القائمة الرئيسية

الصفحات

القلب المقدس وقصة الكأس المقدسة

 

رموز العلم المقدس، رينيه غينون، تر: عبد الباقي مفتاح.

 


 

 

في مقاله حول أيقنة [أي دراسة رسوم ورموز وتماثيل دينية عتيقة لقلب يسوع (المسيح) نبه السيد شاربونو لاساي بحق على أن لقصة الكأس المقدسة ارتباط بما يمكن تسميته بـقربان قلب يسوع في ما قبل التاريخ، وهي القصة المكتوبة في القرن الثاني عشر الميلادي، ولكن أصولها أقدم بكثير، حيث أنها في الواقع تكييف مسيحي لتراثيات سلتية عتيقة جداً.

 

وفكرة هذه المقاربة وردت علينا من قبل بمناسبة مقال سابق، مفيد جدا من وجهة النظر التي نقف عندها، وعنوانه (القلب الإنساني ومفهوم القلب الإلهي في ديانة مصر القديمة)، ونذكر بالفقرة التالية منه:

في الخطوط الهيروغليفية، وهي الكتابة المقدسة، حيث كثيرا ما تمثل صورة الشيء الكلمة نفسها الدالة عليها، لا يمثل القلب، رغم ذلك، إلا برمز وحيد، وهو: الإناء.

وبالفعل أليس قلب الإنسان هو الإناء الذي بدمه تنشأ فيه الحياة باستمرار؟ فهذا الإناء المعتبر كرمز للقلب وكبديل له في الكتابة الرمزية المصرية، هو الذي جعلنا نفكر مباشرة في الكأس المقدسة، لاسيما وأنه بالإضافة إلى المعنى العام للرمز (معتبرا من حيث المظهرين الإلهي والإنساني معا) فإننا نرى له أيضا علاقة متميزة وأكثر مباشرة مع قلب المسيح نفسه.

 

وبالفعل، فالكأس المقدسة هي الكوب المحتوي على الدم العزيز ]لمن شبه[ بالمسيح، بل قد احتوى عليه مرتين، حيث استعمل أولاً خلال العشاء السري، أي العشاء الأخير الذي تناوله السيد المسيح مع حوارييه قبل وفاته، مرفوعا إلى ربه، ثم بعد ذلك جمع فيه يوسف الرامي الدم والماء المتدفقين من الجرح الذي أحدثه رمح القائد الروماني في جنب [المشبه[ بالمخلص الفادي، إذن فالكوب إذا صح القول، هو كالبديل عن قلب المسيح المحتوي على دمه، فكأنه يقوم مقامه، ويصبح بالتالي كالمكافئ الرمزي له؛ والحالة هذه، أليس الأجدر بالملاحظة أيضا أن القدح كان قبل ذلك قديما رمزاً للقلب؟ وقد كان للكوب، بشكل أو بآخر، كما هو شأن القلب نفسه، دور هام جداً في الكثير من التراثيات الروحية العتيقة، وكذلك كان الأمر بلا شك عند السلتيين، حيث أنهم هم الذين جاء من عندهم ما يشكل القاعدة نفسها، أو على الأقل الحبكة، لقصة الكأس المقدسة. ومن المؤسف أن قلما نستطيع التعرف بدقة على شكل هذا التراث (السلتي) الذي سبق المسيحية، كما هو الحال في كل ما يتعلق بالعقائد السلتية التي لم تبلغ إلا بكيفية وحيدة وهي الطريقة الشفاهية، لكن من جانب آخر، يوجد في ذلك التراث ما يكفي من الموافقات التي تمكن على الأقل من التعرف على رموزه الرئيسية، وهذا هو الأهم في الجملة.

 

لكن لنرجع إلى القصة في شكلها الذي بلغ إلينا؛ فما تقوله عن الأصل نفسه للكأس جدير جدا بالتنبه إليه. فهذا الكوب نحتته الملائكة في زمردة سقطت من جبين إبليس عند سقوطه ]أي لما لعن وطرد من حضرة القرب لما أبي السجود لآدم].

 

وهذه الزمردة تذكر بكيفية بارزة بـ الأورنا (l'uma) في رسوم الأيقنة الهندوسية، أي درة الجبين التي كثيرا ما تحل في تلك الرسوم محل العين الثالثة لشيفا (د)، ممثلة ما يمكن تسميته بـ الشعور بالأزلية. وهذه المقاربة تبدو لنا أنها هي الأحق من غيرها في بيان رمزية الكأس بكيفية كاملة؛ بل يمكن أن نأخذ منها علاقة أخرى مع القلب الذي هو في التراث الهندوسي وغيره، ولكنه ربما يكون أوضح في الهندوسي، مركز الكائن الكامل، وبالتالي فهو الذي ينبغي أن يرجع إليه مباشرة هذا الشعور بالأزلية (هـ).

 

وبعد ذلك قيل أن الكأس استودعت عند آدم في الجنة الأرضية، لكنه بدوره فقدها خلال هبوطه إلى الأرض بعد أكله من الشجرة المنهي عنها لأنه لم يتمكن من أخذها معه عندما أخرج من الجنة. وهذا أيضا يصبح جليا جدا من حيث المعنى الذي ذكرناه.

 

فالإنسان المبعد عن مركزه الأصلي، بخطيئته الشخصية، وجد نفسه محصورا في الكرة الزمانية، وأمسى لا يستطيع الاتصال بالنقطة الفريدة التي تُشهد فيها كل الأشياء بالنظرة الأزلية. وبالفعل، فالجنة الأرضية كانت حقيقة مركز العالم "الممثل رمزيا"، حيث كان، بالقلب الإلهي (و). أفلا يمكن القول بأن آدم عندما كان في الجنة، كان يعيش حقا في القلب الإلهي؟

 

وبعد هذا تصبح القصة أكثر إلغازا، ذلك أن شيت ابن آدم حظي بالدخول إلى الجنة الأرضية، وهكذا استطاع أن يسترجع الكأس العزيزة. والحال أن شيت يُعتبر كأحد وجوه المخلص لاسيما وأن نفس اسمه يعبر عن معاني التأسيس والثبوت، ويبشر بكيفية ما ببعث وإحياء الوضع الأصلي ]أي النظام الفطري للإنسانية] (ز) الذي فقده الإنسان بفعل هبوطه. فعندئذ حصل تجديد جزئي على الأقل الذلك النظام السامي الأصلي من حيث أن شيث والذين حازوا الكأس من بعده، استطاعوا بذلك إقامة مركز روحي في مكان ما من الأرض كان كالمثال للجنة المفقودة، والقصة مع ذلك لم ترو أين تم الاحتفاظ بالكأس منذ ذلك العهد إلى زمن المسيح ولا مَن الذي احتفظ بها، ولم تذكر كيف تم توارثها. لكن المصدر السلتي المعروف للقصة يوحي على الأرجح بأنه كان للدرويد (ح) مساهمة في ذلك، وينبغي أن يعدوا من بين الورثة المحافظين الشرعيين على التراث الروحي الأصلي الأول ]للإنسانية].

 

وعلى كل حال فيبدو أنه ليس بالإمكان التشكيك في وجود مثل ذلك المركز الروحي، بل العديد من المراكز الروحية المتزامنة في نفس الوقت أو المتتابعة، مهما كان الظن في مواقعها. والجدير بالملاحظة أنه يطلق على هذه المراكز في كل مكان وزمان من بين تسميات أخرى، اسم قلب العالم. وكذلك في جميع الملل، نجد الأوصاف المتعلقة بها تعتمد على رمزية متطابقة يمكن تتبعها حتى في أدق تفاصيلها. أفلا يبين هذا بما فيه الكفاية أن للكأس، أو لما يمثله سابقا قبل المسيحية، بل في كل زمان، علاقة من أوثق العلاقات مع القلب الإلهي ومع الإمانويل (I'Emmanuel) ونعني بها العلاقة مع التجلي التقديري أو الواقعي المتحقق حسب العصور، ولكنه الحاضر على الدوام، للكلمة الأزلية في عين الإنسانية الأرضية؟ (ط).

 

وتبعاً للقصة فقد نقل [الحواريان[ يوسف الرامي ونيقوديم الكأس المقدسة إلى بريطانيا الكبرى، وهنا يبدأ سياق قصة فرسان المائدة المستديرة ومآثرهم، وليس في نيتنا تتبعها هنا. وكان القصد من هذه المائدة أن تستقبل الكأس، لكن أحد الفرسان تمكن من الفوز بها وأتى بها من بريطانيا الكبرى إلى الأرمونيك شمال غربي فرنسا. ومن المحتمل الراجح أن هذه المائدة هي أيضا رمز عتيق جدا من بين الرموز التي ارتبطت بفكرة تلك المراكز الروحية التي كنا بصدد الإشارة إليها (ي).

 

والشكل الدائري له علاقة بـ الدورة الفلكية للبروج (وهذا أيضا رمز يستحق أن يُدرس بكيفية أخص) لوجود اثني عشر شخصا رئيسيا حولها وهي خصوصية تصادف باستمرار في تشكيل جميع تلك المراكز (ك). وإذا تقرر هذا، أفلا يمكن أن نرى في عدد الحواريين الاثنى عشر، علامة من بين علامات أخرى متعددة، على التوافق الكامل بين المسيحية والملة الأولى الأصلية التي يليق أن يطلق عليها تماما اسم ما قبل المسيحية؟

 

ومن ناحية أخرى فيما يتعلق بالمائدة المستديرة، كنا لاحظنا توافقا عجيباً مع المشاهد الرمزية لـ ماري دي فالي (1) حيث تذكر مائدة مستديرة من اليشب (حجر كريم مختلف الألوان) تمثل قلب سيدنا (المسيح) وفي نفس الوقت ذكر لـبستان هو مائدة القربان المقدس وهو الذي بينابيعه الأربعة المتفجرة بالماء الدافق يتطابق باطنا مع الجنة الأرضية (ل). أليس في هذا مرة أخرى توافق عجيب وغير متوقع للعلاقات التي نبهنا عليها سابقاً؟

 

بطبيعة الحال، فإن هذه الملاحظات السريعة جدا لا يمكن لها أن تزعم تأليف دراسة تامة حول مسألة شبه مجهولة مثل هذه التي نحن بصددها. وينبغي أن نقتصر حاليا على إعطاء مجرد إشارات؛ ونحن ندرك حقا هنا وجود اعتبارات يمكن لأول وهلة أن تفاجئ نوعا ما من ليس لهم ألفة مع التراثيات العتيقة وأنماط التعبير الرمزي المعتادة فيها. ولكن سنؤجل التوسع فيها وتبريرها إلى ما بعد، في مقالات نظن أنه بإمكاننا أن نعرض فيها نقاطا أخرى لا تقل عنها أهمية.

 

وفي انتظار ذلك، نسجل أيضاً فيما يخص قصة الكأس المقدسة تعقيدا غريبا لم نأخذه بعين الاعتبار حتى الآن: ففي واحدة من هذه المتماثلات اللفظية التي تلعب غالباً في الرمزية دورا معتبرا، والتي ربما لها مع ذلك أسباب أعمق مما قد يخطر في البال لأول وهلة، نجد أن الكأس هي في نفس الآن كوب (جرازال Grasale) وكتاب جرادال (Gradale) أو جراد ويال (Graduale)، حتى أنه في بعض الروايات يقع بين هاتين الدلالتين تقارب شديد، لأن الكتاب يصبح عندئذ رقيما خطه المسيح أو أحد الملائكة على الكوب نفسه. ولا نريد الآن أن نستخلص من هذا أي نتيجة (م)، بالرغم أنه من السهل إقامة مقاربات مع كتاب الحياة ومع بعض عناصر الرمزية المتعلقة برؤيا القديس يوحنا لنهاية العالم.

 

نضيف أيضا بأن القصة تقرن الكأس بأدوات أخرى، خصوصا الرمح وهو في صيغتها المسيحية ليس سوى رمح القائد الروماني لونجان (Longin) [الذي رمي به جنب المصلوب المشبه بالمسيح[، لكن اللافت للانتباه حقا، هو الوجود السابق في التراثيات العتيقة لهذا الرمح أو شيء آخر يكافئه كرمز مکمل للكوب إذا صح القول. ومن ناحية أخرى فإن رمح أشيل (Achille) (ن) عند الإغريق عرف بكونه يشفي الجروح التي يسببها. وقصة الكأس المقدسة في القرون الوسطى تضفي نفس هذه الخاصية بالتحديد للرمح الذي قذف به المصلوب المشبه بالمسيح. وهذا يذكرنا بمماثلة أخرى من نفس النمط:

ففي أسطورة أدونيس (س) (واسمه يعني السيد أو الرب) عندما يتلقى البطل الضربة القاتلة من حافر خنزير بري والحافر هنا يقوم مقام الرمح فإن دمه عند انتشاره على الأرض ينبت زهرة (ع). وفي هذا السياق ما نبه عليه شاربونو في (مجلة) ريغنابيت (1) من وجود حديدة لذبح القربان من القرن الثاني عشر ميلادي، وفيها نری رسم دم الجروح يقطر من المصلوب فتتحول القطرات إلى أزهار ورد، وكذلك في زجاجية من القرن الثالث عشر بكتدرائية مدينة أنجيرس (الفرنسية) حيث يظهر الدم الرباني يسيل جداول وينبسط كذلك على شكل أزهار ورد (ف). وسنعود بعد قليل إلى الكلام عن رمزية الأزهار من حيث وجهة نظر تختلف قليلا ]عن ما نحن بصدده]. لكن كيفما كان تعدد المعاني التي تمثلها تقريبا كل الرموز، فإنها جميعا تتكامل وتناسق بكيفية تامة، بل إن هذا التعدد نفسه بعيد عن أن يكون عائقا أو نقطة ضعف هو بالعكس عند من يعرف كيف يفهمه، واحد من بين الميزات الأساسية للغة حدودها أقل ضيقا بكثير من اللغة المعتادة.

 

وحتى تختم هذه الملاحظات، نشير إلى بعض الرموز المستعملة أحيانا كبديل عن القدح في تراثبات مختلفة، وهي مطابقة له في الصميم. وليس في هذا خروج عن موضوعنا، لأن الكأس نفسه، كما يمكن التأكد منه بيسر على ضوء ما ذكرناه آنفا، ليس له في الأصل عموما حيثما وجد من دلالة غير دلالة القدح المقدس، وهو في الشرق بالخصوص قدح القربان المحتوي على (شراب) السوما الفيدي [أي المذكور في الفيدا الكتاب المقدس عند الهندوس] أو الهاوما المزدكي أي في الديانة الفارسية القديمة. وربما سنعود في مناسبات أخرى إلى هذا التصور المسبق العجيب للقربان، وما يمثله (مشروب) السوما بالخصوص إنما هو شراب الخلود أي الأمريتا (Amrita) عند الهندوس، والأمبروازي (Ambroisie) عند الإغريق، وهما لفظتان متماثلتان اشتقاقيا، وهو الذي يمنح أو يعيد لمن يأخذونه بالاستعدادت اللازمة، الشعور بالأزلية (المشار إليه سابقا) (ص).

 

ومن بين الرموز ثمة رمزا آخر نريد أن نتكلم عنه، وهو المثلث المتجهة قمته نحو الأسفل، إنه التمثيل المبسط لقدح القربان، وبهذه الدلالة يوجد في بعض اليانترا (Yantras) والرموز الهندسية في الهند. ومن جهة أخرى، الأجدر بالانتباء في نظرنا هو أن نفس هذا الشكل رمز للقلب أيضا حيث أنه يمثل صورته المبسطة، وعبارة مثلث القلب عبارة شائعة في التراثيات الشرقية. وهذا يستدرجنا إلى ملاحظة لها أيضا فائدتها:

ذلك أن صورة القلب المرسوم داخل مثلث في هذه الوضعية لها رمزية مشروعة جداً من حيث هي، سواء قصد به القلب الإنساني أو القلب الرباني، بل ولها أيضا دلالتها عند إرجاعها إلى الرموز المتداولة عند بعض المهتمين بالهرمسية المسيحية في القرون الوسطى، وهم الذين كانت لهم دوما مقاصد قويمة راشدة تماما. وعندما أريد أحيانا في العصور الحديثة، إلصاق دلالة تجديف (وكفر) بتلك الرمزية، فما ذلك إلا لأنه بوعي أو بدون وعي، حرفت الدلالة الأصلية الأولى للرموز، إلى أن انعكست قيمتها السوية.

ويمكن أن نذكر العديد من الأمثلة لهذه الظاهرة، وتجد تفسيرها في كون أن بعض الرموز قابلة فعلا لتأويل مزدوج، فكأن لها وجهين متعاكسين. فالثعبان (أو الحية) مثلا، وكذلك الأسد، ألا يرمزان في نفس الوقت، ووفق كل حالة على حدة، إلى المسيح وإلى الشيطان؟

ولا يمكن لنا هنا أن نعرض في هذا الموضوع نظرية شاملة قد تذهب بنا بعيدا؛ لكن سندرك بأن هنا أمرا يجعل التعامل مع الرموز يستلزم مهارة بالغة، وأن هذه المسألة تشترط اهتماما خاصا بامتياز عندما يكون المقصود الكشف عن الدلالة الحقيقية لبعض الرموز وترجمتها بكيفية صحيحة ودقيقة.

 

رمز آخر بكافئ في كثير من الأحيان رمز الكأس إنه رمز الأزهار؛ وبالفعل أفلا يذكر شكل الزهرة بفكرة الوعاء [المهيأ لاحتضان ما سيحل فيه[، أولا يقال لغة: كأس الزهرة؟

والزهرة المختارة كأليق رمز في الشرق هي زهرة اللوتس (نيلوفر أبيض مصري)، وفي الغرب يلعب الورد في غالب الأحيان نفس الدور (ق). ومن المعلوم أننا لا نريد أن نقول بأن زهرة الورد أو النيلوفر لها هذه الدلالة الوحيدة، حيث أنه بالعكس قد أشرنا نحن أنفسنا إلى دلالة أخرى لها آنفا؛ وإنها لتشهد واضحة في رسم مطروز على لوح صلوات القداس في دير فونتفرولت (Fontevrault) (ر) حيث وضعت الوردة عند قدم خربة تتساقط على طولها قطرات دم. فالوردة تظهر هنا مقترنة بالحربة كما هو عليه بالضبط القدح في حالات أخرى. وبدلا من تحول قطرة الدم إلى وردة، فإن هذه الأخيرة تبدو كأنها تستقبل القطرات التي تحييها متفتقة منشرحة. إنه الطل السماوي تبعا للصورة المألوفة الشائعة الاستعمال والمرتبطة بفكرة الخلاص أو بمعاني البعث والنشور لكن مرة أخرى، هذا يستدعي شروحا طويلة ولا يمكننا إلا الاقتصار على إبراز توافق مختلف التراثيات إزاء هذا الرمز الآخر.

 

من جانب آخر حيث أنه في موضوع ختم لوتر (Sceau de Luther) وقع الكلام عن وردة الصليب (Rose - Groix)، فإننا نقول بأن هذا الشعار (أو الرمز) الهرمي كان في البداية خاصا بالمسيحية، مهما كانت التأويلات الخاطئة ذات الاتجاه الطبائعي (naturaliste) التي أعطيت له بكيفية غلوها يزيد أو يقل بدءا من القرن الثامن عشر. أفليس من اللافت للنظر أن الوردة فيه تحتل في مركز الصليب محل القلب المقدس نفسه؟ وبغض النظر عن أزهار الورد الخمسة الممثلة للجروح الخمسة للمصلوب، فإن الوردة المركزية عندما تكون منفردة، يمكن بالتأكيد أن تطابق القلب نفسه، أي الكوب المحتوي على الدم، والذي هو مركز الحياة، ومركز الكائن بجملته أيضا.

 

ويوجد أيضا من بين رموز أخرى عديل رمزي آخر للكوب: إنه الهلال. لكن شرحه بكيفية لائقة يستلزم توسعات خارجة تماما عن موضوع هذا البحث، ولم نشر إليه إلا لكي لا نُهمل بالكامل أي جانب من جوانب المسألة (ش).

 

ومن جميع المقاربات التي كنا بصدد التنبيه عليها نستخلص سبقا نتيجة نأمل في أن نتمكن من توضيحها أكثر فيما بعد وذلك أنه عندما نجد في كل مكان مثل هذه الموافقات أليس هذا أكثر من مجرد علامة على وجود تراث روحي أصلي أول [أي ملة إلهية أولى تفرعت منها وتسلسلت كل المثل الأخرى[ (ت).

 

والحال هذه، كيف تفسر حالة الذين يؤمنون بلزوم الاعتراف مبدئيا بهذا التراث الأصلي الأول للإنسانية كلها، لكنهم غالبا ما يفكرون تماما وكأنه لم يوجد، أو على الأقل كأن لم يحتفظ منه بشيء يذكر خلال القرون السالفة؟ وإذا فكرنا جديا في شذوذ مثل هذا الموقف، فربما سنكون أقل استعدادا للتعجب من بعض الاعتبارات التي لا تبدو بحق غريبة إلا بحكم العوائد الذهنية وما ألفته العقول في عصرنا الراهن. زد عليه أنه يكفي البحث قليلا، بشرط عدم الأخذ بأي موقف مسبق، لاكتشاف علامات وحدة المبادئ الجوهرية والأساسية في مختلف النواحي، والوعي بهذه الوحدة عند البشر حصل فيه أحيانا إبهام أو تعتيم وغموض لكنه على الدوام لم يفقد بالتمام. وبمقدار ما يحصل التقدم في هذا البحث، فإن نقاط المقارنة تتكاثر تلقائيا من نفسها، وتتجلى براهين أخرى جديدة في كل لحظة، ويقينا فإن لكلمة الإنجيل (Le Querite et invenietis) معناها العميق.

 

مُلحق

 

لقد عنَّ لنا أن نقول كلمات حول اعتراض وجه إلينا بصدد العلاقات التي ارتأيناها بين الكأس المقدسة والقلب المقدس، رغم أن الإجابة التي وقعت في نفس الوقت، والحق يقال، بدت لنا مرضية تماما.

 

وبالفعل ليس من المهم أن لا يرى كريستيان دي ترويس (Chrestien de Troyes) (ت) وروبيردي بارون (Robert de Baron) في القصة العتيقة التي لم يكونا سوى مكيفين لها، كل الدلالة التي تتضمنها. فهذه الدلالة موجودة فيها يقينا، ولا نزعم أننا قمنا بشيء سوى شرحها، بدون أن نبتدع أي عنصر حداثة في تفسيرنا لها.

 

وفوق ذلك، فإن من الصعب حقا معرفة ما كان يراه أو لا يراه كتاب القرن الثاني عشر (الميلادي) في هذه القصة. وحيث أنهم لم يقوموا إجمالا إلا بمجرد دور تبليغ فإننا نوافق بطيب خاطر على أنهم بلا شك لم يروا كل ما يراه فيها الملهمون لهم، ونعني الحائزين المحافظين حقيقة على جملة المبادئ والعقائد التراثية (الروحية والعرفانية).

 

من جهة أخرى، فيما يخص (شعوب) السلت، فقد اعتنينا بتذكير ما هي الاحتياطات التي ينبغي الأخذ بها عندما نريد الكلام عنهم في غياب كل وثيقة مكتوبة. لكن لماذا يراد افتراض أنهم كانوا أقل حظا من الشعوب القديمة الأخرى بالرغم مما لدينا من علامات تناقض هذا الافتراض؟ والحال، أننا نرى في كل مكان، وليس في مصر فقط، التماثل الرمزي المعتمد بين القلب والقدح، وفي كل مكان ينظر إلى القلب كمركز للكائن، أي مركز إلهي وإنساني في نفس الآن بالنسبة للتطبيقات المتعددة التي يتيحها. وفي كل مكان أيضا يمثل قدح القربان مركز أو قلب العالم (خ)، أي مثوى الخلود (Le séjour de l'immortalité)([1])، فماذا يلزم أكثر من هذا؟ نحن نعلم جيدا أن القدح والرمح، أو ما يكافئهما، كانت لهما دلالات أخرى غير التي ذكرناها، ولكن بدون تأجيل يمكن أن نقول بأن جميع تلك الدلالات، مهما كانت غرابة بعضها في عيون الحداثيين، هي جميعا متوافقة فيما بينها، وهي تعبر في الحقيقة عن تطبيقات لنفس المبدأ في مجالات ومستويات مختلفة، وفق قانون التناسب الذي يعتمد عليه تعدد الدلالات المتناسقة المندرجة في كل رمزية.

 

والآن، فإن مركز العالم لا يتطابق فعلا مع قلب المسيح فحسب، لأن هذا التطابق كان معهودا بوضوح في الملل والتراثيات العتيقة، وهذا ما نأمل في إمكانية بيانه في دراسات أخرى. ومن البديهي في هذه الحالة أن عبارة قلب المسيح ينبغي أن تؤخذ بمعنى غير ما يمكن تسميته بـ المعنى التاريخي تحديدا. لكن نؤكد مرة أخرى على أن الوقائع التاريخية نفسها، كغيرها من سائر الأمور، تترجم وفق نمطها الخاص عن الحقائق العليا، وتنسجم مع قانون التناسب الذي كنا بصدد الإشارة إليه، وهو وحده القانون الذي يسمح بتفسير ظهور بعض الصور المسبقة (أي السابقة لما يحدث بعدها لاحقا). فإن شئنا قلنا إن المقصود هو المسيح - المبدأ (ذ)، أي الكلمة (الإلهية) المتجلية في النقطة المركزية للعالم، لكن من يتجرأ على زعم أن الكلمة الأزلية ومجلاها التاريخي، أي مجلاها الأرضي الإنساني، ليسا هما واقعيا وجوهريا ذات المسيح الواحد الفرد في مظهرين مختلفين؟

وهنا مرة أخرى تلامس النسب أو العلاقات بين الزمني واللازمني (ض)، والمزيد من الإلحاح على هذا ربما يكون لائقا، لأن الرمزية وحدها هي التي تسمح حقا بالترجمة عن هذه الأمور بالمقدار الذي تكون فيه قابلة للتعبير وعلى كل حال فيكفي معرفة قراءة الرموز ليوجد فيها كل ما وجدناه نحن أنفسنا، لكن مع الأسف، في عصرنا بالخصوص ليس كل الناس يحسنون قراءتها.

 

هوامش المترجم:

شاربونو - لاساي لويس (1871-1946) فرنسي، كاتب وباحث متخصص في التراث الروحي المسيحي خصوصا من جانبه الرمزي كانت له علاقة مودة وتجاوب مع المؤلف الشيخ عبد الواحد يحي.

 

الكأس، أو الطست، أو القدح، أو الإناء له في التراث الإسلامي العرفاني رموز متعددة ومن بينها ما ذكره المؤلف في مقاله هذا. ومن مظاهره الأولى في السيرة المحمدية الإناء المملوء نوراً وحكمة الذي أفرغ في قلب النبي ﷺ بعد غسله من طرف الملائكة وهو لا يزال صبيا، ثم تكرر ذلك له عند البلوغ وعند البعثة وعند المعراج. وخلال المعراج عرضت عليه أربعة أقداح في كل منها شراب ماء ولبن وعسل وخمر، فاختار اللبن الذي يرمز للعلم. والسؤال 117 من أسئلة الحكيم الترمذي في كتابه (ختم الأولياء) والتي أجاب عنها ابن العربي في الباب 73 من الفتوحات، هو ما كأس الحب؟ وبدأ ابن العربي جوابه بقوله: الجواب القلب من المحب لا عقله ولا حسنه إلى آخر ما فصله. ومن أقوال الشيخ أبي الحسن الشاذلي في بعض مصطلحات أهل الله: (الشراب هو النور الساطع عن جمال المحبوب، والكأس هو اللطف الموصل ذلك إلى أفواه القلوب). ومن حكم ابن عطاء الله السكندري: فرغ قلبك من الأغيار يملؤه بالمعارف والأسرار كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته؟ أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته؟ أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته؟) ومن الحكم: (لماذا تقطع الفيافي والبحار لترى بيت ربك ولم تقطع هوى نفسك لتجد ربك في بيتك) يعني: في قلبك لأن القلب بيت الرب.

 


[1]- كان بإمكاننا أيضا التفكير بالتنور (الأناتور) الفرنسي، أي الوعاء الذي تتم فيه العملية الكيميائية الكبرى (الصنعة الكبرى)، واسمه، حسب قول البعض مشتق من اليونانية (أتاناتوس athanathos) أي خالد في النار الخفية التي تغذى فيه على الدوام تماثل الحرارة الحيوية الثاوية في القلب، وكان بإمكاننا كذلك القيام بمقارنات مع رمز آخر كثير الشيوع وهو رمز البيضة الدال على البعث والنشور وعلى الخلود، وربما سنعود إليه في مناسبة ما.  ولنلاحظ من جهة أخرى، ولو على سبيل الطرفة على الأقل، بأن القدح (في أوراق لعبة) التاروت (وهي التي لها أصل ملغز خفي) استبدل بالقلب في أوراق اللعب العادية، وهذه دلالة أخرى على تكافؤ الرمزين.

تعليقات

مواضيع المقالة