اللغة والتوراة والتأويل عند المُعلِّم الرَّبَّاني إبراهيم أبو العافية
تأليف
موشيه إيدل
ترجمة عن العبرية إلى الإنكليزية
مناحم كالوس
ترجمة عن الإنجليزية إلى العربية
أبوالحسن
المُقَدِّمَة
يُطلَقُ
على قبَّالة أو كابالاه المُعلِّم الرَّبَّاني إبراهيم أبو العافية اسمين
اثنين، وقد استخدمهما في مؤلَّفاته: أوَّلهُما «القبَّالة النَّشويَّة»، وتعني
حرفيًّا «النَّبويَّة» (قبَّالة نيفويت)، أي ذلك النوع من التَّروحُنِ الذي
يُرشِدُ القَبَّاليَّ لتحقيق تجربة روحيَّة يعتقد بأنَّها نُبوءةٌ؛ وثانيهُما
«القبَّالة الاسميَّة أو قبَّالةُ الأسماء»، والقصد هي الأسماء الإلهيَّة (قبَّالة
ها-شيموت)، أو ذلك النوع من الروحانية العِرفانيَّة الذي يُريك الطريقة لبلوغ
وتحقيق تلك التجربة النَّشويَّة أو الرؤيوية الوحيانية.
وينصبُّ تركيزُ هذا المذهب على مُمارستين، وهُما: تِلاوة الأسماء الإلهية([1])، ودمج حُرُوف الأبجديَّة العِبريَّة في توليفاتٍ توافقيَّةٍ مُختلفة([2])، أي ضمها لبعضها البعض قصديًّا فينتج منها تركيب يتألف من حرفين فأكثر. وقد كانت تِقنيَّة ضمِّ الحروف وتوحيدها، لأجل بلوغ وحصد التجارب الروحيَّة، مُستعملة أيضًا في النظام الهرمِنوطيقي، أي التأويلي، الخاص بالقبَّاليين، وذلك باعتبارها طريقة منهجية في التفسير المُتقدِّم، والتي تُمكِّنُ الباحث الرُّوحاني من النفاذ وبالتالي الوصول إلى أكثر طبقات (بُطون) الكتاب المُقدَّسِ استغلاقًا وخفاءً، بمعنًى آخرَ تُمكِّنه من مَسِّ مكنون الكتاب. وتُعدُّ هذه التقنية الذُروة في هذا المذهب التفسيري التأويلي الأكثر تعقيدًا، والذي مَرَّ دون أن تُلاحظه الدراسات القبَّالية الحديثة أو التأويل اليهودي الحديث، والذي سيُكشف عنه، لأوَّل مرَّةٍ، في هذا العمل بطريقة مُفصَّلةٍ. ومن ناحية أخرى، ولكي نفهم الموضوع الرَّئيس الذي طُبِّقت عليه تلك الطرق والأساليب التأويلية، فيجب أوَّلًا أن نقف على آراء أبو العافية وبعضٍ من أتباعه بخصوص طبيعة اللغة وتصورهم عن التوراة، والتي هي الموضوع المحوري لمسعاهم التأويلي، وذلك من خلال استعراض فاحصٍ وشاملٍ لجملة أفكارهم.
يُمكننا وصف نظرة أبو العافية للغة والتأويل بأنَّها نظرة تميل أساسًا لمنظورٍ يُدرك به أنَّ النص المقدس والرؤى الوحيانية والكشف ما هي إلَّا قصص تمثيلي رمزي أو أُمثولةٌ (allegory)، وهو ما أثَّر بدوره في تصوره التوراتي، وكشوفاته الرؤيوية، وتأويلاته لهذه الكشوفات والرؤى الوحيانيَّة.
تُشير الأُمثولة، في سياق الفلسفة الأرسطية في العصور الوسطى، إلى العمليات النفسية التي تتعلق بتغير العلاقة بين القوى الداخلية: العقل والمُخيِّلة. وقد كان أبو العافية يسعى مرارًا وتكرارًا، من خلال تأويل النصوص المقدسة ورؤاه الوحيانية، إلى فك شفرة هذه النصوص والتجارب، ليرى كيف تكشف عن المراحل المختلفة التي تخص العلاقة بين هاتين القوتين (الحاستين) الداخليتين.
إنَّ ما يميز هرمينوطيقا أبو العافية ليس فقط هذا الميل نحو الأُمثولة، الذي يمكن العثور عليه في أدب العصور الوسطى الغني بشكل عام، بل هو إضافة تقنية توليف الحروف إلى هذا الأسلوب أو المنهج الأُمثولي.
إذا كانت التقنية الأخيرة، أي توليف الحروف، ذات أصول سفاردية (إسبانية)، حيث كانت تمارس بالفعل من قبل اليهود في إسبانيا لعدة أجيال قبل أبو العافية، فإن التقنية الأولى، أي التأويل الأُمثولي، قد تم الكشف عنها لأول مرة بطريقة مفصلة في البيئة الأشكنازية، بين ما يُعرف بـ"حسيديم الأشكناز" في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وبعيداً تماماً عن التفسير الأُمثولي، قام الزهاد اليهود الألمان (الحسيديم الأشكناز) بوصف طرق معقدة متنوعة تهدف إلى فهم المعاني المخفية في التوراة.
وعلى الرغم من أن أساليب أبو العافية التأويلية المتقدمة مستمدة بشكل واضح من المصادر الأشكنازية، إلا أن تركيزه الخاص على أهمية توليف الحروف يبدو فريدًا وخاصًا به. علاوة على ذلك، وعلى الرغم من أن الزهاد اليهود الألمان (الحسيديم) كانوا مدفوعين بنزعة محافظة قوية، حيث ركزوا على تعزيز الشكل التقليدي للعبادة اليهودية من خلال ربط البنية العددية للصلوات بنظيراتها في النصوص التوراتية، كان أبو العافية مدفوعًا في الأساس بدافع إبداعي وتجديدي. وقد بلغ هذا الدافع ذروته، كما سنرى لاحقًا، من خلال إعادة تشكيل حرة لتركيبات الحروف في النص التوراتي، الذي يُعاد تأويله وفقًا لهذه المقاربة.
إلى جانب استخراج المعنى الأُمثولي لنص توراتي معين كما جرى نقله عبر التقليد الماسوري، يشير أبو العافية إلى طريقة تهدف إلى إعادة النص إلى حالته الأولية (الهيولية)، أي كونه مجرد مجموعة من الحروف التي يمكن دمجها بطرق جديدة واستخراج معانٍ جديدة يجري إضفاؤها على "النص" الجديد.
إذا كانت الطريقة الأُمثُوليَّة التي استخدمها الفلاسفة اليهود في العصور الوسطى قد أعادت تأويل الكتاب المقدس بطرق جديدة، فقد جرى ذلك على افتراض ضمني أو صريح بأن الجِدَّة أو التجديد لم يؤثر على بنية النص، التي كانت محفوظة من حيث الهيكل. وهذا ينطبق أيضًا على التأويل الرمزي الذي يستخدمه القباليون الثيوصوفيون. فعندما يقوم القبَّاليون بتحويل النص إلى نسيج من الرموز المرتبطة بـالتكوين الإلهي للـسيفيروت أو بالعالم الشيطاني، كانوا حريصين على التأكيد مرارًا وتكرارًا أن المعنى الظاهر للنص يجب أن يُحفظ، حيث يتركون ترتيب الحروف في النص كما هو دون تغيير.
في كلتا الحالتين، قد أُضيفت حبكة جديدة إلى القصص التوراتية، مما أدخل تفاصيل لاهوتية مبتكرة. وقد تكون الحبكة إما مادية، تتعلق بالعناصر الأربعة القديمة أو الأُسْطُقُسَّات، أو نفسية، تعالج العلاقة بين العقل والجانب المُجرِّب أو الذي يختبر الحياة في تكويننا أي النفس المُجَرِّبَة (soul) في المصادر الأفلاطونية المحدثة، أو بين العقل والمُخَيِّلة في النصوص ذات التوجه الأرسطي، أو قد تكون ثيوصوفية. وبطريقة أو بأخرى، جرى إنشاء حوار مؤكَّدٍ بين اللاهوت القائم مسبقًا والنص، بحيث لم يجرِ فقط إعادة تأويل النص، بل أيضًا، إلى حد ما، جرى تعديل العمليات الخارجية للنصوص التوراتية من خلال محاولة إدماج تلك الأفكار الجديدة فيها، بمعنى آخر لم يقتصر الأمر على تفسير النصوص بشكل مختلف، بل أدى هذا الحوار إلى تغييرات في الأفكار الدينية خارج النص أيضًا.
مع أبو العافية، يمكن أن يحدث هذا الحوار فقط على مستويات معينة من التأويل؛ فبمجرد أن يبدأ في تطبيق الأساليب المتقدمة، التي تقوم حرفيًا بتفكيك النظام التقليدي للنص، يصبح النسيج التوراتي مجرد نقطة انطلاق لا يمكن أن تفرض هيكلها الخاص على المفسر المُتمكِّن. في النهاية، يسمح التفكيك القوي للنص، وفقًا لأبو العافية، بتحقيق تجربة نبوية يتمكن فيها القبَّالي من فتح حوار مع الكيان الكاشف، والذي يكون، في بعض الحالات على الأقل، إسقاطًا لقوته الروحية الخاصة.
إذا كان كلُّ مؤوِّلٍ يجد نفسه في النص الذي يؤوِّله، فإن أبو العافية يمثل أحد أكثر الأمثلة البالغة على اكتشاف الذات من خلال التأويل. فإذا كان البعض يعبر عن تجربته من خلال فهم مميز للنص، فإن أبو العافية يحول تجربته إلى نص؛ إذ إنَّ التجربة، في أعلى مستوياتها، هي عملية إبداع النص. هذا الاهتمام بـموقف تأويل – تجربة – إبداع تجاه النص تجسّد في كتابته لكتب نبوية أو رؤيوية وحيانية، أحدها بعنوان كتاب الهافتارا (Haftarah)([3])، وهو عمل رؤيوي يُقرأ في المعبد بعد قراءة أجزاء من التوراة بدلاً من قراءة مقطع من أنبياء الكتاب المقدس.
على الرغم من افتتان أبو العافية العميق بقوة اللغة، وتحديداً اللغة العبرية، يمكننا أن نرى فيه محاولة لتجاوزها من خلال تفكيك اللغة كأداة تواصل وتحويلها إلى تراكيب بلا معنى من الحروف، والتي باتباع قواعد رياضية صارمة تقود القبَّالي إلى حالة وعي تتجاوز الإدراك العادي. وعلى غرار السحرة القدامى، يستدعي أبو العافية التدفق الإلهي أو القوة الإلهية أو النور الروحي من خلال سلسلة من تغييرات وتبديلات يُجريها بين الحروف الساكنة والمتحركة، والتي تعد جوهرية في المعاني الباطنية للغة، وفي حالة خلق الغولم([4])، تُعتبر أيضًا من الأسس السحرية.
يجب فهم ظاهرة تفكيك النص التوراتي كجزء من إحساس بأن الروح الإلهية أصبحت حاضرة وفعالة من جديد. وقد بدأت الجهود التأويلية في اليهودية بعد أن شاع الاعتقاد بأن العلاقة المباشرة بين الإله والإنسان قد انتهت وكانت جزءًا من الماضي المجيد. وعندما أصبح النص المقدس ثابتًا ومستقرًا، واعتقد الناس أن الوحي الجديد لن يضيف أو يغير شيئًا من النصوص القانونية (النصوص المقدسة المعترف بها)، عندها بدأت محاولات تأويل تلك النصوص واستخراج معانيها الخفية. بمعنى آخر أنَّ التأويل اليهودي ظهر بعد أن تم تثبيت النصوص المقدسة وشعر الناس بأن الوحي المباشر انتهى، لذلك تركزت الجهود على استخراج المعاني الخفية من النصوص القائمة.
في الماضي، كان النبي هو الوسيط المباشر بين الله والبشر، لكن مع مرور الزمن، أصبح النص المقدس هو الوسيط الجديد، حيث يمثل العلاقة بين الإنسان والله. وقد أصبح النص التوراتي أو القانوني المرجع الثابت والنهائي الذي يوجه العلاقة الروحية. وبات المفسر أو المؤوِّل الآن يتوسط بين المجتمع والله من خلال هذا النص الشامل والمعصوم، مما يعني أن النشاط الروحي أو الوحي المباشر أصبح جزءًا من الماضي، ويُنظر إليه على أنه موجود داخل النص ذاته.
إنَّ عودة الروح الإلهية إلى التاريخ الروحي اليهودي، كما يراه القبَّاليون في العصور الوسطى، منحت المُؤوِّل مكانة جديدة. فقد أصبح المؤول قادرًا على رؤية نفسه وسيطًا بين الله والنص، على الرغم من أن هذا ليس ضروريًا دائمًا. في بداية عملية التأويل، حتى بالنسبة لأبو العافية، كان النص القانوني يُفهم كنظام ثابت ومرتب يلعب دورًا وسيطًا، مثل دور اللغة في التواصل بين الناس. وكان الهدف من عملية التأويل هو استخراج المعاني المخفية من النص. ولكن، بمجرد أن يتقدم في طريق الحياة الصوفية، يتجاوز المُؤوِّل الوقوف أمام نص منظم ولغة منظمة تتدخل بينه وبين الله، ويخترق حجاب ذلك الكتاب المنظم ليصل إلى حالة يشعر فيها بأنه أقرب إلى الله.
سؤال كلاسيكي يطرح عند التعامل مع هذه المشاكل هو إلى أي مدى يفتح "أبو العافية"، أو أي شخص يتبع طريق الكابالاه النبوية، الطريق أمام وجهات نظر معارضة للشريعة. هل تؤدي هذه الرغبة في تفكيك النص إلى معارضة جوهرية تجاه القيم التي يعبر عنها النص؟ أعتقد أن الإجابة أكثر تعقيدًا مما يبدو. إذا تم تعريف المعارضة للشريعة (أو التحرر من الشريعة) على أنها مقاومة أو معارضة لمحتوى قانون معين، فمن الممكن استبعاد "أبو العافية" من دائرة المتصوفين المعادين للشريعة. إذ إنَّ "أبو العافية" لا يقدم رؤية بديلة لطريقة حياة عملية يمكن اقتراحها أو فرضها على الجماهير. وبقدر ما يتعلق محتوى النص المقدس بالعامة، فهو يتبنى موقفًا شرعيًا، مثلما كان الحال مع شخصيات فقهية عظيمة مثل موسى بن ميمون. يبدو أن كتاباته توحي بأن المعنى الظاهري للتوراة ثابت وغير قابل للتغيير، تمامًا مثل ثبات العالم.
بالمقارنة مع مفهوم الكاباليين الثيوصوفيين الذين يؤمنون بأن طبيعة التوراة وصورها قد تتغير في حقبة أو دورة زمنية أخرى (المعروفة بـ"شميطة" Shemittah)، سواء كان هذا التغيير للأفضل أو للأسوأ، كما يعتقد المؤلف المجهول لـ"سفر التمونة" وأتباعه، فإن أبو العافية يعد تقليديًا، حيث يرفض فكرة أن التوراة يمكن أن تتغير بمرور الزمن. ويتعامل مع التاريخ أو الزمن على أنه فترات قد تحدث فيها تغيرات ممكنة، لكن هذه التغيرات لن تغير، في الأساس، المثل الأعلى المتمثل في تجاوز الخيال لصالح العقل، وهو الفكرة الرئيسية في فهمه للمعنى الأُمثُولي للتوراة. وحتى في المستقبل، لن يكون هناك تحول في الهدف؛ لذلك، ستظل التوراة تخدم نفس الأغراض: بالنسبة للعامة، ستظل تعمل على المستوى الظاهري، وبالنسبة للصوفيين، على المستوى الروحي. بمعنى أنَّ التوراة ستظل تؤدي نفس الوظائف: لعامة الناس، ستظل تُفهم على المستوى السطحي. وللصوفيين أو المتصوفين، ستظل تعمل على المستوى الروحي.
بالنسبة لبعض الكاباليين الثيوصوفيين، فإن النظرة إلى الزمن، بما في ذلك الزمن الكوني، تختلف. إذ أن كل عصر (أيون) تحكمه السيفيروت، ولكل عصر خصائصه الخاصة، ومع هذه التغيرات سيتغير التكوين الروحي الحالي للتوراة. وفقًا لرأي آخر، كما جاء في كتابات الكابالي المجهول الذي كتب "تكوين الزوهار" و"رعيا مهيمنة"، هناك توراة مثالية تُسمى توراة دي-أزيلوت، والتي ستحل محل التوراة الحالية، المعروفة باسم توراة دي-برياه. في كلتا الحالتين، يتصور الكاباليون الثيوصوفيون زمنًا ستعمل فيه التوراة المعطاة بطريقة مختلفة. لكن بالنسبة لـ"أبو العافية"، هذا مستحيل، لأن التوراة متطابقة، على مستوى معين، مع عالم الأشكال أو حتى مع الله نفسه، وهو ما يعقد افتراض أي تغيير جوهري في طبيعتها. حتى الآن، يمكن اعتبار موقف "أبو العافية" موقفًا تقليديًا.
فيما يتعلق بوضع أوامر التوراة في الوقت الحالي بالنسبة للقلة النخبوية التي تصل إلى قمة الروحانية، فإن رؤية "أبو العافية" غير واضحة. من الواضح أنه اعتبر نظامه الخاص تتويجًا للمثالية الدينية اليهودية؛ فالسعي إلى حياة تواصل مباشر مع الإله هو، وفقًا له، جوهر الديانة اليهودية. ومع ذلك، فإن الطرق المحددة لتجسيد هذا النوع من الروحانية، كما اقترحها "أبو العافية" في كتبه الصوفية، تعتمد على تقنيات غير تقليدية. فعندما يقرر شخص ما الدخول إلى العالم الآتي([5]) وهو لا يزال في هذه الحياة، يمكنه القيام بذلك بطريقة محايدة تجاه الأسلوب اليهودي التقليدي في الحياة، أي دون الالتزام الحرفي بأداء الوصايا. كجزء من المسار الصوفي المقترح في كتب "أبو العافية"، يبدو أن السلوك الطقوسي لا يلعب دورًا جوهريًا. سواء كإرشادات لمعرفة روحية معينة أو كأشكال من الأفعال الإنسانية، تظل الوصايا التي تُؤدى في الحياة اليومية ذات صلة حتى اللحظة التي يدخل فيها الصوفي إلى غرفة العزلة والتركيز ليؤدي طقوسه، والتي تتمثل في نطق الأسماء الإلهية وتركيبات الحروف من الأبجديات. قد تكون هذه الوصايا ضرورية بالفعل، حتى بعد عودة الصوفي من العالم الآتي إلى هذا العالم. ولكن، في لحظات النشوة الروحية، تبدو وكأنها تفقد أهميتها أو تتحيد.
من المفيد مقارنة موقف أبو العافية تجاه التوراة مع موقف الكاباليين المعاصرين له في قشتالة. في كتاب الزوهار وكتابات بعض الكاباليين الذين تأثروا بأفكار الزوهار، مثل ر. يوسف جيكاتيلا ور. يوسف الحاماداني، تُعتبر التوراة تجسيدًا لقوة إلهية، أو لمجموعة من القوى الإلهية المعروفة بـسفيروت. وكجسد مجسد، فإن حروف التوراة هي جسد يجب الحفاظ على سلامته، وأي إضافة أو حذف يُعتبر ضارًا بهذا الجسد الصوفي. في المثال المعروف في الزوهار حيث تُشبه التوراة بالعذراء، نجد تشخيصًا كاملًا للتوراة كشخصية أنثوية تربطها علاقة مباشرة مع الصوفي، وقد يصبح الصوفي زوجًا للتوراة إذا استطاع فهم أعمق مستوياتها. هذا التشخيص للشخصية الأنثوية للتوراة يتماشى مع التصور السائد في العصور الوسطى حيث تم تشخيص الطبيعة، الحكمة، أو الكنيسة بصور أنثوية. ولكن هذا النوع من التشخيص غائب تمامًا في كابالا أبو العافية وفي الأدبيات المرتبطة بالكابالا النشوية الرؤيوية.
في الكابالا النشوية الرؤيوية، التصورات المرتبطة بالتوراة تتخذ شكلًا هندسيًا؛ فهي تُصور على أنها نقطة أو دائرة. هذه التصورات ليست مجرد أدوات أدبية، بل تمثل أيضًا تجارب حقيقية، كما هو واضح في حالة الربي إسحاق من عكا.
يبدو أن هذه التصورات في فلسفة أبو العافية تميل إلى الفهم الأُمثُولي أكثر من الفهم الرمزي للكابالا اللاهوتية. بالإضافة إلى هذا الاختلاف، يبدو أن موقف أبو العافية من التوراة يتجه نحو التجريد، فهو لا يسعى إلى تقديمها ككيان أسطوري مُشخص كما يظهر في الزوهار، بل يتجاوز ذلك نحو مفهوم فكري مجرد يعتبر التوراة متطابقة مع عالم الكيانات المنفصلة. غياب الصورة الأنثوية للتوراة لدى أبو العافية يرتبط بتصوره للعقل الصوفي باعتباره كيانًا أنثويًا في علاقة مع العقل الفعال الذكوري، الذي يمثل في نفس الوقت التوراة العليا السماوية.
النهج اللاهوتي في التعامل مع التوراة واللغة كأجساد أسطورية عضوية للدراسة العميقة يوازيه في عقيدة أبو العافية رؤية مفادها أن المعنى الصوفي النهائي يجب اكتشافه، أو إسقاطه، في تركيبات حرة للأحرف، حيث يتم تفكيك الروابط للسماح بظهور تركيبات جديدة. يجب أن يسبق التفكيك عملية إعادة البناء، لأن التوراة أكثر من مجرد مثالية ثابتة؛ إنها عملية. بالفعل، الكابالا اللاهوتية، والموقف المدراشي عمومًا، تصوّر التوراة ككيان ديناميكي، يكشف عن كنوزه المخفية باستمرار على يد المفسر. ومع ذلك، يتضمن تصورهم للتوراة عنصرًا رئيسيًا من الكائن العضوي الديناميكي: التوراة قد تكون شجرة، عذراء، أو الشكينة المؤنثة. فهم جانب من هذا الجسد لا يعني تفكيكه؛ فالصوفي اللاهوتي لا يفترض أن يتلاعب بأعضاء هذا الجسد، بل يتأملها كما هي: التوراة تعتبر شكلًا معطىً وكاملًا. الهيكل الأساسي للآية، أو الفقرة، أو النص ككل يُحافظ عليه، رغم الرمزية الجريئة التي يضيفها الصوفي اللاهوتي. هذا يختلف تمامًا عن المراحل الأخيرة في هرمنيوطيقا أبو العافية، حيث يصبح النص مجرد ذريعة لعملية مستمرة تسعى لتحقيق تجربة صوفية، وليس لفهم النص بعمق.
هذا التفكيك للنص القانوني يرتبط بوضوح بالافتراض أن العناصر التي تشكل النص لها معنى في حد ذاتها، أي حتى في وجودها المنعزل. الأساس لفهم عمل أبو العافية التفكيكي في مراحل التفسير المتقدمة هو الفكرة القائلة بأن كل حرف يمكن اعتباره اسمًا إلهيًا بحد ذاته. مدعومًا بهذا الافتراض، الذي ينبع من مصادر سابقة، يمكن فهم تفكيك النص من بناء منظم إلى مجموعة غير مترابطة من الحروف في سياقه الصحيح. إن الوظيفة العادية للغة ممكنة بسبب فرض نظام يربط الحروف القوية في سياق يخدم أغراضًا تعليمية بالدرجة الأولى. من خلال ربطها معًا، تُقيّد قوتها بحيث يستفيد الناس العاديون من التوجيهات التي تهدف إلى تعليمهم على المستوى الأدنى.
هذا التوجه نحو «وحدة الحرف» له موازاة مثيرة في عملية الانتقال من اللغة الكلاسيكية إلى اللغة الشعرية كما وصفها بارت: ففكرته عن تراجع أهمية الكلمة المفردة في اللغة الكلاسيكية لصالح الصياغة المنظمة هي على ما يبدو تطور للغة من التركيز البدائي على الأسماء أو الألقاب إلى دمجها في خطاب نحوي أكبر. في هذا النوع من اللغة التي وصفها بارت بأنها كلاسيكية، تُلغى أو تُحيد الكلمات. الانتقال إلى اللغة الشعرية الحديثة، التي تركز على أهمية الكلمة المفردة على حساب الخطاب المنظم، هو على ما يبدو عودة إلى البعد السحري-الصوفي للغة، الذي تم السيطرة عليه من قِبل الخطاب اليومي المعلوماتي.
هذا الاكتشاف الجديد للكلمة التي تعمل بمفردها، خارج شبكة العلاقات النحوية، يُضفي على الكلمة كثافة تذكّر بالمفاهيم الصوفية السحرية للأحرف المفردة كأسماء إلهية. لم يخترع أبو العافية هذا النهج الوحدوي تجاه النص واللغة؛ بل كان جزءًا من تراث الأدب اليهودي القديم وقبله أيضًا بعض الكاباليين اللاهوتيين الذين سبقوه. ما يبدو جديدًا معه، مع ذلك، هو تحويله لهذا المفهوم الموجود إلى أداة هيرمينوطيقية.
الأشخاص الذين يقبلون نصًا معينًا أو قانونًا ثابتًا يكونون في البداية في موقف سلبي، أو على الأقل يُفترض أن يكونوا كذلك في المراحل الأولى من تطورهم الروحي. فالحروف المرتبة تعمل على تشكيل هؤلاء الأشخاص غير المنظمين. ومع التقدم الروحي، يصبح الشخص أكثر تفاعلاً مع النص، الذي بدوره يفقد بعضًا من صلابته البنيوية تدريجيًا، حتى يصل المفسر القوي إلى المرحلة التي يمكنه فيها إعادة تشكيل الحروف التي كانت في السابق مرتبطة بمعانٍ محددة ضمن النص أو الكلمة. هذا التحول الروحي يتوازى مع نمو العنصر الروحي لدى المريد، والذي في البداية يعتمد على النص القانوني أو اللغة العادية، ولكنه يتحرر تدريجيًا من قيود الطبيعة ويصبح قادرًا على تحرير الحروف الإلهية من قيودها في النصوص القانونية. كلما زاد الإنسان روحانيةً - وفي حالتنا، كلما زاد تحرره من النصوص المرتبة - كلما أصبحت تفسيراته أكثر روحانية. بالنسبة لأبو العافية، لا سيما كما تشهد كتاباته المتأخرة، يبدو أن العودة إلى التركيز على القوى الكامنة في عناصر اللغة نفسها، بالمقارنة مع وظيفتها في النصوص التقليدية، تشير إلى نوع من الاغتراب عن العوالم اللغوية والاجتماعية والدينية المنظمة لليهودية في العصور الوسطى.
هذا التجاوز للمعنى الظاهري مرتبط بالافتراض أن هناك، إلى جانب النهج الفلسفي للنص، طريقة عُليا تعتمد على دمج الحروف، التي تعتبر تجسيدًا "لحكمة المنطق الداخلي والعُلوي". وكما درس الفلاسفة النصوص أو استنتاجات البشر باستخدام الفئات المنطقية الأرستوطالية، كذلك درس القبالي النصوص التوراتية بمنطقه الخاص، مستخرجًا أدواته من «الترسانة التقليدية للتفسير»، مثل دمج الحروف، والاختصارات، والجيماتريا (علم الأرقام).
وعلى الرغم من هذا التشابه بين تفسير أبو العافية الرمزي وتفسير الفلاسفة، إلا أن هناك نقطة جوهرية تفرق بينهما. قام الفلاسفة الأرستوطاليون بإسقاط مبادئ الفيزياء، وعلم النفس، والميتافيزيقا الأرستوطالية على النصوص التوراتية، بينما ركز أبو العافية على التفسيرات الرمزية بشكل أساسي على المستوى النفسي، بينما كان المستويان الآخران هامشيين في تفسيره. لذا يمكن وصف تفسيره بأنه "تفسير نفسي". ومع ذلك، فإن هذا التمييز لا ينفي الفرق الأعمق بينه وبين التفسير الفلسفي التقليدي للكتاب المقدس. ففي حين يتشارك مع الفلاسفة في نفس نوع المصطلحات المفروضة على النصوص، إلا أن أبو العافية يبدو أنه لا يفرض فقط المصطلحات، بل يفرض أيضًا الفهم بأن العمليات النفسية التي يتناولها لها أهمية عملية في الحاضر، حتى عندما يتعلق الرمز بالتجارب النبوية القديمة. وبينما رأى الفلاسفة تلك الأحداث جزءًا من الماضي المغلق، كان اهتمام أبو العافية يتركز على جعل تلك التجارب الروحية نموذجًا للحاضر. وبالإضافة إلى ذلك، من الواضح أن التفسير الرمزي تم تطبيقه حتى عندما تناول أبو العافية تجاربه الشخصية، مما يجعل هذا النوع من التفسير تفسيرًا روحانيًا، وقد يكون لهذا تأثير على موقفه من الكتاب المقدس.
[1]- التلاوة هنا ليست مجرد قراءة عادية، بل هي ممارسة روحية تتطلب التركيز والنية، حيث يُعتقد أن النطق المتكرر للأسماء الإلهية أو الحروف له تأثير خاص على العقل والروح، ويساهم في الاتصال بالعالم الإلهي أو الروحي. بمعنى آخر، التلاوة تُعتبر نوعاً من التأمل الصوتي أو الذكري، مِن الذِّكر، الذي يهدف إلى تحقيق حالة من السكينة الروحية أو الفهم العميق. المُترجم
[2]- يُستخدم دمج الحروف لأغراض التأمل والتواصل مع العالم الروحي. ويُعتقد أن هذه المُمارسة تساهم في الوصول إلى حالات أعلى من الوعي أو الفهم الروحي العميق. وباستخدام الحروف العبرية بطرق معينة سيأتي ذكرها، يصبح هناك نوع من التفاعل بين الصوت، والحرف، والطاقة الروحية، حيث يُعتقد أن لكل حرف معنى روحياً وقوة رمزية خاصة. المُترجم
[3]- هو جزء من الطقوس اليهودية، ويشير إلى مجموعة من النصوص المأخوذة من الأنبياء (نبوئيم) والتي تُقرأ بعد قراءة مقاطع من التوراة في الكنيس اليهودي خلال السبت وأيام الأعياد. فالهافتارا ليس كتابًا مستقلًا، بل مجموعة مختارة من النصوص النبوية المرتبطة بقراءة التوراة الأسبوعية.
[4]- الغولم: مخلوق أسطوري في الفولكلور اليهودي يُعتقد أن السحرة يمكنهم خلقه باستخدام قوى سحرية مستمدة من اللغة.
[5]- العالم الآتي (في السياق اليهودي الصوفي والفلسفي) هو مفهوم يشير إلى حالة أو مرحلة روحية تتجاوز الحياة الدنيوية. يمكن فهمه بطريقتين أساسيتين: العالم الآتي بعد الموت: يُعتبر هذا المفهوم تقليديًا في الديانات الإبراهيمية، حيث يشير إلى الحياة بعد الموت، وهو عالم يُكافأ فيه المؤمنون أو يعاقبون بناءً على أفعالهم في الحياة الدنيا. العالم الآتي في الحياة الصوفية: في التصوف اليهودي، وخاصة في فكر أبو العافية، قد يُفهم "العالم الآتي" على أنه حالة روحية يمكن للصوفي أن يدخلها أثناء حياته من خلال ممارسات تأملية وروحانية معينة. هذه الحالة تمثل نوعًا من الاتصال المباشر مع الله أو الوصول إلى درجة عالية من الإدراك الروحي. بالتالي، في السياق الذي نناقشه، "العالم الآتي" يشير إلى حالة روحانية عليا يصل إليها الصوفي من خلال ممارساته، وليس بالضرورة فقط الحياة بعد الموت.
تعليقات
إرسال تعليق