تصدير المؤلف
لقد قبلت في سنواتي الأولى، مثل الغالبية العظمى من المسيحيين الآخرين، الكتاب المقدس باعتباره كلمة الله الموحى بها، ورسالة مباشرة منه إلى الإنسان. ولكني صُدمتُ ونفرت فيما بعدُ، عندما كشف المنهج النقدي الصارم للكتاب المقدس أُمورًا بدت غير قابلة للتصديق، وأخرى مُستحيلة من عدة حيثيات، بل وحتى فاحشة. ولما وجدت نفسي غير قادر على تجاهل هذه العوائق التي تقف حائلًا أمام الإيمان بالكتاب المقدس أو تبني وجهة نظر متسامحة وغير نقدية بإزائه، برز أمامي سبيلان: أحدهما أن أتخلص تمامًا من المفهوم الأرثوذكسي (الرسمي) للكتاب المقدس الذي يعتبره مصدرًا خالٍ من النقص ولا يخطئ في تقديم الحكمة الروحية والمشورة الأخلاقية؛ أو الشروع في دراسة مفصلة للنص كاملًا. وقد اخترت هذه السبيل الأخيرة. وكان سبب اختياري لها أني اكتشفتُ أنَّ العديد من الصعوبات الناشئة عن القراءة الحرفية للكتاب المقدس تتلاشى إذا اعتُبر الكثير من أحداثه وقصصه «أُمْثُولِيَّة» أي مكتوبة بأسلوب القصص التمثيلي (allegorical)([1]).
ولقد وجدت أن العديد من العلماء الموسوعيين يؤكدون على أنَّ صائغي الكتب المقدسة العالمية قد أخفوا عمداً وبفطنة وذكاء تحت حُجُب القَصَص التَّمْثِيِلي (allegory) والرموز الحقائقَ العميقة التي اكتشفوها بالبحث المباشر. وما حملهم على ستر هذه المعرفة الروحية هو إدراكهم ووعيهم بحقيقة أن هذه المعرفة ستمنح، بلا شك، قدرات روحية وفكرية ونفسية وفيزيائية فائقة لمُتلقيها؛ ولأن هذه القدرات كانت ولا تزال عرضة لإساءة استخدامها بقوة – شر الكهنة([2]) والسيطرة الذهنية على سبيل المثال – فقد أصبح من الضروري بذل كل ما هو ممكن لجعل هذه الحكمة والمعرفة متاحة للمؤتمنين المؤهلين وسترها عن غير المُؤهلين. ولأجل هذا الغرض أبدعوا فئة خاصة من الأدب الرفيع تختلف عن الكتابة العادية، تعتمد على بعض الحقائق التاريخية كأساس لها، وتتكون بشكل كبير من القصص التمثيلية allegories)) والرموز (symbols) وبعض الكلمات المفتاحية، أي كلمات محددة تحمل دلالات خاصة تتيح للمؤتمنين المؤهلين الوصول إلى الحكمة، بينما تسترها عن غير المؤهلين. وقد أُعْطِيَتْ هذه الكلمات معاني (دلالات) متفق عليها عالميًا، مما كوَّن لغة مُشفَّرَة صِيْغَ بها دين الحِكمة الأزليَّة (the ageless Wisdom Religion)([3])، النظري والعملي، وقُدِّمَ للبشرية بطريقة آمنة ومسؤولة. وقد كان هذا، كما تَعلَّمتُ، أصل وطبيعة وغرض اللسان المُقدس (Sacred Language)([4]).
عندما اكتشفت أنَّ أجزاءً من الكتاب المقدس ذات طبيعة «أُمْثُولِيَّة» أو قَصٍّ تمثيلي (allegorical)، بدأتُ في تطبيقِ مفاتيحَ تأويليةً متنوعةً وجدتها في الأدب القديم والحديث على العديدِ من هذه الأجزاء فيه. وكانت الثمار غنية للغاية، إذ قد حُلَّتْ العديد من الصعوبات النصية التي تواجه القارئ الناقد، واكتسبتُ فلسفة حياة عميقة، روحية وفكرية وعملية، غنية للغاية. فدفعتني هذه الاكتشافات لمشاركتها في صورة كتاب. وسيجد القارئ الكريم أنَّ هذا الجزء الأول يركز بشكل رئيس على دراسة اللسان المقدس ذاته وتقديم بعض المفاتيح التأويلية (interpretation) الكلاسيكية (المأثورة)، مع بعض نتائج مُستمدة من تطبيقها على قصص الكتاب المقدس، وخاصة حياة السيد المسيح (Christ). ويجب أن أشير إلى أن هذا العمل لا يدّعي التمام والكمال. وقد جرى اتخاذ العناية والحرص بألا يجري التأكيد بشكل مبالغ فيه على المعاني الرمزية المحتملة، ولا قراءة ما هو غير متأصل في النص أو كان موجوداً في عقول المؤلفين على الأرجح. ولقد اقترحتُ التأويلات الرئيسة وقارنتها بكتابات الحكماء والفلاسفة، بما في ذلك علماء العبرية، لاختبار صحة هذا المنهج (approach) وقدرته على فتح تابوت الكتب المقدسة وأساطير الشعوب القديمة. إنَّ الاقتباسات التي تسبق هذه المقدمة، تُشير إلى بعض هذه المصادر الأدبية، بينما تقدم المقدمة والفصل الأول توضيحًا أعمق للفكرة المركزية وتطبيقاتها على المشاكل اللاهوتية والعالمية الحديثة.
لقد وجدتُ أن أحد أسهل المصادر المتاحة من هذا القبيل هو أدب الجمعية الثيوصوفية. ففي القرون الأولى من العصر المسيحي، ابتكر الأفلاطونيون الجدد (Neo- Platonists)، بمن فيهم أمونيوس ساكوس (Ammonius Saccus) وتلاميذه، مصطلح الثيوصوفيا (Theosophia)، الذي يعني الحكمة الإلهية (Divine Wisdom). فبالنسبة لهم، كانت الثيوصوفيا تشير إلى مجمل الحكمة المُوحَى بها والمعرفة المكتشفة التي أهدتها السماء لبني البشر عبر العصور. يُشار إلى استخدام هذا المصدر هنا لتوضيح، عند الضرورة، الإشارة المستمرة إلى الأدب الثيوصوفي، القديم والحديث، واعتماد بعض مصطلحاته. ولأغراض الإيجاز والدقة في العرض، تُستخدم أحيانًا كلمات سنسكريتية، ولكن في جميع الحالات تُقدم شروحًا موجزة للعقائد (doctrines) وترجمات كاملة للكلمات السنسكريتية كهوامش.
وهكذا، ومن خلال دراسة الكتاب المقدس، وجدتُ أن العديد من الصعوبات والتناقضات التي كانت لهذه اللحظة مُحيرة للغاية قد تلاشت. وخِتامًا، أتمنى أن يجد أولئك الذين يجدون أنفسهم واقعين في حيرة مماثلة ويطلبون جادين وجه الحق- أن يجدوا في هذه المجلدات طلبتهم، فتحلحل لهم مشاكلهم ويعود الإيمان يُنير قلوبهم ويهدي أبصارهم.
جَفري هادسِن
أوكلاند, نيوزيلندا، 1963
[1]- يجب الانتباه أنَّ (الألغوري) ليس مجازًا ولا استعارةً بل أسلوب خاص بالعلوم الإلهية والربانية والحكمة الروحية لنقل الحقائق الروحية عبر الزمان والمكان إلى مُستحقيها في صيغة تعتبر مشفرة ومطلسمة لمن لا يملك الاستعداد بعد، بينما هي واضحة لأهلها، وبذلك فالتمثيل الرمزي أو الألغوري أو الأُمثولة هو نص لا ينقل إلا الحقائق بصورة مُباشرة، ولكون هذه الحقائق إلهية (وهذا يلزم عنه أن تكون لا نهائية) فإن قراءتها تتعدد بتعدد مستوى وعي القارئين، فقراءة الحكيم تختلف جذريًّا عن قراءة الفيلسوف أو الباحث الحداثي فضلا عن العامي وغيره، وهذا بدهي لذي تأمل ونظر. والمُصطلح يعني: أنَّ النص موضوع (على غِرار allegory) الحقائق الإلهية، فهو غِرارها أي الوعاء الحامل لها، مثل الغِرارة التي تحمل الدنانير والتمر وغيره، وبذلك فعليك أن تفتح هذا الغِرار الوعائي لتنظر فيما يحتوي من حقائق إلهية، ويجب الحذر! أن (لا تغتر ويغرك الغِرار)، أي حرفية النص وما يتبادر لأول وهلة من معنى، لتبدأ تقرأ حرفيًا وتصنع أديانا أرضية وطقوسًا وفقهًا وأمورًا ما أنزل الله بها من سلطان، فتدبر وتأمل! المعرب
[2]- مصطلح «priestcraft» يُترجم لـ"سياسة الكهنوت: ويعني الحيل التي يقوم بها الكهنة لاخضاع الشعب". قاموس إلياس العصري
[3]- "الدين الواحد الذي يكمن وراء جميع العقائد".
[4]- راجع كتاب قاموس اللسان المُقدس «اللسانُ المُقدَّسُ لجميعِ الكُتُبِ السَّماويَّةِ والأساطيرِ»، جورج آرثر جاسكل. (الكتاب قيد الترجمة). المعرب
تعليقات
إرسال تعليق