القائمة الرئيسية

الصفحات

الفصل الخامس: دوام الشمس على جِبعون

الشمس اللامرئية في الإنسان

يُواجَه طالب دين الحكمة بمقولة مفادها أن الكون بأسره، بجانبيه المادي والميتافيزيقي، يُعاد تصويره وتجسيده أو يُعاد تسجيله وحفظه في الإنسان وأجساده اللطيفة والكثيفة التي هي وسائط تعبيره عن ذاته. فالشمس والكواكب والأقمار وما يحكمها، إلى جانب القوى والكائنات وممالك الطبيعة وأشكال الحياة المتنوعة، كلها تجد انعكاسًا أو تمثيلاً لها داخل الإنسان في نظام ديناميكي من التفاعلات المتبادلة، الأمر الذي يُشير إلى توافق أو انسجام داخلي بين الإنسان وهذه المكونات الكونية، وكأن هناك صدى متبادلاً بين الإنسان والعالم. ولذلك يُوصَف الإنسان بأنه خلاصة الكون بأسره، ونسخة مصغرة تمثل الطبيعة بكل جوانبها، المرئية منها وغير المرئية([1]).

هذا المفهوم الأساسي عرفه الفلاسفة القدماء باسم نظرية الماكروكوزم (Macrocosm) أو «العالم الكبير» والميكروكوزم (microcosm) أو «العالم الصغير». كان يُعتقد أن انعكاس العالم الأكبر (الله والكون) في العالم الأصغر (الإنسان) يكمن فيه مفتاح كل المعرفة؛ لأنه من خلال الجزء (the part) يمكن إدراك الكل (the whole): من خلال معرفة الفرد يمكن فهم الكوني. من هنا جاءت الكلمات المنحوتة فوق أبواب معابد الأسرار القديمة: «أيها الإنسان، اعرف نفسك» (Man, Know Thyself).

تقول الحِكمة القديمة: «الإنسان هو ذلك الكائن الذي تتحد فيه الروح الأسمى بالمادة الأدنى بتوسط العقل.» فهو يمثل خلاصة الكون، أي الجِرم الصغير الذي انطوى فيه العالم الأكبر([2]).

إذا كانت الحكمة القديمة ترى أن الإنسان يحتوي بالقوة كل ما في الطبيعة، فقد يكون في ذلك مفتاح لفهم بُعدٍ صوفي في عنوان هذا الفصل. فالإشارة قد لا تكون إلى الشمس الفيزيائية، أي الجرم السماوي المعروف، بل إلى نورٍ وقوةٍ شمسيةٍ داخلية تتجلى في الطبيعة والإنسان. وكما يقول الصوفي الإنجليزي توماس براون (Thomas Browne):

«الحياة شعلةٌ نقية، ونحن نستمد نورنا من شمسٍ غير مرئية في أعماقنا([3])

نجد في الإصحاح الستين من سفر إشعياء، والذي يتخذ طابع توجيه روحي للمُقبل على الاستنارة، إشارة إلى أن الإنسان، عند بلوغه مستوى معينًا من التطور الروحي، يكتشف نورًا داخليًا يشع بذاته، فلا يعود ذهنه وروحه خاضعين لتقلبات الظلمة والضياء. فالشمس التي في داخله تصبح نوره الأبدي. ويبدأ الإصحاح بهذه الكلمات:

«قُومِي اسْتَنِيرِي لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ نُورُكِ، وَمَجْدُ الرَّبِّ أَشْرَقَ عَلَيْكِ([4])»:

«لاَ تَكُونُ لَكِ بَعْدُ الشَّمْسُ نُورًا فِي النَّهَارِ، وَلاَ الْقَمَرُ يُنِيرُ لَكِ مُضِيئًا، بَلِ الرَّبُّ يَكُونُ لَكِ نُورًا أَبَدِيًّا وَإِلهُكِ زِينَتَكِ.» (إش 60: 19).

«لاَ تَغِيبُ بَعْدُ شَمْسُكِ، وَقَمَرُكِ لاَ يَنْقُصُ، لأَنَّ الرَّبَّ يَكُونُ لَكِ نُورًا أَبَدِيًّا، وَتُكْمَلُ أَيَّامُ نَوْحِكِ.» (إش 60: 20).

هنا يظهر دليل على أن الإشارة ليست إلى الشمس والقمر الماديين، بل إلى مصدر نور آخر غير فيزيائي.

ومن الشواهد الداعمة لهذا المفهوم في الكتاب المقدس، قصة يشوع (Joshua) الذي استطاع إيقاف الشمس والقمر. فبعد أن انتقل من الجلجال (Gilgal) لإنقاذ مدينة جبعون المحاصرة، وقع حدث استثنائي، إن لم يكن مستحيلاً، حيث يُقال إن الشمس والقمر توقفا، مما يشير إلى قوة روحية تتجاوز القوانين الطبيعية، وتوحي بسيطرة الإنسان المستنير على الزمن والظروف:

«حِينَئِذٍ كَلَّمَ يَشُوعُ الرَّبَّ، يَوْمَ أَسْلَمَ الرَّبُّ الأَمُورِيِّينَ أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ أَمَامَ عُيُونِ إِسْرَائِيلَ: «يَا شَمْسُ دُومِي عَلَى جِبْعُونَ، وَيَا قَمَرُ عَلَى وَادِي أَيَّلُونَ». فَدَامَتِ الشَّمْسُ وَوَقَفَ الْقَمَرُ حَتَّى انْتَقَمَ الشَّعْبُ مِنْ أَعْدَائِهِ. أَلَيْسَ هذَا مَكْتُوبًا فِي سِفْرِ يَاشَرَ؟ فَوَقَفَتِ الشَّمْسُ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ وَلَمْ تَعْجَلْ لِلْغُرُوبِ نَحْوَ يَوْمٍ كَامِل. وَلَمْ يَكُنْ مِثْلُ ذلِكَ الْيَوْمِ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ سَمِعَ فِيهِ الرَّبُّ صَوْتَ إِنْسَانٍ، لأَنَّ الرَّبَّ حَارَبَ عَنْ إِسْرَائِيلَ." (يشوع 10: 12-14).

هنا، مرة أخرى، يبدو جليًا أن الإشارة ليست إلى الشمس والقمر الماديين، إذ إن قراءة هذه الآيات قراءة حرفية سيكشف عن خطأ جسيم في المعرفة الفلكية لدى المؤلفين. وكما ذُكر سابقًا، فالأرض هي التي تتحرك، وليس الشمس، ولو توقفت الأرض فجأة عن الدوران، لكان من المرجح أن تتفكك. علاوة على ذلك، لو بقيت الشمس ثابتة في وسط السماء، لما كانت هناك حاجة أو فائدة في إيقاف حركة القمر أيضًا.

يشوع يجعل الشمس تقف ساكنة

إذًا، ما الذي يُلمَّحُ إليه صوفيًا في فعل يشوع بإبقاء الشمس «في كبد السماء»؟ وما دلالة القول، الوارد في هذه القصة كما في بعض طقوس الاستنارة، بأن الشمس يمكن أن تبقى ثابتة عند منتصف مسارها؟

في الفلسفة الباطنية أو السرانية (occult philosophy)، تمثل الشمس، داخل الإنسان، ذاته الروحية العليا، الموناد (Monad)، التي تشكل المركز والمصدر للنار الإلهية والنور اللذين يتجلى فيهما كل من العالم الأكبر (الماكروكوزم) والعالم الأصغر (الميكروكوزم). أما القمر، فيُستخدم كرمز للإنسان الفاني، الذي يستمد نوره من الذات الروحية، أي الشمس الداخلية، ويعكس ذلك النور بدرجات متفاوتة من النقاء وفي مراحل مختلفة من تطوره.

يمكن إذًا اعتبار الشمس والقمر رمزان للجوانب الخالدة والفانية في طبيعة الإنسان، أي الروح والجسد. وإذا اعتمدنا هذا التفسير، يتجلى يشوع كشخصية ذات تطور روحي عالٍ، وربما كان أحد المُسَارَرِين بأسرار (Mysteries) الحكمة العظمى أو مدارس الأنبياء. وقبل أن يتمكن من الانتقال إلى المرحلة التالية من تطوره، كان عليه أن يحقق السيطرة الكاملة على أعلى (الشمس) وأدنى (القمر) جوانب طبيعته، وأن يضعهما في توازن وانسجام. وفي حياته الخارجية، كان لا بد أن يكتسب القدرة على إبقاء الشمس الروحية داخله دائمًا عند ذروتها، أي في موضع أقصى قوتها. وبمصطلحات الحياة والسلوك العملي، يمكن فهم ذلك على أنه الوصول إلى القدرة على توجيه كل الأفعال الخارجية بإرادة روحية تخضع للقوانين الروحية. وبما أن هذه القوة خطيرة، فإن الطريق إلى تحقيقها يظل محجوبًا ومخفيًّا (concealed)، حتى عندما يُكشف عنه من خلال حجاب من الرمزية (symbology) أو حتى بالقصِّ اللامعقول أحيانًا أخر.

وفقًا لمفهوم المبادئ السبعة للإنسان (even principles)، يمثل يشوع العقل. في مرحلة معينة من التطور، نجد أنَّ العقل يُصبح سجنًا للنور الداخلي، إذ يعمل على تشويهه أو يضيع أثره، مما يؤدي إلى فقدان الاتصال بالذات الإلهية الكامنة فيه. وعلى المستوى الفكري، يظل الإنسان خاضعًا لدورات من النور والظلام، أي فترات متعاقبة من الإدراك الروحي والفكري ومن الغفلة والجهل. لكن عندما تُخاض «معركة جبعون» بنجاح، كما فعل يشوع رمزيًا، تتحقق الغلبة، حيث ينتصر العقل على كلٍّ من الشمس والقمر([5])، أي يحقق السيادة على القوة الروحية الداخلية ونورها، وكذلك على تعبيرها المادي في العالم الخارجي.

معركة جبعون الباطنية

وصف معركة جبعون، مثل العديد من الروايات في النصوص المقدسة حول العالم، يمكن اعتباره قصصًا تمثيليًّا (allegory) للأرمجدون([6]) (Armageddon) الكونية والأزلية، التي تشكل الطبيعة كلها - والإنسان ذاته - ميدانها. إنها الصراع الكوني والفردي بين الروح والمادة، بين الحياة والشكل، بين الوعي (consciousness) ووسيلته في التعبير، أي مركباته أو أجساده الكثيفة واللطيفة.

يجسد يشوع الإنسان الذي انتصر في هذه المعركة، كما انتصر في جبعون، بمساعدة «الرب»، أي العنصر الإلهي الكامن فيه. لقد تحقق له النصر لأنه أحكم السيطرة على قوى الشمس والقمر، أي على طبيعته الروحية والمادية على حد سواء. فقد وضع شمسه الداخلية عند ذروتها، في موضع أقصى قوتها، ولم يعد بإمكان «التربيع الأدنى» - أي الشخصية البشرية بأبعادها الأربعة - أن يحجب بعد ذلك أشعة «الشمس الثلاثية»، أي الذات المُتألِّهة في داخله.

إنَّ التصالح الذي يعقب النزاع يمكن أن يُفهم على أنه ذلك الهدوء الذي يسود الذهن، والذي من خلاله فقط تستطيع أشعة الشمس الروحانية أن تُشرق على الشخصية الفانية وتضيئها. وهكذا، فإن التوقف الظاهري للشمس والقمر، والذي يبدو مستحيلاً من وجهة نظر علم الفلك، يمكن أن يقدم لنا دلالة مهمة، بل ومقصودة، للمعنى الباطني لهذا الرمز، ومرشداً قيماً لتحقيق الاستنارة الذاتية. فمن خلال بذل جهد واعٍ ومقصود، يمكن نقل الذات الروحية والعقل والوعي الجسدي إلى داخل حالة من «التراصف العمودي» المثالي والحفاظ عليها على هذا النحو، دائماً في حالة «استقامة شاقولية» (plumb) عمودية رأسية (Vertical).

الحكمة القديمة كالشمس

لطالما اعتُبر سكون الذهن أمراً ضرورياً للاستنارة الذاتية. إيليا سمع صوت الرب ليس في الزلزال أو الريح أو النار، بل في الصمت الذي أعقب مرورهم. فنجد المُرنم، أي داود في مزاميره، يعلن هذه الشريعة بالكلمات: «كُفّوا، واعلموا أني أنا الله»([7]).

تُعتبر الحكمة القديمة نفسها، من وجهة نظر الكثيرين، مصدرًا لكل من مجموع الأفكار المشتركة بين الأديان العالمية والنور الروحي الذي يتلقاه الإنسان؛ فكما أن الشمس المادية تأتي بالضياء والحياة إلى أشكال الطبيعة المتطورة، كذلك الحكمة القديمة هي بمثابة شمس تُضيء العقول المتفتحة للبشر. من المفترض أن يضطلع الدين التقليدي، بشكل مثالي، بوظيفتين هامتين: كشف نور الحكمة القديمة للبشرية، وتوفير الوسائل التي من خلالها يصل هذا النور مباشرة إلى عقل الإنسان. هذا ما فعلته الأسرار الكبرى (Greater Mysteries)، فعندما يُقبَل الشخص في نظام روحي سراني (occult Order) حق، فإنه يتلقى ذلك الضياء والنور. بالإضافة إلى ذلك، يساعد فعل التكريس (consecration) والتدريب الذي يسبقه ويليه على فتح وعيه على أشعته. يُعد التعاقب في درجات المُسَارَّة (Initiations) بمثابة اعتراف بالصعود المتتالي إلى حالات أعلى من الوعي. كل صعود يُقرّبُ المُسَارَرَ (Initiate) من المصدر، الشمس الروحية، ومن خلال تحفيز أعضاء الحس المادية وما وراء المادية المناسبة، يزيد من قدرته على إدراك ضياءها. رمزياً، تُوضع الشمس أولاً في منتصف النهار أو مكان أقصى قوتها، وبعد ذلك، تُحافظ على هذا الوضع. رمزياً، بالنسبة للمُسَارَرِ الناجح، الذي تجسده شخصية يشوع، فإن الشمس تقف ثابتة ساكنة من أجله.

النار الشمسية

إن من شروط نزول الفيض النوراني الشمسي، أي الطاقة الروحية، من لدن الشمس الروحية، عبر الموناد الإنساني، الشمس الكونية الصغرى، إلى مدارك العقل وصولًا إلى أروقة الدماغ، أن يجري صعود مُتمِّمٌ وموازٍ للطاقة الكامنة الأرضية في مركز كوكب اللهب، المستقر في جوف الأرض، والذي يُشار له أحيانًا باسم «الفضية» (lunar). وفي الإنسان المتمرس المتأدب بالأسرار، يتدفق هذا الفيض الأرضي صعودًا في النخاع الشوكي، ليتركز في بؤرة القوة عند منبت الظهر، أي قاعدة العمود الفقري. ومن ثم، إذا ما استيقظت هذه الطاقة بكامل قوتها، ارتفعت في حركة أفعوانية([8]) ضمن النخاع الشوكي إلى منتصف الرأس، إلى قدس الأقداس، أو مشرق معبد الجسد. وهذه الطاقة الباطنية، المانحة للقدرات، والمحفوفة بالمخاطر، يُرمز إليها بالتنانين والأفاعي في مختلف صورها، كأحد معانيها المستترة.

تصور الأعمال الفنية الدينية المصرية أجزاء من طقوس الاستهلال، المُسَارَّة (Initiation)، وفي معظم المنحوتات والآثار والجداريات وأوراق البردي، يرتدي المرشحون مئزراً مثلثًا. هذا الرمز له معانٍ عديدة. أحدها أنه يمثل فعل الحماية للإرادة، الذي يمنع هذه القوة من التدفق إلى الأمام وعبر الأعضاء الإبداعية الجسدية ليوجهها صعوداً على طول الحبل الشوكي إلى الرأس. هناك، تلتقي هذه القوة بالنار الشمسية النازلة وتتحد معها. يُرمز إلى هذا الاتحاد أحياناً بالزواج وحتى بالعلاقات غير الشرعية. هذا التدفق واتحاد النارين يفتح الباب عند تاج الرأس (رمزيًّا تنحية حجر القبر)، ويصبح وعي المُسَارَرِ بعد ذلك خالداً، حراً (بعث من الموت) من النزعة الانفصالية للعقل وفناء الجسد، اللذين ارتفع منهما الآن.

إن الأسرار الحقيقية الأصيلة الخاصة بالمعارف العرفانية السِّرَّانيَّة التي اكتشفت آنذاك لا تتكون من عرض وبسط للحقائق أو لمفاهيم فكرية بشأن الحياة، بل من تجربة حية ومباشرة للألوهية وكونية الحياة وكيفية تجليها. والنتيجة دائماً ما تكون مُصاغة في سرٍّ، لا يمكن إيصاله لأولئك الذين لم يتسنَّ لهم، بعد، خوضَ مثل هذه التجربة والرحلة الشهودية التجريبية في جوهرها.

قمة الجبل ووعي الشمس

لم يكسر موسى ألواح الشريعة مُتعمِّدًا، بل كان ذلك بفعل قوانين معينة من قوانين الطبيعة التي تم الكشف عنها في هذه القصة بأسلوب القصص التمثيلي (allegory). وتأويل كسر الألواح يكون كما يلي: لا يبلغ المرء الأنوار إلا على ذروة الجبل، رمز الوعي السامي، والارتقاء الروحاني. ولكن إنَّ ما يجنيه من قوة وحكمة ومعرفة، سيمسه التشويه، أو يضيع بالكلية، إذا ما انحدر الوعي إلى مدارج دُنيا سافلة. أي من ناحية القص التمثيلي، إنَّ تَكسُّرَ ألواح الشريعة يعني أنَّ النور الروحي لأولئك الذين لا يزالون في وادي الوعي الدنيوي الخالص، يعبدون العجل الذهبي، رمز المادية وقواها، قد ذهب، فتُرِكوا في ظلمات لا يُبصرون. إذ بالنسبة لهؤلاء، لا يبقى لهم إلَّا الاسرار وهي مُصاغة في شكل رموز وأمثال ونصوص دينية، وعقائد ومراسم دينية ظاهرية، وهي ضرورية دائماً، وهذا هو كل ما يمكن إتاحته لهم. إذ إنَّ الأسرار الحقيقية لا يُمكن أن يبلغها إلا امرؤٌ يصعد بانتظام بالتأمل إلى حالة الاستنارة الخاصة بذاته الشمسية، ثم منها إلى الذات الشمسية للكون. وبالحفاظ على نفسه في تلك الحالة، فإنه يتسبب رمزياً في توقف أو سكون الشمس.

إنَّ الهدف الداخلي للدين هو رفع أتباعه إلى قمة الجبل، أي قمة الوعي الروحي الكامل. هناك، كما يصور قصة إيليا و«الصوت الخفيض الهادئ»، يمكن تحقيق التواصل مع الله، المبدأ الإلهي في الداخل. لقد أدرك موسى داخلياً وهو على قمة الجبل، وليس خارجيًّا، قوانين الوجود وتطبيقها على السلوك البشري. ونجد المسيح على الجبل وقد ألقى أعظم عظاته، وتجلى. وهكذا يجب على كل طالب للنور أن يصعد رمزياً ويبقى بعد ذلك على الجبل، مرتفعاً عقلياً ومُرتقيًا نحو الشمس داخل الإنسان.

الشمس كلية الوجود

تُتخذ الشمس المادية، كما هو الحال في العديد من الرموز الشمسية في الكتاب المقدس والأساطير، رمزًا لكل من الشمس الروحية السارية في كل مكان، والكليّة الوجود، وحضورها المتولد في الإنسان. كما يمكن اتخاذ هذا النجم بوابة تأمل تفضي إلى الاستنارة الروحية. وحين يَفلح التأمل في الشمس، يدخل المتأمل قلبها، ليبدأ رؤية جوانب النار وقوة النظام الشمسي. ومن هناك، يغدو الكون كله شمسًا. فتتوارى كرة النار، لتُفسح المجال لقوة الشمس، وحياة الشمس، ونار الشمس السارية في كل مكان.

هذا هو الثالوث الكوني، الذي ينعكس في الإنسان كذاته الروحية الثلاثية. فعندما يرتقي الوعي الشمسي، يُدرك أن جميع الكائنات جزء من الشمس. وهنا يعي المتعبد ذاته بأنها تجلٍّ لنار الشمس وقوتها الكونية. وفي هذا المقام السامي، تتلألأ الأشياء جميعها وتشِع بضياء الشمس المستكن في كل ذرة وخليّة. والأرض ذاتها تشرق بوهج ناري. واللباس([9]) الخفي لنفس المتعبد يتلألأ مرتفعًا. ووعيه يضطرم بنور الشمس ونارها. وفي نشوة الوجد، يعي ذاته متحدًا بالشمس، لا في ثنائية، بل في وحدة وتطابق تام. وحينئذٍ يُعرف النظام الشمسي كشمس واحدة، يستحيل فيها قيام ثنائية. والشمسية تصبح كلية الوجود. فالشمس هي الكل، والكل هو الشمس.

يحسن بالمُسَارَرِ المُحتمل لخوض رحلة الاستنارة أن يأمر هذه الشمس الروحية في داخله، ذاته الحقيقية، أن تقف ساكنة، أن يرُدَّها. ويجب عليه أن يحافظ على هذه الشمس في أوج قوتها وفي توازن تام مع حياته ووعيه؛ لتحقيق التكامل بين الروح والمادة، وبين الوعي الداخلي والحياة الخارجية، بحيث يكون وعيه الروحي في قمة قوته, وفي نفس الوقت متوازن مع حياته اليومية. وهذا المعنى متمثل في عبارت من قبيل «سكون الشمس في سمت السماء» أو «وسط السماء». وتوجد إشارة رمزية مماثلة للشمس في سفر إشعياء أيضًا.



[1]- Introduction, Occult Powers in Nature and in Man, Geoffrey Hodson.

[2]- الإنسان بوصفه كائناً تتحد فيه الروح العليا بالمادة الدنيا من خلال العقل. وفقًا للحكمة القديمة، الإنسان ليس مجرد كائن مادي، بل كيان جامع يحمل في داخله العناصر المتضادة: الروح الراقية والمادة الأولية، ويعمل العقل كجسر يربط بينهما. وهذا التصور يجعل الإنسان صورة مصغرة للكون، حيث يعكس داخله بنية العالم الأكبر بكامل إمكاناته. المُعرب  

[3]- هذه الفقرة تبني على الفكرة السابقة بأن الإنسان يعكس الكون داخله، لكنها تضيف بُعدًا صوفيًا أعمق. وفقًا للحكمة القديمة، كل ما يوجد في الطبيعة موجود بالقوة داخل الإنسان، مما يعني أن فهم الإنسان لنفسه قد يكشف عن معانٍ باطنية مخفية، حتى في العبارات التي تبدو ظاهريًا ذات دلالة مادية. وهنا يتم تقديم تفسير روحي للشمس، حيث لا يُقصد بها الشمس الفيزيائية في السماء، بل قوة شمسية داخلية—نور وحياة متأصلة في الطبيعة والإنسان على حد سواء. يدعم هذا الفهم قول السير توماس براون، الذي يرى أن الحياة أشبه بشعلة نقية، وأن كل إنسان يستمد نوره من «شمس غير مرئية» تسكن داخله، في إشارة إلى الطاقة الروحية الكامنة في أعماق الوجود. المعرب

[4]- (إش 60: 1)، هذه الفقرة تتناول فكرة النور الداخلي من منظور روحي مستوحى من الإصحاح الستين من سفر إشعياء، والذي يبدو وكأنه خطاب موجّه إلى شخص على عتبة الاستنارة الروحية. يشير النص إلى أن الإنسان، عند وصوله إلى مرحلة معينة من التطور الروحي، يكتشف نورًا داخليًا أشبه بالشمس، نورًا ذاتيًا لا يخضع لتقلبات الليل والنهار، بل يصبح مصدراً دائماً للهداية والتجلي. هذا النور يمثل الإدراك العميق الذي يتحرر به الإنسان من التأثيرات الخارجية ويعيش في حالة وعي مستمر. المعرب

[5]- وهو قريب من مفهوم (جمع الشمس والقمر) في تراثنا الروحي. المُعرب

[6]- أرمجدون هو الموضع الذي ستجري فيه المعركة الفاصلة بين قوى الخير وقوى الشر، والمُتنبَّأ أنَّها ستحدث عند نهاية العالم كما جاء في العهد الجديد. (قاموس أطلس الموسوعي، ص 66). والمؤلف يقصد (معركة كبرى فاصلة). المُعرب

[7]-  «كُفُّوا وَاعْلَمُوا أَنِّي أَنَا اللهُ. أَتَعَالَى بَيْنَ الأُمَمِ، أَتَعَالَى فِي الأَرْضِ.» (مز 46: 10).

[8]- ومن أسماء هذه الطاقة اسم «نار الأفعى أو الثعبان» (serpent fire).

[9]- هذا اللباس هو من جنس اللباس الذي فقده ءادم في الجنة، ومثل لباس التقوى، والمقصود به هذه اللطائف أو الأجساد اللطيفة. وهذا الجسد المادي هو لباسنا المادي الأرضي الآن وعمَّا قريب ننزعه لنلبس غيره إن كنا قد نسجنا غيره. المُعرب

تعليقات

مواضيع المقالة