التراث الروحي واللاشعور (أو العقل الباطن)
رموز العلم المقدس، رينيه غينون، تر: عبد الباقي مفتاح
كنا سابقا في مواقع أخرى قد وضحنا دور علم التحليل النفساني (الحديث) في عمل التخريب الذي أعقب التصلب المادي للعالم، والذي شكل المرحلة الثانية في تنفيذ المخطط المضاد للتراث الروحي، وهو المشروع الذي ميز العصر الحديث برمته. وعلينا أن نرجع مرة أخرى لهذا الموضوع، لأننا نلاحظ منذ عهد قريب، أن حملة التحليل النفساني تمضي قدماً في اكتساحها إلى ما هو أبعد فأبعد، من حيث أنهـا بهجومها المباشر على التراث الروحي بذريعة تفسيره، هي الآن تتوجه إلى تحريف مفهومه نفسه بأخطر كيفية.
وفي هذا الصدد، هناك ما يدعو إلى التمييز بين أنواع متفاوتة التقدم للتحليل النفساني: فهذا الأخير كما تصوره في البداية "فرويد" كان حينذاك منحصرا إلى حد ما، بحكم الموقف المادي الذي أراد أن يلتزم به دوما. ولا ريب أن الطابع الشيطاني لذلك التحليل كان واضحا منذ ذلك الحين، لكن انحصاره في التصور المادي كان على الأقل يمنعه من دعوى ولوج بعض الميادين، أو حتى إن ادعى ذلك فإن دعاويه لا تطول في الواقع سوى تزييفات فظة، تنتج عنها التباسات تسهل إزاحتها. وهكذا عندما يتكلم فرويــد عــن الرمزية، فما سماه تعسفيا بهذه الكلمة ليس هو في الواقع سوى صنيعة تخيل بشري، وهو يتغير من شخص إلى آخر، ولا يشترك في شئ بتاتا مع الرمزية التراثية الأصيلة.
ولم يكن هذا سوى مرحلة أولى، وبقى على المحللين النفسانيين الآخرين أن يوجهوا نظريات أستاذهم نحو روحانية زائفة، بهدف التمكن من تطبيقها على تأويل للرمزية التراثية نفسها، وذلك بكيفية لبسها أخفى وأدق. وكانت هذه حالة ك. ج. يونغ ( .C.G Jung) ومحاولاته الأولى في هذا الميدان تعود إلى تاريخ غير قريب.
والذي ينبغي ملاحظته لدلالته الهامة جدا، هو أنه انطلق في ذلك التأويل من مقارنة ظن أنه بوسعه إقامتها بين بعض الرموز ورسوم سطرها بعض المرضى. ولابد من الاعتراف بأن تلك الرسوم تظهر أحيانا بالفعل نوعا من التشابه المحاكي لرموز حقيقية، وهذا جدير بأن يبعث بالأحرى على التخوف والريبة حول طبيعة من يوسوس لهم بها.
والذي جعل الأمور أخطر بكثير، هو أن يونغ في تفسيره لوجود ما يبدو أنه لا يمكن للعوامل الفردية الخالصة أن تكون مصدرا له، ذهب إلى افتراض وجود ما سمى (باللاشعور الجماعي) الذي تشترك فيه نفسانية جميع الأشخاص من البشر بوجوده فيها أو تحتها، وبالتالي، حسب ظن يونغ، يمكن في نفس الوقت وبدون تمييز، إرجاع أصل الرموز نفسها وأصل محاكاتها الكاريكاتورية من طرف المرضى إلى ذلك اللاشعور الجماعي المزعوم.
ومن البديهي أن لفظة اللاشعور هذه لا تليق أصلا، ومدلولها، بمقدار ما، إن كان له نوع من الوجود، يعود إلى ما يسميه علماء النفس عادة بـ: ما تحت الشعوري (Subconscient) أي مجموع الامتدادات السفلية للوعي. ولقد نبهنا سابقا على الخلط الواقع باستمرار بين ما تحت الشعوري وما فوق الشعوري (Superconscient). فهذا الأخير بحكم طبيعته لا يطوله ميدان بحوث علماء النفس، وهم الذين عندما يقع لهم التعرف على بعض تظاهراته، لا يفتئون دوما إرجاعه إلى ما تحت الشعوري؛ وهذا الخلط بالتحديد، هو الذي نجده مرة أخرى هنا. فكون أعراض المرضى المراقبين من طرف الأطباء النفسانيين صادرة من ما تحت الشعوري فهذا أمر مؤكد لا شك فيه؛ لكن بالعكس، كل ما هو من الطراز التراثي الروحي، ولاسيما الرمزية، لا يمكن أن يرجع إلا إلى مجال فوق الشعوري، أي إلى ما يحصل به الاتصال مع مجال فوق بشري، بينما يتجه ميدان تحت الشعوري بضد ذلك إلى ما هو تحت بشري.
إذن يوجد هناك قلب حقيقي للأوضاع يتميز بها تماما نمط الشروح المذكورة آنفا [أي تلك التي يقول بها أنصار التحليل النفسي الحديث[. والذي يعطي لهذا النمط مظهرا يبرره هو أنه قد يحصل في حالات، كالتي ذكرناها، أن ما تحت الشعوري، بسبب علاقته مع المؤثرات النفسانية من الصنف الأسفل، يحاكي فعلا ما فوق الشعوري وعن هذا، ينجر الوهم الذي يتسلط على من ينخدعون بهذه التزييفات ويعجزون عن تبين طبيعتها الحقيقية ويؤول بهم إلى الروحانية المنكوسة.
وبنظرية اللاشعور الجماعي يُظن إمكانية تفسير كون الرمز سابق عن الفكرة الفردية ويتجاوزها؛ والسؤال الحقيقي، الذي لم يقع التفكير حتى في طرحه حسبما يبدو، هو معرفة في أي اتجاه يتجاوزها، هل من أسفل كما يدل عليه هذا الاستدعاء لـ (اللاشعور) أم بالعكس من أعلى كما تؤكده بوضوح كل المذاهب التراثية.
ولقد سجلنا في مقال حديث العهد جملة يظهر فيها هذا الخلط بأجلى ما يمكن، وهي: (إن تأويل الرموز .. هو الباب المفتوح على الكل العظيم، أي الطريق المفضي نحو النور التام من خلال متاهة القعور السفلية المظلمة لفرديتنا) لكن الأرجح، مع الأسف، هو أن الضياع في هذه القعور السفلية المظلمة يعني الوصول إلى أمر مغاير تماما للنور التام (د).
ولنلاحظ أيضا اللُبس الخطير في مفهوم الكل العظيم، مثله مثل الوعي الكوني الذي يطمح البعض إلى التلاشي فيه؛ فلا يمكن أن تكون هنا سوى النفسانية المتفشية في الأغوار الأكثر انحطاطا في العالم السفلي اللطيف، وبالتالي فإن تأويلات التحليل النفساني للرموز تنتهي في الواقع إلى غايات معاكسة تماما لتفسيراتها التراثية الأصيلة.
ويجدر هنا أيضا إبداء ملاحظة هامة: فمن بين الأمور المتنوعة التي من المفروض أن يفسرها اللاشعور الجماعي ينبغي طبعا اعتبار الفلكلور الذي هو إحدى الحالات التي يمكن للنظرية أن تقدم في شأنها ما يظهر كأنه حق، وبتعبير أدق، ينبغي هنا أن نتكلم عن نوع من الذاكرة الجماعية التي هي كالمثال أو الانعكاس في الميدان الإنساني لتلك الذاكرة الكونية المناسبة لإحدى مظاهر رمزية القمر (هـ).
لكن إرادة استنتاج أن طبيعة الفلكلور هي الأصل نفسه للتراث الروحي، فهذا اقتراف لخطأ مماثل تماما لخطأ آخر، كم هو شائع في أيامنا، وهو أن يعتبر "بدائي" ما ليس سوى نتيجة انحطاط. ومن البديهي فعلا أن الفلكلور حيث أنه يتشكل أساسا من عناصر تنتمي إلى تراثيات منطفئة، فهو يمثل حتما حالة انحطاط بالنسبة إليها، غير أنه مع ذلك الوسيلة الوحيدة التي تمكن من إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وينبغي أيضا التساؤل عن نوعية الأوضاع التي أودع فيها حفظ تلك العناصر في الذاكرة الجماعية؛ وكما قلناه في مناسبات سابقة، لا يمكننا أن نرى في هذا سوى حصيلة عمل واع تماما ومقصود، قام به الممثلون الأخيرون لأشكال تراثية عتيقة كانت على وشك الانقراض. والأمر المؤكد هو أن العقلية الجماعية، مادام يوجد أمر يمكن أن يطلق عليه هذا الاسم، تتلخص تخصيصاً في ذاكرة، ويعبر عنها بألفاظ رمزية تنجيمية فيقال أنها ذات طبيعة قمرية، وبعبارة أخرى، من الممكن أنها تقوم بنوع من وظيفة الحفظ، كما هو شأن الفلكلور بالتحديد، ولكنها عاجزة تماما عن إبداع أو إنشاء أي شيء، لاسيما أمور من طراز سام متعال، كما هي عليه حقيقة أي عنصر من المعطيات التراثية وفق تعريفها نفسه.
إن التأويل المستند إلى التحليل النفسي يهدف في الواقع إلى نفي هذا السمو المتعالي للتراث الروحي، لكن بكيفية جديدة إن أمكن القول، ومختلفة عن الكيفيات المعهودة إلى الآن: فلم يصبح المقصود، كما هو في المذهب العقلاني بجميع أشكاله، إما الرفض العنيف القاطع، وإما مجرد الجهل بوجود أي عنصر غير بشري، بل أمسى بالعكس، يبدو بالفعل أن للتراث طابعا غير بشري، ولكن بتحريف كامل لدلالة هذه اللفظة. وهكذا نقرأ في آخر المقال المذكور أيضا ما يلي:
سنعود ربما إلى هذه الشروح لكنزنا الروحاني بالتحليل النفساني والمستقر الثابت فيه عبر الأزمنة والحضارات المتنوعة يبرهن بالتأكيد على طابعه التراثي، غير البشري، إذا أخذنا لفظة بشري بالمعني المفارق والفردي، فربما يوجد هنا أحسن بيان للب المقصد الحقيقي لكل هذا الاتجاه، ومع ذلك نحمل أنفسنا على الظن بأن الذين يكتبون عن أمور من هذا النمط ليس لهم دائما وعي بذلك المقصد وموضوع الخلاف في هذا الصدد ليس بالطبع هذا الفرد أو ذاك، حتى لو كان إمام مدرسة (فكرية) مثل يونغ، وإنما المتهم الأشد ريبة وخطورة هو منبع الإيحاء الذي يوسوس بتلك التأويلات (و).
وليس من اللازم إذن التعمق في دراسة المذاهب التراثية لمعرفة ما إذا كانت المسألة تتعلق بعنصر غير بشري، لأن هذا الأخير ينتمي في جوهره إلى المراتب فوق الفردية للكائن، ولا علاقة له البتة مع عامل جماعي لا يرجع من حيث هو في الواقع إلا إلى الميدان الفردي البشري. ومثله أيضا ما ينعت بأنه مفارق، وبحكم طابعه تحت الشعوري، لا يمكنه على أي حال أن يفتح اتصالا مع مراتب أخرى غير التي هي في اتجاه ما تحت البشري.
وهنا ندرك بكيفية مباشرة، طريقة التخريب المتمثلة في السطو على بعض المفاهيم التراثية (الروحية الأصيلة) وتنكيسها رأسا على عقب، فيستبدل ما فوق الشعوري بـ ما تحت الشعوري، ويستبدل ما تحت البشري بـ ما فوق البشري، فهذا التخريب، أليس هو أخطر بكثير من مجرد الإنكار (لكل ما هو علوي)، وهل يظن بأننا نبالغ بقولنا أنه يساهم في تمهيد الطريق إلى "ضدية التراث الروحي" الحقيقي المهيئة لتكون مطية لهذه الروحانية المعكوسة التي سيكون عهد هيمنة الدجال ختمـا لانتصارها الظاهري العابر في آخر هذه الدورة الزمنية الراهنة (و).
الهوامش:
(ه) قال تعالى في الآية 39 من سورة يس (36): ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ). فالدورة القمرية بين الإسرار والإبدار، أي الزيادة في نوره الذي يتلقاه القمر من الشمس ثم نقصانه عبر منازله، شبيه بالدورة التي تلد فيها النخلة عرجونا يزداد نموه إلى أن يثمر في أوج عنفوانه ثم يعود يابسا وينتكس فلا يبقى منه سوى شكل مقوس كالهلال في منزلته الأخيرة. فكل من القمر والعرجون يذكران بدورة كاملة تتشكل من طورين. وقد سبق القول أن عدد كلمة (العرجون) بحساب الجمل مساو لعدد درجات دورة كاملة أي 360.
تعليقات
إرسال تعليق