القائمة الرئيسية

الصفحات

الفصل الثالث: القراءة الحرفية للكتاب المقدس وما ينتج عنها من مشاكل وبعض مفاتيح حلها

 الفصل الثالث: القراءة الحرفية للكتاب المقدس وما ينتج عنها من مشاكل وبعض مفاتيح حله

  

فكرة القصص التمثيلي

ارتأيتُ أن نُقدِّم عرضًا أحسن وأكثر تفصيلاً لهذه الفئة الخاصة من الأدب، أي الكُتب المُقدَّسة؛ لأنَّ فهم وإدراك قيمة التعاليم الروحيَّة الكامنة فيها، وبالتالي ذوقها([1])، يعتمدان على الوعي باللسان المقدس. وابتداءً من هُنا، فإنَّ أُولئك الذين، إلى الآن، يرون في الكتابِ المُقدسِ أنَّه مُجرَّد مُدوَّنة للأحداث التاريخية، ستبدو فكرة أنَّه كُتِبَ بأُسلوبٍ قصصي تمثيلي (allegory)، من أجل إيصال الحقائق العالمية إلى البشرية، فكرة مُنكرةً بل يأباها العقل.

دراسة تمهيديَّة([2])

إن النَّظر المُتَجَرِّدَ والدِّراسةَ المُتواصلة، التي لها مكاسب تقدُّميَّة، لموضوع اللسان الرمزي والتمثيلي والمعارف الروحية، أصبحا ضرورة لفهمه واستيعابه؛ وذلك لكونه موضوعًا قد بلغ الغاية في العُمق. وبصرف النظر عن أمثال يسوع، فإن لسان التشبيه والدراما و القصص التمثيلي (allegory) والرمز هي بالنسبة لكثير من الناس شكل من أشكال الفن غير المألوف. وبالتالي، يجب دراسة المفردات والقواعد والنَّظم/التركيب (composition)، أي تركيبة العمل الأدبي والفني، بعناية؛ لأنَّ فهم واستيعاب الأفكار المنقولة([3])، أي التراثية، يعتمد على ذلك. وإنَّ أُسلوب البيان والعرض هذا، قد يتطلب وقتًا لكي يألفه الطالب؛ لإنَّ عرض الأفكار بمنهج جديد، ورؤية جانب من الحقيقة لأول مرة يستلزم الوقت والصبر لتقبله والاعتياد عليه.

في الفن، يعد النزر اليسير من التدريب على التذوِّقِ ضرورةً للتَّنعُّمِ بالإبداع الفنِّيِّ والوعي بالصورة الكُبرى وتلقي ما ضمَّنه الفنَّان فيه من رسائل خفية. فالتأهيل والدِّربةُ ضرورة لجعل العين ترى فتُبصر، ولجعل العقل مُهيَّأً ومُؤهَّلًا ليعقل. ويصدُق هذا أيضًا على الموسيقى بوصفها فنًّا. ويُستثنى من الموسيقى تلك المقاطع البسيطة والبطيئة التي من اليسير الاستمتاع بها وفهمها. أمَّا تلك السيمفونية العظيمة التي لا تُفهم لأوَّل وهلة، فالأمر يتطلب إرهاف السمع والانصات لكي يتحقق الوعي بها. وفضلًا عن ذلك، عندما يُدرك المرء دَلالة العمل الفني ويفهم اُسلوبه وشكله، فإن العمل بأكمله يأخذ معنًى جديدًا ويبعث بهجةً جديدة. والأمر مُشابه للمثل التالي: إنَّ الجوهرة النفيسة، بالنسبة للطفل، ليست سوى لعبة براقة بين يديه، وسوف يختار بلا نظر أي شيء يقع أمامه له بريق، مهما كان رخيصًا ومُبهرجًا. ولكنَّ الجواهري الحاذق والخبير ينظر في صُلب الأحجار الكريمة فيرى أعماق الجمال المخفي فيها والذي لا يراه غيره، ويفهم ويقدر كلاً من الأحجار نفسها ومهارة الحرفي.

قد يُنظرُ إلى أسلوب القصص التمثيلي والرمز على أنَّه وسيلة للتعبير الفني، وبالتالي، فهو لون من ألوان الفن. ولذلك فإنَّ الطالب يلزمه أن يكتسب، بالمِران والدِّربة، قدرة تُمكِّنه من الوعي بالقصص التمثيلية والإشارات الرمزية العديدة والمُختلفة المُضمنة في هذا العمل الفني، والبدء بمُحاولة الكشف عن معانيها السرية. إذ إنَّه بدون التسلح بهذه القدرة والملكة اللطيفة، لا يُمكن النظر إلى هذه القصص التمثيلية أو الأُمثولات (allegories) والرموز إلَّا بصورة ظالمة ترى فيها أنَّها مُجرد صد عن السبيل، وأنَّ تأويلاتها اعتباطية أو، في أفضل الأحوال، شطحة من الشطحات.

وبما أنَّ الحقائق العميقة عبارة عن منقولات وخبرة روحية، وأنَّ التأويل الصائب للكتاب المُقدس يُمكن أن يَهَبَ المعرفة والقوة، فعلى الطالب ألَّا تكون استعداداته عقلية وفكرية فقط بل يجب أن تكون روحية أيضًا. وحقيقة، يجب أن تحمله هذه الاستعدادت على أن يكون في أتم اليقظة والتركيز والجدية في سعيه، تمامًا مثل الذي يضنيه السهر لطلب العُلا.

حجاب القصص التمثيلي

مما لا ريب فيه أنَّ مُعظم أحداث الكتاب المُقدس ذات أساسٍ واقعي (historical fact). ولكنَّ هذا ليس كُل شيء، إذ إنَّ ما وراء قصص الأحداث الكتابية، التاريخية منها وشبه التاريخية، تكمن حِكمة ونور جليلين يجب طلبهما والنظر فيهما. ولكي يقف القارئ على ما أُلقي أمامه من روايات يكاد الصواب يُجانبها والحق يُفارقها، فإنَّ ثلاث سُبل ستُظهِرُ نفسها أمامه ليتعامل معها: أولها أن يتقبَّل هذه الروايات بلا إعمال فكرٍ بل بالتسليم الأعمى لها؛ وثانيها أن يتجاهلها ولا يُلقي لها بالا لظنه أنها لا تُجدي نفعًا؛ أو قد ينكب على دراستها؛ فيقوده الجد والصدق والحذر في سبيل البحث عن المعاني المُحتملة الكامنة ما وراءها أو المضمنة فيها، وإظهار الحقائق التي ظلت إلى الآن مخفية في صدورها.

إنَّك إذا دققت النظر في أحداث مثل: مضي ثلاثة أيام بلياليها، وظهور الحياة النباتية لتغطي وجه الأرض قبل أن تُخلقَ الشمس؛ وحادثة انحباس أو ثبات الشمس وتوقف القمر عن حركتيهما ليوشع بن نون، ستجد أنَّ من غير المُحتمل حُصولها أو وقوعها بالفعل. وهُنا نُلاحظ، كما في مواضع أخرى عديدة، أنَّ الكتاب المُقدَّس «يُراكِم اللا معقول على اللا مُمكِن.»

فإذا لم تكن النِّيَّة الاكتفاء بتسجيل الحقائقَ والأحداث الفلكية أو التاريخية المفترضة فقط، بل الكشف عن حقائق مجردة وعالمية وصوفية ولإعطاء التوجيه للعثور على «الطريق المُقدَّسة([4])» (The Way of Holiness) وسلوكها؛ وإذا كان الليل، علاوة على ذلك، والشمس والقمر ليس إلَّا رموزًا عينيَّة لأفكار مجردة- فهذا يعني أنَّ السرد الروائي الذي يبدو غامضًا أو لا معنى له ظاهريًا، أي غير معقول ما يُورده، قد يكون سببًا يقود للكشف عن حقيقةٍ باطنيةٍ ونورٍ داخليٍّ يكمُنان في أعماقه.

ولكن، وقبل أن يجري فهم واستيعاب ذانكما الحقيقة والنور، يجب أن نُزيل عنهُما حجاب القصص التمثيلي (allegory) وأن نؤوِّل الرموز. إذ كما قلنا سابقًا وأشرنا، أن مُعلِّمي العُصور الأولى قد أخفوا عامدين الحكمة العميقة والسرية التي كانت بحوزتهم بالقصص التمثيلي (allegory) والرمز؛ من أجل حفظها وحمايتها، والكشف عنها في الوقت المُناسب، ومن أجل أن تكون هذه الأفكار المُجردة مفهومة من خلال التعبير عنها بصورة محسوسة([5]).

الزمن بوصفه مِرآة الخُلود

لقد رأى كُتَّاب الكُتب المُقدَّسة الحقائق الأبديَّة مُنعكسةً على الأحداث الزَّمنيَّة. ففي نظرهم، وعلى الرغم من استنارتهم، كان كُلُّ حدثٍ حِسِّيٍّ يتضمَّن دَلالة روحيَّة تُحيطه بهالة نور. لقد أبصروا أنَّ حقيقة العالم ما هي إلَّا ظِلٌّ لواقع جليل. ولو أنَّهم قالوا كما قالت الشاعرة إلزابيث براوننغ([6]): «تزدحمُ الأرض بالسماء، وما من أيكةٍ إلَّا وتراها بالله تتوهج»، على أن نُضيف: «وليس يرى إلَّا ذاك الذي خلع نعليه»، لما شطُّوا بعيدًا.

إن سجلاتهم التي تؤرخ ما يجري في الكون عمومًا وفي الأرض خُصوصًا - أي كتب العالم المقدسة - تصف وتُصوِّر أكثر بكثير من مجرد الأحداث في الزمن؛ إنها تكشف عن الحقيقة الأبدية، والواقع المطلق، والأحداث العالمية بصورة حِسِّيَّة لكي تكون قابلة لفهمها واستيعابها والوعي بها. وكان الحق في بعض الأحيان أشد جلاءً من الظِّلِّ، وبذلك فقد احتل التاريخ منزلة ثانوية بالنسبة إليهم. ولكن، في أحيان أُخرى، يكون لأحداث التاريخ الحسية الغلبة.

ولقد قدَّمنا مفهوم وأُسلوب الكُتَّاب أعلاه، في هذا العمل، بوصفه مدخلًا لدراسة الكتاب المُقدَّسِ صُوفيًّا، وأيضًا، مِفتاحًا نفتح به تابوت الكُتب المُقدَّسة الذي فيه تستلقي كنوز الحكمة والحقيقة التي لا تنضب والمُتنكرة بظاهره.

إنَّك لترى كيف استطاع المُعلمين الروحيين، من الزمن الغابر، قهر الزمان وخرقه، بركوب أحداث التاريخ تارةً وبالقِصص التمثيلية (allegories) والرُّموز تارة أُخرى. فها هم قد دوَّنوا التاريخ بطريقةٍ تكشف، لمُجايليهم ولمن سيأتي بعدهم، أعمق حقائق الحياة طُرًّا. ولم يمنعهم الموت من قُدرة إرشاد البشرية على طول الطريق المؤدي للاستنارة الروحية أو إيجاد حُلولٍ لمشاكلها التي تعرض لها، رغم مضي آلاف السنين على وفاتهم.

هذا وإنَّهم قد اقرُّوا وأعلنوها صراحةً أنَّهم أخفوا الحقائق الروحية عن أُولئك الساخطين عليها وغير الراغبين بها والمُشنعين عليها، وبالمُقابل، رغبوا بإيصالها لمُستحقِّيها، وفقط لهؤلاء. وكان الدافع، كما ذكرنا سابقًا، هو حماية كل من الفرد والنوع الإنساني بأسره من مخاطر الكشف المبكر عن هذه المعرفة واحتمال إساءة استخدامها، إذ إنَّها يمكن أن تمنح قوًى إلهية، أي سيميائية، وأخرى ثوماتورجية (Thaumaturgy)، أي قدرة على الإتيان بالمُعجزات. وكان هذا الأمر سببًا في أن تظهر على أرض الواقع السير البطولية أو اللجِند (legend) والأساطير والكتب المقدسة، وكان الكثير منها مُكتنزًا وحامِلًا بأفكار روحية وأخرى لطيفة ودقيقة وغامضة وتكاد لا تبين (occult).

بعض المشاكل المُتكوِّنة بالقراءة الحرفية للكتاب المقدس

يُمكن للسان المُقدَّس أن يُثبت قُدرته على المُساعدة في حلحلةِ ما يتعذر حلَّه من المشاكل الكتابية، علاوة على قيمته بوصفه وسيلة حامِلة للحِكمة الخفيَّة.

ومع أنَّ الإيمان والتصديق بإمكانية أن يخلع التدخل الغيبي على بعض المقولات الكتابية اِحتماليَّة التصديق بها وجعلها معقولة وممكنة الحدوث، إلَّا أنَّ هذا لا يجب أن يُوحي بأنَّ القوانين الفيزيائية والحقائق الفلكية يُمكن تغييرها. هذا، وإنَّ هُناك بعض المُعجزات قد تجاوزت حُدود قدرة استيعاب المرء التي تجعله يُصدق بها. وذلك مثل مُعجزة شق البحر إلى طودين عظيمين، إذ إنَّ هذا، دون شك، يتطلب قُدرة وطاقة وقوة عُظمى لإبقاء كُل طودٍ قائمٍ على حاله، وغيرها من المُعجزات المُشابهة، وهذا مما يصعب التسليم به. ولكن، ومع كل ذلك، فإن حدث تدخل إلهي أو استخدمت قوة ثيورجية، أي سيميائية ربانية، فإن هذه المُعجزات تصبح عندئذٍ ممكنة الوقوع وليست مُستحيلة.

وهاك مثال آخر على مُشكلة كتابية أخرى، وهي: إننا نعلم أنَّ نظام مركزية الشمس لا يُمكن تغييره مهما كان، إذ إنَّ الشمس تقع في مركز النظام الشمسي، وهي مصدر ضوئه. وإنَّ الكواكب، كما نعلم، تدور حولها وحول محورها، ومن هذه الحركة المدارية تنشأ ظاهرتي الليل والنهار. المُشكلة الآن، أنَّ الكتاب المُقدس يذكر في سفر التكوين أن ثلاثة أيام بلياليها مضت قبل أن يجري خلق الشمس والقمر والنجوم! وما هذا إلَّا استحالة فلكية([7]).

  يا شمسُ، دُومي على جِبْعُونَ([8])

إنَّ دوران الأرض حول محورها ومن ثم حول الشمس يسبب ظاهرة الليل والنهار. وإنَّ الشمس لا تتحرك حول الأرض، ولا يمكن بأي وسيلة بشرية كانت أن نجعلها تفعل ذلك، إلَّا أنَّنا نقرأ أنَّ يشوع قد أطال النهار بجعل الشمس والقمر  يدومان على حالهما، أي أوقف حركتيهما.

إن إطالة النهار أو الليل عن طريق إيقاف حركة الشمس أو الأرض (لن يكون القمر معنيًا بشكل مباشر في مثل هذا الإجراء) هو أمر مستحيل تمامًا؛ لأنه لو توقفت الأرض فجأة عن الدوران لما عاش أي إنسان ليسجل الحدث!. حيث إنَّ كل جسم متحرك على الأرض، بما في ذلك المحيطات والغلاف الجوي، كان سيستمر في حركته الدورية الطبيعية وبالتالي يتحرك نحو الشرق بسرعة تفوق سرعة الصوت!. لذلك، إذا قُرِئت هذه الرواية حرفيًا، فإنها مما لا يُمكن تصديقه بالمرة!

والأمر مُماثل لقصة نوح وفُلْكِه، والتي تُمثل عقبة جدية وخطيرة. إذ من غير المُمكن بل من المُستحيل أن تجمع أزواجًا من كل الحيوانات على الأرض وتضعها في مكان واحدٍ فضلًا عن الفلك. فمثلا، حيوان الكسلان، ومن اسمه، سيأخذ وقتًا لا بأس به حتى يصل إلى الفلك قبل أن يبدأ الطوفان. علاوة على ذلك، فإن مهمة إيواء وإطعام هذا العدد الكبير من الحيوانات طوال أربعين يومًا وأربعين ليلة كانت ستشكل صعوبات خطيرة ومُقلقةٍ، إن لم تكن مستعصية على الحل.

ويبدو أن القراءة الحرفية لقصة برج بابل، وخاصة الآيات السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة من الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين، تشير ضمنًا إلى أن الرب الأعلى مسؤول عمدًا وبقسوة عن المعاناة الكبرى التي كابدتها البشرية. ووفقًا للنص، فإن العديد من الأعمال الشريرة التي يقوم بها إنسان على إنسان، بما في ذلك الجرائم الفردية والمنظمة وشن حروب لا حصر لها، نشأت ولا تزال تنشأ من الفعلين المفترضين لإلهٍ أو رب شخصي، وهما: الأول هو بلبلة لسان البشرية بحيث لم يعد البشر قادرين على التفاهم؛ وثانيًا جعل البشرية تتشتت في أرجاء الأرض كلها([9]).

حقيقةً، إنَّ مثل هذه الأفعال الإلهيَّة المزعومة بإمكانها، بشكل شرعيٍّ، أن تُعدَّ وتُحسبَ بكونها الأسبابَ الرئيسة التي تقف وراء الأخطاء البشرية، تلك الأخطاء الناتجة عن الفردية والتمركز حول الذات، بكل ما لها من تأثيرات جسيمة ومؤلمة تجرها على البشرية.

ولكن، إن ذوي الألباب لا يقبلون، على الإطلاق، هذا العزو للرب الأعلى الذي يُسند إليه دافع وسلوك مُضر بالبشرية إلى الحد الذي يجعل من الصعب، لعصور طويلة، تحقيق علاقات إنسانية متناغمة بين مجموعات وأمم وأجناس البشر على الأرض. بمعنى، أنَّ الرب أراد ذلك لكي يؤذي ويضر الناس، وهذا مما يأباه أصحاب العقول الراجحة.

لذلك، إن دراسة الكتاب المقدس ليس بوصفه تاريخًا حرفيًّا، بل بوصفه تصريحًا بالحقائق الجوهرية بأسلوب القَصَص التَّمْثِيِلي (allegory)، تحظى بدعم قوي من قصة برج بابل. بمعنى آخر، أن قصة برج بابل تؤيد أن نقرأها وأمثالها قراءة تعتبرها قَصّ تمثيلي ورمزي وليس حرفيًّا؛ لأن قراءتها حرفيًّا سيجر مشاكل ويدخلنا في مأزق أن الرب يريد بنا شرًّا وأنه سبب خلافاتنا الدموية([10])!

أمَّا في حالة يونان أو يُونس، والذي بقي ثلاثة أيام بحسب قصته في بطن الحوت، هذا الثدي الضخم، دون أن يمسه سوء جراء الإفرازات المعدية والعمليات الهضمية وقوى التحليل والتفكيك والتكسير- فمن المُستبعد وغير المعقول أن يبقى يونس حيًا هُناك.

ولنترك ما لا يُصدق لننظر في الفحش في قصص الكتاب، مثل سُكر لوط وزنا ابنتيه معه؛ والشهوانية، والوحشية؛ وعزو نقاط الضعف الإنساني المُتمثلة في الغضب والغيرة والتعطش للدماء للرب الأعلى، وتشجيعه بني إسرائيل على مُهاجمة وذبح الحيوانات والرجال والنساء والأطفال من القبائل الأُخرى- هذه كُلها تناقضات كتابية يجب على الثلة المُفكرة من الناس وذوي الحساسية منهم أن ينظروا لها على أنها أعمال وأفعال مُنكرة ومُنفرة وغير مقبولة بالمرة. هذا وإنَّ الرأي الأرثوذكسي منقسم بين من يرى تركها كما هي موضوعة في مناهج مدارس الأحد والجامعات وبين مُنكر لوضعها.

البيولوجيا والنسب ومحدودية الزمن

في العهد الجديد تظهر، أيضًا، صعوبات عند قبول قراءة بعض الآيات المُعينة حرفيًا. ففيما يتعلق بولادة يسوع، يؤكد بعض الإنجيليين على حدوث الحمل الطاهر والميلاد العُذري - واللذان يعتبران إستحالة واقعية - بينما لا يؤكد البعض الآخر على ذلك. أما نسب يسوع كما هو مذكور في إنجيلي متى ولوقا، فمختلفة تمامًا وبالكاد يمكن أن تنطبق على نفس الشخص. حيث يتتبع متى نسب يسوع من خلال يوسف، وهو أمر لا معنى له في حالة الميلاد العذري. بينما يتتبع لوقا النسب من خلال مريم.

علاوة على ذلك، فإن الأحداث التي وقعت ليلة قبل صلب يسوع كثيرة جدًا لتحدث خلال الزمن المحدد، والذي يُقدر بالساعات!. وإليكم قائمة بهذه الأحداث: العشاء الأخير، والعذاب في الحديقة، وخيانة يهوذا، والاستجواب، أولاً أمام حنان وقيافا، ثانيًا أمام المجمع الديني اليهودي، ثالثًا أمام بيلاطس، وأخيرًا في قاعة المحكمة - بغض النظر عن حقيقة أن محاكم معاقبة المجرمين لم تعقد في منتصف الليل من قبل؛ وزيارة هيرودس (التي سجلها فقط لوقا)؛ العودة إلى بيلاطس؛ خطبة بيلاطس وغسل يديه؛ وجلد يسوع واستهزاء وسخرية الجنود وتلبيسه رداءًا قُرمزيًّا؛ وحَمْل الصليب بعذاب طويل إلى الجلجثة، تليه صلب يسوع - لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تحدث كل هذه الأحداث في وقت قصير جدًا ومحدود. ووفقًا للمدة المقدرة، حدث اعتقال يسوع منتصف الليل من يوم الخميس، وصلب الساعة التاسعة صباحًا من يوم الجمعة العظيم.

بعض الاعترافات الكنسية

هُناك ثُلَّةٌ من الرجال الكنسيين على وعيٍ بالحرج والصعوبات المُتولدة مما ذُكر أعلاه، ويُدركون ذلك بكل مُباشرة وصراحة. وهذا على الرغم مما تُنادي به العديد من الطوائف المسيحية بأنَّ الكتاب المُقدَّس هو  كلمة الرب المُوحى بها مُشافهةً.

فعلى سبيل المثال، قال الكاهن ت. ج. ستيفنز، نائب كنيسة القديس بولس في ويمبلدون، في معرض شرحه أسباب منع تدريس بعض قصص العهد القديم في مدارس الأحد: «بغض النظر عن عدد الأشخاص الذين يقولون إنه ينبغي تدريس الكتاب المقدس بالكامل، فإني لن أفعل ذلك. إذ إنَّ رجال مثل برنارد شو، وأرنولد بينيت، وإتش جي ويلز، جميعهم انقلبوا ضد الكنيسة بسبب التعليم الخاطئ، في حين كان من الممكن أن يكونوا قوة كبيرة بالنسبة لنا...

إنَّ فهم الكتاب المُقدَّس كاملًا يتطلب رجلًا يتمتع بذكاء بالغ. وإنَّك ترى بعض القصص مفيدة ومثيرة للاهتمام وجميلة، لكنها في كثير من الأحيان تتناول الاغتصاب والقتل والأكاذيب والوحشية والقومية المبالغ فيها والحرب. وإذن، ما هو الهدف من تعليم كل هذه القصص المُنكرة للشبيبة؟ وهؤلاء إذا كانوا أذكياء فسوف يحصلون على أفكار مُنكرة عن الله.

إني أعتقد أن الدين المسيحي في حالة من التدهور، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن الكثير من الناس لا يستطيعون فهمه فهمًا جيِّدًا أو استيعابه بصورة كاملة. ولسوء الحظ، فالكنيسة المسيحية بأكملها ضدي. أنا الرجل الغريب الذي يقف عند هذه المسألة وحده.»

وقد توقع عميد القساوسة الكهل دين إنجي (Dean Inge) عصرًا مظلمًا جديدًا، كما ورد في صحيفة نيوزيلندا هيرالد: «دين إنجي، القس الكئيب أو المُتشائم، يبلغ من العمر 90 عامًا اليوم (6 يونيو)... عشية عيد ميلاده، صرَّح العميد قائلًا: يبدو أننا على عتبة عصر مظلم آخر... يجب أن يكون أول شيء نفعله هو إزالة قدر كبير من العهد القديم. نحن نعيش اليوم في عصر مختلف عن الأيام التي كُنتُ فيها أُدير كنيسة ويست إند العصرية، حيث كانت السيدات اللواتي يتزيَّنَّ باللؤلؤ ويلبسنَ الفراء يُنشدنَ نشيد مريم بحماس أكبر مما غنى الشيوعي نشيد العلم الأحمر.»

وقد قال صاحب القداسة الدكتور فرانك وودز، رئيس أساقفة الكنيسة الانجليكانية في ملبورن، في خطبة ألقاها في 18 فبراير 1961 في كاتدرائية سانت بول حيث تحدث عن روايات سفر التكوين المبكرة وقصة آدم وحواء وسقوط الإنسان- أن المسيحيين لا ينبغي أن يكونوا منزعجين إذا تعرضت هذه الروايات للانتقاد على أسس علمية أو تاريخية. وأضاف أنها تحتوي على حقائق ذات طابع ديني لا تعتمد صحتها على إثبات تاريخي أو علمي. وأشار إلى أن روايات سفر التكوين تعبر عن حقائق خالدةٍ، وأنها قصص لا زمنية (ميثة) تُعلِّمُ الحقائق الروحية من خلال الأمثال والرموز أو القصص التمثيلية (allegories).

وفي أكتوبر 1962، نشرت صحيفة نيوزيلاندا هيرالد بيانًا رسميًا للقس الدكتور ليزلي ويذرهيد، الرئيس السابق للمؤتمر الميثودي والقس في معبد المدينة الشهير بلندن، وفي سياق بيان للصحافة، قال الطبيب الموقر، وهو أيضًا مؤلف كتيب بعنوان «قضية التناسخ»، إنه «يود أن يقرأ الكتاب المقدس بحرية تامة وفي يده قلم بحبر أزرق»، أي ليصحح ويعدل عليه ويؤشر مكامن ما يجب حذفه أو تصحيحه!. وفي عام 1963 صدر كتاب «صادق مع الله» بقلم أسقف وولويتش الدكتور جون روبنسون. حيث يوضح الأسقف في كتابه أنه، من بين عقائد أخرى، لا يؤمن بالله ككائن منفصل/مُمتاز، وأنه لا أدري بشأن الميلاد العذري للمسيح.

حلُّ المُشكلة

تتلاشى معظم هذه الصعوبات، إن لم تكن جميعها، عندما نفترض أن الكاتب كان يهدف في الأساس إلى شيء أكثر من مجرد تسجيل التاريخ، بل كان يسعى أيضًا للكشف عن الأفكار الكونية والشمسية والكوكبية والعرقية، ولوصف الحالات والتجارب الروحية والنفسية للإنسان.

أحد التفسيرات المقدمة لهذه التناقضات هو أنها لم تكن واردة في النُّصوص الأصلية. ويُعتبر المُفسِّرون والمحررون والمترجمون اللاحقون، حسب بعض علماء الكتاب المقدس، مسؤولون عن خلق بعض منها. ويقال إن عقيدة الوحي اللفظي الشفهي للكتاب المقدس (verbal inspiration) وفهمه حرفيًّا كما هو، قد طبق على هذه النسخ المحرفة والمترجمة، دون النصوص الأصلية. وفي حين أن هناك بلا شك بعض الحقيقة في هذا الرأي، إلا أنه يمكن مواجهة العديد من الانتقادات بنجاح وحل معظم المشكلات إذا قُبِلَ وجود اللسان المقدس (Sacred Language) وتطبيقه لتأويل الكتاب المقدس.

لقد توصَّلتُ، بناءً على دراساتي الخاصة، إلى استنتاج مفاده أن التدخل المتعمد في النصوص الأصلية، سواء بالحذف أو الإضافات أو التعديلات المتتالية والترجمات، قد لعب دورًا جزئيًا في إثارة الارتباك واللُّبس الحاصل في قصص الكتاب المقدس. وبناءً على ذلك، فإن بعض المقاطع التي يصعب تقبلها، والنصوص التي تبدو جاذبة للانتقادات، والتصريحات التي تتعارض مع الواقع، ومحاولة نسب سمات وثنية ودموية للرب الأعلى- كل ذلك يجعل القراءة الحرفية للعديد من مقاطع العهد القديم غير مقبولة بالمرة.

ومع ذلك، ففي تلك الكتب التي تحمل بصمة الوحي، ووفقًا لأسلوب الكتابة القصصي التمثيلي والرمزي، يُعتقد أن التصريح بالأمور المستحيلة يمكن أن يكون جزءًا من غطاءٍ محكم البنية أو وسيلة للتعمية، أو حجاب منسوج من عدم المصداقية، والتناقض، والسخافة، وعدم الاتساق أي التناقض، والخيال، وحتى الرعب.

ولعل من المفيد هنا تكرار الكلمات المقتبسة سابقًا لموسى بن ميمون، اللاهوتي والمؤرخ اليهودي، إذ قال: «في كل مرة تجد في كتبنا حكاية تبدو حقيقتها مستحيلة، أو قصة منافية للعقل والفطرة السليمة، تأكد أن الحكاية تحتوي على قصٍّ تمثيلي عميق يحجب حقيقة سرية تصطر صطرًا؛ وكلما كان المعنى الحرفي للقصة سخيفًا، كلما كانت الحكمة الروحية فيها أعمق».

شهادة المرجعية الدينية الأولى

إن وجود معنى سري في نصوص الكتاب المقدس قد اقرَّ به صراحة إكليمندس الإسكندري (150-220 م تقريبًا) عندما قال إن أسرار العقيدة لا ينبغي الكشف عنها للجميع. وقال: «لكن بما أن هذا التقليد التراثي المنقول أصبح لا يُعلنُ فقط لذاك الذي يُدرك عظمة الكلمة، فبات من الضروري إذن إخفاء الحكمة المنطوقة، التي علمها عبد الربِّ، في سر.»

ولا يقل أوريجِن (Origen) وضوحًا فيما يتعلق بالكتاب المقدس وحكاياته الرمزية. حيث عبر عن استيائه من تفسير الكتاب المقدس بشكل حرفي، وقال إذا أُلزمنا بأن نفهم ما هو مكتوب في الكتاب المقدس بالمعنى الحرفي ونتبعه كما يفعل اليهود وعامة الناس، فإنه سيشعر بالخجل من الاعتراف بأن الله هو الذي أعطى هذه السنن. يعني أنه إذا تم تفسير الكتاب المقدس حرفيًا، فإن السنن أو القوانين التي يبتدعها البشر ستبدو أكثر تميزًا وعقلانية من السنن الإلهية المذكورة في الكتاب.

وكتب أيضًا مستنكرًا الفكرة التي تقول إن الأيام الأولى في خلق العالم (الأيام الأولى حسب الكتاب المقدس) كانت بدون شمس أو قمر أو نجوم، وأن اليوم الأول لم يكن فيه سماء. ويستنكر أيضًا فكرة أن الله زرع الأشجار في الجنة، في عدن، مثل الفلاح، وزرع فيها شجرة الحياة التي يمكن رؤيتها بالعينين وباقي الحواس، والتي تمنح الحياة لمن يأكل منها، وشجرة أخرى تمنح لمن يأكل منها معرفة الخير والشر، إذ يقول أي عاقل يقبل هذا وأي أحمق يصدق به؟!. إذ هو يعتقد أن هذه الأفكار يجب أن ينظر إليها على أنها رموز يكمن وراءها معنى سري مخفي.

بالإضافة إلى ذلك، عندما نقرأ تصريحات بولس التي لا لُبس فيها بأن قصة إبراهيم وابنيه هي «قصص تمثيلي» (allegory) وأن «هاجر هي جبل سيناء»، فعندئذ، في الواقع، لا يمكن إلقاء سوى القليل من اللوم على المسيحيين أو غير المسيحيين الذين يرفضون قبول أجزاء معينة من الكتاب المقدس في أي ضوء آخر غير ضوء القَصَص التَّمْثِيِلي (allegory).

تقول السيدة هيلينا بلافاتسكي: إنَّ الحبر الرباني شمعون بن يوحاي، جامع كتاب الزوهار (Zohar)، لم ينقل أبدًا أهم نقاط عقيدته إلا مُشافهةً (orally)، ولعدد محدود جدًا من المُريدين. ولذلك، من غير الممكن فهم القَبَّالة بشكل كامل بدون المُسَارَّة (initiation) وفقًا لتعاليم الميركافا (Mercavah)، ويمكن تعليم الميركافا فقط في الظلام، وفي مكان مهجور، وبعد المرور بالعديد من التجارب المرعبة (هذه كانت طريقة تأهيل (تنشئة) المُريدين في تلك الأيام). ومنذ وفاة هذا الحاخام اليهودي العظيم، ظلت هذه العقيدة الخفية سرًا غير قابل للاختراق بالنسبة للعالم الخارجي.

كان هُناك بين طائفة التانائيون (Tanaim)، الحُكماءُ والمُعلِّمونَ، نفرٌ علَّموا الأسرارَ بطريقة عمليَّةٍ وأخضعوا بعض المُريدين لطقوس المُسَارَّة (initiation) التي أفضت بهم لتلقي السر الكبير والنهائي. إلَّا أنَّ كتاب الهاجيجا من المشنا، وتحديدًا، الفصل الثاني منه، ذكرَ أنَّ تعاليم الميركافا لا تُنقلُ وتُسلَّمُ إلَّا للحُكماء السَّالكين الواصلين دون غيرهم. أمَّا كتاب الجِمارا فرأيه أكثر تشددًا من النُّصوص الآنفة. فهو يذكر إنَّ أكثر أسرار العقيدة أهمِّيَّةً لم تُكشف للكهنة كلهم بل لنزر يسير فحسب. ولم يتمكن أحد من كشفها قط إلَّا أولئك الذين تنشَّأوا تنشئة روحيَّة وخضعوا لتربية روحية أي مُسَارَّة (initiation)، هم وحدهم من انكشف عنهم الغطاء فرأوها.

ولننظر ماذا قد قيل في القبَّالة نفسها عن هذه المواضيع، نجد فيها إنَّ الحاخامات العظماء، حقيقةً، هدَّدوا كُلَّ مَن تُسوِّل له نفسه تلقي وبالتالي فهم أقوالهم حرفيًّا. ونقرأُ في الزوهار ما نصه: «الويل والثبور... لمَن يرى في التوراة، أي الشريعة، مُجرَّد سردٍ قصصيٍّ وكلماتٍ عاديَّةٍ ليس إلَّا! لأنَّه، في الحقيقة، إن لم يكن هُناك إلَّا هذا الاعتبار، لكُنا قادرين، حتى هذا اليوم، على أن نأتيَ بتوراةٍ من عند أنفسا أكثر قيمة ونفعًا وإعجابًا من هذه التي بين أيدينا!

وإننا إذا اكتفينا ورضينا بهذه المقولة التي ترى التوراة ما هي إلَّا كلمات بسيطة، فعلينا حينئذٍ أن نتوجه، وبلا حرج، إلى المُشرعين في عالمنا هذا، أُولئك الذين نجد عندهم ما يفوقها عظمة ورفعة! ويجب أن نكتفي بتقليدهم، وكتابة توراة على مثال أقوالهم وأمثالهم العظيمة. ولكن الأمر ليس كذلك؛ إذ إنَّ كل كلمة في التوراة تتضمَّن معنًى سامٍ ورفيعًا وسرًّا مُتعالٍ مُتسامٍ... إنَّ سرد التوراة ما هو إلَّا ثوبًا أو حُلَّةً لها. وويل لمن يأخذ بهذا الرداء ويظن أنَّه التوراة نفسها... إنَّ البُسطاء لا يُلاحظون إلَّا الأردية أو سرد التوراة القصصي، ولا يعرفون أي شيء آخر، ولا يرون إلّا ما هو ظاهر، أمَّا ما هو مخفي تحت الرداء فلا يصل نظرهم إليه. ووحدهم المُتعلمون المُتنورون المُثقفون لا يُلقون بالًا للرداء بل جُل تركيزهم منصب على ما يحجبه هذا الرداء.»

شرح وتوضيح

يمكن هنا أخذ قصة لعن شجرة التين([11]) كمثال على سرد لحدث يصعب احتمال وقوعه وبالتالي تصديقه، والذي، عند تفسيره على أنه قصة تمثيلية رمزية (allegory)، لا يصبح مقبولا فحسب، بل مصدرًا للتنوير والإلهام. إنَّ هذا الفعل، وهو لعن الشجرة، لا يبدو وكأنَّه فعلًا مسيحيًا؛ بل والأكثر غرابةً من ذلك، عندما ندرك أن الفعل قد تم في أوائل الربيع قبل عيد الفصح، أي ليس في موسم إثمار أشجار التين!. وفي الواقع، يمكن اعتبار السرد نفسه متناقضًا، وحتى سخيفًا. ومع ذلك، يُقال إن هذا التناقض والسخف نفسه هو مفتاح للفهم ودافع للبحث عن الحكمة المخفية والمحجوبة داخل السرد المزعوم للأحداث.

إنَّ القصص التمثيلية (allegories) في هذا العالم، في الواقع، وفي حدها الأدنى هي تسجيل للأحداث في الزمكان، والباقي ما هو إلَّا وصفٌ لتجارب وخبرات داخلية وبيان للسنن والشرائع والقوانين الكونيَّة. ولنصوغ الأمر ببساطة، إنَّ القاعدة أو القانون يقول: إنه إذا لم تُشارك جميع الكائنات الحية والكائنات الأخرى، بما في ذلك الأعراق والأمم والأفراد، ثمار حياتهم مع الآخرين، فإنهم سيذبُلون ويموتون. وعند تطبيق هذه القاعدة أو القانون على الفرد، سيجد الشخص الذي يحاول الاحتفاظ بثمار حياته لنفسه فقط - سواء كانت ممتلكاته الخارجية أو الحكمة والحقيقة والقوة أو القدرة التي عثر عليها بنفسه - دون أن يقدم أي شيء للآخرين، سيجد بالضرورة أن حياته الخاصة، سواء من الناحية الخارجية أو الداخلية، قد بدأ يُصيبها الركود والجمود وينزل بها التدهور والتلف.

الإيثارُ مجلبةٌ للغنى الرُّوحي

وهكذا، فإنَّ هذا الموضوع أعلاه يقود أو يلفت الإنتباه إلى سُنَّةٍ مستورة أو خفيّة، يمكن تسميتها بـ«سُنَّةِ العطاء أو الإيثار»، حيث إنَّها تمنح حياة أكثر وفرة وغنًى لمن يعطي من نفسه لغيره ولكن بحكمة وبلا أنانية. ولا شك، إنَّ العمل بهذه السُّنَّة لا يُلحق الخسارة بل الرِّبحَ، ولا يُنزل الموت بل الحياة الخالدة. وأمَّا تعطيلها، فلا يُوقِعُ إلَّا الخسارة والموت. وكان تاريخ الأمم والأفراد، على حد سواء، يشهد لهذه الحقيقة بأنَّها حق. وهذا المبدأ، أي مبدأ العطاء المُتدفق أو الفيضي، يُعتبر جوهريًا بل أساسيًا؛ لأنَّه السُّنَّة والقانون الذي يقوم عليه نظام الكون وهو مِلاكُه.

إنَّ اللوغوس (Logos) نفسه يحافظ على النظام الشمسي في حالة اتزان واستمرار من خلال تغذيته ودعمه بالعطاء الذاتي الكامل واللامحدود. هذا العطاء الذاتي، المعروف باسم الكينوسيس (kenosis) أو التخلية وإفراغ الذات، هو مفهوم أساسي في المسيحية. وقد مثل المسيح هذا المفهوم حين شبهه بحياة تابعٍ له، فقال: «... مَن يُبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياةٍ أبدية»، و«إذا سقطت حبة الحنطة في الأرض وماتت، فإنها تبقى وحدها: ولكن إذا ماتت، فإنها تأتي بثمار كثيرة.» وكما قال أحد الصوفيين المسيحيين، يجب أن يصبح المبتدئ (neophyte) «قمح المسيح.»

إن عُسر ميلاد يسوع، والاستسلام لبيلاطس واليهود والصلب، وكشف القلب الأقدس، واحتمال الجروح المفتوحة وتثقيب جلده، كلها رموز (symbols) لهذا الموقف من الإيثار المطلق تجاه الحياة. ويقال إن مثل هذه التخلية، ومثل هذا الحب والإيثار الذي يتجاوز الذات تمامًا، ومثل هذا الموت المُشخَّص، ضروري لتحقيق حياة أكثر وفرة وغنًى.

إن «الموت» من أجل الوعي بالفردانية المُنغلقة على ذاتها، ومن أجل التخلص من الأنانية وحب التملك يعني أن تحيا حياة أبدية. وعلى الرغم من أن مثل هذا التصريح يبدو غامضًا وحتى متناقضًا، إلا أن جميع الصوفيين العظماء يرون أنَّه من أحد أعظم الحقائق التي قيل بها على الإطلاق.

يبدو أننا في حضرة حقيقة غريبة. وهي أننا من أجل أن نعيش حياة أرحب، اقتداءً بالقدوة العظيمة، رب الحب، يجب أن نُميت رغباتنا الذاتية. يجب أن نُكرِّس أنفسنا لتضحيةٍ وخدمة غير أنانية. يجب أن نُخلِّي الذات من أجل الحب. الحب العالمي أو الكوني أو الشامل هو السبيل الوحيد الحقيقي إلى الحياة الأبدية، لأنه ينطوي على «تفريغ الذات أو تخلية الذات» من الذات. وهكذا، إنَّ نسيان الذات أو تجاوزها ومخالفتها هو أساس ومِلاكُ الروحانية بأجمعها. وما من باطني مخلص إلَّا ويواجه، خلال سعيه، هذه الحقيقة وهذه الضرورة. ويبدو أن التخلي يكون دائمًا عن الذي نعزّه أكثر من أي شيء آخر.

عند تطبيقها على اللوغوس، لا يجب أن تُؤخذ هذه الكلمات «تفريغ الذات، التخلية» و«الموت» على أنها تعبر عن الحقيقة بالكامل، لأن اللوغوس لا يصبح فارغًا أبدًا، ولا يموت أبدًا حقًا. اللوغوس يتجدد باستمرار من بُعْدٍ أعلى. وبالمثل، فإن الشمس، التي تُعتبر في الفلسفة الباطنية «قلبه» المادي، لا تستنزف نفسها على الرغم من عطائها الهائل، لأن ما تعطيه يُعوض فورًا في داخلها وهكذا. وهذا مُتحقق أيضًا في كل مناحي الحياة، سواء كانت دنيوية (secular) أم روحية (spiritual).

لقد صرَّحَ كاتب إنجيل متَّى، في سرد حادثة شجرة التين الذابلة، بهذا المبدأ، وهو التخلية والموت، في شكل قصة تصف عملا مزعومًا فعله رب الحب، أي المسيح، تسببَ في إيقاف حياة شجرة التين. وبهذه الطريقة جرى تصوير حقيقة روحية عميقة ذات أهمية قصوى لكل مبتدئ، في كل عصر، يسعى لاكتشاف البوابة الصغيرة والدخول عبرها إلى الطريق الضيقة، وذلك عن طريق قصة درامية مصغرة، وهي قصة تمثيلية رمزية (allegory) تخفي القانون المهم للغاية القائل بأن الحياة لا تُفقد بل تتحقق بالتخلي. وسبب هذا التمثيل والترميز والخفاء في القصة هو للاحتراز من التطبيق غير الحكيم للقانون على الممتلكات المادية الضرورية.

وهذا التفسير مدعوم بحقيقة أنه، بعد الحادثة، استمر المسيح في الإشارة إلى طبيعة ونطاق القوى الهائلة التي يمكن أن يصل إليها أولئك الذين يدخلون طريق التلمذة والمُسَارَّة (Discipleship and Initiation)؛ قائلا:

«21 ... «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ وَلاَ تَشُكُّونَ، فَلاَ تَفْعَلُونَ أَمْرَ التِّينَةِ فَقَطْ، بَلْ إِنْ قُلْتُمْ أَيْضًا لِهذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ وَانْطَرِحْ فِي الْبَحْرِ فَيَكُونُ.22 وَكُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ فِي الصَّلاَةِ مُؤْمِنِينَ تَنَالُونَهُ.»

إن دخول يسوع إلى أورشليم وهتاف الجموع، الذي تحتفل به الكنيسة باسم «أحد الشعانين» (Church)، والذي سبق مباشرة ذبول شجرة التين، يشير إلى أنه قد جرى إحراز تقدم روحي مؤكد، وهو انتصار الروح على الجسد، انتصار قوة المسيح الداخلية على العقل والعواطف ومبدأ الحيوية والجسد المادي - أي الرباعي السفلي (الحمار الذليل) - والانتصار على العديد من العادات والرغبات والشهوات - أي الحشد المتجاوب - المتأصلة في جوهر الأجسام المادية وما فوق المادية.

حرفيًّا أم رمزيًّا؟

إذا جرى الاعتراض بالقول أنّه من غير المقبول استنتاج الكثير من حادثة بسيطة وواضحة وقصيرة جدًا مثل حادثة لعن شجرة التين وسلبها الحياة، فهُنا يُمكن القول، أوَّلًا، أنَّ القراءة الحرفيَّة لهذه القصة الموجزة والقصيرة تنسب فعلًا، وبالتالي، تُلحق سمة غير مقبولة بشخص المسيح، وهو القائل: «... أمّا أنا فقد أتيتُ لِتكونَ لهُم حياةٌ، بل مِلءُ الحياةِ!». وثانيًا، تقدم هذه الحادثة، في معناها الحرفي، ممارسة لا معنى لها وإن ممارسة القوة الخارقة للطبيعة بهذه الطريقة لهو  أمر منكر وغريب، لأنها تذكرنا بسحرة الشعوب البدائية.

وفي حين أنه من المسلم به أن حقيقة تفضيل فكرة ما على أخرى ليس دليلاً على صحتها، إلا أن الأدلة التراكمية التي جرى الحصول عليها من خلال تأويلات مماثلة لعدد كبير جدًا من قصص الكتاب المقدس قوية جدًا بحيث تصل إلى حد البرهان. وعندما نضيف إلى ما تقدم القصد المعلن للكُتَّاب القدماء، والوصية الصريحة للمسيح، بإخفاء المعرفة الواهبة للقوة وأسرار المملكة (أي اللآلئ) عن العامة، والكشف عنها للمؤهلين فقط، لأنها يمكن أن تكون خطرة في الأيدي الخطأ (أي الخنازير)، فإن القضية القائلة بوجود اللسان المقدس واستخدامه تبدو غير قابلة للنقض.



[1]- لأنَّها أمور ذوقية بحسب الاصطلاح العرفاني. والذوق في الصوفية، هو من أسرار التجربة المباشرة التي يمر بها الفرد بذاته. و يشير إلى الخبرة الباطنية الإلهية الذي تتحقق تجريبيًا، نتيجة للتجول الروحي التجريبي الصارم. المعرب 

[2]-  أو إعدادية (Prepararory) وهي لتدريب الطالب بقصد إعداده للتعامل مع مراحل تعليمية مُتقدمة أي للتعامل مع علوم ومعارف مُتقدمة. المعرب

[3]-  نقصد «بالمنقول أو المنقولات» كُل ما مرره الأسلاف أو الأجداد أو المؤدبين... إلى الأجيال الناشئة بالمُشافهة والتلقين، من تعاليم ومعارف وعلوم روحية وسرية. المعرب

[4]- "وَتَكُونُ هُنَاكَ سِكَّةٌ وَطَرِيقٌ يُقَالُ لَهَا: «الطَّرِيقُ الْمُقَدَّسَةُ». لاَ يَعْبُرُ فِيهَا نَجِسٌ، بَلْ هِيَ لَهُمْ. مَنْ سَلَكَ فِي الطَّرِيقِ حَتَّى الْجُهَّالُ، لاَ يَضِلُّ. لاَ يَكُونُ هُنَاكَ أَسَدٌ. وَحْشٌ مُفْتَرِسٌ لاَ يَصْعَدُ إِلَيْهَا. لاَ يُوجَدُ هُنَاكَ. بَلْ يَسْلُكُ الْمَفْدِيُّونَ فِيهَا." (إش 35: 8-9).  

[5]-  ومن الأسباب الأخرى لمثل هذا الكشف: هو لإثارة التساؤل والفضول عند المُريد للبدء بالتحري عنها؛ ولكي تُحفظ وتصل للأجيال اللاحقة لتعطيهم القوة، ولتحفظ بعيدة من عبث العابثين والفسدة، حتى وإن كُشفت للخالي من أي أنانية والذي هو خادم للبشرية، إذ بسبب حالته هذه فهو الأقرب لأن تصل إليه تلك الحقائق لما يتمتع به من نزاهة.

[6]-  إلزابيث باريت براوننغ (Elizabeth Barrett Browning) (6 مارس 1806- 29 يونيو 1861) كانت من أبرز شعراء العصر الفيكتوري. كان شعرها يتداوله الناس بكثرة  في كل من إنجلترا والولايات المتحدة خلال فترة حياتها. ويكيبيديا

[7]- والأمر مُشابه في (القرآن الكريم)، حيث تذكر الآية أن الليل والنهار خُلقا قبل الشمس والقمر: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلَّیۡلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلࣱّ فِی فَلَكࣲ یَسۡبَحُونَ﴾ [الأنبياء ٣٣]، وحرف الواو يُفيد الترتيب المنطقي. المُعرب  

[8]- هذا مقطع من سفر يشوع في التوراة، من الإصحاح العاشر الآية 12. والمقطع كاملًا: "حِينَئِذٍ كَلَّمَ يَشُوعُ الرَّبَّ، يَوْمَ أَسْلَمَ الرَّبُّ الأَمُورِيِّينَ أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ أَمَامَ عُيُونِ إِسْرَائِيلَ: «يَا شَمْسُ دُومِي عَلَى جِبْعُونَ، وَيَا قَمَرُ عَلَى وَادِي أَيَّلُونَ»."

[9]- وَقَالَ الرَّبُّ: «هُوَذَا شَعْبٌ وَاحِدٌ وَلِسَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِهِمْ، وَهذَا ابْتِدَاؤُهُمْ بِالْعَمَلِ. وَالآنَ لاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَا يَنْوُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ. 7هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ لِسَانَ بَعْضٍ». 8فَبَدَّدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ، فَكَفُّوا عَنْ بُنْيَانِ الْمَدِينَةِ، 9لِذلِكَ دُعِيَ اسْمُهَا «بَابِلَ» لأَنَّ الرَّبَّ هُنَاكَ بَلْبَلَ لِسَانَ كُلِّ الأَرْضِ. وَمِنْ هُنَاكَ بَدَّدَهُمُ الرَّبُّ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ. سفر التكوين، الإصحاح 11، الآيات: 6و7و8و9.

[10]- أحوج الأمم لهذا المنهج الذي يعتبر الكتب المقدسة أُمثولية (ألغورية) أي مكتوبة بأسلوب القَصَص التَّمْثِيِلي (allegory) هي الأمة المسلمة اليوم، حيث إن بعض الآيات التي ظاهرها حث وأمر على قتل الناس الآخرين اتخذت أساسًا لبناء حركات متطرفة إرهابية أفسدت في الأرض أيما فساد، وكذلك نفس الأمر بالنسبة للأحاديث. ولما استخدمنا المنهج على الآيات والأحاديث شخصيًّا، اكتشفنا حقائق روحية غاية في الجمال والعمق. المعرب 

[11]- "فَنَظَرَ شَجَرَةَ تِينٍ عَلَى الطَّرِيقِ، وَجَاءَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا شَيْئًا إِلاَّ وَرَقًا فَقَطْ. فَقَالَ لَهَا: «لاَ يَكُنْ مِنْكِ ثَمَرٌ بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ!» فَيَبِسَتِ التِّينَةُ فِي الْحَالِ." (مت 21: 19).  

تعليقات

مواضيع المقالة