القائمة الرئيسية

الصفحات

الحِكمَة السرية وسبب إخفائها

 


 

 أعلى درجة من القوة التي يمكن أن تمنحها العلوم الباطنية تُستمد من معرفة الوحدة والتفاعل بين الكون الكبير (المَاكروكوزموس) والكون الصغير (الميكروكوزموس)، أي بين الكون والإنسان. وقد كتب إليفاس ليفي: «إن سر الإنسان الأرضي الفاني يأتي بعد سر الواحد الأسمى الخالد». كما عبّر لاو تزو عن هذه الحقيقة بقوله: «الكونُ إنسانٌ ولكن بحجم كبير».

يُعتبر الكون بكل مكوناته، من أرقى المستويات إلى المادة الفيزيائية، منظومة مترابطة ومتشابكة تشكل كلاً واحداً متكاملاً: جسداً واحداً، وكائناً حياً واحداً، وقوة واحدة، وحياة واحدة، ووعياً واحداً، كلها تتطور دورياً وفق قانون واحد. فأجزاء الكون الكبير، رغم ما يبدو عليها من انفصال مكانيّ واختلاف في مستويات الظهور، ترتبط في حقيقة الأمر بتناغم وتواصل وتفاعل مستمر.

وفقاً لهذا الكشف الفلسفي الباطني، فإن دائرة البروج، والمجرات وما تحتويه من أنظمة، والكواكب بممالكها ومستوياتها الطبيعية، وعناصرها، ورتب الكائنات، وقواها المُشعّة، وألوانها ونغماتها، ليست فقط أجزاء من كيان منسق ومتكامل في حالة "توافق" أو تناغم متبادل فيما بينها، بل– وهذا ما يحمل أهمية بالغة – لها أيضاً تمثيلها داخل الإنسان نفسه. يعمل هذا النظام من التوافقات في جميع أنحاء الكون الصغير، بدءًا من الجوهر الفردي (الموناد) وصولًا إلى الجسد الفاني، بما في ذلك آليات الوعي، أو الأجسام التي يحملها الإنسان ومراكز الطاقة (الشاكرات) التي من خلالها يُظهر روح الإنسان ذاته في مختلف أبعاد طبيعته، بدرجات تتفاوت حسب مرحلة التطور التي وصل إليها. ويمكن للإنسان الذي يكتشف هذه الحقيقة أن يدخل في الجانب القوي من الكون ويستغل أيًا من هذه القوى. وبذلك يكتسب نفوذاً لا يُقاوَم تقريباً على الطبيعة وعلى بني البشر.

إن مهمة الكشف الآمن عن جزء من الحقائق الخفية تتطلب فهمًا لعلم نشأة الكون، بما يشمل كيفية انبثاق الكون من المطلق، وتحوّل المحدود من اللامحدود، ودورات التراجع والتطور المتعاقبة، الكبرى منها والصغرى. بالإضافة إلى ذلك، لا بد من الإلمام بلغة الرموز، بأغراضها وأساليبها ورموزها الكلاسيكية، وكذلك امتلاك القدرة على تحليل وتأويل الاستعارات التاريخية، من أجل فتح الصندوق الذي يحتوي على كنوز الحكمة المخفية - أي الكتاب المقدس نفسه.

كتب أوريجانوس الإسكندري، أحد أكثر الآباء اليونانيين تعليمًا، والذي عاش في القرن الثالث، في كتابه «في المبادئ De  Principiis» يقول([1]):

«ما دامت غاية الروح القدس الرئيسية أن يصون منطق الفَهم الروحي من خلال ما من شأنه أن يقع أو ما قد حدث، يجب علينا أن نعرف أنَّه حيثما وجد أنَّ الأحداث التاريخية يمكنها أن تتطابق مع الفهم الروحي، بادر إلى إنشاء نص أنزل فيه الصعيدين منزل خطاب قصصي واحد، مُخبِّئًا فيه المعنى الخفي في جوف سحيق. ولكنه أدرج تارة حيث لم يكن سرد الأحداث يناسب الفهم الروحي أمورًا لم تجرِ، أو لم يكن ممكنًا قطُّ أن تجري، ثمَّ طورًا أحداثًا كان وقوعها ممكنًا، غير أنَّها لم تقع([2])

وكتب يقول أيضًا([3]):

«أي إنسان عاقل يمكنه أن يقبل بفكرة أن اليوم الأول والثاني والثالث، حيث يُذكر فيهما المساء والصباح، قد حدثت دون وجود شمس أو قمر أو نجوم، وأن اليوم الأول كان بلا سماء؟ وأي إنسان يمكن أن يكون غافلًا لدرجة تصديق أن الله غرس أشجارًا في الجنة، في عدن، كما يفعل المزارع، وغرس شجرة للحياة مرئية للعين والحواس، تعطي الحياة لمن يأكل منها، وشجرة أخرى تمنح آكلها معرفة الخير والشر؟ أعتقد أن الجميع يجب أن يعتبروا هذه الأمور مجرد رموز تحمل معاني خفية وراء مظاهرها.»

وكتب موسى بن ميمون، الحاخام الشهير واللاهوتي والمؤرخ اليهودي والتلمودي والفيلسوف والطبيب (1135-1205 م):

«في كل مرة تجد في كتبنا قصة تبدو مستحيلة من الناحية الواقعية، أو حكاية تتعارض مع العقل والمنطق السليم، تأكد أن هذه القصة تحتوي على تمثيل رمزي «allegory» عميق يخفي حقيقة غامضة وعميقة. وكلما زادت غرابة القصة، كلما كانت الحكمة الروحية المخفية وراءها أعمق([4])

ونقرأُ في الزوهار([5]) ما نصه:

«الويل والثبور... لمَن يرى في التوراة، أي الشريعة، مُجرَّد سردٍ قصصيٍّ وكلماتٍ عاديَّةٍ ليس إلَّا! لأنَّه، في الحقيقة، إن لم يكن هُناك إلَّا هذا الاعتبار، لكُنا قادرين، حتى هذا اليوم، على أن نأتيَ بتوراةٍ من عند أنفسا أكثر قيمة ونفعًا وإعجابًا من هذه التي بين أيدينا! وإننا إذا اكتفينا ورضينا بهذه المقولة التي ترى التوراة ما هي إلَّا كلمات بسيطة، فعلينا حينئذٍ أن نتوجه، وبلا حرج، إلى المُشرعين في عالمنا هذا، أُولئك الذين نجد عندهم ما يفوقها عظمة ورفعة! ويجب أن نكتفي بتقليدهم، وكتابة توراة على مثال أقوالهم وأمثالهم العظيمة. ولكن الأمر ليس كذلك؛ إذ إنَّ كل كلمة في التوراة تتضمَّن معنًى سامٍ ورفيعًا وسرًّا مُتعالٍ مُتسامٍ... إنَّ سرد التوراة ما هو إلَّا ثوبًا أو حُلَّةً لها. وويل لمن يأخذ بهذا الرداء ويظن أنَّه التوراة نفسها... إنَّ البُسطاء لا يُلاحظون إلَّا الأردية أو سرد التوراة القصصي، ولا يعرفون أي شيء آخر، ولا يرون إلّا ما هو ظاهر، أمَّا ما هو مخفي تحت الرداء فلا يصل نظرهم إليه. ووحدهم المُتعلمون المُتنورون المُثقفون لا يُلقون بالًا للرداء بل جُل تركيزهم منصب على ما يحجبه هذا الرداء.»

وقال الرباني شمعون Rabbi Simeon:

«إذا نظر الإنسان إلى التوراة كأنها مجرد كتاب يسرد حكايات وأمورًا يومية، فما أتعسه! مثل هذه التوراة التي تتناول أمورًا يومية فقط، يمكننا نحن أيضًا، بل حتى نحن، أن نؤلفها. بل أكثر من ذلك، فإن لدى حكام العالم كتبًا أعظم قيمة، ويمكننا أن نحاكيها إذا أردنا تأليف مثل هذه التوراة. لكن التوراة، في كل كلماتها، تحتوي على حقائق إلهية سامية وأسرار رفيعة المستوى([6])

ونقرأ التمثيل التالي من الزوهار([7]):

«مثل امرأة جميلة مختبئة في أعماق قصر، تظهر لفترة وجيزة من نافذة سرية حين يمر صديقها وحبيبها، فيراها للحظة ثم تختفي مجددًا لفترة طويلة؛ كذلك تفعل العقيدة السرية، فهي تكشف عن نفسها فقط للمختارين، ولكن ليس دائمًا بالطريقة ذاتها. في البداية، تكون مغطاة بحجاب كثيف، وتكتفي بإعطاء إشارات خفيفة لمن يمرّ، وتعتمد على إدراكه لفهم هذه التلميحات اللطيفة. لاحقًا، تقترب منه أكثر، وتهمس له ببضع كلمات، ولكن وجهها يظل محجوبًا بحجاب لا يمكن لعينيه اختراقه. ومع الوقت، تتحدث إليه وهي محجوبة بحجاب أرق. وعندما يعتاد على صحبتها، تكشف عن وجهها أخيرًا، وتبوح له بأعمق أسرار قلبها.»

 

التوراة

يتفق المتصوفون اليهود على قراءة التوراة برؤية روحية، حيث تُعتبر التوراة كائناً حيّاً ينبض بحياة سرّية تتدفق وتتفاعل تحت السطح الظاهر لمعانيها الحرفية. في كل طبقة من الطبقات التي لا تُحصى لهذه الأعماق المستترة تتكشف معانٍ جديدة وعميقة للتوراة. بعبارة أخرى، التوراة ليست مجرد فصول وجمل وكلمات؛ بل هي التجسيد الحي للحكمة الإلهية التي تشعّ باستمرار بأنوار جديدة. ليست التوراة فقط شريعة تاريخية خاصة بالشعب المختار، على الرغم من كونها كذلك، بل هي القانون الكوني للوجود، كما تصورته الحكمة الإلهية. وكل تشكيل للحروف فيها، سواء بدا منطقياً بلغة البشر أم لا، يعكس جانباً من القوة الإبداعية الإلهية الفاعلة في الكون([1]).

الرمز

يحتفظ الرمز بشكله ومضمونه الأصليين. إنه ليس كالإطار أو الوعاء الذي يمكن تغيير محتواه حسب الحاجة. إنه يكشف عن واقع آخر مخفي لا يمكن التعبير عنه بأي شكل آخر سوى الرمز نفسه.

إنَّ الرمز الروحاني أو الباطني هو تمثيل لشيء يتجاوز حدود التعبير التقليدي واللغة، يأتي من عالم داخلي خفي، عالم مغلق على ذاته وغير موجه مباشرة نحو وعينا الخارجي. هذا الواقع الخفي الذي لا يمكن التعبير عنه يجد طريقه إلى الظهور من خلال الرمز.

إنَّ الرمز لا «يشير» إلى شيء محدد بشكل مباشر ولا «ينقل» شيئًا بعينه، بل يجعل شيئًا أعمق وأكثر تعقيدًا واضحًا وشفافًا أمامنا، دون استخدام الوسائل التعبيرية التقليدية.

يُفهم الرمز بشكل حدسي وفوري بالبداهة، فإمّا ندرك معناه بالكامل في لحظة واحدة، أو نفشل في فهمه تمامًا. بينما يحتاج التمثيل allegory إلى تحليل عميق للكشف عن معاني جديدة.

يوصف الرمز، في سياق الاتحاد بين الخالق والمخلوق، بأنه شعاع من الضوء ينبعث من الأعماق المظلمة للوجود والعقل ليخترق وعينا وكياننا بالكامل. إنه كلية لحظية تُدرك حدسيًّا في الآن الروحاني وهو البعد الزمني الخاص بالرمز([2]).

«إنَّ القشرة، والبياض، وصفار البيض يشكّلون معًا البيضة الكاملة والمثالية. ونلاحظ أنَّ القشرة تحمي البياض والصفار، والصفار يتغذّى على البياض؛ وعندما يتلاشى البياض، يتحول الصفار، في هيئة الطائر المكتمل النمو، إلى كيان قادر على كسر القشرة ليحلق في السماء. وهكذا يتحول الساكن إلى ديناميكي، والمادي إلى روحي.

إذا كانت القشرة تمثّل المبدأ الظاهري (الإكسوتيري)، والصفار هو المبدأ الباطني (الإيسوتيري)، فما هو البياض إذًا؟ إنَّ البياض هو غذاء الثاني، وهو حكمة العالم المتراكمة التي تتركّز حول سر النمو، وهي الحكمة التي يجب أن يستوعبها كل فرد على حدةٍ قبل أن يتمكّن من كسر القشرة. إن تحويل البياض بالصفار إلى الطائر المكتمل النمو هو السر الأعمق في الفلسفة القبلانية بأكملها([3])

« ليأخذ الأوبانيشاد كالقوس، كسلاح عظيم، وليضع عليه السهم، الذي شحذه بالإخلاص! ثم، بعد أن يشدَّه بفكر موجه نحو الوجود، ليصيب الهدف، أيها الصديق، وهو ما لا يزول ولا يفنى أوم([4]) هو القوس، والذات هي السهم. أما البراهمان([5])، فهو الهدف المقصود. ينبغي على الإنسان الذي لا يغفل أن يصيبه، وعندها، كما يتحد السهم مع الهدف، سيتحد الإنسان مع البراهمان([6])

«اعلمْ وميزْ الذات على أنها سيد العربة، والجسد على أنه العربة نفسها؛ واعلم وميز الفِطنة (الذكاء) على أنها السائق والعقل كأنه اللجام.

الحواس، كما يقولون، هي الخيول؛ ومواضيع الحواس هي الطرق التي تسير فيها؛ (الذات) المرتبطة بالجسد والحواس والعقل، يعلن الحكماء أنها هي المستمتع.

من ليس لديه فهم وعقله دائمًا غير منضبط، تكون حواسه خارجة عن السيطرة، مثل الخيول الشريرة بالنسبة للسائق.

أما من لديه فهم وعقله دائمًا منضبط، تكون حواسه تحت السيطرة، مثل الخيول الجيدة بالنسبة للسائق.

أما من ليس لديه فهم ولا يسيطر على عقله (ويكون) دائم النجاسة، فلا يصل إلى الهدف ولكنه يعود إلى الحياة الدنيوية.

أما من لديه فهم ويسيطر على عقله ويكون دائم الطهارة، يصل إلى الهدف الذي لا يُولد منه مرة أخرى.

من لديه الفهم كسائق العربة ويسيطر على لجام عقله، يصل إلى نهاية الرحلة، ذلك المقام الأسمى الذي يسود كل شيء([7])

«فَتَقَدَّمَ التَّلاَمِيذُ وَقَالُوا لَهُ: «لِمَاذَا تُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَال؟»

فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «لأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، وَأَمَّا لأُولَئِكَ فَلَمْ يُعْطَ.

وَلكِنْ طُوبَى لِعُيُونِكُمْ لأَنَّهَا تُبْصِرُ، وَلآذَانِكُمْ لأَنَّهَا تَسْمَعُ([8])

«إنَّ فعل إحاطة الحقيقة كاملة بلغة منطوقة، والتعبير عن الأسرار الباطنية المتعالية بطريقة مُجرَّدٍة، لن يكون فعلًا بلا معنى فحسب، وخطير وتدنيسي، بل إنَّه، علاوة على ذلك كله، غير ممكن بالمرة. إذ إنَّ هناك نظامًا من الحقائق يتصف بالدقة والتركيب والعنصر الإلهي موضوعٌ خصيصًا لتأدية هذا الغرض، وهو للإحاطة بالحقيقة كاملة وللتعبير بأسلوب تجريدي عن الأسرار ذات الطراز المُتعالي، بحيث تقف اللغة البشرية عاجزة أمامه على الرغم من كمالها المزعوم الذي لا يُمس. وليس إلَّا المُوسيقى تقدر على حمل النفس الصاعدة على الشعور بهذه الحقائق أحيانًا، وليس إلَّا النشوة أو الجذبة الصوفية قادرة على أن تُظهرها في رؤية مطلقة، وليس إلَّا الرمزية الباطنية قادرة على أن تكشفها للروح بطريقة محسوسة([9])



[1]- Major Trends in Jewish Mysticism, Gershom G. Scholem.

[2]- Ibid

[3]- The Secret Wisdom of the Qabalah, J.F.C.Fuller.

[4]- أوم (OM أو AUM): اسم الإله الثلاثي (الثالوث الإلهي). مقطع صوتي يُعبّر عن التأكيد، والتضرع، والبركة الإلهية.

[5]- البراهمان (بالسنسكريتية): هو المبدأ الأسمى وغير الشخصي وغير المُدرَك للكون، الجوهر الذي تنبثق منه كل الأشياء وإليه تعود كل الأشياء.

[6]- Mundaka Upanishad, II

[7]- The Kathopanishad L3-3 to 1-3-9, Dr. Radhakrishnan’s translation, from The Principal Upanishads.

[8]- إنجيل متَّى 13: 10-11-16

[9]- Le Seuil du Mystere, S. De Guaita

 



[1]- أوريجانوس، في المبادئ، تر: الأب جورج خوام البولسي، بيروت، ص 395.

[2]- المُلخص: النص المقدس يستخدم الأحداث التاريخية الفعلية عندما تكون مفيدة لإيصال المعاني الروحية، مع إبقاء هذه المعاني مخفية عن العامة. ولكن عندما لا تتطابق الأحداث التاريخية مع المعاني الروحية المطلوبة، يتم إدخال أحداث جديدة، سواء كانت غير ممكنة أو ممكنة ولكنها لم تحدث، لتعزيز الرسائل الروحية.

[3]- Origen: Huet, Origeniana, 167, Franck, p.142.

[4]- لم أدع كتابًا إلَّا وبحثت فيه عن مكان هذا الاقتباس في كتابه فلم أوفق، ثم اهتديت إلى أنَّ معنى هذا الاقتباس موزع على كامل مقدمة كتابه، والكتاب مترجم إلى العربية تحت عنوان: دليل الحائرين.

[5]- Zohar III, 152b. (Soncino Ed. Vol. V, p.211).

[6]- Ibid, 152a.

[7]- Zohar II, 99a (Soncino Ed. Vol. III. p.301).

تعليقات

مواضيع المقالة