الفصل السادس: الحِكمَةُ الأبَدِيَّة
مصادر المعرفة القديمة
من أين أتت المعرفة التي تُكشف تارة وتستتر أخرى، في نفس الآن، بحجاب القَصَصِ التمثيلي (allegory) والرمز (symbol) في الكتب المقدسة في العالم؟ عبر العصور، كان هناك رجال ونساء طموحون سعوا لحل أسرار الحياة والموت. وكان هناك أيضاً رجال ونساء مستنيرون، بعد أن حلوا تلك الأسرار، قدموا حلولهم لتلاميذ مختارين بعناية([1]). هؤلاء التلاميذ بدورهم أوصلوا جزءاً من هذه المعرفة إلى العالم([2]). تُسمى هذه المعرفة في الشرق باسم «براهما فيديا» (Brahma Vidya)، أي حكمة براهما، الرب الأعلى. أما الفلاسفة اليونانيون من المدارس الأفلاطونية الحديثة، وخاصة آمونيوس ساكوس وتلاميذه، فقد أشاروا إلى هذه المعرفة باسم «ثيوصوفيا» (Theosophia)، الحكمة الإلهية. عُرفت أيضًا باسم «الغنوص»، بمعنى المعرفة الروحية المُدركة مباشرة، وأولئك الذين دخلوا في تجربة مباشرة لها عُرفوا باسم الغنوصيين أو العارفين. وفي اللغة الإنجليزية، تُسمى بعدة أسماء منها الثيوصوفية (Theosophy)، الحكمة القديمة، الحكمة الأبدِيًّة، والحكمة الدينية أو دين الحِكمة في كوكب الأرض.
نكرر هنا الإشارة إلى أن بعض التعاليم المانحة للقوة كانت تعتبر خطرة، ولذلك كانت إما تحجب أو تخفى. لقد أضحت بعض تلك التعاليم، التي كانت في طي الكتمان، من مبادئ المعرفة العامة، بفضل ما أحرزته الإنسانية من تقدم. بيد أن التجربة المباشرة لها تظل سرًا باطنيًا، لا يمكن إدراكه إلا بالمعايشة والتجربة المُباشرة، ولا سبيل لنقله إلى الآخرين بتمامه. وقد أُودِعَت السبيل الموصلة إلى هذا الإدراك في ثنايا الكتب السماوية وأساطير البشر، حيث تتجلى تارة وتتوارى أخرى وكل ذلك يجري في نفس الآن.
لقد سلك هذه «السبيل الضيقة» ثلةٌ قليلةٌ من البشر ذوي الوعي الروحي العميق، وذلك منذ بواكير استيطان الإنسان للأرض. وتجري إرشادات هذا المسلك الروحي، وأوصاف تجارب النفس المُجَرِّبة (soul)([3])، ومحكات المبتدئ ومصاعبه وانتصاراته، كخيط فضي يخترق نسيج الكتب السماوية وأساطير الأقوام الغابرة، الذي حاكه كتّابٌ ملهمون.
ففي تأويلٍ أوَّلِيٍّ لتلك النصوص، تُقرأُ الشخصيات العظيمة من أبطالٍ وأنبياءٍ ورسلٍ ومُخلِّصين، وأضدادهم، على أنَّهم تمثيل وتجسيد للسائرين على الدرب القديم في مراحله المختلفة. وقد كانت قصص حياة شخصياتٍ مثل يعقوب وأسباطه الاثني عشر، وأسباط بني إسرائيل الاثني عشر، وحواريي المسيح الاثني عشر، وهرقل وأعماله الاثني عشر([4])، ذات فائدة جمة لمن استطاعوا اختراق حجاب القصص التمثيلي الذي يُخفي أسرار التلمذة والمُسَارَرَة.
تتجلّى تعاليم الحكمة السرمدية في صميم الديانات العالمية الكبرى، كجملة من العقائد المحورية المشتركة بينها قاطبةً. والحكمة القديمة هي حقًا أقدم الأديان، إذ احتضنت منذ بدايتها أرفع وأنبل التصورات التي عرفها العقل البشري عن نفس الإنسان، ومعرفة كنه الألوهية الكامنة فيه. والثيوصوفيا هي حكمة الكائنات الربانية، وتحمل في طياتها فكرة أن الحكمة الإلهية قد أدركها الإنسان، وأنه قادر على إدراكها، كغاية طبيعية ومشروعة لتطوره.
تتجلى هذه العالمية حين تُجرى عملية فحص دقيقة للكتب المقدسة التي في حوزة مختلف الأديان، والأقوال الأصلية لأعظم معلمي العالم، إذ سيكشف ذلك عن توافقٍ فريدٍ بينها جميعًا. ومن البديهي أن يتبادر إلى الذهن أن هذا التوافق يتجاوز كونه مجرد مصادفة، فضلاً عن حقيقة أنه لا يمكن أن تكون الحقيقة إلا واحدة. إن التعليم الأسمى والأمثل لا بد أن يقارب هذا النمط، فيُظهر بالتالي قدرًا وافرًا من التماثل، عندما نُجرِّده من كل «اختلافات عارضة» في أساليب عرضه. وتُرسِّخ الحكمة القديمة دعائم هذا التوازي، بالكشف عن وجود تسلسل هرمي من المُسَارَرِين والمؤدبين، الذين يصونون عبر الأزمنة التعاليم الباطنية، التي لولاهم لكانت قد اندثرت تمامًا.
حُراس النور المقدس
هناك عدة اعتبارات تشير إلى وجود تسلسل هرمي كهذا كمصدر أصيل استقى منه جميع المعلمين العظام معرفتهم. النظرية القائلة بوجود حقيقة موحدة، أو معرفة باطنية أو ثيوصوفية، في متناول كل فرد من الجنس البشري، وأن بلوغها هو الهدف الطبيعي لتطوره، تحمل معها فكرة أن هذه المعرفة السرية نسبياً يجب أن يكون لها ممثلون أحياء.
«إن العقيدة السرية (أو الثيوصوفية) هي عصارة حكمة الدهور، وعلم الكونيات الذي تنطوي عليه هو الأضخم والأكثر تفصيلاً بين جميع المنظومات... فالحقائق التي استغرقت أجيالًا عديدة من الرَّائين المُسَارَرِينَ والأنبياء في جمعها وتدوينها وتفسيرها، قد تم تدوينها جميعًا في صفحات معدودة من الصور الرمزية المنقوشة (glyphs) والعلامات الهندسية. لقد نفذت نظرات أولئك الرَّائين الثاقبة إلى صميم المادة، واستشفّوا روح الأشياء الكامنة في عمقها، في حين لا يرى المراقب العادي، مهما بلغ علمه، إلا قشور الشكل وظاهر الصورة... إنَّ العقيدة السرية سجلٌّ غير منقطع يمتد عبر آلاف الأجيال من العارفين، حيث خضعت تجاربهم لاختبارات دقيقة للتحقق من صحة التعاليم التي نُقلت شفهيًا من حضارةٍ مبكرة إلى أخرى، تلك التعاليم التي جاءت من كائنات عليا متسامية كانت ترعى الإنسانية في طفولتها... قاموا بذلك من خلال الفحص والاختبار والتحقق من صدق التقاليد القديمة في كل مجال من مجالات الطبيعة، مستندين إلى الرؤى المستقلة لكبار العارفين—أولئك الذين بلغوا ذروة التطور والكمال في بنيتهم الجسدية والعقلية والنفسية والروحية إلى أقصى حدٍّ ممكن. ولم تكن رؤية أي خبير تُقبل إلا بعد تدقيقها وتأكيدها من خلال رؤى خبراء آخرين، تم الحصول عليها بشكل مستقل، وعبر قرون من الخبرة([5]).»
مخاطر تطبيق المعرفة بصورة خاطئة
قبل عرض بعض المبادئ الرئيسة للحكمة الأبدية، يمكن توسيع موضوع هذا العمل بشكل مفيد. هذا الموضوع، كما ذُكر سابقاً، هو أن بعض هذه التعاليم، إذا فُهِمت على وجهها، يمكن أن تثبت أنها مصادر لقوة سحرية. وللحفاظ على هذه المعرفة المانحة للقوة ونقلها، أبدع الذين اكتشفوها لسانًا له خصوصياته المميزة. ومن خصوصياته أنَّه يخترع أحداثًا تاريخية موضوعة (pseudo-history)، وقِصَصًا تمثيلية، ورمُوزًا؛ ليُحَمِّلهَا هذه المعرفة السرية، ولينقلها للآجيال اللاحقة، وليكشفها لمن قد تم استعداده، ويسترها عمَّن لم يحصل له بعد أي استعداد. وإن عدم وعي الإنسان بالتعاليم الروحية والباطنية لا يرجع فقط إلى إخفائها الوقائي داخل الكتاب المقدس والأساطير، بل أيضاً إلى عدم اهتمامه بها.
ليس من العجب أن تكون البشرية في هذه المرحلة من تطورها قد صبَّت جل اهتمامها بالعالم المادي وملذاته ومكافآته على حساب السعي إلى التنوير الداخلي، الذي، تجدر الإشارة إليه، يتطلب قدراً من التضحية. إذ نراه وقد سلبت لُبَّه الرياضات الدموية، والسباقات، والمقامرة، والانغماس في الكحول والجنس، وتحقيق المال والسلطة، وبذلك فلا يبقى في باله إلّا مساحة ضئيلة للثقافة العليا والتطلع إلى التطور الروحي.
عندما يوجّه الإنسان نفسه بجدية بعيدًا عن الأمور الدنيوية ويسعى صادقًا وراء المعرفة، فإن دروبها تنفتح له دومًا. غير أن الإدراك التام لا يُوهب اعتباطًا، بل يستلزم إعدادًا عميقًا، تمامًا كما لا تُستلّ الكهرباء من الهواء وتُستخدم فورًا دون تحضير. كذلك هو التنوير الروحي، لا يُنال إلا بتهذيب النفس وترويضها، حتى يُكشف الحجاب عن أسراره، وتصبح حكمته قوة مروّضة في يد العارف. وإن كانت بعض جوانب المعارف الباطنية تظل محفوظة فنظرًا لما تنطوي عليه من قوة هائلة قد يُساء استخدامها، وإن أكثر الناس يغفلون عنها لا لأنها قد تم حجبها عنهم، بل لأنهم لم يطرقوا بابها بجد، ولم يبرهنوا على استعدادهم لاجتياز دروبها الوعرة، حيث لا ينال الأسرار إلا من صقل ذاته حتى غدت جديرة بالحكمة.
ولفهم أعمق لأسباب الممارسة العالمية المتمثلة في حجب أفكار معينة بأسلوب القصص التمثيلي والرمز، فمن الضروري معرفة كل من الطبيعة الحقيقية للإنسان وقدراته. ففيما يتعلق بالطبيعة البشرية، نجد أن تعريف الرسول بولس يتوافق مع أقدم التعاليم، إذ يقول: «أما تعلمون أنكم هيكل الله، وأن روح الله تسكن فيكم؟» (1 كو 3: 16) ، و«...أنتم هيكل الله الحي...»(2 كو 6: 16). الأُلوهيَّة الحية، الروح الخالصة في الإنسان، ليست فردية منفصلة بل شعاع من محيط النور اللانهائي الواحد، الألوهية العالمية. تضع هذه المعرفة قوة عظيمة في متناول صاحبها، فحينما يبدأ الشعاع الإلهي الساكن في أعماق الإنسان في التأثير الفاعل على فرديته الجسدية، فإنه يمنحه قوى إلهيَّة([6]). ويقول إيمرسون (Emerson) بهذا الصدد بأنَّ «أسمى وحي هو أن الله (God) في كل إنسان.» هذا، باختصار، هو الإنسان - روح خالصة مُجسدة في جسم مادي وتعمل من خلال عقل بشري. «الإنسان الأول من الأرض، ترابي؛ الإنسان الثاني هو الرب من السماء... هوذا أُريكم سراً...»([7]).
تتسع آفاق قدرات الإنسان لتشمل القدرة على تجلي الجانب الروحي النقي من طبيعته في كيانه الظاهر، وعندئذٍ يُمنح قوى تتجاوز حدود القوى، تشمل إرادة تكاد تكون لا تُقهر، وحواس تفوق الإدراك المعتاد، وقدرات جسدية تتخطى ما هو طبيعي. وإذا وُظّفت هذه القوى في خدمة الآخرين، فقد تتحول إلى كنز من النفع والخير. ولكن إذا استُغلت هذه القوى بطرق خاطئة لتحقيق مصالح فردية أو قومية على حساب الآخرين، فإنها تتحول إلى مصدر شديد الضرر، يهدد الجميع. ومع هذه القوى المعززة، هناك إمكانات رائعة وخطر جسيم في آنٍ واحد. أما الإمكانية، فهي أن يسخر الإنسان هذه القوى لنيل معرفة أعمق، يمكن أن تكون في خدمة البشرية جميعًا، تبني وتضيء دروب الآخرين. وأما الخطر، فهو أن يظل الإنسان مُسرفًا في أنانيته ومهووسًا بشغف الهيمنة، فتغريه قواه المتعاظمة لاستخدامها في أغراض مدمرة، تقود إلى الخراب بدلاً من البناء. ولكي يقلل الخطر إلى أدنى حد، وللحفاظ على المعرفة التي تهب القوة وجعلها في متناول البشرية، جرى صياغتها وتقديمها بلسان قديم للغاية، لسان يستخدم أسلوب القصص التمثيلي (allegory) والحِكَاية المثَلِيَّة أو المَثَل (parable) والتصوير الذهني (imagery) والرمز (symbol)، تلك التي تنطق بما لا يُقال وتكشف عمَّا أخفي في حُجُبها.
تعاليم حول الإنسان
إذن، ما الذي تم اكتشافه وتدريسه مباشرة للتلاميذ وفي أمثال لغير التلاميذ؟ ما هو «سر ملكوت الله»([8])، الذي سيُعرف في النهاية مباشرة من قبل الباحث الصادق؟ لا يمكن تقديم الإجابة هنا إلا في مجرد خطوط عريضة؛ مُلخص، إذا جاز التعبير، لبعض الأفكار المركزية الموجودة في الديانات والفلسفات والأساطير العالمية، مهما كانت مستورة بعمق. الثيوصوفيا شاملة، وبعض أفكارها الأكثر عالمية تُعرض لاحقاً في هذا العمل، وبشكل خاص في الفصل الخاص بمثل الابن الضال. المعرفة الكاملة للإنسان نفسه، تشريحه الكامل، موجودة داخل التعاليم القديمة، جنباً إلى جنب مع فلسفة عملية للغاية للحياة تتفق مع طريقة التفكير العلمي - والأهم من ذلك كله - وصف للوسائل التي يمكن أن تصبح بها تلك المعرفة تجربة شخصية مباشرة.
لقد علّم حكماء (sages) العصور الماضية، ولا يزال خلفاؤهم يُعلّمون، أن الإنسان مُكوّن من سبعة أجزاء (sevenfold)، فهو كائن روحي خالد ثلاثي مُتجسد في أربعة أجساد مادية فانية. الأجزاء الثلاثة من طبيعة الإنسان الروحية هي تمثيلات أو انعكاسات فيه لإرادة وحكمة وذكاء الألوهية العليا. حين تتشح هذه الجوانب الثلاثة الخاصة بالألوهية الكامنة في الإنسان بثوبٍ من النور، يُشار إليها على التوالي باسم فرديته (individuality)، وذاته الباطنية أو نفسه الروحية، وفي لسان العارفين، تُدعى الأنا الكامنة في الجسد السببي (Causal Body)، حيث تتجلى أعمق أسراره. إن التعليم الجوهري بشأن الإله والإنسان يكشف عن طبيعة ثلاثية في كليهما، حيث يعيد الإله الثالوثي إنتاج جوهره في صورة الذات أو النفس الروحية الثلاثية لكل إنسان، في تجلٍّ يربط بين السماوي والبشري.
يُعبّر الرسول بولس عن هذه الحقيقة بوضوحٍ أكثر من أي كاتبٍ آخر في الكتاب المقدس، وذلك من خلال تصريحاته، مثل: «...فَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ هَيْكَلُ اللهِ الْحَيِّ، كَمَا قَالَ اللهُ: «إِنِّي سَأَسْكُنُ فِيهِمْ وَأَسِيرُ بَيْنَهُمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلهًا، وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا...» (2 كو 6: 16)، و«...أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ الْقُدُسِ الَّذِي فِيكُمُ، الَّذِي لَكُمْ مِنَ اللهِ، وَأَنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ؟ لأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ. فَمَجِّدُوا اللهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ الَّتِي هِيِ للهِ.» (1 كو 6: 19-20) وأقولها صراحة، وبصياغة مباشرة، إن روح الإنسان وروح الله هما في جوهرهما روح واحدة([9]).
حينما تتحول هذه المعرفة إلى تجربة معاشة، فإنها تفتح بابًا لقوةٍ تكاد لا تعرف حدودًا، إذ يصبح الإنسان قادرًا على التواصل مع القوى والذكاءات الكونية، واستدعائها وتسخيرها، سواء عبر الفكر أو الجسد، وفق مشيئته وإرادته. وكما أُشير من قبل، فإن هذه القوة العظيمة، لكونها قابلةً لسوء الاستخدام، دفعت الحكماء القدماء إلى إخفاء جوهرها الحقيقي وراء ستارٍ من الرموز والقصص التمثيلي. ومن أروع الأمثلة على ذلك قصة إسكات العاصفة على يد المسيح يسوع، الذي كان غافلًا حتى لحظة أيقظه تلامذته، مجسّدًا بذلك روح الله الكامنة وحضوره المتجذر في أعماق الإنسان.
في بُعده الروحي العميق، يُرى الإنسان—ذلك الكون الصغير—كمرآة تعكس عظمة الكون الأكبر، الإله المتجلّي. فذاك الروح الأسمى، الذي هو «الإله الأزلي، الخالد، الجالس في سكينةٍ أبدية فوق أمواج الوجود المتلاطمة»، ليس سوى الروح ذاته الذي يسري في كيان الإنسان، بلا انقسام ولا انفصال. في الهندوسية، بسبب أهميتها القصوى، يُشار إلى هذه الحقيقة على أنها السر السيادي، أو السر الملكي. ليس الإله منفصلًا عن الإنسان، ولا غريبًا عنه، بل هما واحدٌ في الجوهر، متّحدان في الأزلية التي لا تعرف انقسامًا. إنها الحقيقة الأسمى، المودعة في أعماق مدارس الأسرار، والمكنونة في لُبِّ الحكمة الباطنية لكل الأديان. في تعاليم الهندوسية، يُوصف الروح الإلهي في الإنسان بأنه «الحاكم الباطني الأزلي، الساكن في أعماق جميع الكائنات»، و«الإله الواحد المستتر في الخليقة، والجوهر السرمدي لكل موجود». وفي المسيحية، يتجلّى هذا السرّ في كلمات مثل «الْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ الْمَجْدِ»(كو 1: 27)، و«لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ» (في 2: 13) ، ذاك الإله الحي الذي جعل من الجسد هيكلًا لحضوره المقدّس.
قصص آدم وحواء، والأفعى المُغوية، وشجرة معرفة الخير والشر في جنة عدن؛ وإبراهيم المستعد للتضحية بابنه إسحاق على جبل؛ وإيليا والصوت الخفيض الهادئ؛ وموسى على جبل سيناء يتلقى الوصايا العشر؛ ويشوع الذي جعل الشمس والقمر يتوقفان؛ ويونان في بطن الحوت؛ وميلاد الرب المسيح في مذود؛ ولعنه لشجرة التين؛ وتهدئته للعاصفة؛ وشفاءاته وإقامته للناس من الموت؛ وقيامته وصعوده - كل هذه القصص تكشف بأسلوب القَصَصِ التمثيليِّ (allegory) سِرَّ القوة (secret of power). كما يتجلى هذا الجانب من الحكمة العالمية في قصص غير توراتية، أي أسطورية، مثل تلك المتعلقة بأعمال هرقل؛ ورحلة أرغونوتس (Argonauts) للحصول على الصوف الذهبي المحروس بالأفعى في كولخيس (Colchis)؛ وأوزوريس المقتول وأوزوريس القائم؛ وولادة الرب شري كرشنا (Krishna) في السجن وانتصاره على العديد من الكائنات الشريرة، بما في ذلك الأفعى السوداء كاليا (Kaliya).
الفرق بين لوغوس (Logos) الكون والألوهية في الإنسان (Deity in man) لا يكمن في موقعهما ولا في طبيعتهما الأساسية، بل فقط في درجة تجلي قواهما الثلاثية. في الذات الإلهية، تتجلّى هذه الحقائق في أبهى كمالها، أما في الإنسان، فإنها تشرق رويدًا رويدًا، بازديادٍ مستمر، كلما مضى قدمًا في رحلته التطورية. وعند بلوغ الغاية، ستُشرق القوى الإلهية الكامنة في الذات الروحية لكل إنسان بتمام نورها، كما تتجلّى اليوم في حضرة المطلق. في هذا التعليم، يتجلّى مصير الإنسان: إنه إلهٌ في طور التحقق، وإلهٌ رحّالٌ في رحلة الوجود. أكد كل من السيد المسيح والرسول بولس هذه الحقيقة بكلمات مثل: «فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ»(مت 5: 48)، و«إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ الإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ابْنِ اللهِ([10]). إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ.» (أف 4: 13)، كما تكشف الحكمة الأزلية، فإن الذات الروحية الخالدة والمثلثة الأبعاد للإنسان، المعروفة أحيانًا بـ الثالوث الأعلى، هي جوهر كيانه. وفيها يكمن المقصد السامي لوجوده، ذلك السرّ الذي ينسج خيوط رحلته الأبدية.
إن اللباس المادي (المركبات، الأجساد) الذي يتشح به الإنسان في مستوياته الأربعة الأكثر كثافة - المعروفة أحيانًا بـ الرباعية الدنيا (lower quaternary) - ينسدل طبقةً بعد أخرى، وفقًا لتدرّج الكثافة، على النحو التالي: الجسد العقلي (mental)، والجسد العاطفي (emotional)، والجسد الأثيري (etheric)، والجسد المادي (physical).
الجسد العقلي أو اللطيفة العقلية (The mental body)، وهو الأكثر لطافة بين الأربعة، ويتكون من مادة ذهنية (mental matter) أو عناصر عقلية من العناصر الأولية التي يتكون منها الوعي (mind-stuff) وهو وسيلته (مركبة) التي بها يفكر تفكيرًا تحليليًّا ومنطقيًّا.
والجسد العاطفي أو اللطيفة العاطفية (The emotional body)، هو مركبة المشاعر والرغبات المتصلة بالكائن الواعي، يتكون من مادة أكثر كثافة من العناصر العقلية ولكنها أدق من الأثير المادي.
والجسد الحيوي أو الأثيري (The vital or etheric body) يتكوَّنُ من جوهرٍ أثيري أنقى وألطف من العنصر الغازي، ويؤدّي دور الحارس على نبع القوى الحيوية للإنسان، كما يُمثّل الجسر الرفيع بين العالمين: الماورائي والمادي.
والجسد المادي أو المركبة الجسمانية (The corporeal body) يتكوَّن من مواد صلبة وسائلة وغازية، وأداته الأشد كثافةً للتفاعل مع العالم المحسوس، كما يُعد أكثف وأثقل أدواته في الإدراك والفعل.
تشغل أجساد الإنسان السبعة، التي تشمل الثالوث الأعلى والرباعي الأدنى، كلها نفس المساحة، حيث تنساب الأجساد الألطف خلال الأكثف رقّةً وتغلغلًا، متوسّعةً في هالةٍ شفّافة تتجاوز حدود الجسد المادي.
إن الطبيعة السباعية (sevenfold nature) للإنسان هي السرّ والمفتاح الذي يفتح مغاليق القوى الكامنة في داخله وفي اتساع الكون من حوله، فكلاهما يتناغمان في بنية سباعية مقدّسة. إن أجساد الإنسان السبعة ليست كيانات منفصلة، بل هي أوتارٌ ممتدةٌ في سمفونية الوجود، تهتزّ في توافق عميق مع قوى وذكاءات تعيش في الطبقات السبعة للكون. وكما ترسم الكواكب مساراتها في الأفلاك، وتكشف الأبراج أسرارها الاثني عشر، يمكن للإنسان، إذا امتلك مفتاح هذا التكوين السباعي، أن يستدعي هذه القوى ويوجّهها نحو البناء أو الهدم. ولهذا، فإن هذه المعرفة المانحة للقوة لم تُبسط علنًا، بل أُخفيت في غموض الأسطورة ورموز النصوص المقدسة، حيث تجلّت المبادئ السبعة للإنسان في شخصياتٍ رمزية، تحيا على مسرح الوجود، وتكشف شيئًا فشيئًا عن جوهرها، كما سيتجلى لاحقًا في هذا العمل وما يليه من صفحات.
افتقاد المعرفة الروحية واستعادتها
عندما يقتصر وعي الإنسان على الجانب الفاني الرباعي لذاته، فإنه يكون مؤقتاً فاقداً للوعي بكل من طبيعته الإلهية ووحدته مع الله (unity with God)([11]). عندما يقتصر على وعي الدماغ، يمكن القول بأنه يعاني من «فقدان ذاكرة» روحي. يمكن التغلب على هذا النسيان من خلال إثارة نشاط قوة كهرو-حيوية معينة موجودة في جسم الإنسان المادي وتوجيهها إلى الدماغ.
هذه القوة الهائلة نشطة جزئياً بالفعل، كونها مصدر طاقة الأعصاب والدافع والقوة الإنجابية. حين تُبعث هذه القوة الكامنة من سباتها، وتُصفّى من شوائبها، وتنساب نحو القلب والعقل، فإنها تُضرم شرارةً خفيّة، تُسرّع إيقاع الذبذبات في خلايا الدماغ وأعضائه، حتى كأنها تُحمَّل بطاقةٍ كهربائيةٍ تُحييها من جديد، فتشتعل ببريق الإدراك المتسامي. بعد ذلك، يصبح الإنسان الذي استرد حساسيته بهذه الطريقة على دراية بأنه كائن روحي يتمتع بقوى إلهية. لأن هذه الطاقة تسير عبر مسارات متموجة في صعودها من القاعدة إلى الدماغ على طول الحبل الشوكي، يُطلق عليها أحيانًا اسم «نار الأفعى»، كأنها لهبٌ حيّ يتصاعد في خفاء، متسللًا عبر الأعصاب، ويشعل كل شيء في طريقه. ولعِظَمِ شأن هذه الطاقة الذي يفوق الوصف، فقد بادرت الكتب المقدسة وغيرها لحجبها خلف حجابٍ من الرموز، كالثعابين والتنانين وحيات الهيدرا، وسواها من دواب الأرض المخيفة. ولم تكن تلك الرموز إلَّا ستارً واقيًا، يحجب عن الأعين غير الجديرة بهذا السرّ العظيم، ويصون قدسيته من عبث العابثين. وللسبب نفسه، فإن معرفة طريقة إيقاظها قبل الأوان محجوبة أيضاً بشكل وقائي في القصص الرمزية المتعلقة بتغلب المنقذين والأبطال على الأفاعي، وذلك لتجنب استخدامها قبل وقتها المناسب أو بطريقة غير حكيمة.
مع تقدم تطور الإنسان، تستيقظ نار الأفعى بشكل طبيعي، مما يساعده على استعادة المعرفة المفقودة عن ألوهيته ووحدته مع الله. هذا هو الهدف النهائي لجميع المساعي الروحية. إنه بشكل خاص هدف كل من يسعى إلى طريق التنوير الصوفي. وصف السيد المسيح هذه التجربة بكلماته: «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ»(يو 10: 30)، و«أَنِّي أَنَا فِي أَبِي، وَأَنْتُمْ فِيَّ، وَأَنَا فِيكُمْ.» (يو 14: 20)، يقول ألكسندر بوب: «كلٌّ ليس إلا جزءًا من كُلٍّ مهيبٍ عظيم.» وكتب شاعر أمريكي مؤخراً قائلًا: «هي نار الوحدة المتقدة، تشدُّ نسيج الوجود في رابطٍ لا ينفصم([12]).» إن التوحد مع الله، والانصهار في جوهر الحياة جمعاء عبر نوره، هو ذروة الحقيقة وسرها الأعظم، وإن بلوغ هذا الإدراك بكليته واستدامته هو أرقى معارج الروح وأسمى مقاصد الإنسان.
في أحد الكتب المقدسة الهندوسية، بهاغافاد غيتا (أغنية الرب)، يقول الرب فيشنو باعتباره الجانب الثاني من الثالوث الهندوسي الترينتي: «من يراني في كل شيء ويرى كل شيء فيَّ، لن أخسره أبداً، ولن يخسرني.([13])»
وفي قصيدة في جواز السفر، كتبت أنجيلا مورغان تقول:
«نادِ بصوتك عند أبواب السموات،
فلابد أن يستجيب الله، مهما طال الانتظار.
وما جوازك لعبورها؟ يكفي أنك تحمل في جوهرك
صورته المنقوشة على صفحة الوجود.»
إن خلاص الإنسان الحق، بعد هبوطه الأول، يكمن في رحلته الصاعدة نحو اليقين المطلق بوحدته مع الله، حيث يغدو الوعي جسرًا يصل الروح بمصدرها الأزلي.
الغرض من وجود الإنسان
إذن، لماذا تتجسد الروح الإنسانية في جسد مادي مع ما يترتب على ذلك من ضياع ونسيان، وإن كان مؤقتاً، لمعرفة ألوهيتها ووحدتها مع الله؟ إن غاية الوجود البشري هي الارتقاء في مدارج الروح والفكر والثقافة والجسد، عبر رحلة مزدوجة: إذ تنبثق القدرات الروحية الثلاث الكامنة من مكامنها، حتى تبلغ ذروتها المشرقة، فيما تتسامى أدوات (مركبات) الإنسان المادية الأربعة لتصبح مرايا تعكس عظمة الروح في أبهى تجلياتها. ولا سبيل إلى هذا الاكتمال إلا بعبور دروب الحياة في الجسد الفاني، حيث تُصقل الذات، وتشرق الحقيقة.
تشبه الذات الروحية للإنسان بذرة، لأنها تحتوي على إمكانات النبات الأم، وهو الله. تُزرع هذه البذرة أو تُولد على الأرض، وتُخرج براعم وسيقان وأوراق، وتزهر في النهاية.
إن الكيان الإنساني المتكامل (الفردية)، الذي يتجسد في مركباته الأربع، يكتسب القوة برياح الشدائد، ويتنقى ويتصفى بأمطار الأحزان، ويزدان ويتسع بشمس السعادة والمحبة، حتى يبلغ في النهاية مرحلة الإزهار الكامل، حيث تتحقق ذروته الروحية والوجودية.
وكما تحوي البذور في جوهرها كامل قوى الأصول التي انبثقت منها، كذلك تتضمن المونادات الإنسانية منذ البداية جميع القوى الإلهية بشكل كامن. ومع تقدم التجارب الحياتية واتحادها مع الدافع الداخلي للتطور، تنمو هذه القدرات الفطرية وتصل تدريجيًا إلى أقصى درجات اكتمالها وتعبيرها عن ذاتها.
كل تجربة تحمل قيمةً في ذاتها؛ لا شيء يضيع سدى. فالحياة في جوهرها رحلة تعليمية مستمرة، حيث يتطور الكيان الروحي العلوي (Ego) جنبًا إلى جنب مع نمو الجسد. وهنا تظهر العملية المتكاملة للتطور الداخلي والخارجي، حيث تنعكس التحولات الروحية العميقة في تطور الأجساد الأربعة الفانية. وتبرز أهمية هذا الفهم في التعاليم الثيوصوفية، التي تقدم رؤية عملية للحياة، إذ حين يدرك الإنسان الغاية من وجوده، ويتقبلها عن وعي، يصبح قادرًا على التناغم مع الخطة الإلهية، وفي هذا التناغم يكمن السر العميق للسعادة الإنسانية.
إلى أي مدى يصل الإنسان في نهاية المطاف؟ هدف التطور البشري هو معيار الكمال الموصوف في المسيحية بأنه «قياس قامة ملء المسيح.» وهذا يعني بلوغ حالة إلهية من الإرادة الكاملة (فقط فيما يتعلق بالتطور البشري) التي لا تقاوم، والحكمة والمحبة الكاملتين والشاملتين، والمعرفة الكاملة والشاملة.
تؤكد الحكمة الأبدية الدائمة أن بلوغ هذه الذروة من التطور البشري أمر مؤكد تماماً لكل إنسان. الأمر: «كُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ»(مت 5: 48)، ستطيعه وتنفذه الذات الروحية في نهاية المطاف، هذه الذات التي في كل واحد منا. فقدان النفس الروحية أمر مستحيل في الطبيعة، لأن الذات الحقيقية للإنسان خالدة وأبدية وغير قابلة للتدمير. في الحقيقة، لا يوجد شيء يحتاج الإنسان إلى أن يُنقَذ منه، ولا مكان يمكن أن يتيه فيه، لأن الله هو الحياة الشاملة والحاضرة في كل ذرة من الكون، فهو المحيط بكل شيء والمقيم في كل شيء. وما على الإنسان إلا أن يكون متيقظًا لعيوبه الذاتية والأخطاء التي قد تقوده إليها، إذ إن كل معاناته تنشأ (بحسب مبدأ الكارما([14])) كنتيجة طبيعية وتعليمية لهذه التجاوزات، مما يجعلها جزءًا من مسار التعلم والتطور الروحي.
العملية التطورية نفسها أبدية، بلا بداية يمكن تصورها ولا نهاية يمكن تخيلها. ما وراء الكمال البشري هناك إنجاز أعلى يجري الوصول إليه خلال المرور عبر الممالك الخارقة للطبيعة، يتبعها صعود عام نحو القامة الروحية للوغوس الكون. بعد ذلك أيضاً يستمر التقدم نحو أعلى درجة ممكنة من التطور يمكن الوصول إليها في نهاية فترة كونية رئيسية للتجلي. حتى ذلك الحين، عند الظهور اللاحق للكون من الفوضى، للنشاط من السكون، سيستمر التطور من النقطة التي تم الوصول إليها سابقاً وسيتقدم إلى آفاق أعلى. الكمال بالتالي ليس الكلمة الأفضل، لأنه يشير إلى النهاية. في الواقع، يتم تحقيقه فقط بمعنى نسبي، لأنه يجب أن يُفسح المجال لمزيد من الكمال، وفقاً لمعيار أعلى للتميز في الفترة التالية من النشاط - تماماً كما يجب أن تتوقف الزهرة الكاملة عن كونها زهرة كاملة وتموت لتنمو إلى ثمرة كاملة، إذا جاز التعبير. الإنسان كائن روحي يتطور وسيصبح يوماً ما كما هو الله الآن. الإنسان هو إله في طور التكوين، إله في رحلة حجٍّ.
طبيعة الألوهية
ما المقصود بمصطلح «الله God»؟ تؤكد الحكمة الدائمة إنه السر الأعظم، الحياة الواحدة التي لا بداية لها ولا نهاية، النور الخالد الذي ينساب في نسيج الوجود. هو الينبوع الأزلي الذي تنبثق منه الكائنات، والمحيط اللامحدود الذي تغرق فيه، والقوة التي تحركها، فتكون، وتحيا، وتشرق في فلك الوجود.
تتجلى هذه الحياة في نظامنا الشمسي وعالمنا من خلال اللوغوس، أو «الكلمة» (Word)، وهو المبدأ الإلهي الذي عُبد بأسماء مختلفة في الديانات المتعددة، لكنه يُعرف على أنه الخالق، الحافظ، والمجدد للحياة. إن النظام الشمسي يخضع لإدارة وتوجيه اللوغوس الشمسي عبر تسلسل هرمي من الكائنات الرفيعة المرتبة، وهم «الأرواح العظيمة أمام العرش»، الذين يمثلون عقولًا كونية متقدمة تشرف على تدبير الوجود.
على هذه الأرض، يجري تنفيذ هذا التوجيه الإلهي عبر هرمية من النفوس المستنيرة، من أولئك الذين بلغوا ذُرى الكمال، وعُرفوا عبر العصور بأسماء شتى: الرِشِّيُون، الحكماء، المريدون العارفون، والقديسون. وفي هذا النسيج اللامحدود من الوجود، يكشف المبدأ الإلهي المطلق عن حضوره من خلال حركة كونية لا تنقطع، حيث تتفتح البذور الكامنة للروح، ويبلغ النور مجده في كل من بلغ الاستنارة الحقة.
ورغم أن هذا التفتح الكوني يسير وفق قانون أزلي لا يتبدل، إلا أنه ليس مجرد حركة ميكانيكية عمياء، بل هو مدفوعٌ ومُسترشَدٌ بالنور الإلهي الشمسي، الذي يبسط مشيئته عبر وزرائه السماويين. وهكذا، يتجلى الله كحضور متعالٍ يعلو على الخليقة، وكجوهر محايث يسري في كيانها، فهو المنشئ الأول، الحافظ الأبدي، والمبدِّل العظيم لكل ما في الوجود، والمصدر الروحي الذي تنبثق منه كل الأرواح في هذا الكون الشمسي.
إن هذه التصورات عن الإله تتباين جوهريًا مع الفكرة السائدة عن الله في التصورات المسيحية التقليدية. فوفقًا لِـلحكمة الأزلية، لا يُنظر إلى الله على أنه كيانٌ متجسدٌ في صورة بشرية، تجمع بين قدرات لا نهائية وميول بشرية، بل هو جوهر سرمدي متعالٍ على كل تشبيهٍ بشريّ.
ليس إلهًا يمكن استرضاؤه بالتضرع، بل هو([15]) القانون الأبدي متجسدًا في الوجود. لا يُفضِّل أحدًا على أحد، فكل أبنائه يقفون على قدم المساواة. وليس كيانًا مقيمًا في سماء بعيدة، بل هو حاضرٌ بذاته في كل ذرة من الطبيعة، وفي الإنسان كحضور إلهي ينبض بالحياة، ذاك الذي وُصِفَ بالإله العامل فيكم: «لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ.» (في 2: 13).
غير أنَّ اللوغوس الشمسي يُقال إنه ليس بذلك العدم الشخصي أو الحيادي لدرجة أنه يكون غافلاً عن آمال البشر وتقلبات مصيرهم. على العكس من ذلك، يمكن اعتباره يستجيب للتطلعات الصادقة وغير الأنانية لزيادة الحكمة والقوة للخدمة. ضمن قانون العدالة، أو السبب والنتيجة، تتلقى الأمم والأفراد مساعدة إلهية مباشرة ومن خلال وساطة الممثلين. تُعتبر النعمة الإلهية حقيقة قد تنزل على الإنسان، إما مباشرة من لوغوس الشمس أو من الذات الإلهية الداخلية. تُقدّم مجموعة كبيرة من الشهادات من أولئك الذين اختبروا نشوة غير متوقعة([16])، مما زاد من قوتهم وإدراكهم العقلي. كما يشهد البعض على تجارب روحية تبدو خارقة للعادة، وعلى حالات شفاء من الأمراض.
عند هذا المنعطف، يصطدم السالك في دروب الحكمة الأزلية بفكرة عن الذات الإلهية، فكرة وإن كانت حتمية في منطقها، إلا أنها قد تثير في النفس نفورًا، وربما رفضًا قاطعًا. وهي أن الله، باعتباره المبدأ الإلهي في الطبيعة والإنسان، والكون بكل ما فيه ينموان ويتطوران وسائران نحو هدف يتجاوز فهم الإنسان الفاني([17]). هذا التطور نحو آفاق أرحب هو المصير النهائي للإنسان، «ذلك الحدث الإلهي البعيد، الذي يتجه إليه الخلق بأسره([18]).» وبما أن الذات الروحية للإنسان هي إله في طور التكوين، فإن مجده وحكمته وقوته المستقبلية لا حدود لها على الإطلاق.
الصالحون الذين بلغوا الكمال
الكمال البشري ليس حلماً بعيد المنال، بل هو واقع حيّ، فقد بلغته أرواح عظيمة تُعرف بمخلصي العالم، أو المهاتما([19])، أو الريشيين، أو الأدباء (Adepts). وهؤلاء، حين يختارون مريدين، يصبحون أساتذة الحكمة، يهدون السالكين في دروب النور. هؤلاء الكائنات النورانية هم الحكومة الباطنية للعالم، وهم المعلمون الروحيون الحقيقيون والمُلهمون للبشرية جمعاء. كل فرد من هذه الجماعة النخبوية، أخوية الأدباء (Adept Fraternity)، يبدو أنه يُشار إليه في الكتاب المقدس كمن «نال كهنوتًا أبديًا على منوال ملكي صادق([20]).» وربما أراد الرسول بولس أن يلمّح إليهم بعبارته «أَرْوَاحِ أَبْرَارٍ مُكَمَّلِينَ([21])».
تُعرف هذه الجماعة الجليلة بأسماء متعددة، فهي «أخوية الأدباء البيضاء العظمى»، ومجلس الحكماء الروحيين، و«السانغا» في التعاليم البوذية، كما أنها تجسد «الريشي السبعة وخلفاءهم» في الفلسفة الهندوسية.
صاغ نيتشه رؤيته للإنسان بوصفه كائناً في حالة تطور وعبورٍ نحو ما هو أسمى منه بقوله:
الإنسان ليس سوى مرحلةٍ يجب تجاوزها.
الإنسان ممرٌّ وليس محطةً أخيرة.
الإنسان خيطٌ مشدود فوق هاوية، بين غريزة الحيوان وسمو الإنسان الأعلى.
كيف يصل الإنسان إلى مرتبة الحكمة الباطنية والتنوير الروحي؟ إن هذا التحول هو ثمرة طبيعية لمسيرة التطور، يتحقق عبر سلسلة من الحيوات المتعاقبة، حيث يتجسد الإنسان مرارًا في أجساد مادية تتشكل حديثًا قبل كل ولادة جديدة. وتتيح له هذه الدورات المتكررة في الحياة المادية الزمن الكافي والفرصة اللازمة للوصول إلى هذا الإدراك الأعلى. التجارب المتعددة التي يمر بها الإنسان عبر رحلته الوجودية تعمل على استنهاض القدرات الكامنة في روحه المتطورة، والتي تمثل جوهره الحقيقي. فكل تجربة يخوضها تضيف إلى رصيده من القوة الذاتية والحكمة والمعرفة. وعند الاقتراب من حالة الكمال، لا تعود الحاجة إلى العودة إلى الحياة المادية، إذ يصبح التقدم الروحي ممكنًا في العوالم غير المادية. وقد أشير إلى هذه الحقيقة في سفر الرؤيا بقولـه: «مَنْ يَغْلِبُ فَسَأَجْعَلُهُ عَمُودًا فِي هَيْكَلِ إِلهِي، وَلاَ يَعُودُ يَخْرُجُ إِلَى خَارِجٍ...» (يوحنا 3: 12).
الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ([22])
جميع التناسخات (reincarnations) مرتبطة ببعضها البعض من خلال عمل قانون السبب والنتيجة (الكارما). وفقًا لهذا القانون، كل ما يفعله الإنسان من أفعال أو يعايشه من مشاعر أو يفكر فيه من أفكار، يؤدي إلى ردود فعل تنبع بشكل طبيعي ومنسجم معها، سواء وقعت تلك الردود فورًا بعد الفعل، أو تأخرت إلى لحظة أخرى في نفس الحياة، أو امتدت إلى تجسدات جديدة في المستقبل. يُذكر هذا الموضوع في مواضع عدة من الكتاب المقدس، ومن أبلغ ما ورد في ذلك هو قول بولس: «لاَ تَضِلُّوا! اَللهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا.» (غل 6: 7). تُستخدم الكلمة السنسكريتية «كارما» (الفعل action) للتعبير عن هذا القانون، وحركته، والنتائج التي تنجم عنه. فبمقتضى هذا القانون، فإن الأعمال التي ينبعث دافعها من الحب والخدمة والإيثار، تُثمر عن لذة وتحرر متزايد في التعبير عن الذات، مما يحفز الفاعل على تكرارها. من ناحية أخرى، تُنتج الأفعال المُحفزة بالكراهية والجشع والأنانية ألماً وتقييداً متزايداً للتعبير عن الذات، مما يُثبط الفاعل عن تكرارها. علاوة على ذلك، فإن شدة المتعة أو المعاناة تخضع لمدى تجسد النوايا الإيثارية أو الأنانية في الأفعال. هذا التوازن في التعويض يتجسد في كلمات المسيح: «لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا، لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ.» (مت 7: 1-2).
يُنظر إلى معاناة الإنسان، من هذا المنظور، على أنّها ليست عقابًا مفروضًا من لدنِ الخالق، ولا قصاصًا مُنزلاً من السماء، ولا محنةً جائرة أو عشوائية. بل على النقيض من ذلك، كلُّ ألمٍ هو من صنعِ الذات، وبالتالي يُستقبل بعدلٍ واستحقاق. وهو، فوق ذلك، مُصممٌ لإعلام الفاعل عن تعدّيه. فالمعاناة تُرى، والحال هذه، عادلةً ومُفيدة حقًا، لما لها من أثرٍ تربويّ في نهاية المطاف.
إنّ إدراك قانون الفعل وردّ الفعل (أو السبب والنتيجة) يحلّ معضلة العدالة للإنسان. فكلّ الأحوال الإنسانية - من معاناةٍ ومرضٍ وسعادةٍ وصحةٍ - هي من خلقِ الذات (self-created) تحت مظلةِ هذا القانون.
أما المشكلة التي تُطرح عند ولادة أطفالٍ مُشوّهين أو مرضى، فتُحلّ حينما يُعترف بتسلسل السبب والنتيجة، باعتباره ساريًا عبر سلسلةٍ من الحيوات. فبينما تبدو هذه المصائب، ظاهريًا، مجحفةً تمامًا لأنّها غير مكتسبة، وبالتالي غير مستحقة، إلا أنّها في حقيقة الأمر ليست كذلك. إنّها، في الواقع، الآثار المناسبة تمامًا لأسبابٍ أوجدتها نفسُ الأنا في حيواتٍ سابقة. وبدون هذا التفسير، تكون الحياة، حقًا، لغزًا ميؤوسًا من حله.
إنّ عقيدتي التناسخ والكارما (reincarnation and karma) تُلقيانِ سيلًا من الضوء على الحياة البشرية، وتكشفانِ عن وجود العدالة، والغاية، والهدف المؤكد لكلّ إنسان([23]).
يستطيع الإنسان أن يتغلب على الظروف
يجب توضيح مبدأ هام هنا، وهو أن الكارما ليست قدراً حتمياً لا مفر منه، بل يمكن تعديلها وتخفيف آثارها من خلال أفعال جديدة تُفعل قبل أن تأخذ الأسباب مجراها الكامل في إنتاج نتائجها. ومهما كانت أفعال الإنسان في الماضي، سواء أكانت خيرة أم سيئة بدرجات متفاوتة، فإن العواقب التي تترتب عليها ليست عبئًا لا يمكن الفكاك منه، ولا قدراً ثابتاً لا يمكن تغييره. إذ باستطاعة الأفراد والأمم على حد سواء من خلال أفعالهم اللاحقة أن يعدلوا باستمرار طريقة تأثير القوانين عليهم، فتتغير النتائج المُترتبة تبعًا لذلك. وبذلك، لا يكون أي فرد أو أمة مقيدًا بالكامل بأفعال الماضي، ولا يكون كل شيء مقدّرًا بشكل حتمي لا رجعة فيه. فالإنسان قادر على التحكم في الظروف، وجعل كل تجربة نقطة انطلاق جديدة، مهما كان ثقل الماضي عليه. ويمكنه التحرر من قيود القانون ليس بمقاومته، بل بفهمه والتوافق معه، بحيث يصبح أداة لتحقيق النمو والتقدم بدلاً من أن يكون عبئًا يحدّ من مسيرته.
يُعدّ القانون المدني عدوًا للمجرم لأنه يكبحُه، ويُقيّدُ تعبيرَ ميوله الإجرامية. أما بالنسبة للمواطن الصالح، فإنّ القانونَ نفسَه يُعدّ ضمانًا للأمن؛ فهو ليس عدوًا بل صديق، ليس مصدرًا للقيود بل حافظٌ للحرية. ويصدقُ هذا أيضًا على قانونِ السبب والنتيجة الكوني. فهو يجلبُ النّقمة والانتقام للأشخاص الأنانيين، الخارجين عن القانون، والقساة، في صورة رد فعلٍ مُناسب لكلّ فعلٍ مُؤلم. أما للأشخاص غير الأنانيين، الملتزمين بالقانون، والطيبين، فإنّ القانون يجلبُ الصحة والسعادة والحرية. علاوة على ذلك، فإنّ كلّ فعلٍ مُساعدٍ من هذا القبيل، يُرتكب قبل أن تُتاح للآثار فرصةَ الظهور، يُقلّل، بل وقد يُبطل، المصائبَ القادمة. هذا، باختصار، هو مبدأ تعديل الكارما البشرية. وهكذا، توجد خيمياء روحية يمكن من خلالها تقليل، أو حتى إلغاء، المحنة الناتجة عن أفعالٍ مدفوعةٍ بالأنانية. ويتحقق ذلك من خلال تطهير الذات، والانضباط الذاتي، وارتكاب أفعالٍ مدفوعةٍ بالحبّ الكونيّ غير التملّكي.
دربُ السلام
يشكلّ نمطُ الحياة هذا، جزئيًا، «طريق القداسة» و«الطريق الضيق» في المسيحية، و«الطريق الثماني النبيل» في البوذية، و«الطريق ذي الحدين» في الهندوسية. قال المسيح:
«اُدْخُلُوا مِنَ الْبَاب الضَّيِّقِ، لأَنَّهُ وَاسِعٌ الْبَابُ وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلاَكِ، وَكَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ! مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ، وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ!» (مت 7: 13-14).
هذا النهج في الحياة يُسرِّع التقدم التطوري، مما يفضي إلى تنمية قدرات فائقة تتجاوز المألوف، مثل البصيرة الروحية والقدرات الخارقة للعادة. كما يقود إلى التلمذة على يد معلم حكيم، ومن خلال مراحل متتابعة من الترقِّي الروحي يصل الإنسان إلى الخلاص أو الكمال، المعروف بمسميات متعددة مثل النيرفانا (Nirvana)، أو الموكشا (Moksha)، أو التحرر المطلق أو الانعتاق (Liberation).
يمكن اعتبار حياة المسيح وتلاميذه، وكذلك حياة المعلمين العظماء الآخرين، بمثابة تمثيلات درامية لتجارب الروح على هذه الطريق. إنّ تعاليم السيد المسيح، وخاصة تلك التي في موعظة الجبل، وتعاليم المعلم بوذا المتعلقة بالطريق الثمانية النبيلة وتطبيقاتها على الحياة الروحية، وتعاليم الرب شري كرشنا كما وردت في بهاجافاد غيتا، تشير إلى الدوافع والسلوك الضروريين لهذا الإنجاز.
عرّف المعلم بوذا الطريق الثمانية النبيلة بأنها تتكون من: «المعتقد الصحيح، والفكر الصحيح، والكلام الصحيح، والفعل الصحيح، ووسيلة العيش الصحيحة، والاجتهاد الصحيح، والذكر الصحيح، والتأمل أو النشوة الصحيحة.» هذه الطريق - النبيلة حقًا - لخصها بهذه الكلمات: «الكف عن الخطيئة، واكتساب الفضيلة، وتطهير القلب، وخدمة العالم.» إنّ «طريق القداسة»، الذي يؤدي إلى تقدمٍ مُسرّع وتطورٍ سريع للقوى الروحية، مفتوح اليوم كما كان في الماضي. ويتطلب النجاح في إيجادها والسير فيها نقاء الحياة، والخدمة المتفانية، وإرادة لا تقهر.
يمكن تلخيص هذه المجموعة من الأفكار بإيجاز على النحو التالي:
الإنسان هو، في جوهره، كائن روحي، عقله وجسده ليسا سوى وسيلتين مؤقتتين للتعبير عن الذات وتفتحها. عندما تُكتشف هذه الذات الحقيقية وتصبح هي القوة التوجيهية، يتحقق السلام الدائم للفرد وللجنس البشري. وبدون هذا الاكتشاف، يكون السلام مستحيلاً. لذلك، فإن البحث عن الذات واكتشافها له أهمية قصوى.
إنّ تطور الذات الروحية إلى الكمال من خلال حيوات متتالية على الأرض هو الهدف الحقيقي للوجود الإنساني.
تُحدّد تجارب الإنسان من خلال عمل قانون السبب والنتيجة. فالقسوة تجلب الحرب للأمم والألم والمرض للأفراد. لا يوجد مفر ممكن من هذا التسلسل.
وبالمقابل، يجلب اللطف السعادة والصحة. وإلى أن يُعترف بهذا القانون ويجري قبوله كقاعدة للحياة، ستستمر كل من الحرب والمرض.
الروح داخل جميع الناس هي روح واحدة. ينتمي كل إنسان إلى عرق روحي واحد، لا توجد فيه انقسامات من أي نوع.
إنّ تجربة هذه الوحدة، وتطبيقها على حياة الإنسان، يشكلان الوسيلة الوحيدة الممكنة التي يمكن من خلالها إرساء سلام دائم على الأرض، وضمان تحقيق الصحة والسعادة لكل إنسان.
هذه، جزئيًا، هي تعاليم حكمة العصور المتعلقة بالإنسان. هذه هي الطريق إلى الصحة والسعادة والكمال والسلام الأبدي.
هذه، جزئيًا، هي تعاليم الحكمة الأبدية والدائمة بشأن الإنسان، وهذا هو الدرب المؤدي إلى الصحة والسعادة والكمال والسلام الأبدي. وكما ذُكر سابقًا، فعلى الرغم من إتاحة الجوانب الأقل خطورة من الحكمة الإلهية (الثيوصوفيا) للبشرية، فقد عمد المعلمون العظام إلى إخفاء المعارف الأكثر خطورة، التي تمنح القوة، في القصص التمثيلية والرموز التي تشكّل جوهر اللسان المقدس. وقد أتاح المعلمون العظام، وبفضل شفقتهم، مفاتيح يمكن من خلالها كشف طبقات الحقيقة واحدة تلو الأخرى. بعض هذه المفاتيح، إلى جانب ثمار استخدامها، ستُعرض في الفصول والأجزاء القادمة من هذا العمل. غير أن أحد هذه المفاتيح، وهو المفتاح التمهيدي الأولي، يرتبط بتأويل مقاطع معيّنة تكشف عن معرفة هذا الدرب، لذا خُصص الفصل الأول من الجزء السادس في هذا المجلد لعرض هذا المفهوم العريق.
[1]- وهذا ما نجد المسيح قد مارسه، فقال لتلامذته: فَقَالَ لَهُمْ: «قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِرَّ مَلَكُوتِ اللهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِالأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ، لِكَيْ يُبْصِرُوا مُبْصِرِينَ وَلاَ يَنْظُرُوا، وَيَسْمَعُوا سَامِعِينَ وَلاَ يَفْهَمُوا، لِئَلاَّ يَرْجِعُوا فَتُغْفَرَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ». (مر 4: 11-12).
[2]- «بَلْ نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةِ اللهِ فِي سِرّ: الْحِكْمَةِ الْمَكْتُومَةِ، الَّتِي سَبَقَ اللهُ فَعَيَّنَهَا قَبْلَ الدُّهُورِ لِمَجْدِنَا،» (1 كو 2: 7).
[3]- في هذا العمل، ولتقليل الالتباس إلى أدنى حد فيما يخص معنى هذا المصطلح، يُستخدم الحرف الأول الكبير عند الإشارة إلى المبدأ الروحي الخالد المتجلي في الإنسان، مثل: النفس الروحية (Spiritual Soul). كما يُستخدم مصطلح الأنا (Ego) للدلالة على مركز الشعور بالفردية لدى الإنسان. أما الحرف الصغير «s» فيُستخدم عند الإشارة إلى النفس، أي الجوانب الذهنية والعاطفية للشخصية الفانية، مثل: النفس (soul).
[4]- العدد اثنا عشر يحمل دلالات صوفية خاصة، حيث يرتبط جزئيًا بالقوى الكامنة في الإنسان والتي تتوافق مع رموز الأبراج الفلكية، كما أنه يشير إلى مراحل وصفات ودرجات تطور النفس البشرية. يُنظر إلى هذا العدد على أنه رمز للكمال الروحي والاكتمال.
[5]- The Secret Doctrine, H. P.Blavatsky. (Vol. 1, Adyar Ed., p. 316).
[6]- فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: «لَنْ تَمُوتَا! بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ». (تك 3: 4-5).
[7]- الإِنْسَانُ الأَوَّلُ مِنَ الأَرْضِ تُرَابِيٌّ. الإِنْسَانُ الثَّانِي الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ. كَمَا هُوَ التُّرَابِيُّ هكَذَا التُّرَابِيُّونَ أَيْضًا، وَكَمَا هُوَ السَّمَاوِيُّ هكَذَا السَّمَاوِيُّونَ أَيْضًا. وَكَمَا لَبِسْنَا صُورَةَ التُّرَابِيِّ، سَنَلْبَسُ أَيْضًا صُورَةَ السَّمَاوِيِّ. فَأَقُولُ هذَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ: إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لاَ يَقْدِرَانِ أَنْ يَرِثَا مَلَكُوتَ اللهِ، وَلاَ يَرِثُ الْفَسَادُ عَدَمَ الْفَسَادِ. هُوَذَا سِرٌّ أَقُولُهُ لَكُمْ: لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ. (1 كورنثوس 15: 47-51)
[8]- فَقَالَ لَهُمْ: «قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِرَّ مَلَكُوتِ اللهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِالأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ،» (مر 4: 11).
[9]- «فمتى عرفت نفسك، ارتفعت أنانيتك، وعرفت أنك لم تكن غير الله سبحانه»، ابن عربي.
[10]- إني أفهم تعبير (ابن الله) بمعنى ما قد بناه الله، وبذلك فأنا وأنت، عزيزي القارئ، وكل شيء آخر لسنا سوى أبناء الله، فهو الذي قد بنانا بعلمه وقدرته. وفي النحلة الماسونية فهو المهندس الأعظم وهم البناؤون. وفي تراثنا الروحي نجد تعبير: والخلق كلهم عيالك، وهذا حق، فهو الذي يعيل الكل. وعليه، فتعبير (ابن الله) لا تعني أبدًا (ولد الله)، فالابن غير الولد. المُعرب
[11]- عبدي أطِعْنِي تَكُنْ مِثْلِي تقول للشيء كن فيكون. عبدي كن ربانيـا تَكُنْ مِثْلِـي تقـول للشيء كن فيكون. ما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أفضل من أداء ما افترضتُ عليْهِ، وما يزالُ يتقرَّبُ عبدي إليَّ بالنَّوافلِ حتَّى أحبَّهُ، فإذا أحببتُهُ كنتُ سمعَهُ الَّذي يسمعُ بِهِ، وبصرَهُ الَّذي يبصرُ بِهِ، ويدَهُ الَّتي يبطشُ بِها، ولئن سألني لأعطينَّهُ، ولئن دعاني لأجيبنه، ولئن استعاذَني لأعيذنَّهُ، وما تردَّدتُ عن شيءٍ أنا فاعلُهُ تردُّدي عن نفسِ المؤمنِ، يَكرَهُ الموتَ وأَكرَهُ مساءتَهُ. وغيره الكثير. المعرب
[12]- There is a Spirit, Kenneth Boulding, Sonnet 1.
[13]- 6th Discourse, 30. Translated by Annie Besant.
[14]- الـ(Karma) قانون السبب والنتيجة الكوني.
[15]- تمَّ استخدام ضمير المذكر هنا من أجل التسهيل فحسب، وإلَّا فالمبدأ الإلهي يُعتبر مزيجًا من الذكورة والأنوثة والكمال المزدوج الذي يدمج بينهما في تناغم تام.
[16]- الجذبة بالمصطلح الصوفي الإسلامي. المُعرب
[17]- بشكل مبسط، يمكن القول إن الكاتب يطرح فكرة أن الله والكون في حالة نمو وتطور مستمر، وأن هذا التطور يتجه نحو هدف سامٍ لا يمكن للإنسان أن يدركه بشكل كامل. هذه الفكرة تتحدى المفاهيم التقليدية عن الله ككيان ثابت، وتطرح رؤية ديناميكية للوجود. المُعرب
[18]- In Memoriam, Tennyson, St. 36.
[19]- مصطلح مهاتما يعني الروح العظيم.
[20]- «حَيْثُ دَخَلَ يَسُوعُ كَسَابِق لأَجْلِنَا، صَائِرًا عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادَقَ، رَئِيسَ كَهَنَةٍ إِلَى الأَبَدِ.» (عب 6: 20).
[21]- «وَكَنِيسَةُ أَبْكَارٍ مَكْتُوبِينَ فِي السَّمَاوَاتِ، وَإِلَى اللهِ دَيَّانِ الْجَمِيعِ، وَإِلَى أَرْوَاحِ أَبْرَارٍ مُكَمَّلِينَ،» (عب 12: 23).
[22]- (غل 6: 7)
[23]- ﴿كَلَّاۤۖ إِنَّا خَلَقۡنَـٰهُم مِّمَّا یَعۡلَمُونَ﴾ [المعارج ٣٩]، وهذه تُلخص الموضوع لمن يمتلك قلبًا يفقه ويعقل. المُعرب
تعليقات
إرسال تعليق