أربعة مفاتيح رئيسية
سنقدم في هذا الفصل أربعة مفاتيح يُمكن بها تأويل القصص التمثيلية الواردة في الكتب المقدس، وأيضًا، القصص الواردة في التراث الروحي لجميع الأمم، بالإضافة إلى تأويل الرموز أيضًا. وهذه المفاتيح الأربعة مأخوذة من بين سبعة مفاتيح محتملة للتأويل.
أنَّ كُلَّ شيءٍ يَحْدُثُ في داخلنا
ونبدأ بالمفتاح الأول هو أنَّ جميع الأحداث التي ذُكرت في الكتب المُقدسة، والتي يُقطع بوقوعها خارج كيان الإنسان، والتي يُزعم أنها تاريخية، أنَّها كما تحدث في الخارج فهي كذلك تحدث في الداخل، داخل كل إنسان. إنَّها تحدث في داخل كيان كُلٍّ من الأعراق والأُممِ والأفراد على حدٍّ سواء. حيث إنَّ كُلَّ حدثٍ مُسجَّلٍ ما هو إلَّا وصفٌ لتجربةٍ ذاتيَّةٍ إنسانية.
ولهذا التطبيق شقين في الأساس، الأول يشير إلى مجموع خبرات وإنجازات الأعراق والأفراد الذين يترقون بالنهج التطوري الطبيعي والتدريجي، والثاني يشير أيضًا إلى مجموع خبرات وإنجازات الأفراد الذين يسلكون في «طريق القداسة».
وهنا، أصبحت الحاجة لستر وحجب وتعمية المعارف السحرية والباطنية بالقصة التمثيلية والرمز ضروريًّا خصوصًا فيما يتعلق بهذين التطبيقين الأخيرين؛ لأنه في مراحل مبكرة من التطور الروحي، يشهد الأفراد زيادة في قوتهم الإرادية وقدراتهم العقلية بينما ينطلقون في مسار النمو والتحول السريع. ويلاحظ الأفراد تحسناً في قدرتهم على التركيز ووضوح الفكر، وقدرتهم على السيطرة على أفكارهم وأفعالهم. إن الاكتشاف المبكر لهذه القدرات الفائقة، وتوظيفها لأغراض شخصية وتدميرية بحتة، يمكن أن يكون ضارًا للغاية لكل من أولئك الذين يسيئون استخدامها ولإخوانهم من البشر أيضًا.
المسيح فيك، رجاء المجد
ويبدو أن الرسول بولس قد قبل هذا التأويل الباطني الأول، أي المفتاح الأول؛ فبالنسبة له، لم يكن ميلاد المسيح، على سبيل المثال، مجرد حدث خاص وقع في وقت معين في بيت لحم، أي حدث تاريخي، بل حدث روحي داخلي. وعلى نفس المنوال، فإنَّ روايات البشارة، والحَبَل بلا دنس، وميلاد المسيح تصف وتُصور بأُسلوبٍ تمثيلي اليقظة التدريجيَّة للقُدرات الشبيهة بالمسيح: من إدراكٍ وإحساسٍ، وسُلوكٍ وأعمالٍ، وتحقيق وإنجاز، أي اليقظة التدريجية في الفعَّاليَّة الإدراكيَّة والواعية داخل نفس الإنسان المُتطور.
وما حضور المسيح المحض على الأرض، وكذلك أعماله، بالنسبة لبولس، إلَّا انعكاسات لليقظة الداخلية والنشاط والكمال لقوة وطبيعة المسيح المتأصلة والفادية داخل الإنسان – أي اللوغوس الخاص بالنفس. وهكذا كتب: "... أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضًا إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ." و"الَّذِينَ أَرَادَ اللهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا هُوَ غِنَى مَجْدِ هذَا السِّرِّ فِي الأُمَمِ، الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ الْمَجْدِ."
وهكذا، فعندما يقرأ طالبُ الكتابِ المقدسِ الرواياتَ العظيمةَ وهو يحمل هذا المفتاح في يده، يمكنه حينئذٍ أن يشارك بوعي في الاختبارات المذكورة فيها. إذ يستطيع أن يصعد الجبل مع إبراهيم وموسى وإيليا ويسوع، وبقدر بسيط في البداية، يبدأ بالاقتباس من نورهم ليتنور داخليًّا.
ويمكنه السير مع التلميذين العابسين في الطريق إلى عمواس، والاستماع إلى الكلمات الحكيمة لرفيقهما المجهول مؤقتًا (يسوع). ومعهم، عند كسر الخبز، يمكنه أن يختبر ذلك النور الداخلي الذي جاء عندما "انفتحت أعينهم وعرفوه..."، وهذا بالفعل هو جزء من نية المؤلفين الملهمين. ولكن عندما يدرس المرء الكتب المقدسة في العالم، يجب عليه أن يقرأ بشكل حدسي دقيق، وحساس لطيف، وعقله منفتح ومستجيب لذلك الوعي الواسع الذي غالبًا ما يبدو أنه ينتظر الانبثاق.
الناسُ تشخيصٌ للصفات الإنسانية
المفتاح الثاني هو أنَّ كلَّ شخصٍ من الشُّخُوص الذين جرى عرضهم في القصص يُمثِّلُ حالة من حالات الوعي وصِفة، سجية، طبع، سِمة، من صفات الشخصيَّة. وإنَّ جميع الممثلين هم تجسيد وتشخيص لوجه أو جانب من وجوه أو جوانب الطبيعة البشرية، وسمات وخصائص ومبادئ وقوى وملكات وقُدرات وحُدود الإنسان، بالإضافة إلى نقاط ضعفه وأخطائه.
عندما يكون الأبطال في القصص بشرًا خُلَّصًا، فحينها يجري وصف حياة شخصٍ في مرحلة عادية من التطور والترقي المُرتبط بالزمن. ولكن عندما يكون البطل شبه إلهي، أي مُتألِّهًا، فيكون التركيز على عملية تقدم وتطوُّر الذات الإلهية في الإنسان بعد أن شرع في تولي القوة المهيمنة. وعندما تكون الشخصية المركزية أفاتارًا، أي صورة أو هيئة متجسدة، أو "نسْلًا مُنحدرًا" لجانب من جوانب الإله، فإن تجاربه تروي تجارب الذات الروحية خلال المراحل اللاحقة من تطور وترقي الإلهي في الإنسان إلى مرتبة الرجولة، الشجاعة، الذكورة التامَّة. هذا هو الهدف والغرض العام، وهذا هو الأسلوب والطريقة، الذي تغياه واتبعه الكتبة القدماء لقصِّ قصص العالم الخالدة.
يشير الإله أو الأب، بشكل عام، إلى الجوهر الروحي الأسمى في الإنسان، أي الشرارة الرَّبَّانيَّة، والجرثومة-البِذرة الخالدة، أي لوغوس النفس الصاعدة، الكامن في أقصى الأعماق، أي الموناد (الجوهر الفرد أو الوحدة الأساسية للحياة). وهذا صحيح بشكل خاص حيث إنَّه يُشارُ ضمنيًا إلى الإله الأعلى والأبدي في طبيعته العالميَّة كلوغوس شمسي.
إنَّ التحقير والتضليل المأساوي الذي أُلحِقَ بعبارة "أنا هو الذي أنا" يهوه، الإله الأسمى والأعلى، حيث أُهبِطَ من هذه المنزلة الرفيعة إلى مُجرد إله قبليٍّ، وأحيانًا، إلهًا غاضبًا مُتعطِّشًا لسفك الدماء وغيور- حدث، بحسب بعض المؤلفين، إبَّان عملية جمع وترميم أسفار بني إسرائيل من قبل عِزرا بعد أن أُتلِفَت من قبل. ويُعتبر المصدر الأسمى أو الأعلى، المشار إليه باسم "الله" و"روح الله"، أنَّه يتجاوز ويعلو على كل الأمور الكونية والإلهية. إن تحديد الواحد غير المخلوق ليصبح الإله الشخصي لقبيلة واحدة قد أدى إلى الكثير من الارتباك والتدهور المروع لفكرة الإله الأسمى المُتعالي.
إنَّ «الواحد الأبدي»، في أي سرد يرد ذكره، يُمكن تأويله بوصفه رمزًا للجوهر الفرد في الإنسان، وأيضًا كرمز للروح الكلية أو الشاملة لعِرقٍ بعينه. ويشير تعبير "حضن إبراهيم" إلى حالة الوعي التي يسكن فيها الجوهر الفرد للإنسان بشكل دائم، وهي الحالة التي يمكن للنفس الروحية أو الأنا الخالدة أن تبلغها وتُحرزها بشكل طبيعي في نهاية المطاف.
أولئك الذين يسلكون طريق التنوير الروحي يسعون إلى تسريع تحقيق هذا الوعي الكامل في حياتهم اليومية، بدءاً من إدراك طبيعتهم الإلهية والخالدة، وصولاً إلى تحقيق وحدتهم الدائمة مع الرب الأعلى. أي يُحاولون أن يجعلوا وعي الدماغ يتحقق بهذا الوعي العالي.
إن الاعتراف الكامل بوحدة الإنسان مع الله، ووحدانية الإنسان-الروح مع الله-الروح، هو الهدف النهائي لكل من يبحث عن "الباب الضيق" ويدخل إلى «الطريق الضيق».
في الهندوسية، تسمى هذه الحالة موكشا أو التحرر؛ وفي البوذية، السكينة أو الاستغراق/التركيز الواعي؛ وفي المسيحية الخلاص، والصعود، والتحقق بالمسيح([1])، وحالة "من تحمله الملائكة إلى حضن إبراهيم". ورمز التلميذ يوحنا المتكئ على حضن يسوع قابل لتأويل مماثل. وهكذا فإن إبراهيم، مثل العديد من الأشخاص الآخرين في الكتاب المقدس، يجسد مبدأ من مبادئ الإنسان وحالة من حالات الوعي.
تُعتبر الشخصيات: الإلهية، وشبه الإلهية، والأبوية والبشرية، ضمن دراسة الكتاب المقدس بهذه الطريقة، كتجسيد وتشخيصٍ لمبادئ وقوى الطبيعة بوصفها تُمثل العالم الكبير، وأيضًا، كتجسيد لمبادئ وقوى الإنسان بوصفه يُمثل العالم الصغير.
ونُلاحظ أنَّ هناك نماذج مما كتب القديس بُولُس تؤيد هذه القراءة وتدعمها، إذ يقول: «... فهذه الأمور عرضت لهم رُمُوزًا/أمثلةً وكُتبت لموعظتنا...» و«... مكتوب إنَّه كان لإبراهيم ابنان، أحدهما من الأَمَةِ والآخر من الحُرَّةِ... وُلِدَ الذي من الحُرَّة بقوة الموعِدِ... وذلك إنَّما هو تمثيلٌ/رمزٌ...»، وهكذا، فمن المعقول أن نفترض أن هذه النظرية، أي اعتبار الأحداث في الكتاب المقدس كأمثال ورموز، قد تصدق أيضًا على العديد من أجزاء الكتاب المقدس الأخرى إذا ما طبقناها عليها. بل يمكن للمرء أن يذهب إلى أبعد من ذلك ويؤكد أن ممارسة دراسة الكتب المقدسة في العالم من حيث معناها الحرفي، ومن حيث اعتبارها سجلات للأحداث التاريخية الفعلية فحسب، يمكن أن يؤدي بالعقل للوقوع في فوضى وتشوش وارتباك.
أعتقد أنه يجب تصحيح ثلاث أخطاء أخرى في المسيحية الحديثة بشكل عاجل. هذه الأخطاء هي: التدهور المذكور بالفعل لمفهوم الألوهية وإنزاله إلى مستوى إله قبلي بدلاً من كونه منشِئًا وخالقًا للكون وتجسيدًا للحياة غير المُشخصة والقانون والذكاء؛ والإصرار بالاعتماد الكامل على قوة خارجية للخلاص بدلاً من الاعتراف (بالقوة الداخلية)؛ وبناء نظام قائم على عقائد لاهوتية غير قابلة للتصديق. ويبدو أن مؤلف سفر الأمثال، الذي كتب: «المثل في فم الجُهَّالِ كشوكٍ في يدِ سكرانٍ» كان يعبر عن وجهة نظر مشابهة لوجهة نظرنا.
إنَّ تمييز وإدراك القصد الباطني الصوفي ومعنى النصوص المقدسة، الكتاب المقدس تحديدًا، كفيل بأن يُنحي كل هذه الصعوبات التي تعترض فهمها، وأيضًا، يمنحنا إلهامًا روحيا ينسجم ويتسق مع العقل.
وهكذا فإنَّ الشخصيات التي ذكرت في النصوص الدينية، مثل مريم أم يسوع، ومريم المجدلية، وبطرس، ومارثا، تحمل صفاتًا وأبعادًا روحية ونفسية متنوعة تعبر عن جوانب مختلفة من الطبيعة البشرية وأنماط الحياة.
فمثلًا مريم أم يسوع: تمثل التواضع والتفاني والحب غير الأناني. ومريم المجدلية: تعكس الضعف البشري والقداسة المتأصلة في الإنسان، رغم الأخطاء التي قد يرتكبها. وبطرس: يرمز إلى الإنسانية بكل ضعفها وقدرتها على السمو الروحي. ومارثا: تمثل الجانب النشط والعملي من الحياة. ومريم الأخرى (أخت مارثا): تجسد الجانب الروحي التأملي الذي يعتبر أكثر قيمة.
إنَّ هذه الصفات موجودة داخل كل إنسان، وأن الظروف الحياتية تبرز أحيانًا جانبًا معينًا من هذه الصفات في أوقات مختلفة. بمعنى آخر، نحن جميعًا نملك في داخلنا عناصر من هذه الشخصيات، والظروف التي نمر بها تجعل بعض هذه الجوانب تظهر على السطح بشكل أوضح في أوقات معينة.
ويُجسِّد التلاميذ الاثني عشر ليسوع، من خلال تصنيفهم إلى اثني عشر فردًا، مظاهرًا مصغّرة لصفات الأبراج الفلكية. هذه الفكرة تربط بين التلاميذ وعلم الفلك الرمزي، حيث كل تلميذ يعكس جانبًا معينًا من السمات المرتبطة بعلامة برج معينة. حيث يمثل تلاميذ يسوع الاثني عشر تجسيدات صغيرة (مكروكوزموسية) لخصائص علامات الأبراج. أمَّا قُرب التلاميذ من المعلم (يسوع) فيُشيرُ إلى أنَّ كمالهم الروحي وصل إلى مرحلة متقدمة. بعبارة أخرى، إنَّ التلاميذ ليسوا مجرد شخصيات تاريخية، بل يجسدون سمات إنسانية وروحية متنوعة تتوافق مع الأبراج، وأن تطورهم الروحي ونضوجهم كان كبيراً بحيث أصبحوا قريبين جداً من المعلم، مما يعكس تقدمهم في مسار الكمال الروحي.
ومن الناحية التمثيلية، فالتلاميذ الاثني عشر، من خلال عملية تنقية روحية، أصبحوا قادرين على العمل مع يسوع، الذي هو تمثيل رمزي للشمس من الناحية الكونية (المصدر الكوني للطاقة والحياة) والوحدة الروحية أو الموناد من الناحية الصغروية (الجوهر الإلهي داخل كل إنسان). هذه العملية تهدف إلى تحقيق تنمية كاملة لقوى القلب والعقل والروح لدى جميع الأفراد. بعبارة أخرى، الهدف النهائي هو تحقيق الكمال الروحي والنفسي من خلال التطور والتعاون الروحي.
ويستطيع الفرد الوصول إلى مستوى عالٍ من الوعي الروحي والفهم العميق للحكمة الإلهية التي يمثلها المعلم فقط عندما يقوم بتنمية الصفات الاثني عشر المرتبطة بالأبراج بداخله. هذا يعني أن كل صفة أو سمة تحتاج إلى التدريب والتنقية (التأديب) لتصبح تلميذًا روحيًا، وهو ما يُمكن الشخص من الاستجابة لإرادته الداخلية والفهم العميق للحكمة التي يمثلها المعلم. بمعنى آخر، لكي يصل الإنسان إلى الحكمة الحقيقية ويستجيب بشكل كامل لدوافعه الروحية، يجب عليه أن يعمل على تطوير وتنقية كل جانب من جوانب شخصيته، كما يرمز لها الأبراج الاثني عشر، من خلال التدريب الروحي والانضباط.
في كتابه الرائع، قاموس اللغة المقدسة لجميع الكتب المقدسة والأساطير، الذي أوصي به بشدة كل طالب في هذا الموضوع، لا يقدم ج. أ. جاسكل التصنيف الفلكي للأبراج الذي يفضله بعض الطلاب، بل يقدم قائمة باثنتي عشرة صفة تأديبية. هذه الصفات هي نوع من الخصائص التي يجب على الشخص تطويرها أو التحلي بها، وهي:
الشجاعة والقوة - فيليب.
المثابرة - برثولماوس.
السعي إلى الحقيقة الفكرية - توما.
التواضع وقابلية التلقي - يعقوب بن حلفى.
الوداعة والانتباه - سمعان القانوي.
سعة الأفق - يهوذا أخو يعقوب.
التفكير النقدي المدروس - متى.
الحكمة - يهوذا الإسخريوطي.
كل واحدة من هذه الصفات تعتبر مهمة في عملية التأديب الروحي والفكري، وتساعد في تطوير الشخصية بشكل متكامل ومتوازن. ولكن وصف الإنسان لا يكتمل إلا بإضافة عنصر "حضور المسيح وقوته" إلى باقي صفاته، وهذه الصفة الثانية عشرة، سواء كان نائما، مستيقظا، مولودًا، أو مكتمل النمو.
حضور المسيح وقوته: يُشير إلى تأثير المسيح الروحي على الإنسان، بما في ذلك وجوده الإلهي وقدرته على التأثير على حياة الفرد. أما عبارات (نائم، مستيقظ، مولود، مكتمل النمو) فتصف درجات مختلفة من قوة تأثير المسيح على الإنسان: نائم: يعني أن الشخص لم يكتشف بعد تأثير المسيح في حياته. مستيقظ: يشير إلى مرحلة يبدأ فيها الشخص بالوعي لتعاليم المسيح وأثرها. يولد: يدل على اعتناق الشخص للمسيحية وبدء رحلته الروحية. مكتمل النمو: تعبر عن أعلى مستوى لتأثير المسيح، حيث يتصرف الشخص وفقًا لتعاليمه ويجسد صفاته.
التفاعل بين مختلف جوانب الطبيعة الإنسانية، والتأثيرات التي تنتج عنها، والزيادة أو النقصان في واحدة أو أكثر منها في أوقات مختلفة وفي حياة الأفراد المختلفين، والظهور التدريجي والمنتصر والسيطرة على الذات الروحية الملكية، الذات الخالدة داخل الإنسان، وهو البطل في كل حكاية- كل هذا يصوره مؤلفوا كتب العالم المُقدسة والذين هُم مكتملوا التنشئة والتربية الروحية.
وهكذا، فإن الروايات نفسها تصف التجارب - وخاصة الاختبارات والمحن والهزائم والانتصارات - لشخص واحد، وهو الإنسان نفسه. تصف المآثر الناجحة والإنجازات الداخلية، في حين أن الإخفاقات الجزئية والكاملة والهزائم والاستسلامات هي تمثيل رمزي لانتصارات مؤقتة للإنساني البحت على الإلهي في الإنسان، أي انتصارات المادة على الروح.
بشكل عام، إن تطور الروح البشرية نحو الكمال يمثل رحلة مليئة بالتجارب والتحديات. هذه التجارب تُروى كمغامرات تجريبية لعدد من الأشخاص داخل إطار واحد، أي قصة الحياة الروحية الشاملة. كل إنسان يمثل شخصًا في هذه القصة، وتجاربه الفريدة تسهم في بناء وتطور هذه القصة الروحية. حيث يتم سرد التجارب المتعددة للذات الخالدة للإنسان في رحلتها نحو الكمال كمغامرات لعدد من الأشخاص في القصة الواحدة.
فمثلا إن أعمال هرقل، ورحلة المغامرين، ورحلات بني إسرائيل وتجاربهم، وحياة الرب شري كريشنا والسيد المسيح، من بين أمور أخرى كثيرة، كلها وصفية بطريقة رمزية لرحلة الروح وما مرت به من تجارب نفسية وفكرية وروحية في تلك الرحلة. أي إنَّ أعمال هرقل، ورحلة الأرجونت (Argonauts)، ورحلات وتجارب بني إسرائيل، وحياة الرب شري كريشنا والرب المسيح، كلها تُصور بشكل رمزي وتشبيهي رحلة الروح والتجارب النفسية والفكرية والروحية التي تمر بها في هذه الرحلة. ويظهر أن هذه القصص الشهيرة تُستخدم بشكل رمزي لتوضيح مراحل وتجارب رحلة الروح والتطور الروحي الذي يمر به الإنسان. كل قصة تعكس تجارب مختلفة ومراحل في النمو والتحول الروحي، وتقدم دروسًا في الصبر والتسامح والتطور الروحي.
القصصُ تُعَبِّرُ دراميًّا عن مراحل تطور الإنسان
المفتاح الثالث هو أن كل قصة تعتبر بالتالي وصفًا تصويريًّا دقيقًا وتفصيليًّا لتجارب النفس البشرية وهي تمر عبر المراحل المختلفة أثناء رحلتها التطورية نحو «الأرض الموعودة»، أو الوعي الكوني، والذي يُعتبر الهدف والذِّروة التي يمكن للإنسان بلوغها واحرازها.
ويمكن دائما تمييز القصص التمثيلية الرمزية المُلهِمَة عن مجرد الروايات والسير الذاتية بعدة خصائص، أحدها هو الظهور المفاجئ للعناصر الماورائيَّة والكائنات الملائكية والإلهية، بل وحتى الإله نفسه، في القصة. وفي أيِّ قصَّةٍ ترد مثل هذه العناصر فيجب أن يخطر على البال بأنَّه من المُحتمل أن يكون هاهُنا وحيّ محفوظ بخفاء. وعندئذٍ، يُمكن للقارئ الذي يمتلك المفاتيح كشف وقراءة الرموز المخفية وفهم المعاني العميقة وراءها للوصول إلى الحكمة المخفية والكشف عن الأبعاد العميقة للقصة.
إنَّ إحدى الطرق أو المفاتيح التي يجب تطبيقها عند تحليل القصة لفهما، هو النظر إلى الشخصيات المختلفة في القصة، التي تظهر بشكل بارزٍ، على أنها تمثل قوى أو صفات أو خصائص معينة موجودة في كل إنسان، كما قد قيل من قبل. حيث إنَّ كل شخصية ترمز إلى قوة أو صفة أو خاصية معينة يمكن أن تكون موجودة في كل فرد. ويجب النظر إلى الشخصيات الرئيسية على أنها تجسيد لصفات وقوى موجودة في الإنسان بشكل عام. إنَّ هذا الفهم يساعد على كشف الرسائل العميقة والمعاني الرمزية في القصة.
إنَّ الصفات والقوى التي تمثلها الشخصيات في القصص الملهمة يمكن أن تكون في حالات مختلفة وفقًا لطبيعة وتطور الشخص الذي يتم وصفه. إذ إنَّ بعض الصفات قد لا تكون موجودة على الإطلاق في الشخصية. وبعض الصفات قد تكون في مرحلة النمو أو التطور، أو قد تكون في طور الشفاء والتحسن. وبعض الصفات قد تكون قوية ومسيطرة في الشخصية. وإنَّ حالة هذه الصفات تعتمد على طبيعة الشخص ومستوى تطوره. هذه الحالات المختلفة تعكس تطور الإنسان وكيفية تغير صفاته وقواه عبر مراحل حياته المختلفة.
يُمكن دراسة القصص من منظورين مختلفين بهذا التأويل/المفتاح الثالث:
المنظور الأول هو من خلال التجربة التطورية الطبيعية والحالات العقلية والعاطفية المعتادة. بمعنى النظر إلى القصص باعتبارها تعبيرات عن تجارب الحياة اليومية والتطور النفسي والعاطفي العادي الذي يمر به الفرد.
أما المنظور الثاني فهو من خلال النظر إلى القصص المقدسة كتمثيل رمزي تصف بشكل خاص تجارب أولئك الذين يسلكون الطريق الروحي الصعب والضيق الذي يؤدي بسرعة إلى «ولادة» وعي المسيح في الإنسان ومن ثم إلى تحقيق كامل لهذا الوعي والقوة. وباختصار، أن كل قصة يمكن فهمها كجزء من التجربة الإنسانية العامة، أو كرمز لتجربة روحية عميقة تخص الأشخاص الذين يسعون لتحقيق مستوى أعلى من الوعي الروحي والقدرة الروحية.
ففي مَثل الزارع([2])، تمثل الحالات المختلفة للأرض مراحل تطورية متنوعة وحالات من الاستعداد الروحي للبشرية والفرد.
تتراوح هذه الحالات من عدم الاستجابة الكاملة (الأرض الصخرية) إلى الإدراك الكامل والتقبل (الأرض الخصبة). بمعنى آخر، الأرض الصخرية ترمز إلى عدم الاستجابة الكاملة، حيث لا يمكن للبذور أن تنمو لأن الأرض غير مهيأة لاستقبالها. هذا يعبر عن الأفراد أو المراحل في التطور البشري التي تفتقر إلى الاستعداد أو الانفتاح لتلقي الرسائل الروحية أو الأفكار الجديدة. والأرض الخصبة تمثل الحالة المثلى من الاستعداد الروحي، حيث تكون الأرض قادرة على استقبال البذور وإنباتها، مما يؤدي إلى النمو والإثمار. هذه الحالة تعبر عن الأفراد أو المراحل التي يكون فيها الشخص أو المجتمع جاهزًا لقبول الرسائل الروحية وفهمها وتطبيقها بشكل كامل.
وفي مَثل العذارى العشر، يمكن اعتبار العذارى الجاهلات كأولئك الذين لم يتطوروا بعد بما يكفي ليتمكنوا من الاستجابة للدوافع النازلة من ذاتهم العليا (العريس). بمعنى آخر، العذارى الجاهلات يرمزن إلى الأفراد الذين لم يصلوا إلى مستوى كافٍ من التطور الروحي والوعي الذاتي. هؤلاء الأفراد لم يستعدوا بالشكل المناسب لاستقبال وتلبية الإرشادات أو الدوافع التي تأتي من ذواتهم العليا. أمَّا العريس فيرمز إلى الذات العليا أو المستوى الروحي الأعلى الذي يجب على الفرد السعي للوصول إليه.
ومن ناحية أخرى، يمكن تفسير العذارى الحكيمات على أنهن يجسدن كل أولئك الذين حققوا درجة كبيرة من النمو الروحي، حيث أن الذات الروحية لديهم قد تطورت بشكل ملحوظ، والطبيعة الخارجية الجسدية لديهم قد تطورت بما يكفي لتكون واعية لهذا الواقع، وتعبّر في سلوكهم اليومي عن المثاليات العليا وثمار التجارب الروحية.
فالعذارى الحكيمات يرمزن إلى الأفراد الذين بلغوا مستوى عالٍ من التطور الروحي. هؤلاء الأفراد لديهم وعي ذاتي عميق وقدرة على استيعاب الدوافع الروحية وتجسيدها في حياتهم اليومية. والوعي الروحي والسلوك اليومي حيث العذارى الحكيمات يمثلن التوازن بين الوعي الروحي العميق والتطبيق العملي لهذا الوعي في الحياة اليومية. باختصار، العذارى الحكيمات في هذا المثل يرمزن إلى الأشخاص الذين ليس فقط أدركوا تطورهم الروحي ولكن أيضًا استطاعوا دمج هذا الإدراك في سلوكهم وأفعالهم اليومية، مظهرين بذلك مثالياتهم العليا والتجارب الروحية التي مروا بها.
ومن خلال هذا التأويل، يُظهر المثل الفجوة بين الأفراد الذين هم في مراحل تطور روحي مختلفة. العذارى الحكيمات، اللاتي أعددن الزيت لمصابيحهن، يمثلن الأفراد الذين استعدوا روحياً ويمكنهم الاستجابة للدوافع والإرشادات الروحية. بالمقابل، العذارى الجاهلات يرمزن إلى الأفراد الذين لم يطوروا هذا الاستعداد بعد، وبالتالي غير قادرين على التواصل أو الاستجابة بفعالية لذواتهم العليا.
يلي ذلك التنوير التدريجي للعقل والدماغ بواسطة الذات أو الأنا (الخِطبة)، مما يؤدي إلى اندماج الطبيعتيْن الخالدة والفانية (الزواج). بمعنى آخر، التنوير التدريجي للعقل والدماغ يشير إلى عملية نمو الوعي والتبصر حيث تبدأ الذات الروحية (Ego) بتوجيه العقل والدماغ، مما يؤدي إلى زيادة الفهم والإدراك الروحي. والخِطبة ترمز إلى بداية هذا الاتصال العميق بين الذات الروحية والفكر الواعي. إنها المرحلة التي يبدأ فيها العقل والدماغ في استقبال تأثيرات الذات الروحية. والاندماج (الزواج) يمثل الاتحاد الكامل بين الطبيعة الخالدة (الذات الروحية) والطبيعة الفانية (الجسد والعقل المادي). هذا الاندماج يرمز إلى تحقيق التوازن والوحدة بين الجوانب الروحية والمادية للإنسان. باختصار، التنوير التدريجي للعقل والدماغ بواسطة الذات يؤدي إلى مرحلة من الاندماج الكامل بين الجوانب الروحية والمادية، ممثلة بالزواج، حيث يعيش الإنسان في وعي كامل ومتوازن يجمع بين الطبيعتين.
يمكن بالتالي فهم أحداث عيد عرس قانا([3]): للإشارة إلى هذا الاتحاد الداخلي الذي حققه أولئك الذين أيقظوا قوة حضور المسيح فيهم (حضور السيد). لقد حدث فيهم الدمج والمزج الأساسي والجوهري أو "الزواج السماوي" بين الطبيعتين البشرية الخارجية والطبيعة الخالدة الداخلية.
يدلُّ وجود المسيح في القصة على أن الحكمة الروحية، والحدس الروحي، والمحبة والرحمة الشبيهة بالمسيح، قد تطورت بالفعل بشكل جيد. وتحت ظروف من مثل التي ذكرت آنفًا، تتحول "مياه" الجوانبِ العاطفيةِ التي تملؤها الرغبات بشكل تلقائي إلى "نبيذ" الحكمةِ والإرادةِ الروحيةِ. أي تحويل الجوانب العاطفية الممتلئة بالرغبات إلى حكمة وإرادة روحية. بمعنى آخر، عندما تتوفر الظروف المناسبة، تتحول العواطف والرغبات البشرية من حالتها الأولية الخام إلى حالة أسمى وأكثر نقاءً، بحيث تصبح مشبعة بالحكمة والإرادة الروحية.
هذه ليست معجزة، بل هي عملية طبيعية تحدث عندما يصعد ويرتقي المريد الصامد والمُجاهِد "الطريق الضيق"، كما هو موصوف في القصص التمثيلي والرمزي. ويرمز العنب والكرمة أيضًا إلى المعرفة والحكمة وإدراك وفهم روح الأشياء. وكما أن عملية التخمير تعطي للنبيذ قوة مؤكدة من حيث تأثيره القوي، فإن عمل العقل على المعرفة الباطنية المتراكمة يحولها إلى قوة الحكمة النقية، والفهم والبصيرة الضمنية، والحدس العميق النافذ. بمعنى آخر، إن العقل يعمل على تحويل المعرفة الباطنية المتراكمة إلى شكل أسمى من الحكمة، يتميز بالفهم العميق والبصيرة الواضحة. تماماً كما يعطي التخمير النبيذ قوته الفريدة، فإن عمل العقل على المعرفة يخلق حكمة قوية ونقية.
الرمزية اللغوية
المفتاح الرابع هو أن جميع الأشياء، وكذلك بعض الكلمات، لها معنى رمزي خاص بها.
إن لغة المُسارَرَين المقدسة المُنتمين للمدارس السرية تتكون من نقوش مقدسة (hierograms) ورموز وليس من كلمات وحدها، ومعناها ثابت دائمًا، كما هو ثبات العقيدة التي تكشفها هذه اللغة في كل مكان. بمعنى آخر، أن لغة هذه المدارس تتكون من رموز ثابتة في معناها، وهي تعكس تعاليم ثابتة لا تتغير بغض النظر عن الزمان والمكان. هذه اللغة الرمزية تسهل نقل الحكمة العميقة بطريقة موحدة ومستمرة.
تُستخدم بعض الكلمات كمفاتيح لفتح المعاني الداخلية، وهذه المفاتيح عند تقليبها لسبع مرات تكشف عن سبع طبقات من الحكمة المقدسة.
إن عبارة "تدويرها أو تقليبها سبع مرات" يُشير ويرمز إلى عملية متكررة أو متعددة الخطوات تتطلب الصبر والتكرار للوصول إلى الفهم الكامل. أما عبارة "سبع طبقات من الحكمة المقدسة" فيشير إلى أن هناك مستويات متعددة ومتدرجة من الفهم والحكمة التي يمكن الوصول إليها، وكل طبقة تكشف عن مستوى أعمق من الحكمة الروحية. بمعنى آخر، أن هناك كلمات خاصة في التعاليم الباطنية تعمل كمفاتيح للوصول إلى معاني أعمق. عملية تدوير هذه المفاتيح سبع مرات ترمز إلى اكتشاف مستويات متعددة من الحكمة، مما يشير إلى عمق وتعقيد هذه التعاليم، حيث يتطلب الفهم الكامل لها المرور بعدة مراحل أو طبقات من الإدراك الروحي.
هذه الحقيقة يُشار إليها تمثيليًّا (allegorically) في مناسبات عديدة، فمثلًا في قصة الرجال الثلاثة التوراتية، شدرخ وميشخ وعبدنغو، الذين لم ينفذوا أمر الملك نبوخذنصر بالسجود للتمثال الذهبي، أمر "بأن يحموا الأتون سبعة أضعاف أكثر مما كان معتاداً أن يحمى"، وألقاهم فيه وهم موثقين بالحبال، ولكنه قال: "إني أرى أربعة رجال طليقين يتمشّون في وسط النار لم ينلهم أذى ومنظر الرابع شبيه بابن الآلهة"، فاتحد الثلاثة في واحدٍ. بمعنى آخر، أن الوصول إلى الحكمة الروحية العميقة يتطلب المرور بعملية مكثفة من التطهير والاختبار. كما أن الفرن تم تسخينه سبع مرات أكثر لتحقيق هذا التحول، فإن الحكمة الروحية تتطلب المرور بمراحل متعددة من النمو والتكامل، وفي النهاية يمكن للشخص أن يحقق حالة روحية تشبه "ابن الإله" أي الحكمة والنقاء الروحي. وبالمثل كما ذكر في رسالة بولس إلى العبرانيين، إذ قال: "بِالإِيمَانِ سَقَطَتْ أَسْوَارُ أَرِيحَا بَعْدَمَا طِيفَ حَوْلَهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ."
ومن ثم تظهر فكرة أنه لاكتشاف الحكمة المقدسة في النصوص المسيحية، يجب علينا التخلي عن الفكرة التي تعتبر هذه النصوص مجرد سجلات تاريخية دقيقة للأحداث. بمعنى أنه يجب قراءة الكتب المقدسة بطريقة تتجاوز الفهم الحرفي والتاريخي لتشمل البحث عن المعاني الرمزية والروحية الأعمق.
ويتضمن ذلك رؤية القصص والأحداث كرموز تحمل دروساً روحية وحكم عميقة، وليس فقط كسجلات لأحداث ماضية. في النهاية، الفهم العميق للنصوص المقدسة المسيحية (وغير المسيحية) يتطلب منا النظر إلى ما وراء الكلمات والأحداث التاريخية لاكتشاف الحكمة الروحية والرموز التي تحملها هذه النصوص. على سبيل المثال، إنَّ السرد الإنجيلي ليس فقط سرداً للأحداث التاريخية، بل هو يصف تمثيليا ورمزيا رحلة النفس البشرية الصاعدة نحو الكمال الروحي. هذه الرحلة تتضمن المرور بمراحل مختلفة من النمو الروحي والتطهير حتى الوصول إلى المرحلة النهائية وهي الصعود. في النهاية، يمكن فهم الرواية الإنجيلية على أنها خريطة روحية ترشد النفس المتقدمة خلال مراحل التطور الروحي حتى تصل إلى أعلى مستوى من الكمال والاتحاد مع الإلهي.
إنَّ الدراما العظيمة (مثل الروايات الإنجيلية) لكي تُفهم وتُقدَّر بشكل كامل، يجب أن تنتقل من مجال الفهم المادي إلى مجالات الفهم النفسي، والعقلي والروحي الخاص بمستويات التجربة البشرية. بمعنى آخر، أن القصص الروحية الكبرى ليست مجرد سرد لأحداث مادية، بل تحمل معاني أعمق يمكن أن تُفهم فقط من خلال النظر إليها كرموز للتجارب النفسية والفكرية والروحية. فمثلا قصة الفداء فهي ليست مجرد رواية تاريخية عن صلب المسيح وقيامته، بل هي رمز للتضحية والنمو الروحي والانتصار على الموت بمعناه الروحي. ورحلة البطل في الأساطير يمكن أن تُرى كرمز لرحلة الإنسان الداخلية نحو الكمال والتنوير. وفي النهاية، لفهم وتقدير الدراما العظيمة بشكل كامل، يجب نقل الفهم من المستوى المادي السطحي إلى المستويات النفسية، العقلية والروحية، مما يتيح لنا استيعاب المعاني العميقة والتجارب البشرية التي تعبر عنها هذه القصص.
فالتلاميذ إذن هم تجسيد للصفات النبيلة للإنسان. رغم أنهم لا يزالون غير كاملين، إلا أنهم يصبحون أكثر روحانية ويتقربون من معلمهم وهم في خضم هذه العملية التحويلية، الذي يمثل الذات الإلهية الداخلية في الإنسان. التلاميذ لم يصلوا بعد إلى مستوى المسيح، لأنهم في مراحل أقل تطورًا وما زالوا تحت وهم الانفصال الذاتي. ويظهر ذلك من خلال سؤالهم عن مَن هو الأعظم في ملكوت السماوات. إنهم ما زالوا ملوثين بصفات مادية فادحة، ومن هنا جاء الغسل الرمزي لأقدامهم على يد سيدهم. ولا يزال هناك خائن يتربص في وسطهم، والذي يجب أن يكشف عن نفسه ويقتل نفسه قبل أن يحدث الصعود العظيم. المعلم يعاتبهم ويذكرهم ويوبخهم ويحذرهم، مشيراً إلى النشاط الروحاني للحضور الإلهي في الداخل.
إن جميع المعجزات التي تم تسجيلها، ومن ضمنها التي سميت بشكل خاطئ معجزات، يمكن أن ينفذها أديب (خبير ماهر بالصنعة الإلهية)، أو حتى مبتدأ (مُنَشَّأ) بدرجة أقل، عن طريق ممارسة القوى الثيورجية (السيميائية أو الروحية الخالصة). ولكنها أيضًا توضح عمليات إيقاظ القوى الروحية والتنبيه إلى الإدراك (الشفاء، واستعادة البصر، وإيقاظ الموتى) في الشخصية الخارجية التي تطمح إلى التقدم. أي المعجزات تعتبر علامات للنضج الروحي وتقدم الفرد على طريق التنوير والتحرر الروحي، وتعكس عملية إيقاظ القوى والقدرات الروحية والتنمية الروحية في الشخصيات البشرية. وهنا يكمن الفرق بين فهم المعجزات على أنها مجرد أحداث غامضة أو غير مفهومة، وبين فهمها على أنها جزء من عملية التطور والنضج الروحي. ومن خلال هذا النظر إلى المعجزات، يمكن للإنسان أن يفهم عمق الوجود وأن يكتشف القدرات الروحية الكامنة داخله، مما يساعده في بناء حياة أكثر إشراقًا ونضجًا على كافة الأصعدة.
إن قصة الإنجيل، وفي الواقع جميع الأجزاء الموحى بها من الكتاب المقدس، ليست موجهة بشكل رئيسي للعقل المنطقي الذي قد يشعر بالإهانة منها في بعض الأحيان، بل هي موجهة للحدس أو الاستبصار أو الطَّويَّة (intuition). فالحدس (الاستبصار) قادر على رؤية القصة باعتبارها قصة النفس الروحانية للإنسانية، والتي تصور من خلال الرموز والاستعارات الدرامية القوى الإلهية والإمكانيات الموجودة في الإنسان، وعملية تطوير واستخدام هذه القوى بشكل فعّال. بمعنى آخر، النصوص المقدسة ليست فقط نصوصاً عقلانية بل تحمل معاني روحية ورمزية أعمق يمكن للبديهة والحدس أن يفهمها. وقد نكرر أن هذه النظرة الباطنية أو الصوفية لا تنفي وجود التاريخ بشكل كامل. حيث يمكن أن يظل لُب وجوهر التقليد داخل القصص بمثابة سِجِلٍّ لأحداث حقيقية، مهما كانت السجلات قد تمت معالجتها وتفسيرها بطريقة ترتفع بها عن الفهم الحرفي والتاريخي البسيط إلى مستوى أعمق وأكثر روحانية. بمعنى آخر، هذه الرؤية تقر بأن هناك أساسًا تاريخيًا حقيقيًا للقصص والتقاليد، ولكن هذا الأساس يُقدَّمُ وتفسيره بطريقة ترفع هذه الأحداث إلى مستوى يتجاوز الزمن والمكان العاديين، مما يمنحها طابعًا مقدسًا وأبديًا عبر استخدام اللغة الدينية أو الرمزية.
[1]- باختصار، "Christhood" هو مصطلح يعبر عن الوصول إلى حالة من الكمال الروحي التي تتوافق مع صفات المسيح وتعاليمه.
[2]- لقراءة المثل، طالعه في إنجيل متَّى، الإصحاح الثالث عشر.
[3]- عرس قانا الجليل في الدين المسيحي يُعد من أولى معجزات يسوع المسيح، حيث وفقاً للإنجيل قام يسوع بتحويل الماء إلى خمر خلال مناسبة زواج في قرية قانا. في رواية الإنجيل، دُعي يسوع وأمه مريم وتلاميذه إلى حفل زفاف، وعندما نفد النبيذ، قام يسوع بمعجزة تحويل الماء إلى خمر. (ويكيبيديا)
تعليقات
إرسال تعليق