القائمة الرئيسية

الصفحات

 القسم الخامس: تأويل روحي لحياة المسيح

 

الفصل الأول: ميلاد يسوع

 

 

 


 

الميلاد بوصفه ولادة روحية

خلال الفصول السابقة، عُرضت أمثلة كثيرة من الرموز المستخدمة في كشف وإخفاء جوانب من المعرفة الباطنية المفعمة بالقوة، وقد استُخرجت هذه الأمثلة من الكتب المقدسة المسيحية وغيرها. في هذا الفصل تُقدَّم ثلاث تأويلات ممكنة لبعض الحوادث في حياة المسيح، حيث يُنظر إلى الرواية باعتبارها سجلًّا لحقائق كونية وتجارب صوفية تمرّ بها الأجناس البشرية والأفراد على السواء. وتُتناول القصة الخالدة من ثلاث زوايا: الكونية، التي يُجسّد فيها المسيح الذات الخالقة والحياة المنسكبة منها([1])؛ والإنسانية، التي يُمثل فيها المسيح روح الإنسان في رحلتها نحو الكمال؛ والروحية، التي يُجسَّد فيها تقدم يسوع الإنسان خلال المراحل الخمس الكبرى من مسار التتويج الروحي أو المُسارَرَة (Initiations) حتى مرتبة الحكيم الكامل (Adeptship)، بما يعكس ذات التجارب التي يمر بها كل سالك على درب الصليب. وهذه الزاوية الأخيرة، المشار إليها دائمًا باسم التأويل التمهيدي أو الاستهلالي، هي الأكثر تفصيلًا وتكرارًا، لأنها تُعد ذات أهمية واهتمام خاص.

إن دراسة الأناجيل من هذه الزوايا المختلفة تُشير إلى أنها كُتبت بأيدي أناس كانوا على دراية بالحكمة القديمة، وكانوا متمكنين من لغة القص التمثيلي والرمز (allegory and symbol). ويبدو أن هؤلاء الكتّاب الملهمين كانوا من المكرَّسين داخل أحد معابد الأسرار التي كانت لا تزال فاعلة في زمانهم، وبما أنهم كانوا عارفين باللغة المقدسة أو اللسان المُقدس، فقد استخدموا أشخاصًا حقيقيين وأحداثًا زمنية، وموادَّ وأشكالًا محسوسة، كرموز لحقائق أزلية.

وبينما يرى كثير من المسيحيين في قصة الإنجيل كمالًا وجمالًا يغنيان عن أي تأويل آخر، فإن هناك من يلحظ في بعض أحداثها الغامضة، وفي كلمات السيد المسيح، سرًّا ونورًا وحقيقة تتجاوز حتى ما تحمله الرواية التاريخية الظاهرة. فقد قال السيد المسيح مثلًا: "أنا والآب واحد"، و"قبل أن يكون إبراهيم، أنا كائن"، وفي سفر الرؤيا نُسب إليه القول: "أنا الألف والياء، البداية والنهاية، الأول والآخر". وهذه العبارات يصعب أن تُنسب إلى الإنسان يسوع الذي وُلد في بيت لحم. بل إن القديس يوحنا يفتتح إنجيله العميق بالإشارة إلى المسيح على أنه "الكلمة" الخالقة، التي كانت في البدء، والتي صارت جسدًا وسكنت بيننا، وكانت "الحياة" فيها هي "نور الناس".

أن سرًّا عميقًا مستترًا في قصة الإنجيل وفي طبيعة السيد المسيح أمر واضح لكل من يتأمل بتدبّر. فبينما لا يُشكّك هنا في تاريخية الكتاب المقدس، فإن الفكرة المطروحة هي أن الأحداث الواردة فيه تحمل معاني مزدوجة: فهي ذات دلالة زمنية وتاريخية، ولكنها أيضًا تحمل معنى أبديًّا، كونيًّا وإنسانيًّا. وهكذا، فإن الشخصية المحورية العظمى في الأناجيل تكتسب بُعدًا كونيًّا وشمولًا واسعًا. ففي الرؤية الصوفية، يُمثّل المسيح الحياة الإلهية والحضور الإلهي في كل الطبيعة وفي كل إنسان. كما أن الأحداث الرئيسية المنسوبة إليه تُرى كذلك كوقائع تجري في الكون بأسره، وداخل النفس الصاعدة الروحية للإنسان، أو ما يُسمى بـ"المسيح في داخل الإنسان". وبهذا السرّ الذي يتجاوز الفهم البشري، تصبح قصة المسيح هي ذاتها قصة الكون، وقصة كل إنسان؛ إنها تروي حكاية الميلاد والتطور نحو الكمال النسبي للكون بأكمله، وللجنس البشري، ولكل فرد من أفراده.

في الواقع، يمكن تمييز ثلاثة أوجه للمسيح في سرد الإنجيل: المسيح الكوني، أي الحياة الإلهية والحضور الإلهي في كل الطبيعة وكل الأشياء؛ والمسيح الباطني، أو الحضور المسيحي الكامن في كل إنسان؛ وأخيرًا، المسيح التاريخي، تلك الشخصية العظيمة التي ظهرت على الأرض قبل نحو ألفي عام في فلسطين.

في التأويل الكوني، يُصوَّر المسار الأعظم للخروج والعودة. ففي الميلاد الكوني، تفيض حياة الإله الخالق في الكون الذي تَكوَّن حديثًا أو الذي "وُلِد" للتو. وفي المعمودية، يحدث نزول أعمق لتلك الحياة. أما في الصَّلب والموت والدفن، فإن الحياة الإلهية تُسجَن في أعمق مستويات المادة ضمن النظام الشمسي، أي في مادة المملكة المعدنية، والتي يُرمز إليها بقبر الصخرة. وأما القيامة، فتمثل بدء السير على طريق العودة، الذي يُتبع حتى نهايته في الصعود إلى يمين الله.

كل روح بشرية، أو "موناد"، تسلك المسار ذاته من الخروج والعودة في حجِّها من حالة البراءة أو السُّبات (كما في حادثة تهدئة العاصفة)، نزولًا إلى الخارج في صراعٍ مع المادة والنزعات الأولية الكامنة في جوهر الأجسام الذهنية والعاطفية والبدنية (كما يُمثِّله اضطراب بحر الجليل والتجربة في البرية)، ثم تتغلب عليها، وتحوِّلها إلى أجنحةٍ للنفس، ترتقي بها عائدة إلى السلام الذي خرجت منه أول مرة.

إن الساكن في أعمق أعماق كل إنسان — أي الذات الإلهية — يتمثل ويُعبَّر عنه عبر الإنسان الظاهر من خلال "الأنا الإنسانية"، أو الذات الروحية الخالدة في جسدها النوراني المعروف بـ أوغوئيديس (Augoeides)، وهي مخزن لجميع المواهب والقدرات التي اكتُسبت نتيجة رحلة الحياة. وهذه الـ "أنا" تعيد تكرار الدورة الكبرى، فتعيش قصة حياة المسيح في كل مرة تنحدر فيها إلى التجسُّد، باعتبارها زائرًا إلهيًّا للعالم المادي. وهكذا، تُولد الذات الباطنية للإنسان (الولادة)، وتبلغ النضج (المعمودية)، وتُجَرَّب، وتغلب إن نجحت، ثم تُصلب بالمعاناة، وتعرف موت الجسد، ثم قيامتها وعودتها النهائية إلى عالمها الروحي الأسمى. وبهذا تصبح حياة المسيح حياةً كونية شاملة. أما المسيح نفسه فقد صاغ وعبَّر عن ملخص رائع لقصة حياة الكون، والنظام الشمسي، والعرق البشري، والفرد الإنساني، والمُبادر الروحي (المُستنير). وقد وصلنا هذا الملخص في صورة "مثل الابن الضال"، الذي قُدمت له تفسيرات في الفصول الأول والثاني والثالث من القسم الرابع من هذا الكتاب. وكان لدى الغنوصيين نسخة أخرى من هذه القصة وصلتنا بعنوان "أنشودة رداء المجد".

مقاربات طريق الصليب

في تقديم عرضٍ تمهيدي لهذا الجانب الأخير من حياة السيد المسيح — أي الجانب التمهيدي المتعلق بطريق "الصلب" — نجد أن هناك ثلاثة أنواع رئيسية من الرجال والنساء الذين ورد ذكرهم في سرد الأناجيل. أولًا، هناك أولئك الطيبون لكن الغافلون من عامة الناس، المنهمكون في شؤون الحياة اليومية، والذين لم يختبروا بعد أي تجربة صوفية مفهومة، ولا يزالون نائمين عن أي توجه مثالي، ولا يُبدون اهتمامًا بوجود العوالم الفائقة للطبيعة، ولا بنمط حياةٍ روحي. كان هذا هو حال سكان فلسطين آنذاك، الذين كان السيد المسيح يتحرك بينهم.

النوع الثاني يتكوّن من أولئك الذين بدؤوا يتيقظون تدريجيًا للحقائق الروحية، وشرعوا يسمعون نداء الحياة الروحية. هؤلاء كانوا يجتمعون حول المعلم ويصغون باهتمام إلى تعاليمه بينما يتنقل بين المدن والريف. ومن أمثلتهم الشاب الغني الذي جاء إلى المعلم يسأله عن الحياة الأبدية، وهو نموذج لمن استيقظ روحيًا لكنه لم يكن مستعدًا بعد لتحمّل جميع شروط التلمذة. فعندما سأله عن الطريق إلى الحياة الأبدية، أجابه المسيح: "احفظ الوصايا". فأجاب الشاب أنه يفعل ذلك منذ صغره. ثم جاء الامتحان الأصعب: قال له المسيح: «بِع كل ما تملك، ووزّعه على الفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني». ثم تأتي واحدة من أكثر الجمل إيلامًا في الكتاب المقدس: «فلما سمع هذا، حزن جدًا، لأنه كان غنيًا جدًا».

لكن لا داعي لاعتبار قراره نهائيًا؛ فربما لاحقًا في حياته أصبح مستعدًا لترك العالم، أو بالأحرى ترك الدافع والأسلوب الدنيوي في الحياة، ليتبع المثال الروحي العظيم. أما المؤمنون بالتناسخ، فسيقولون بلا شك إن الفرصة ستُعرض عليه من جديد، وإن لم يكن في تلك الحياة، ففي حياة أخرى، وسيقبلها في الوقت المناسب.

النوع الثالث من الرجال والنساء الذين يقدّمهم السرد الإنجيلي هم أولئك الذين كانوا مستعدّين لتكريس أنفسهم كليًّا للحياة الروحية. كانوا من المستيقظين الذين استجابوا للنداء الداخلي نحو الحياة العليا، وقد عزموا، رغم انشغالاتهم الدنيوية، أن يدخلوا من الباب الضيق ويسلكوا الطريق الوعر([2]) الذي تكلّم عنه السيّد — "طريق القداسة" كما سمّاه إشعياء. هؤلاء هم التلاميذ وسائر الأتباع المقربين من السيّد، وهم الذين نقلوا بعد ذلك جزءًا من رسالته إلى العالم.

لقد وُجدت هذه الأنماط الثلاثة من الناس على الدوام، وهي لا تزال موجودة اليوم، وستبقى كذلك. وبالنسبة لجميعهم، مهما كانت نظرتهم إلى الحياة، تُعدّ حياة المسيح نموذجًا ومثالًا يُحتذى به. فتعاليمه توفّر أسمى أشكال الهداية، لا سيّما لأولئك الذين استيقظوا روحيًّا، والباحثين، والطامحين من الرجال والنساء، والذين يكثر عددهم في زماننا هذا.

تأتي تجربة رائعة للغاية لأولئك الذين يقبلون مثال المسيح ويسعون للعيش وفق تعاليمه. إذ يبدأ لغزٌ غامض في التجلّي داخليًا وخارجيًا من حولهم. فيشرعون في المرور عبر الأحداث الكبرى في حياة ربنا وتلاميذه. فكلّ من يطلب بصدقٍ ونيّةٍ خالصة أن يحيا وفق ما هو أسمى وأطهر ما في نفسه، يظهر له معلّمه الحقيقي. وكما وُصف في الفصل الثاني والجزء السادس من هذا المجلد، فإن لقاءً يحدث، جسديًّا أو فوق جسدي (روحيًّا)، أو بهما معًا، بين الطالب المشتعل بالشوق والهمّة، وبين من بلغ قمّة التطوّر البشري، أي إنسانٍ كامل، أو حكيمٍ متحقّق، أو سيّدٍ على الحياة والموت. وليس الشابّ الغنيّ فقط، ولا التلاميذ والأتباع المباشرون للمسيح قبل ألفي عام هم من وجدوا معلمهم، بل في كلّ زمان، كلّ إنسانٍ قويّ الإخلاص، صادق النيّة، طاهر العزم، يجد نفسه عند قدمي معلمه. وحينها يبدأ السرّ – الذي أشرتُ إليه – بالتجلّي داخله.

مراحل التفتح الداخلي

يمرّ كلّ طالب للكمال بالمراحل الخمس الكبرى في حياة السيد المسيح؛ إذ إنّ المولد، والمعمودية، والتجلي، والصَّلب، والصعود كما وردت في الأناجيل، تُصوّر بشكل رمزي وتجريدي التجارب التي يخوضها كل إنسان يجد طريقه إلى أقدام المعلم. ومن يتلقى تدريبه، يُقدَّم لما يُسمّى "التهيئة" أو "التكريس الباطني"، وهو التزامٌ بالسير السريع نحو القمة التطورية، وبلوغ قامة الإنسان الكامل في زمن قصير نسبيًا.

قد يبدو غريبًا أن تُفهم الرواية الإنجيلية على أنها وصف لأحداث تجري داخل نفس الإنسان المستيقظ روحيًا، خصوصًا لمن يسمعون بذلك لأول مرة. غير أن هذا الفهم ليس جديدًا. فقد كان هناك، حتى في زمن السيد المسيح، جماعة من الأفلاطونيين الجدد في الإسكندرية يدرسون الكتب المقدسة في العالم، وخاصة العهد القديم، من هذا المنظور. ولهذا عُرفوا باسم "التمثيليون أو القياسيون" (Analogeticists). وكان من أبرزهم الفيلسوف الكبير فيلون الإسكندري، معاصر المسيح، والذي يُهدى إليه هذا العمل بكل احترام وامتنان. وتشير كلمات أنجِلوس سيليزيوس التي ذُكرت سابقًا إلى استمرار هذا الفهم للنصوص المقدسة خلال العصور الوسطى، كما أن الأدب الحديث يحتوي على شروحات لهذا النهج الصوفي.

الرموز الأولى في الكتاب المقدس التي تشير إلى الميلاد التاريخي للطفل المسيح، هي نبوءات العهد القديم عن مجيء المسيّا. وهذه النبوءات تقابل البدايات الأولى لتحرك القوة الروحية داخل رجل أو امرأة كانا يعيشان من قبل حياة طبيعية وعادية، وربما مادية بعض الشيء. وبعد فترة، تظهر حالة يُطلق عليها اسم "السخط الإلهي"، ويبدأ الإنسان الداخلي في الشعور بشوق لا يوصف نحو اللانهاية. ويصبح صوت الضمير أقوى فأقوى، حتى يصير في النهاية لا يمكن مقاومته.

تُعَدُّ هذه الخبراتُ وعودًا ونبوءاتٍ وإرهاصاتٍ رمزيةً للولادة الباطنية أو اليقظة الصوفية التي يتمّ فيها انبثاق قوى "المسيح" الكامنة في الإنسان، والتي أشار إليها القديس بولس بقوله: "يا أولادي الذين أتمخّض بكم أيضًا إلى أن يتصوّر المسيح فيكم." وتلي نبوءاتِ العهد القديم رسالةُ يوحنا المعمدان، الذي يُفسَّر نداءُه إلى شعب زمانه بالتوبة على أنه صوت "الذات العليا" (Higher Self) في الإنسان؛ صوتٌ إن أصغى له المرءُ وأطاعه، تحوّل شيئًا فشيئًا إلى النداء القوي لضميرٍ يقظٍ كامل الاستيقاظ. وعندئذ تبدأ الحياة اليومية بالتطهّر من الأنانية، والغرائزية، والتنعّم الأناني. ويشرع الإنسان في التخلّي عن روح التملك، وتغدو الخدمة من أجل الآخرين أمرًا ذا شأن متزايد في مسيرة السالك الروحي. وحينئذ، تتولّى الذات الباطنة قيادة الإنسان الظاهر، فينطلق في نمط حياة روحي وسط مشاغل العالم ومهامه الدنيوية.

عند هذه المرحلة، تحدث البشارة في الداخل. فمن أعلى ما في كيان الإنسان، أي من أسمى ذواته العليا، تنحدر قوةٌ روحية جبّارة، كأنها نارٌ خَلّاقةٌ حقيقية، تُحدث يقظاتٍ وتحولاتٍ نفسية وروحيةً عميقة. ويحدث داخل النفس ميلادٌ فعلي لقوى ومَلَكاتٍ جديدة، وتنشأ بطبيعية وسلاسة نظرةٌ جديدة إلى الحياة على مثال المسيح. كما ينمو إحساسٌ عميقٌ بالوَحدة مع الله وسائر الكائنات، يقود إلى حياةٍ "مسيحية" تقوم على البذل والحبّ المضحي. ومن ثمّ، تُصبح هذه الحقيقة المُدركة حديثًا هي المهيمنة على الفكر والدافع والقول والعمل في الإنسان الظاهر، فتتبدل حياته تبدلًا تامًا، وتُعاد هيكلتها وتنظيمها من جديد. وعلى المستوى الصوفي، يُقال عنه إنه وُلد من جديد — أو كما قال السيد المسيح: "ينبغي أن تولدوا ثانيةً."

"الحَبلُ بلا دَنَس"

فمَن هي، من هذه الزاوية الباطنية، مريمُ الطاهرة أمُّ يسوع؟ إذا جاز القول مع أعمق مشاعر التوقير لها كشخصية تاريخية، فإنها في هذا المنظور تمثل صورةً رمزية للروح الإنسانية الخالدة في كل إنسان، فهي الرحم الأمومي الباطني الذي يولد فيه المسيح — أي قوّة المسيح ووعيه — ولادةً داخلية في أعماق الكيان. فبهذا الفهم، مريم ليست مجرد شخصية من الماضي، بل هي مبدأ داخلي حيّ في كل نفس، حيث تنعقد شرارة الميلاد الروحي.

هذا الفهم للقصة — بوصفها وصفًا لتجارب داخلية وتطورات يمر بها إنسان واحد — تؤيده الرواية التي تقول إن يوسف، زوج مريم، لم يكن أبًا ليسوع، بل وُلد يسوع ولادة طاهرة من أمٍّ عذراء. وكثير من المسيحيين المخلصين يجدون صعوبة في تقبّل عقيدة الحَبل بلا دنس. غير أن هذه الصعوبة تتلاشى إذا نُظر إلى القصة لا كحدث تاريخي فقط، بل كتعبير رمزي عن التحولات والتطورات التي تقع في عقل وقلب كل إنسان. بهذا تصبح القصة مرآة للبنية الداخلية للنفس، لا مجرد صفحة من التاريخ.

البشارة

يمثل رئيس الملائكة جبرائيل الروح الأعمق الكامن في الإنسان. أمّا مريم فهي النفس الروحية الخالدة، المستعدة لتلقّي قوّة هذا الروح. والمسيح الطفل المولود من مريم هو وعي المسيح داخل الإنسان، أي تلك القوى المستيقظة حديثًا من المحبة الكونية والحدس الروحي، التي تكشف للعقل وحدة الحياة وكل الكائنات الحيّة. وهكذا تصبح البشارة خبرة داخلية، نزولًا من الساكن في الأعماق — الكيان الأوحد، مصدر الإرادة الخلّاقة (جبرائيل) — لقوّة مُخصبة، يُرمز إليها أحيانًا بزهرة الزنبق، رمز الخلق وإعادة الميلاد. هذه القوّة تُحدث في الأنا، من خلال أداتها وهي العقل المجرّد (مريم)، تطورًا فكريًا ونفسيًا عميقًا، أشبه بولادة حقيقية في روح الإنسان لقوى روحية جديدة وقدرات عقلية أرقى. وبعد هذا الحَبل الروحي، تنتقل ثماره عبر العقل المتقبّل والعواطف المُطهّرة إلى الإنسان الخارجي في جسده المادي. وداخل هذا الجسد تحدث المعجزة كاملة. والرمزية هنا بالغة الإيحاء، إذ يبدو أن كتّاب الأناجيل قد تعمّدوا إضفاء الطابع التشخيصي على مكوّنات الإنسان: فالعقل المُعَدّ المتقبّل يمثله يوسف، والعواطف المطهّرة تمثلها الحيوانات الأليفة المروّضة، أمّا الجسد المادي فيمثله النزل وإسطبله.

في الحقيقة، إن المبادئ السبعة للإنسان كلّها مُجسَّدة وحاضرة في الرمز الوارد في قصة ميلاد المسيح. وهذا هو الميلاد العذري الكوني في الفرد المتقدّم وفي الجماعة، تلك هي الدرجة الكبرى الأولى من التنوير، و"عيد الميلاد" الحقيقي لروح الإنسان. وقد بدأ هذا الحدث يتجلّى في العناصر الأكثر تطوّرًا من بشرية عصرنا، أولئك الرجال والنساء الذين يقودون الحركات العالمية الساعية إلى التعاون الدولي من أجل خير الجنس البشري بأسره. وكما في كل زمان، يظهر "هيرودس" في صورة أولئك المتعصبين المظلمين الأنانيين، الطغاة القساة في شتى ميادين النشاط الإنساني، الساعين إلى إجهاض وإفشال البادرة الوليدة نحو وحدة العالم، تمامًا كما طلب الملك "كامسا" موت الطفل شري كريشنا، و"سِت" موت حورس، و"التيتان" موت باخوس، و"هيرودس" موت يسوع. وكما نجت تلك الرموز جميعها وارتقت إلى العظمة، كذلك ستثبت هذه الأمثولات الكبرى أنها أوصاف صادقة للميلاد الناجح لوعي المسيح في إنسان القرن العشرين. تلك هي القراءة الجماعية أو الحضارية التي تحتملها جميع الأمثولات.

الوسام الصوفي

في أسرار العصور القديمة، كما ذُكر في موضع آخر، كان الجسد المادي يدخل في حالة غياب عن الوعي، فيما يتحرر "الذات الباطنة" في مركبتها النورانية — الجسد السببي — لترتقي بعد ذلك إلى مستوى من الوعي تدرك فيه وجود المصدر الواحد لكل حياة، ووحدتها مع تلك الحياة. وفي هذا المستوى من الوعي، لا تعود هذه الوحدة مجرّد فكرة عقلية، بل تصبح حقيقة حيّة، تُعاش وتُشعَر من الداخل لا أن تُرى من الخارج. إن المعنى الحقيقي للميلاد الصوفي هو التماهي الداخلي، العقلي والنفسي، مع الآخرين في حالات فرحهم وحزنهم ومعاناتهم، بحيث تُختبر هذه المشاعر وكأنها خبرات المرء نفسه. عندها يكون قد تحقّق "سفر المنفرد إلى المنفرد"، ويذوب المركز الفردي الذي كان يختزن النور والقوة الكونية في الحياة الكونية النابضة للوجود بأسره.

وعند تسجيل هذه الأسرار العميقة للارتقاء الروحي، عبّر الإنجيليون عنها بلغة التشبيه والرمز، محافظين بذلك على السرّية التي يلتزم بها كل مُرتقٍ روحي — كما يرمز إلى ذلك وضعية حورس هاربوكراتيس — وفي الوقت نفسه، وبمهارة فائقة، قدّموا ومضة من الحقيقة "لمن له عيون تبصر وآذان تسمع". لكن جوهر الكشف ليس في المعلومات المنقولة، بل في التجربة الداخلية الشخصية المباشرة، وهي بطبيعتها عصيّة على النقل. غير أن الطريق إليها يمكن الإشارة إليه، وهنا تكمن القيمة العظمى للكتب المقدسة الملهمة في العالم.

وفي النهاية، تقترب المراسم الكبرى للارتقاء من خاتمتها، وتعود الروح إلى جسدها. ويجب أن تُنقل ثمرة ذلك الاتساع في الوعي إلى الفكر والعاطفة والدماغ، لتتجسّد عبرها في سلوك الحياة اليومية.

 

العائلة المقدسة

إن الميلاد الداخلي هو بحقّ ميلاد طاهر، إذ في هذا الفهم لقصة الإنجيل يمثّل يوسفُ العقلَ الشكلي المنطقي الملموس لدى إنسان متقدّم، كان حكيمًا متمرّسًا قبل الميلاد الصوفي، ثم صار مستنيرًا روحيًّا بعده. ورغم قيمة هذا العقل الشكلي بما يملكه من قوّة المنطق، فإنه عاجز بطبيعته عن إنجاب الحدس، إذ هو في جوهره محلّل عقليّ يعتمد على الحقائق المجرّدة. أمّا الحدس، الذي يمثله الطفل المسيح، فيجلب إدراكًا فوريًّا للمبادئ العميقة، وتوقّعات صادقة دقيقة لا تعتمد على عمل العقل الشكلي. والذات الخالدة، التي تتجسّد في صورة مريم، بما لها من قدرة على التفكير المجرّد، تستطيع أن تتلقّى هذا الحدس، وتفهمه، وتنقله إلى العقل الشكلي (أن تلدَه)، ليصبح بعد ذلك مكشوفًا أمام محكمة الفكر، وتُوجَّه ترجمته إلى العمل بعقل حكيم ومتوازن. وهكذا فإن يوسف يرمز إلى العقل المتطوّر للمرشّح للارتقاء الروحي، ولهذا فهو بحق الأب الحاضن أو المربّي للمسيح، لا والده الحقيقي.

وقد حضر الحيوانات الأليفة في مشهد الميلاد، وهي تمثّل العواطف المضبوطة والمطهّرة. وأما المذود، بصفته وعاءً للطعام، فيمكن اعتباره رمزًا للجسد الحيوي أو الأثيري الذي يحتوي ويحفظ ويوزّع في الجسد المادي قوّة الحياة القادمة من الشمس. وأما الإسطبل فيمثّل الجسد المادي نفسه. وبهذا، وبلغة الرموز وببراعة فائقة، نجد أن القصة العجيبة للميلاد التاريخي تضمّ في طياتها الإنسان بكامل مكوّناته: الروحية، والعقلية، والعاطفية، والحيوية، والمادية، مع كشف حقائق صوفية عميقة ذات دلالة كونية شاملة.

 

الرعاة والمجوس

يمثّل الرعاة أولئك رعاة الأرواح العظام، وهم البشر الكاملون في أرضنا، إخوة الإنسانية الأكبر سنًّا في مسار التطوّر، والزهرة النادرة التي أزهرتها المسيرة البشرية. وقد كتب عنهم الرسول بولس واصفًا إيّاهم بـ"الأبرار الذين بلغوا الكمال"، وأظهر في مواضع كثيرة إدراكه للمعنى الصوفي لقصة الإنجيل. ولذا كان من الطبيعي أن يُدرج الرعاة في مشهد الميلاد، إذ إن الإنسان، حين يبلغ المرحلة التطورية التي يولد فيها وعي المسيح في داخله، يُستَدرج إلى حضرة هؤلاء العظماء من أبناء الأرض، الأساتذة الكبار في سلّم الارتقاء. وهناك، بعد نيل القبول الإلهي، تُقام مراسم جليلة بحضورهم. ومن ثمّ، فإن إدراج الرعاة في القصة يجعل منها أيضًا وصفًا لما يُعرف بـ"الارتقاء الروحي" أو المبادرة الروحية الكبرى، التي تتمّ في حضرة هؤلاء المكمّلين، رعاة الأرواح المتقنين لكوكبنا.

أما المجوس أو الملوك القادمون من الشرق، وهم تقليديًا ثلاثة، فقد فسّرهم علماء الكتاب المقدس بطرق شتّى. ففي أحد المعاني، يشيرون إلى الجوانب الثلاثة للذات الداخلية الخالدة في الإنسان: الإرادة الروحية، والحكمة الروحية، والذكاء الروحي. وكلٌّ من هذه الأوجه يكون آنذاك قد استيقظ بالقدر الكافي ليقدّم قواه الخاصة كهبة تمكّن وتوجّه وتلهم السالك في حياته الجديدة التي بدأها. وفي معنى آخر، يرمز المجوس الثلاثة إلى العقل والعواطف والقدرات الجسدية لدى السالك، بعد أن تنقّت وتسامَت، إذ تُقدَّم هذه الملكات المصفّاة (الهدايا) وتُسلَّم لقوّة المسيح المستيقظة في داخله. وبالرمز، توضع هذه الهدايا الثلاث عند قدمي الروح المستنيرة الجديدة([3])، أو الطفل المسيح المولود في الباطن. وأما نجم بيت لحم، فهو الخماسي الأبيض المتلألئ الذي يلمع فوق رأس المعلّم الكهنوتي عند إقامة طقس ارتقاء روحي صحيح، وهو العلامة والدليل على أن القوى والخصال الضرورية — وعلى رأسها نكران الذات — قد تحقّقت، وأن لحظة الارتقاء قد حانت.

مذبحة الأبرياء

يمثّل هيرودس الماضي، ويمثّل الطفل المسيح المستقبل، وبين هذين القطبين لا بدّ من قدر من الصراع. فالشهوات القديمة، والعادات المترسّخة، والانغماس في الملذّات، والأنانية، والنظرة المادّية البحتة للحياة القائمة على التملّك والجشع، كلّها لا تنسجم مع حياة المحبة والخدمة الباذلة التي سيعيشها السالك من الآن فصاعدًا. لذلك قد يواجه المترقّي روحيًّا، في بداياته، صعوبة في إخضاع مطالب الجسد الصاخبة، وصفات العقل الغيورة المتكبّرة المتملّكة، وهي ما يرمز إليه هيرودس. وهذا الجانب من الطبيعة البشرية — "هيرودس الإنسان" — سيفقد سلطانه إذا أُتيح للموقف المسيحي الروحي أن ينمو ويتأصل. غير أن الإنسان الخارجي، في لاوعيه، يضمر النفور من هذا الفقد، فيبذل كل جهد للحيلولة دون سيادة المثال الروحي الجديد. وبالرمز، فإن هيرودس يقتل الأبرياء في محاولة يائسة لاغتيال الطفل المسيح المولود حديثًا.

الفرار إلى مصر

يُعدّ الفرار إلى مصر ذا أهمية كبيرة لدى علماء الرموز، إذ إن التركيب الكامل للإنسان حاضرٌ من جديد في هذا المشهد، حيث تُجسَّد الأجزاء السبعة للطبيعة البشرية بأكملها. فـيوسف ومريم والطفل المسيح يُمثلون الذات الروحية الثلاثية للإنسان — أي الانعكاس الإنساني للثالوث المبارك: الآب والابن والروح القدس. أما الأجزاء الأربعة الدنيا من الطبيعة البشرية — أي العقل، والعاطفة، والحيوية، والجسد (وتُعرف باسم "الرباعية الدنيا") — فكثيرًا ما يُرمز إليها بـحيوانٍ رباعي الأرجل.

وقد تمّ اختيار الحمار، المعروف بعناده، كرمزٍ مثالي ليكون دابة الحِمل، سواء في الفرار إلى مصر، أو في دخول أورشليم يوم أحد الشعانين، تحقيقًا للنبوة الواردة في العهد القديم: «اهتفي جدًا يا ابنة أورشليم، هوذا ملكك يأتي إليك… وديعًا راكبًا على حمار...» [زكريا 9: 9]. ويُعدّ هذا الاختيار مناسبًا تمامًا من منظور رمزي، إذ إنّ الطبائع المادية في الإنسان — أي الرباعية الدنيا — تميل بطبعها إلى مقاومة إرادة الروح الكامنة فيه بعناد. لكن حين تصبح الذات الروحية هي المسيطرة، تتحول تلك السمات العنيدة والمتمردة إلى الطواعية والانقياد. فيُصبح الإنسان الخارجي خاضعًا لإرادة الداخل. وهذه الشخصية الرباعية التي تمّ ترويضها يُمثّلها جيدًا رمز الحمار المُدجَّن — أي الحيوان الذي كان عنيدًا، ثم أُخضع الآن للخدمة الطوعية.

إنّ ما يُوصف بأنه "فرار" يمكن اعتباره ستارًا يُخفي الغرض الحقيقي من الرحلة. فرجلٌ روحيّ حقًّا قد يتجاهل أعداءه، سواء كانوا خارجيين أو داخليين، وقد يلجأ إلى انسحابٍ تكتيكي ليفسح المجال لهجومٍ لاحق، لكنه لا يفرّ منهم فرارًا جبانًا. من هنا، يمكن تفسير الرحلة من الخطر الذي كان يُهدد — في فلسطين — "نور المذود" بالاتجاه نحو ملاذ مصر، على أنها وصف رمزي للعملية الباطنية لتحويل الصفات النفسية الخطِرة — والمُمثَّلة هنا بشخصية هيرودس — إلى طاقات روحية وعقليةٍ سامية.

بحسب التقاليد الباطنية، فإن يسوع قام فعلًا برحلة إلى مصر، وهذه إحدى الحالات التي يتشابك فيها الحدث التاريخي مع التأويل الرمزي، ليُشكّلا معًا سردًا تتجلّى فيه الحقائق الزمانية والمحلية، جنبًا إلى جنب مع الحقائق الأزلية. فـمصر تُعدّ، في نظر بعض طلاب الحكمة الباطنية في العصر الحديث، مأوى قائمًا إلى اليوم لأسرار الحكمة العليا، حيث تُجرى طقوس "الاستنارة الكبرى" (Initiation)، ويُمنح فيها الإلهام من قِبل الأساتذة الأحياء، أولئك الذين يُشكّلون الفرع المصري من الأخوية الكبرى للمعلمين الروحيين (Adepti) على كوكبنا. لقد كانت مصر واحدة من الأماكن المقدسة الكبرى على الأرض، حيث ترسّخت منذ القدم مقامات أسرار الحكمة العظمى. ولذلك، فإن يسوع — بعد أن تلقى تدريبًا لسنوات على يد الأسينيين في فلسطين — توجّه إلى أحد هذه المقامات، لكي يكتمل فيه ذلك الحدث الباطني العميق، والذي تجسّده الرواية الرمزية عن ميلاده في بيت لحم.


[1]- ويقصد المؤلف بالإله الخالق نفس المعنى الذي ذكر في المصحف: ﴿إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ یَـٰعِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ ٱذۡكُرۡ نِعۡمَتِی عَلَیۡكَ وَعَلَىٰ وَ ٰلِدَتِكَ إِذۡ أَیَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِی ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلࣰاۖ وَإِذۡ عَلَّمۡتُكَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِیلَۖ وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ ٱلطِّینِ كَهَیۡـَٔةِ ٱلطَّیۡرِ بِإِذۡنِی فَتَنفُخُ فِیهَا فَتَكُونُ طَیۡرَۢا بِإِذۡنِیۖ وَتُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِیۖ وَإِذۡ تُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِیۖ وَإِذۡ كَفَفۡتُ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ عَنكَ إِذۡ جِئۡتَهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡهُمۡ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ﴾ [المائدة ١١٠].

[2]- طريق الحق وقلة سالكيه: لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه، الإمام علي. المعرب

[3]- وهذا هو عينه ما حدث معي من ثلاث سنوات، إذ زارنا النبي محمد وابنته الصديقة الطاهرة وابن عمه أمير المؤمنين في مشهد عظيم فتقدم الكروبيم ووضعوا الهدايا عند قدمي، وبعدها توالت العلوم والمعارف الروحية، والله شهيد وهو حسبي ونعم الوكيل. المُعرب

تعليقات

مواضيع المقالة