القسم السادس: الباب الضيق والطريق الموحشة
الفصل الأول: الطَّرِيقُ الْمُقَدَّسَةُ
تُستَخدم رموز كثيرة لوصف التجارب الروحية العميقة التي يمرّ بها من ينجح في العثور على طريق التلمذة الروحية ويسلكه حتى يبلغ مراتب التهيؤ للدخول في أسرارها. من هذه الرموز شفاء المرض، وعودة الخصب بعد المجاعة، واكتشاف طريق النجاة لمن كانوا من قبل تائهين في صحراء أو قفر، وكذلك بلوغ الأمان من السباع المفترسة، سواء بالقضاء عليها أو بترويضها. وبهذا المعنى يمكن قراءة الإصحاح الخامس والثلاثين من سفرإشعيا، من الآية الخامسة إلى العاشرة، على أنه وصف رمزي لمثل هذه التجارب الداخلية.
5. حِينَئِذٍ تَتَفَقَّحُ عُيُونُ الْعُمْيِ، وَآذَانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّحُ.
6. حِينَئِذٍ يَقْفِزُ الأَعْرَجُ كَالإِيَّلِ وَيَتَرَنَّمُ لِسَانُ الأَخْرَسِ، لأَنَّهُ قَدِ انْفَجَرَتْ فِي الْبَرِّيَّةِ مِيَاهٌ، وَأَنْهَارٌ فِي الْقَفْرِ.
7. وَيَصِيرُ السَّرَابُ أَجَمًا، وَالْمَعْطَشَةُ يَنَابِيعَ مَاءٍ. فِي مَسْكِنِ الذِّئَابِ، فِي مَرْبِضِهَا دَارٌ لِلْقَصَبِ وَالْبَرْدِيِّ.
8. وَتَكُونُ هُنَاكَ سِكَّةٌ وَطَرِيقٌ يُقَالُ لَهَا: «الطَّرِيقُ الْمُقَدَّسَةُ». لاَ يَعْبُرُ فِيهَا نَجِسٌ، بَلْ هِيَ لَهُمْ. مَنْ سَلَكَ فِي الطَّرِيقِ حَتَّى الْجُهَّالُ، لاَ يَضِلُّ.
9. لاَ يَكُونُ هُنَاكَ أَسَدٌ. وَحْشٌ مُفْتَرِسٌ لاَ يَصْعَدُ إِلَيْهَا. لاَ يُوجَدُ هُنَاكَ. بَلْ يَسْلُكُ الْمَفْدِيُّونَ فِيهَا.
10. وَمَفْدِيُّو الرَّبِّ يَرْجِعُونَ وَيَأْتُونَ إِلَى صِهْيَوْنَ بِتَرَنُّمٍ، وَفَرَحٌ أَبَدِيٌّ عَلَى رُؤُوسِهِمِ. ابْتِهَاجٌ وَفَرَحٌ يُدْرِكَانِهِمْ. وَيَهْرُبُ الْحُزْنُ وَالتَّنَهُّدُ.
إن المقطع الشهير من الإصحاح الحادي عشر من سفر إشعيا، من الآية السادسة إلى التاسعة، قابل لتأويل مماثل.
6 فَيَسْكُنُ الذِّئْبُ مَعَ الْخَرُوفِ، وَيَرْبُضُ النَّمِرُ مَعَ الْجَدْيِ، وَالْعِجْلُ وَالشِّبْلُ وَالْمُسَمَّنُ مَعًا، وَصَبِيٌّ صَغِيرٌ يَسُوقُهَا.
7 وَالْبَقَرَةُ وَالدُّبَّةُ تَرْعَيَانِ. تَرْبُضُ أَوْلاَدُهُمَا مَعًا، وَالأَسَدُ كَالْبَقَرِ يَأْكُلُ تِبْنًا.
8 وَيَلْعَبُ الرَّضِيعُ عَلَى سَرَبِ الصِّلِّ، وَيَمُدُّ الْفَطِيمُ يَدَهُ عَلَى جُحْرِ الأُفْعُوَانِ.
9 لاَ يَسُوؤُونَ وَلاَ يُفْسِدُونَ فِي كُلِّ جَبَلِ قُدْسِي، لأَنَّ الأَرْضَ تَمْتَلِئُ مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي الْمِيَاهُ الْبَحْرَ.
يمكن قراءة هذه المقاطع على معناها الحرفي بوصفها نبوءات عن عصر ذهبي قادم على الأرض، يسود فيه السلام بين البشر بعضهم مع بعض، وبين الإنسان والحيوان. كما أنها تصف بدقة، بلغة رمزية مقدسة، ما يطرأ على النفس البشرية من تحولات ورفعة، وهي تعبر مع السالكين والمُهيَّئين للمقامات العليا في مسيرتهم السريعة نحو بلوغ قامة الإنسانالكامل.
تمثل الحيوانات الصفات الإنسانية، سواء كانت مرغوبة أو غير مرغوبة، تبعًا لطبيعتها ودرجة توحشها أو استئناسها. أما الطفل الصغير الذي يقودها، فهو رمز للقوة الروحية المولودة حديثًا وللحكمة الموحِّدة، أي المبدأ المسيحي المستيقظ حديثًا في أعماق الذات الداخلية للإنسان، الذي بفضله تُخضع وتُهذَّب كل الصفات العدوانية والمعادية، وتُدمج جميع القوى والجوانب المتنوعة للشخصية الإنسانية في وحدة متناغمة متعاونة. وهذه الحالة المجددة أو "المولودة من جديد" توصف دائمًا بأنها شرط أساسي للنجاح في صعود قمة إيفرست الروح، ومثال على ذلك قول السيد المسيح: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ لاَ يَقْبَلُ مَلَكُوتَ اللهِ مِثْلَ وَلَدٍ فَلَنْ يَدْخُلَهُ»." (مر 10: 15).
يحدث هذا التحول الداخلي بفعل عاملين اثنين؛ أولهما هو مسار التطور الطبيعي، الذي سيؤدي إليه بصورة تلقائية، ويبدو أن طاغور أشار إلى ذلك بقوله: «من في وسعه أن يفتح برعمًا، يفتحه بسجية». أما العامل الثاني، فيتمثل في الجهد المركز الذي يبذله التلميذ نفسه، مقرونًا بعون أستاذه المتمكّن، ذلك الذي حقق منذ زمن بعيد توحيدًا كاملًا لكل قواه، حتى غدا أداة واحدة في خدمة الإرادة المطلقة، الملك المتوَّج في أعماق النفس.
حين يرى المعلم أن التلميذ قد بلغ درجة كافية من النضج الروحي — وهي ما كان يُعرف في الأسرار المصرية باسم مير خرو (الصادق النطق)، وفي البوذية الباطنية باسم غوترابهو — يقدّمه إلى جماعة من إخوته المعلّمين العارفين، بغرض منحه مزيدًا من العون عبر طقس احتفالي يُعرف بـ «الانتقال إلى الأسرار العظمى». والمرور بخمسة طقوس من هذا النوع، شديدة الخفاء، بالغة القوة، وموهوبة بالقدرة، يمثّل مراحل ارتقاء الروح من حدود طور سابق إلى حرية طور تالٍ. وفي كل مرحلة منها، يدخل السالك مستوى من مستويات الطبيعة ودرجة من درجات الوعي، ثم يسيطر عليها تدريجيًا من خلال تنمية الجسد أو الوعاء الإنساني الذي يكسو الروح الأعمق في ذلك المستوى، ليصبح أداة للوعي والفعل. وكما ورد في الجزء الخامس من هذا المؤلَّف، فإن الأناجيل التي تروي سيرة يسوع المسيح تتضمن وصفًا رمزيًا لهذه الخمس، ورموزها هي: الميلاد، والمعمودية، والتجلي، والصلب، والصعود.
بعض وظائف المعلّمين الكبار في الأسرار القديمة
من المفيد هنا تقديم لمحة عن طبيعة «الأسرار» التي تشير إليها نصوص الشعوب القديمة وفنونها الدينية. ويبدو أن هذه المؤسسات، المعروفة باسم الأسرار القديمة، كانت تؤدي ما لا يقل عن سبع وظائف أساسية: إقامة مراكز للبحث والمعرفة، ظاهرية وباطنية؛ الحفاظ على مراكز للقوة الروحية والنور؛ إنشاء مدارس للأنبياء أو محاريب منعزلة تُقدَّم فيها تدريبات وتعاليم خاصة للراغبين من أبناء عصرهم؛ تزويد العامة بالدين والشعائر الدينية؛ صياغة الأساطير والقصص الرمزية التي تحتضن الحكمة الباطنية التي أُدركت في المحراب، أي «النموذج... في الجبل»؛ إبقاء الطريق مفتوحًا من العالم الخارجي مرورًا بالأسرار الصغرى وصولًا إلى الأسرار الكبرى وما بعدها من تجارب؛ وأخيرًا، منح مراتب التهيئة والدخول في هذه الأسرار.
كلمة «تهيئة أو استهلال أو إدخال أو تنشئة روحية أو مُسَارَّة» أو Initiation تعود في أصلها إلى الكلمة اللاتينية (initia) التي تعني المبادئ الأساسية أو الأولى لأي علم، وهو ما يوحي بأن المُسَارَرِين — في الماضي والحاضر على حد سواء، إذ إن العملية ما زالت مستمرة — هم أشخاص اتحدوا بوعي مع مبدئهم الأول، أي جذر وجودهم، الجوهر الفرد أو البذرة الخالدة التي انبثقوا منها. كما أن كلمة (Initiation) تحمل معنى الولادة الجديدة، والبداية الجديدة، والحياة الجديدة. وكانت معابد الأسرار القديمة يشرف عليها مُسارَرُون كبار معيَّنون، يُعرفون باسم «الهيروفانت أو الأئمة»، يتولّون مناصبهم عبر طقس تنصيب محدد يجريه أسلافهم، يُنقل إليهم خلاله السلطان الهيروفانتي الذي تُمنح به مراتب التهيئة او المُساررة. ويُذكر في العهد القديم أن بعض الآباء والأنبياء والملوك من بني إسرائيل قد نقلوا بدورهم هذه القوى إلى خلفائهم. وسيُعاد تأويل مثل هذه النصوص في الأجزاء اللاحقة من هذا العمل في سياقها التهيئي أو الاستسراري.
لقب «هيروفانت» مشتق من الكلمة اليونانية (heirophantes) التي تعني «المفسِّر أو المؤول للأمور المقدسة»، أي كاشف المعارف السرية ورئيس المتهيئين/المُسارَرِين. أما الكلمة اليونانية (teletai) فتعني الموت وكذلك الإتمام أو التهيئة/المُسارَّة. وكان المترشحون يمرّون بتجربة تشبه الموت الجسدي، مع بقاء الجسد حيًّا، بينما تتحرر الروح وتُدرَّب على العمل والمشاهدة في العوالم ما فوق المادية، وتُرفع إلى مستوى من الوعي يُدرَك فيه الاتحاد بالحياة الإلهية الشاملة. وكانت الروح تُفك عن الجسد عبر حالة من الغيبوبة الإلهية، يُكتسب فيها وعي كامل بالذات في العوالم العليا، وتُفتح الحواس الباطنية. عندئذ تُرفع روح المترشح وتمتص كل ما تستطيع استيعابه من الحكمة والقوة والطاقة المُطهِّرة، ثم تعود إلى الجسد، غالبًا بعد ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، وقد جسرت الموت بفضل «إكسير الحياة» الروحي الذي اكتسبته. وكانت هذه التجربة تُكرَّر باستمرار، حيث يُبلغ في كل مرة مستوى أرفع من الوعي وتُكتسب قوى أعظم. وفي الكيمياء الباطنية كان يُرمز إلى ذلك بـ «زيادة قوة الشمس»، وكان يتم الحصول في جميع هذه المراحل على معونة معلم كيميائي بارع.
إشارات مموهة إلى طقس التهيئة، وإلى المعرفة السرية التي تُمنح وتُكتسب عند المرور به، تظهر في كلٍّ من العهد القديم والجديد. ففي قصة يونس والحوت، تُستخدم رموز توحي بوصف طقس تهيئي؛ إذ تمثل السفينة الجسد المادي الذي أُخرج منه يونس (أي الروح) إلى القسم السفلي من مستوى العاطفة (البحر)، ليبتلعه حوت عظيم (رمز لوعي المسيح بالوحدة مع جميع الكائنات)، ويبقى في جوفه ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، ثم يُلقى على اليابسة (العودة إلى الجسد والعالم المادي). وتشير كلمات السيد المسيح إلى شمولية هذه التجربة لدى المتهيئين: «لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ». وقد يُفهم أيضًا من إشارة المسيح اللاحقة إلى يونس أنها تلمح ضمنًا إلى التهيئة باعتبارها طريق الخلاص من الخطيئة. على أن هذه الإشارات ستُبحث بمزيد من التفصيل في الأجزاء اللاحقة من هذا العمل، حيث تُفسَّر أسفار الكتاب المقدس التي وردت فيها.
تعليقات
إرسال تعليق