القائمة الرئيسية

الصفحات

الثيوصوفيا: تاريخ ديانة زائفة

رينيه غينون، منشورات "التقاليد"، 1969م

ترجمة

أبوالحسن 

 

 ثيوصوفية - ويكيبيديا

 

المقدمة

الثيوصوفية الحق (Théosophie

والثيوصوفيا المُزوّرة (Théosophisme)

 

ينبغي لنا قبل كل شيء أن نوضح سبب اختيارنا لهذا اللفظ غير المألوف الذي اتخذناه عنوانًا لهذه الدراسة: لماذا قلنا "الثيوصوفيا" «(Théosophisme)» ولم نقل "الثيوصوفيَّة" «(Théosophie)»؟

السبب هو أنّ هذين اللفظين، في نظرنا، يشيران إلى حقيقتين مختلفتين كل الاختلاف، ومن اللازم إزالة ما قد ينشأ بينهما من التباس، ولو استدعى الأمر استعمال لفظ مُستحدَث أو ما قد يبدو كذلك. وهذه الإزالة للالتباس ضرورية عندنا بصورة خاصة، لأنّ بعض الناس لهم على العكس من ذلك مصلحة كبرى في إبقاء هذا الخلط قائمًا، ليُوهِموا الآخرين بأنهم مرتبطون بتقليد عريق لا يملكون في الواقع أي حق مشروع في الانتساب إليه، كما لا يملكون الحق في الانتساب إلى أي تقليد آخر كذلك.

ففي الواقع، قبل زمن طويل من تأسيس الجمعية المسماة جمعية الثيوصوفيا «(Société Théosophique)»، كان لفظ «(ثيوصوفية Théosophie)» يُستعمل كاسم جامع لطوائف من العقائد المتنوعة، لكنها جميعًا تنتمي إلى نوع واحد، أو على الأقل تصدر عن تيار واحد من التوجّهات. ومن ثَمَّ، ينبغي أن نُبقي لهذا اللفظ معناه التاريخي. ومن غير أن ندخل هنا في تحليل طبيعة تلك العقائد، يمكننا القول إن ما يجمعها ويُكوِّن سِمَتها الجوهرية هو كونها تصوّرات ذات طابع باطني (إيزوتيري) بدرجات متفاوتة، تستمد إلهامها من روح دينية أو حتى صوفية، وإن كان صوفيًّا من نوع خاص بعض الشيء، وكلها تُنسب إلى تقليد غربي خالص، يقوم أساسه دائمًا، في صورة ما أو أخرى، على المسيحية. ومن هذه العقائد، على سبيل المثال، ما وضعه يعقوب بوهمه (Jacob Bœhme)، وجيختل (Gichtel)، ووليم لو (William Law)، وجين ليد (Jane Lead)، وسويدنبورغ (Swedenborg)، ولويس-كلود دو سان-مارتان (Louis-Claude de Saint-Martin)، وإيكارتسهاوزن (Eckartshausen). ولسنا نزعم أن هذه قائمة كاملة، بل نكتفي بذكر بعض الأسماء الأكثر شهرة.

أما التنظيم الذي يطلق على نفسه اليوم اسم «(جمعية الثيوصوفيا)»، وهو ما نخصّه بالبحث هنا دون سواه، فلا يمتّ بصلة إلى أي مدرسة يمكن أن تُنسب، ولو على نحو غير مباشر، إلى ذلك الصنف من العقائد الذي أشرنا إليه آنفًا. فمؤسِّسته، السيدة بلافاتسكي (Blavatsky)، قد تكون اطّلعت بدرجة ما على كتابات بعض الثيوصوفيين، وبخاصة يعقوب بوهمه، واستقت منها بعض الأفكار التي أدرجتها في مؤلفاتها، إلى جانب عناصر أخرى كثيرة جاءت من مصادر شتى؛ وهذا أقصى ما يمكن التسليم به في هذا الباب. وعلى وجه العموم، فإن النظريات التي صاغها أو دافع عنها قادة «(جمعية الثيوصوفيا)»، وهي نظريات متفاوتة الاتساق، لا تحمل أيًّا من السمات التي حدّدناها من قبل، باستثناء الادّعاء بالباطنية (إيزوتيرية). فهي تقدّم نفسها، زورًا، على أنها ذات أصل شرقي، ومع أنّه أُضيف إليها منذ مدة ما يُسمّى «مسيحية باطنية» (Christianisme ésotérique) بطابع غريب جدًّا، فإن الحقيقة أنّ اتجاهها الأولي كان على العكس من ذلك اتجاهًا معاديًا للمسيحية صراحة. وقد قالت بلافاتسكي آنذاك: «غايتنا ليست إعادة إحياء الهندوسية، بل محو المسيحية من على وجه الأرض»([1]). فهل تغيّرت الأمور منذ ذلك الحين تغيّرًا حقيقيًّا، كما قد توحي المظاهر؟ على الأقل، يبقى من المشروع التوجّس، حين نرى أن الداعية الكبرى لما يسمى «المسيحية الباطنية الجديدة» ليست سوى السيدة بيسانت (Besant)، التي كانت تصرخ في الماضي قائلة: «يجب قبل كل شيء محاربة روما وكهنتها، ومقاومة المسيحية في كل مكان، وطرد الله من السماوات»([2]). ولا شك أنّ من الممكن أن تكون عقيدة «(جمعية الثيوصوفيا)» وآراء رئيستها الحالية قد «تطوّرت»، غير أنّ من الممكن أيضًا أن يكون ذلك «النيُو-مسيحية» (Néo-christianisme) ليس إلا قناعًا يخفي غيره. ذلك أنّه في أوساط كهذه ينبغي توقّع كل شيء. ونحن نعتقد أنّ ما سنعرضه كافٍ ليُبيّن إلى أي حد سيكون من الخطأ الركون إلى حسن نية القائمين على مثل هذه الحركات أو الملهمين لها.

ومهما يكن الأمر في النقطة الأخيرة، فإننا نستطيع أن نصرّح منذ الآن وبكل وضوح أنه لا توجد أي صلة نسب، ولا حتى صلة معنوية أو مثالية، بين عقيدة «(جمعية الثيوصوفيا)»، أو ما يقوم مقام العقيدة فيها، وبين «(الثيوصوفيا)» بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة. لذلك ينبغي رفض ما يُروَّج من ادعاءات خيالية تهدف إلى تصوير هذه الجمعية كأنها امتداد لجمعيات أخرى، مثل «(Société Philadelphienne)» التي وُجدت في لندن نحو نهاية القرن السابع عشر([3])، ويُزعم أن إسحاق نيوتن كان من أعضائها؛ أو مثل «إخوة أصدقاء الله» (Confrérie des Amis de Dieu) التي يُقال إنها تأسست في ألمانيا بالقرن الرابع عشر على يد الصوفي يوهان تاولر (Jean Tauler)، ذلك الرجل الذي حاول البعض ــ ولا ندري لماذا ــ أن يجعلوا منه رائدًا سابقًا للوثَرية (Luther)([4]). وهذه الادعاءات ربما كانت أبعد عن الصحة، بل لا سند لها على الإطلاق، حتى من تلك التي يحاول «الثيوصوفيون» (Théosophistes) بها أن يربطوا أنفسهم بالـ«أفلاطونيين الجدد» (Néo-platoniciens)([5])، لمجرّد أن السيدة بلافاتسكي قد تبنّت فعلًا بعض النظريات الجزئية المأخوذة عن هؤلاء الفلاسفة، دون أن تكون قد استوعبتها حقًّا أو جعلتها جزءًا متماسكًا من نظامها الفكري.

إن العقائد التي تعتنقها «(جمعية الثيوصوفيا)» ــ وهي عقائد حديثة تمامًا في واقع الأمر ــ تختلف في جميع الجوانب تقريبًا عن تلك التي يُطلق عليها بحق اسم «(ثيوصوفيَّة)»، حتى إن الخلط بينهما لا يمكن أن يصدر إلا عن سوء نية أو عن جهل: سوء نية لدى قادة الجمعية، وجهل لدى أغلب أتباعهم، بل ولدى بعض مناوئيهم أيضًا الذين، لقصور معرفتهم، يقعون في خطأ جسيم حين يأخذون دعاوى هؤلاء مأخذ الجد، ويظنون مثلًا أنهم يمثلون تقليدًا شرقيًا أصيلًا، بينما الحقيقة غير ذلك تمامًا. والواقع أنّ «(جمعية الثيوصوفيا)» لم تتخذ هذا الاسم إلا لاعتبارات عرضية بحتة، ولولاها لكان لها اسم آخر مختلف تمامًا. ولهذا فليس أعضاؤها «ثيوصوفيين» (Théosophes)، بل هم، إن شئنا الدقة، «ثيوصوفيست» (Théosophistes). على أن التفرقة بين هذين المصطلحين «(Theosophers)» و«(Theosophists)» معروفة دائمًا تقريبًا في اللغة الإنكليزية، حيث يُستعمل أيضًا لفظ «(Theosophism)» للدلالة على عقيدة هذه الجمعية، وهو استعمال شائع هناك. ونحن نرى أن هذه التفرقة بالغة الأهمية، بحيث يلزم الإبقاء عليها في اللغة الفرنسية كذلك، مهما كان اللفظ فيها غريبًا أو غير مألوف؛ ومن أجل ذلك حرصنا قبل كل شيء على بيان الأسباب التي تجعل المسألة تتجاوز مجرد فرق في الألفاظ.

لقد تحدثنا وكأن هناك بالفعل «عقيدة ثيوصوفيستية» (Doctrine théosophiste)؛ غير أنّ الحقيقة هي أنه إذا أخذنا كلمة «عقيدة» بالمعنى الدقيق للكلمة، أو حتى إذا أردنا أن نعني بها شيئًا متماسكًا محدّد المعالم، وجب الإقرار بأنه لا وجود لمثل ذلك. فما يقدّمه «الثيوصوفيست» (Théosophistes) على أنه عقيدتهم، يبدو عند أي فحص جاد مليئًا بالتناقضات؛ هذا فضلًا عن أنّ ما يُقال يختلف اختلافًا بيّنًا من مؤلِّف إلى آخر، بل وأحيانًا عند المؤلّف الواحد نفسه، حتى في القضايا التي يُنظر إليها بوصفها أهمّ المسائل. ويمكن، في هذا الصدد، التمييز على وجه الخصوص بين مرحلتين أساسيتين: مرحلة السيدة بلافاتسكي، ومرحلة السيدة بيسانت. صحيح أن «الثيوصوفيست» الحاليين يحاولون كثيرًا أن يخفوا هذه التناقضات، بتأويلهم فكر مؤسِّستهم وفق ما يوافقهم، وبادّعائهم أنّ ما كُتب في البداية قد أسيء فهمه؛ لكن التباين قائم على أي حال. ومن السهل أن يُفهَم أنّ دراسة نظريات بهذا القدر من التهافت لا يمكن فصلها عن تاريخ «(جمعية الثيوصوفيا)» نفسها. ولهذا السبب لم نرَ من المناسب أن نقسم هذا الكتاب إلى قسمين مستقلين، أحدهما تاريخي والآخر عقائدي، كما كان سيكون طبيعيًا في أي ظرف آخر.



[1]- Déclaration faite à M, Alfred Alexander, et publiée dans The Medium and Daybreak de Londres, janvier 1893, p. 23.

[2]- Discours de clôture du Congrès des libres penseurs tenu à Bruxelles en septembre 1880.

[3]- La Clef de la Théosophie, par H. P. Blavatsky, p. 25 de la traduction française de Mme H. de Neufville. – C’est toujours à cette traduction que nous renverrons pour les citations que nous aurons à faire de cet ouvrage.

[4]- Modern World Movements, par le Dr J. D. Buck : Life and Action, de Chicago, mai-juin 1913.

[5]- La Clef de la Théosophie, pp. 4-13. 

تعليقات

مواضيع المقالة