة لها؛ ولسترها عن أؤلئك الذين من المُمكن أن تُسبب لهم أذًى لعدم معرفتهم بكيفية استعمالها؛ إذ إنَّ هذه الحكمة تمنح مُتلقيها قوًى ثيورجيَّة (theurgic powers)، أي ربَّانيَّة، سيميائية، سحرية، تجعله يتصرف بقوى الكون وطاقاته أو يؤثر فيها. إنَّ الذي جعل من هذا التكتم والسـريَّة والتحفظ ضرورة لا غنًى عنها، مُلاحظة كيف يوظف الإنسان الحديث اكتشافاته العلمية بصورة سلبية! وها هي القنبلة النووية خير مثال على سوء استخدام المعرفة.
ولقد أدرك فلاسفة وعلماء الأزمنة السابقة أنَّ اكتشافاتهم تنتمي إلى هذه الفئة الخاصة من البشرية وليس الجميع، وكانوا يعلمون أن مثل هذه المعرفة إذا ما وصلت للأيدي الخطأ، وخُصوصًا الهمج الرعاع، فسوف تُشكِّلُ خطرًا حقيقيًا على المُجتمع. ولذلك، فقد أخذوا على عاتقهم بناءَ لِسانٍ مُشفَّرٍ وسِرَّانيٍّ كُتِبَت به الكُتب المقدسة والأساطير المُلهِمَة والمُؤثرة في العالم([1]).
إنَّ لهذه النصوص السـردية، التي بُنيت بشكل عامٍّ على أحداث تاريخية، معانٍ خفية أو سرية، وفي بعض الحالات، قد تصل إلى سبعة دِلالات. وإنَّ كل قصة، وإن بدت أنها مبنية على حقيقة ما، هي بالأساس استعارة تاريخية، تحمل معاني داخلية وتحتوي على طبقات متعددة من المعرفة المخفية أو السرية.
التعليم بالأمثال
ابتدع لنا السيد المسيح طريقة الحكايات التَّمثِيليَّة الرمزية أو الأمثال (parables) بالتعليم. فها هو يتكلَّم بالحقائق الروحية بكل أريحيَّة وانفتاحٍ وبلا حُجُبٍ مع تلاميذه ومُريديه (disciples)، ولكنَّه لجأ للأمثال المُرمَّزة عندما أخذ يُخاطب العامة. وقد قال صراحة لطُلَّابه، في معرض لفت انتباههم لعدم إفشاء الحكمة، هذه الأمثال: «لا تُعطوا المُقدسات للكلاب، ولا تطرحُوا جواهِرَكم أمام الخنازير؛ لكي لا تدوسَهَا بأرجُلها وتنقلب عليكم فتُمزقكم.» (إنجيل متَّى 7:6.) وقال في إنجيل مرقس 4:11، تأكيدًا لمعنى تكليم العامة بالأمثال المُرمَّزة، هذا التفسير المُوجه لتلاميذه أيضًا: «قد أُعطيَ لكم أن تعرفوا سِرَّ ملكوت الله. أمَّا الذين من خارج، فكُلُّ شيءٍ يُقدَّمُ لهم بالأمثال...».
إنَّ أحد أسباب هذا التمييز، والتي لا تخفى على اللبيب، هي أنَّ المعرفة تمنح قوَّةً وسُّلطانًا لحاملها. ولمَّا كان الوضع كذلك، فإنَّ كُتَّابَ اللسان السـري قد وجدوا أنفسهم في وضع مُشابهٍ تمامًا لوضع ثلة من العلماء المُعاصرين إبَّان اكتشافهم، للمرة الأولى، الطاقة الذَّريَّة ووسائل التصرف بها. وُهنا، من سابع المُستحيلات أن يتجرَّأ هؤلاء العلماء على إفشاء هذه المعرفة الخطيرة أمام العالم فورًا.
وبالمثل، فقد كان الحكماء في الزمن القديم يشعرون بمسؤولية هائلة بإزاء امتلاكهم للمعرفة التي تعلموها من دراستهم لبنية المادة وتكوين الكون والإنسان، واكتشاف القوى المُحتجزة والكامنة فيهم. فكان لِزامًا عليهم أن يمنعوا سوء استخدام هذه المعرفة، وفي الوقت نفسه أن يضمنوا حفظها وصيانتها من أجل صالح الإنسانية في المستقبل.
وبالحقيقة، فإن الحاجة إلى السـرية ستتضاعف أضعافًا في حالة المعرفة بالعوالم ما وراء الفيزيائية والروحية: فهم هيكلها، وقواها الطبيعية، والكائنات الذكية أو القوى الذكية أو العقول الواعية المرتبطة بها؛ وتوافق كل ذلك وتناسبه مع المركبات والقوى الماوراء فيزيائية للإنسان. وفي الأيدي الخطأ، تصبح هذه القوى التي توفرها هذه المعرفة أكثر خطورة بكثير من الطاقة الذرية المادية. إذ إنَّ نواتج الانشطار والاندماج النووي تُدمِّر الأشياء المادية فقط؛ أمَّا إذا أُسيء استخدام المعرفة الباطنية والقوى المرتبطة بها، فيُمكنها تدمير النزاهة، أي تقويض القيم والمبادئ الأخلاقية للشخص، وتقسي وتشوه الطبيعة، أي جعل الطبيعة البشرية أكثر قسوة وانحرافًا عن فطرتها الأصلية، وتبطئ التطور، أي تؤثر بشكل سلبي على التقدم الروحي أو الشخصي للأشخاص الذين يرتكبون هذه الانتهاكات وكذلك على أولئك الذين يقعون تحت تأثيرهم السلبي. وبسببٍ من ذلك، فإنَّ الرائين أو العارفين القُدماء لم يبتدعوا رُموزًا جبريَّة ولا صيغًا كيميائيَّة كالتي يستعملها علماء العلم الحديث، بل جُل ما فعلوه أن وضعوا لسانًا سرانيًّا بعض كلماته معناها طبيعي ومكشوف، والبعض الآخر وظيفتها أن تُشفِّر وتُرمِّز أو تُطلسم وتستر الحقائق الروحية والباطنية العرفانية.
وبهذا قد أدرك الكتّاب القدامى أن فقط من يحوز على مفاتيح التأويل والترجمة الحقة، سيكون قادرًا على كشف تلك الحقائق وتبيُّنِهَا، والتي يُظهرها اللسان المقدس تارة ويُخفيه أخرى. وإنَّ بقاء الـسر مصونًا مرهون بحقيقة تطوير المُريد لحدسه وبداهته، وتحليه بالحس الأخلاقي المسؤول، وهذا كفيل بأن يجعله يتوفق في استعمال تلك المفاتيح بنجاح، بمعنى يجب على الشخص أن يكون قد طور القدرة على الفهم العميق (القدرة الحدسية) وأن يكون ممتلئًا بحس قوي من المسؤولية الأخلاقية وبهذا فقط يمكنه أن يمتلك مفاتيح التأويل، وهذا يعني أيضًا أن الوصول إلى الحقائق المخفية في النصوص المقدسة ليس متاحًا للجميع، بل يتطلب مستوى عاليًا من الفهم الداخلي والالتزام الأخلاقي.
الخاتمة
وختامًا، إنَّ ما قدمناه في هذا الفصل، يشـرح، بإيجاز وبشكل جُزئي، أصل وبعض أهداف وغايات اللسان المقدس الذي قد كُتبت به الكُتب المُقدسة لأسلافنا وميثولوجياتم.
[1]- ننوه إلى أنَّ النصوص من هذا النوع كلها بين أيدينا ممثلة بالكتب المقدسة والتراثات النبوية والروحية، ولكن المُشكلة أننا نرى الظاهر من معانيها فحسب، وبذلك نحن والعميان سواء، وتظهر لنا هذه المعاني فقط عندما نبدأ رحلتنا الروحية، رحلة الرجوع إلى الفطرة والملة الحنيفية مرورًا بجميع المقامات الروحية النبوية والرسولية وغيرها المذكورة في هذه الكتب المقدسة. المُعرب
تعليقات
إرسال تعليق