المُقَدِّمَة([1])
تَجَاوُزُ الإنسانيّ ما هو بالمُمكِن التعبير عنه قولًا، فلتكفِ الأُمثولة مَن حبتهم عنايةُ الله بتجربته يومًا([2]). دانتي |
هناك قلة من الشخصيات في التاريخ يمكن وصفها بأنها أكثر غرابةً وجمالًا من يعقوب بوهمه. فعلى الرغم من أن حياته الخارجية لم تكن مليئة بالأحداث الاستثنائية، باستثناء بعض المحطات القليلة، إلا أن عمق تجربته الروحية جعله شخصية فريدة. وُلد بوهمه عام 1575 في قرية ألت زايدنبرغ، التي تقع على بُعد ميلين من غورليتز في ألمانيا، بالقرب من الحدود البوهيمية. كان والداه فقيرين، ومنذ طفولته كُلِّف برعاية ماشيتهم، وهناك، في عزلة الحقول، شهد رؤياه الأولى (vision). ومن المؤكد أن روحه (spirit) المتأمِّلة قد وجدت غذاءها في صحبته الدائمة للطبيعة، حيث كان يختبر وجوده في حضنها، بعيدًا عن صخب العالم.
من الناحية الجسدية، لم يكن بوهمه قوي البُنية، رغم أنه لم يُصب بأي مرض طوال حياته. لهذا السبب، عندما بلغ الرابعة عشرة، قرر والداه أن يجعلاه متدربًا لدى صانع أحذية. لا يُعرف الكثير عن فترة تدريبه هذه، باستثناء حادثة غامضة: يُقال إن رجلًا غريبًا دخل المتجر ذات يوم أثناء غياب المعلم، وأمسك بيدي يعقوب بكلتا يديه، ثم أخبره بنبوءة عن العمل العظيم الذي سيُنجزه بوهمه في المستقبل.
في عام 1599، عندما بلغ الرابعة والعشرين، أصبح حِرَفيًّا مستقلاً في صناعة الأحذية، وفي العام نفسه تزوّج من ابنة جزار. سرعان ما تطورت زوجته لتصبح امرأة حكيمة وقادرة، وعاشا معًا حياة سعيدة حتى وفاته. أنجبا أربعة أبناء وربما ابنتين، لكن أطفاله لم يكونوا جزءًا بارزًا في قصة حياته. في هذه الفترة، كان بوهمه قد بدأ بالفعل يختبر لحظات من الإشراق العقلي المفاجئ، الجذبة أو الاستنارة أو اليقظة الروحية، وفي عام 1600 مرّ بتجربة النشوة الروحية الثانية (ecstasies)، التي أضفت على حياته اللاحقة بُعدًا من العظمة والتجلي. ولم يمضِ وقت طويل حتى جاءته رؤيا ثالثة، أكثر إشراقًا ووضوحًا، جعلت كل ما كان غامضًا أو متفرقًا في رؤاه السابقة يتكامل ويتبلور في صورة متجانسة، كأن الحقيقة كانت تتكشف أمامه طبقة بعد الأخرى.
لكن الجزء الأكثر دراميةً في حياة بوهمه بدأ مع نشر أوّل كتبه عام 1612 تقريبًا. في البداية، أطلق عليه اسم «وَهَجُ الصَّباح» (Morning-Glow)، لكنه غيّر العنوان بناءً على اقتراح أحد أصدقائه، ليحمل الاسم الذي سيجعله مشهورًا عالميًا: «الشفق أو أرورا» (Aurora).
في ذلك الوقت، رغم أن اللوثرية كانت قد زعزعت أسس الأرثوذكسية القديمة، فإنها تحولت بدورها، في عصر بوهمه، إلى عقيدة صارمة لا تقبل النقاش. وكما هو متوقع، وقع كتابه بين يدي قس غورليتز، غريغوريوس ريختر، وهو رجل متعصب، ومتكبر، وسريع الغضب، وضيق الأفق. كان يحتقر صانع الأحذية ويخشى تأثيره، وحين قرأ الكتاب، استشاط غضبًا، مدفوعًا بروح التعصب الأخلاقي الزائف، فهرع إلى مجلس المدينة مطالبًا بنفي بوهمه. وإذ كان المجلس خائفًا من معارضته، لم يجد خيارًا سوى الامتثال، ليُجبر بوهمه (مثل معظم حاملي الحقيقة عبر التاريخ) على مغادرة مدينته الأم.
ولكن في صبيحة اليوم التالي، عاود المجلس انعقاده. وقد استبد بأعضائه وخزُ حياءٍ بالغٍ حين ذُكِّروا بأنهم قد أقصوا مواطنًا نقيَّ السريرةِ محمودَ السمعةِ، بل ومن المداومين على ارتيادِ بيوتِ العبادةِ. فاستدعوهُ عودًا على بدءٍ، بيد أنهم اشترطوا عليهِ شرطًا قاطعًا ألا يُسطِّرَ بنانهُ كتابًا بعد اليوم.
وفي العام التالي، استبدل مهنتهُ. فقد أفضى اشتغالهُ بالأدبِ إلى انحدارِ تجارتهِ، فباعَ حانوتهُ وارتحلَ إلى حواضرِ الإقليمِ الكبرى (كبراغَ ودريسدنَ) يبيعُ قفازاتٍ صوفيةً؛ بيدَ أنَّهُ ما لبثَ أنْ أعجزهُ عصيانُ الأمرِ الباطنيِّ الذي ألزمهُ أنْ يبوحَ للناسِ بما أُفِيضَ عليهِ منْ مكاشفاتٍ، وفي هذهِ العشرِ سنينَ الأخيرةِ ألَّفَ تلكَ الأسفارَ الفريدةَ الباهرةَ التي نُوردُ مختاراتٍ منها في هذا المُجلَّدِ.
وكما كان مُنتظرًا، لم يدعهُ غريغوريوس ريختر ينعمُ بسكينةٍ قط. فقدْ نُبِذَ على الملأِ ومنْ فوقِ المنابرِ وبمسْمَعٍ منهُ. ورُمِيَ بوُريقاتٍ مُشينةٍ، طافحةٍ بالقدحِ الشخصيِّ وبالسُّخريةِ الدنيئةِ منْ حرفتهِ. وقدْ علَّقَ أولئكَ المُنتحلونَ صفةَ ابنِ النجارِ (في إشارة إلى يسوع المسيح) قائلينَ: «إنَّ سَطْرَهُ ليَفوحُ منهُ أريجُ قَطْرانِ الإسكافِ النتن!»؛ ونجدُ أيضًا قولهمْ: «أتريدونَ كلامَ عيسى المسيحِ أمْ كلامَ إسكافيٍّ؟» فأجابهمُ الخرَّازُ بلُطفٍ ووقارٍ، كما في قولهِ: «ليست أناي، التي هي أنا، تُعَلِّمُ هذهِ الأشياءَ، بلِ الرب يُعَلِّمُهَا فيَّ.»
وفي عامِ 1624، أعادَ صديقُهُ أبراهامُ فون فرانكنبرجَ نشرَ مختاراتٍ منْ كتاباتهِ تحتَ عنوانِ «الطريقُ إلى المسيحِ». وقدْ دفعَ جمالُها المُشعُّ الكثيرَ منْ أتباعِ الكنيسةِ الأرثوذكسيةِ إلى تقديرهِ واحترامِهِ، وهذا الأمرُ تحديدًا، أيْ تقديرُ أتباعِ الكنيسةِ لهُ، أثارَ حفيظةَ المُتشددينَ في بلدتهِ. فقاموا بنفيهِ مرةً أخرى بتهمةِ الزندقةِ، بلْ ومنعوهُ حتى منْ توديعِ زوجتهِ وأبنائهِ. فارتحلَ إلى مدينةِ دريسدنَ. هناك، كانَ قدْ وجدَ صديقًا لهُ، الدكتورُ هينكلمان. ومنَ الجميلِ أنْ نُسجِّلَ أنَّهُ أثناءَ إقامتِهِ في دريسدنَ، عقدَ الإمبراطورُ اجتماعًا لعلماءِ دينٍ بارزينَ، ودُعيَ بوهمه إلى حضورِهِ. وقوبلَ عمقُ فكرِهِ وروحيتهُ، معَ لطفِهِ وتواضعِهِ في التعبيرِ، بإعجابٍ جمٍّ منْ قِبَلِ الكثيرينَ، وبحماسٍ شديدٍ منْ قِبَلِ العالمينِ الجليلينِ جيرهاردَ ومايسنرَ.
ولكنْ في نهايةِ العامِ (العشرينَ منْ نوفمبرَ عامَ 1624)، تُوفِّيَ سعيدًا وفي حضرةِ ابنهِ المُحبِّ والمحبوبِ. وقدْ تنبأَ بالساعةِ عينِها التي سيفارقُ فيها الحياةَ. ومعَ ذلكَ، فقدْ بلغَ خصومُهُ في جورليتز منَ الضراوةِ حدًّا جعلهمْ يرفضونَ إقامةَ صلاةِ الجنازةِ عليهِ، ولمْ يتمَّ ذلكَ إلا بتدخُّلِ الكونتِ القويِّ هانيبال فون درونا. وحتى الكاهنُ الذي حضرَ وفاتَهُ، وقدْ ألزمهُ المجلسُ بإلقاءِ كلمةِ تأبينٍ، استهلَّ حديثَهُ بالإفصاحِ عنْ أنَّهُ ليُؤثرُ السيرَ عشرينَ ميلًا على أنْ يُثنيَ على بوهمه الوادعِ. والجديرُ بالذكرِ أنَّ الصليبَ المُتقنَ الصنعِ الذي وُضعَ على ضريحِهِ قدْ كَسَّروه من غيظهم.
يُخبرنا فرانكنبرج، صديقهُ، أنَّهُ كانَ قصيرَ القامةِ، «ضئيلًا وبسيطًا جدًّا»، وكانتْ عيناهُ رماديتينِ، تضيئانِ وتتحوَّلانِ إلى زُرقةٍ سماويةٍ، وجبينُهُ مُنخفضٌ، ولحيتُهُ خفيفةٌ، وأنفُهُ مُقوَّسٌ كمنقارِ النسرِ.
إنَّنا، لدى التعمُّقِ في دراسةِ التصوُّفِ، نُدركُ سريعًا أنَّ التجربةَ الجوهريةَ لجميعِ المتصوِّفةِ كانتْ مُتطابقةً، وأنَّهُ لا يوجدُ بينهمْ شخصيةٌ تُجسِّدُ التصوُّفَ خيرَ تجسيدٍ منْ يعقوبَ بوهمه. لذلكَ، عندما نقرأُ هذا الكتابَ، نكونُ كأنَّنا قومٌ نعتلي قمَّةً شامخةً في جزيرةٍ، فنرى منْ حولِنا ومنْ تحتِنا المساحةَ الشاسعةَ لهذهِ الجزيرةِ الفاتنةِ التي تبدو كأنَّها منْ عالمٍ آخرَ. فإذا ما استهوتنا هذهِ الجزيرةُ، فسوفَ نُسرُّ كثيرًا باستكشافِ وديانِها المُخضرَّةِ، أو غاباتِها المأهولةِ بالأرواحِ، أو حدائقِها الهادئةِ المُضاءةِ بالنجومِ، وجميعِ الطيورِ الغامضةِ والأزهارِ التي تُحلِّقُ أو ترفرفُ فيها. أمَّا إذا لمْ تبدُ لنا هذهِ الجزيرةُ جذَّابةً، فيُمكنُنا أنْ نُبحرَ إلى ديارٍ أخرى. لا يسعُ باحثًا صادقًا عنِ الحقِّ أنْ يُغفلَ التصوُّفَ (mysticism) إغفالًا مُنصفًا. فهو إمَّا أنْ يكونَ أشدَّ ضروبِ الحُمقِ وأشنعها، وإمَّا أنْ يكونَ أعظمَ ما أنجزَهُ العقلُ البشريُّ. لقدْ كانَ الإسكندرُ ونابليونُ طموحينِ، لكنَّ طموحَهما يتضاءلُ ويضمحلُّ أمامَ طموحِ المتصوِّفِ. فغايتُهُ هيَ الأعظمُ والأجلُّ على الإطلاقِ، إذْ إنَّ الهدفَ المحوريَّ للتصوُّفِ برمَّتِهِ هوَ أنْ يُحلِّقَ خارجَ نطاقِ الذاتِ الفرديةِ المنفصلةِ، ليبلغَ وعيَ الحقِّ ذاتَهُ.
لقدْ أحكمتِ الكنيسةُ الكاثوليكيةُ الرومانيةُ تلقينَ المتدينينَ ضآلةَ شأنِ النفسِ البشريةِ، ممَّا جعلَ القليلَ منَ المتصوِّفةِ الأوروبيينَ في العصورِ الوسطى وعصرِ النهضةِ يتمتعونَ بالوعيِ الكافي الذي يدفعهمْ إلى الصراخِ بجرأةٍ كما فعلَ مايسترُ إيكهارتُ: «إنِّي لحقًّا بحاجةٍ إلى الرب، ولكنَّ الرب أيضًا بحاجةٍ إليَّ.» لقدْ كانوا غالبًا ما يخشونَ بلوغَ التجربةِ الروحيةِ القصوى، وكانوا يعبدونَ الرب بإخلاصٍ جمٍّ، ولكنهمْ كانوا يحتفظونَ دائمًا بإحساسٍ بالانفصالِ عنهُ. لقدْ كانَ تواضعهمُ الظاهريُّ بمثابةِ الحجابِ الأخيرِ للأنانيةِ الذي لمْ يجرؤوا على تمزيقِهِ.
يعقوبُ بوهمه، خاتمةُ المتصوِّفةِ الأوروبيينَ العظامِ، بعدَ أنْ تخيَّلَ الروحَ الذي يسري في الكونِ بأسرهِ، أدركَ تمامَ الإدراكِ ضآلةَ شخصيتِهِ البشريةِ؛ ولكنَّهُ استوعبَ أنَّ الرب حاضرٌ فيهِ حقًّا، فتحدثَ باستقامةِ كائنٍ رباني مُتألِّهٍ. لقدْ كانَ يُسدي النصحَ للناسِ دونَ كللٍ (كما في كتابِهِ «الحياةُ فوقَ الحسيةِ([3])») بأنْ يُعرضوا عنِ الذاتِ المنفصلةِ التي لا قيمةَ لها والتي تتوقُ إلى الشرفِ أو الراحةِ الجسديةِ، لكي يُعيدوا اكتشافَ «ما كانَ قبلَ الطبيعةِ والمخلوقاتِ» في داخلِ أنفسهمْ. وهو يعني بهذه العبارة «النورَ الذي يُنيرُ كلَّ إنسانٍ يأتي إلى هذا العالمِ». ويقولُ إنَّ هذا النورَ حاضرٌ هنا، في هذهِ اللحظةِ، ودائمًا: ما علينا سوى تحريرِ وعينا منْ كلِّ ما هوَ نتاجُ زمانِنا ومكانِنا. وما علينا سوى تهدئةِ أفكارِنا ورغباتِنا، وسوفَ نستمعُ على الفورِ إلى أنغامِ السماءِ (أناشيد الجِنَان المُنسجمة).
إنَّ خطرَ مثلِ هذا المذهبِ جليٌّ وواضحٌ. المتصوِّفُ الحقُّ يستطيعُ أنْ يتَّبِعَ نورَهُ الداخليَّ بأمانٍ، ولكنَّ التفاحَ المسحورَ تحرسُهُ التنانينُ ولا يستطيعُ اقتناصَهُ إلا الأقوياءُ. لقدْ أضاعَ العديدُ ممَّنْ ينتحلونَ صفةَ التصوُّفِ حياتهمْ في «انتظارِ الشرارةِ التي لمْ تنقدح في أعماقهم قطُّ»: أضاعوها، كما نقولُ، وإنْ لمْ تكنْ أسوأَ منْ آلافِ الحيواتِ التي، على الرغمِ منْ كلِّ نشاطِها، لا تُقدِّمُ شيئًا للنفس. يكفي المرءَ فخرًا أنْ يكونَ قدْ سعى إلى أسمى الغاياتِ وأجلِّها. علينا أنْ نختارَ بينَ الأمانِ والمغامرةِ، والتصوُّفُ هوَ مغامرةُ الدينِ؛ والمتصوِّفُ هوَ مستكشفٌ في العالمِ الروحانيِّ. إنَّهُ لا يستخدمُ أدواتِ العقلِ المنطقيِّ، بلْ يُجري تجاربَ روحانيةً. ربَّما، كما فعلَ شعراءُ الصوفيةِ الفرسُ، يتصوَّرُ اللهَ على أنَّهُ الحبيبُ الأعظمُ، ثمَّ يُوجِّهُ كلَّ طاقتِهِ منَ الحبِّ نحو أسمى فكرةٍ يستطيعُ تخيُّلها، فيجدُ أنَّ عاطفتَهُ كنهرٍ قدْ جرفتْهُ إلى حالةٍ روحانيةٍ يشعرُ فيها بحضورِ الحقِّ شعورًا جليًّا. في تلكَ الحالةِ، يُبصرُ العالمَ المرئيَّ وكأنَّهُ ينظرُ إليهِ منَ الداخلِ. يُدركُ السببَ الروحانيَّ لجميعِ هذهِ التأثيراتِ الماديةِ. يفهمُ الطبيعةَ الجوهريةَ للأشجارِ والزهورِ والجبالِ والكائناتِ الحيةِ في العالمِ. لمْ يعدْ يرى الناسَ بتلكَ الأضواءِ الخافتةِ التي تخترقُ العالمَ الماديَّ الكثيفَ المُلبَّدَ بالغيومِ. بلْ يراهمْ ملائكةً عاملةً مُنحنيةً تحتَ عبءِ ذواتهمُ الدنيويةِ. ويُدركُ ضآلةَ شأنِ الكثيرِ ممَّا نعدُّهُ هامًّا، والقيمةَ العميقةَ للكثيرِ ممَّا نحسبُهُ ثانويًّا، وذلكَ لأنَّهُ بعدَ أنْ طهَّرَ بصيرتَهُ منْ كلِّ العوائقِ الشخصيةِ، صارَ يُدركُ النِّسَبَ الحقيقيةَ لكلِّ العناصرِ التي يتكوَّنُ منها الكونُ. والإدراكاتُ الواسعةُ التي تُضيءُ في داخلهِ بطبيعتِها لا يسهلُ التعبيرُ عنها بألفاظٍ مألوفةٍ. فمَنْ ذا الذي أحبَّ يستطيعُ أنْ يشرحَ تجربتَهُ لمنْ لمْ يعرفْ الحبَّ قطُّ؟ المقرَّبونَ فقطْ يستطيعونَ فهمَهُ، ولذلكَ غالبًا ما تكونُ كلماتُ المتصوِّفةِ مُبهمةً.
أحيانًا، يسعى الرائي إلى شرحِ حالتِهِ المستنيرةِ، كما فعلَ القديسُ يوحنا أو جلالُ الدينِ الروميِّ، وذلكَ باستخدامِ رموزٍ براقةٍ مُستوحاةٍ منَ العالمِ الماديِّ؛ وأحيانًا أخرى، كما فعلَ بلوتينوسُ أو بوهمه، يلجأُ إلى استخدامِ أكثرِ الألفاظِ تجريدًا، ليتمَّ توجيهُ العقلِ بعيدًا عنِ الارتباطاتِ الدنيويةِ: ولكنهمْ جميعًا قدْ أبصروا نفسَ النورِ المتلألئِ. لقدْ سلكوا دروبًا شتى للعودةِ إلى تلكَ الحالةِ المثاليةِ التي فيها وحدَها الروحُ المُتحررةُ تنعمُ بالحريةِ الكاملةِ. وفي هذا الكتابِ، لا ريبَ، نحنُ نتواصلُ معَ شخصٍ قدْ تحررَ منْ قيودِ الذاتِ واستطاعَ أنْ يُبصرَ الكون بعينِ الحقِّ، وهو أمرٌ نادرٌ حدوثه بينَ النَّاسِ.
[1]- المادة البيوغرافية (أي المتعلقة بسيرة بوهمه) الواردة في هذه المقدمة مستمدة أساسًا من الكتاب النادر للدكتور هارتمان، ومن مقدمة البروفيسور ديوسن للطبعة الفاخرة من أعمال بوهمه. كليفورد باكس
[2]- تجاوز الإنساني: بمعنى اختراق التجربة الإنسانية وتخطيها في نوع من الارتقاء. الكوميديا الإلهية، الفردوس، دانتي إليغيري، تر: كاظم جهاد، ص 732. نورد ترجمة أخرى: «وما من كلمات يُمكن أن تُعبِّرَ عن بلوغ البشر مقام الألوهية، ولذا فليكفِ هذا المثال لمَن تحفظ له فرصة التجربة نعمةُ الله» ويعلق المترجم قائلًا: أي تجربة التحول من مقام البشر إلى مقام الإنسان، الفردوس، تر: حسن عثمان، ص 83. ونقول بأنَّ التجاوز يكون من (وعي الإنسان) إلى (وعي البشر)، وللمزيد يُرجى ملاحقة مفردة البشر والإنسان في القرءان، ويوجد مُصطلح يحمل نفس المعنى وهو (Posthumanism) أو الإنسانية العابرة (Transhumanism). المُترجم
[3]- The Supersensual Life.
تعليقات
إرسال تعليق