القائمة الرئيسية

الصفحات

تنبيه!

 

في العديد من أبواب هذا الكتاب يذكر مؤلفه (الماسونية) تصريحا أو إشارة وتلويحا، مستشهدًا ببعض شعاراتها أو أوضاعها ومصطلحاتها. وهي في تقديره إحدى التنظيمات الغربية التي كانت في أصلها القديم الأول حائزة على تراث وتربية روحية تعتمد في سلوكها على حرفة، وحرفتها الخاصة بها كانت البناء، خصوصًا تشييد المعابد. لكن هذه التربية لم تتجاوز ما يسميه المؤلف (مراحل الأسرار الصغرى المتعلقة بالإبداع الإلهي وبالكونيات والماسونية). في نظره هي التنظيم التراثي الوحيد الذي بقي في الغرب مستمرا إلى اليوم بجانب المسيحية؛ غير أنه منذ قرون فقد الجانب العملي والسلوك الروحي الفعلي مكتفيا بمفاهيم وتأملات يغلب عليها الطابع النظري. ثم آلت أوضاعه إلى انحطاط متفاقم فاقد لكل بعد روحي وعرفاني أصيل، بل انحرف أحيانا إلى عكس ذلك، أي إلى متاهات الصراعات الفكرية والاجتماعية والسياسية وحتى المصالح الشخصية. وبالتالي فكلام المؤلف الذي يبدو أحيانا إيجابيا حول الماسونية، لا يتعلق إلا بما كان عليه أصلها الأول الأصيل القديم قبل الانحطاط والانحراف الحاصل منذ قرون إلى أن آل أحيانا إلى الانتكاس المعاصر.

 


 

 

إصلاح العقلية الحديثة

رموز العلم المقدس، رينيه غينون، تر: عبد الباقي مفتاح، ص: 7 – 11

(مقال قدمه المؤلف في اليوم الدراسي الذي نظمته "جمعية الإشعاع العرفاني للقلب المقدس" يوم 6 ماي 1926)

 

إن الحضارة الحديثة تظهر في التاريخ كشذوذ حقيقي: فمن بين كل الحضارات التي نعرفها، هي الوحيدة التي تطورت في اتجاه مادي بحت، وهي أيضا الوحيدة التي لا تعتمد على أي مبدأ من طراز علوي. وتطورها المادي هذا المتواصل منذ عدة قرون، والمتسارع أكثر فأكثر، صحبه نكوص للعقلية العرفانية (Intellectualié) يستعصى فهمه. والمقصود هنا طبعا العقلية العرفانية الحقيقية النقية، التي يمكن تسميتها أيضا بالرُّوْحِيَّة، ونحن نرفض إطلاق هذا الاسم على ما يعنيه الحداثيون بالخصوص، أي: تطوير دراسات العلوم التجريبية، بهدف ما تنتج عنها من تطبيقات عملية. ومثال واحد قد يكون كافيا لقياس مدى هذا النكوص، وهو أن الخلاصة اللاهوتية للقديس توما الاكويني (أ) كانت في عصرها كتابا وجيزا يتداوله الطلبة، فأين هم اليوم الطلبة الذين يستطيعون التعمق فيها واستيعابها؟

 

ولم يقع هذا الانحطاط بكيفية مفاجئة، بل يمكن تتبع مراحله من خلال كل الفلسفة الحديثة (ب).

 

إن فقدان أو نسيان العقلية العرفانية الحقيقية (الأصيلة) هو الذي أتاح ظهور هذين الخطأين اللذين لا يتناقضان إلا في الظاهر، وهما في الواقع متلازمان ومتكاملان، إنهما العقلانية(ج) والنزعة العاطفية (أو العواطفية)(د). ومنذ أن حصل جهل أو إنكار لكل معرفة روحية خالصة، وقد حصل ذلك منذ ديكارت (هـ)، فمن المستلزم منطقيا أن يكون المآل، من جهة إلى الفلسفة الوضعية(و) واللاأدرية(ز) وإلى كل الضلالات العلموية، ومن جهة أخرى إلى كل النظريات المعاصرة التي لا تقنع بما يمكن أن يعطيه العقل، فتبحث عن أمر آخر، لكنها تبحث عنه في جانب العاطفة والغريزة، أي في ما هو دون العقل لا في ما هو أعلى منه، حتى وصلت عند وليام جايمس(ح) مثلاً، إلى اعتبار ما تحت الشعور (أو الشعور الباطن) الوسيلة التي يدخل بها الإنسان في صلة مع الألوهية. ومفهوم الحقيقة، بعد أن أُهبِطَ إلى مجرد تصور (بسيط) للواقع المحسوس، أمسى في النهاية مطابقا للمنفعة المادية في الفلسفة الذرائعية(ط)، وهذا يعني بكل بساطة الإلغاء التام لمفهوم الحقيقة؛ وبالفعل هل توجد للحقيقة أهمية في عالم تقتصر طموحاته على ما هو منها مادي وعاطفي فقط؟

 

ليس بالإمكان هنا التوسع في تبعات مثل هذه الوضعية للأمور، ولنقتصر على الإشارة إلى بعضها، من بين التي ترجع إلى وجهة النظر الدينية بالخصوص. وفي البداية ينبغي ملاحظة أن الاحتقار والنفور اللذين تشعر بهما شعوب أخرى، خاصة الشرقيون تجاه الغربيين، سببهما في الغالب أن الغربيين يظهرون عموما للشرقيين كأناس بدون تراث روحي ولا دين لهم، وهذه فظاعة شنيعة حقيقية في أعينهم. فالشرقي لا يمكن له أن يعترف بنظام اجتماعي لا يرتكز على مبادئ التراث الروحي، وبالنسبة للمسلم، مثلا، ليس التشريع بأكمله سوى فرع تابع خاضع تماما للدين. وكذلك كان الشأن سابقا في الغرب إذا فكرنا في ما كانت عليه المسيحية خلال القرون الوسطى، لكن الأوضاع انقلبت اليوم. وبالفعل فالدين يعتبر الآن مجرد ظاهرة اجتماعية، وبدلا من أن يكون النظام الاجتماعي بجملته مرتبطا بالدين، أمسى الدين بالعكس، إذا سُمِحَ بالاعتراف بمكان له، لا يُنظر إليه إلا كعنصر ما من العناصر المشكلة للنظام الاجتماعي. ومع الأسف ما أكثر الكاثوليك الذين يرضون بهذه الكيفية من النظر دون أدنى اعتراض. لقد حان الأوان لصد هذا التوجه، وفي هذا الصدد، فإن الإعلان عن السلطة (أو الحاكمية) الاجتماعية للمسيح أضحى مناسبا (ي)، لكن لتحقيقها في الواقع لابد من إصلاح العقلية الحديثة برمتها.

 

وينبغي أن لا نخفي على أنفسنا، أن حتى الذين يعتقدون بأنهم متدينون بصدق، ليس لهم في الغالب عن الدين إلا تصور منقوص جدًّا ليس له أثر فعلي معتبر على فكرهم وتصرفاتهم، فكأنه منفصل تمامًا عن بقية وجودهم.

 

وعمليا فإن المتدينين وغير المتدينين يتصرفون تقريبا بنفس الكيفية، وبالنسبة للكثير من الكاثوليك فإن الاعتراف بما فوق قوانين الطبيعة (كالمعجزات والكرامات وخرق العوائد عند الأنبياء والأولياء مثلا) ليس له سوى قيمة نظرية، وسيجدون حرجا كبيرا لو اتفق أن يشاهدوا واقعة خارقة للعادة (الطبيعية). وهذا ما يمكن تسميته بـ (النزعة) المادية العملية، وهي مادية فعلية وتدقيقا، حيث أن المصابين بها لا شعور لهم بها، أفليست هي أشد خطورة من المادية القحة الصريحة؟

 

من ناحية أخرى، ليس الدين بالنسبة لأكبر عدد من الناس سوى مسألة عاطفية بدون أي عمق عرفاني، فلا تمييز عندهم بين انتساب غامض للتدين وبين الدين الذي يُختزل في الآداب أو الأخلاق العامة، كما أن مكانة العقيدة تختزل أيضا إلى أدنى حد ممكن رغم أنها هي الجوهر كله، ولا ينبغي لسواها أن يكون إلا استتباعا منطقيا ناتجا عنها. وفي هذا الصدد، فإن مذهب البروتستانتية الذي يؤول إلى مجرد نزعة أخلاقية بسيطة، يمثل جيدا توجهات العقلية الحديثة. لكن من الخطأ الفادح أيضا اعتقاد أن مذهب الكاثوليكية نفسه لم يصب بمثل هذه التوجهات، ليس في مبدئه يقينا، لكن في الكيفية التي يعرض بها عادة: فبذريعة جعله مقبولا عند العقلية الراهنة، تقع تنازلات وخيمة جدًّا، وهكذا يشجع ما ينبغي بالعكس محاربته بكل شدة.

 

ولا نلح على زيغ الذين بذريعة التسامح يمسون ضالعين بدون وعي منهم في تزييفات حقيقية للدين، وهم بعيدون عن أن تخطر ببالهم مقاصدها الخفية. ونشير عرضا فقط في هذا السياق، إلى الإفراط المؤسف في الاستعمال الشائع بكثرة لكلمة الدين نفسها: ألا تُستعمل دوما عبارات مثل ديانة الوطن وديانة العلم ودين الواجب؟ وهي عبارات لا تمثل انفلاتا لغويا بسيطا، وإنما هي تمثل أعراضا للبلبلة المتفشية في كل مكان من العالم المعاصر، لأن اللغة لا تعدو إجمالا إلا أن تمثل بأمانة وضعية العقول، ومثل تلك العبارات لا تتلاءم مع المعني الحقيقي للدين.

 

لكن لنرجع لما هو أساسي أكثر ونريد بهذا التكلم عن ضعف التعليم العقائدي، الذي استبدل تماما تقريبا باعتبارات أخلاقية وعاطفية غامضة، وهي التي ربما تروق البعض، ولكنها في نفس الوقت، لا يمكن إلا أن تصد وتنفر الذين لهم طموحات من طراز عرفاني، وهم لا يزالون موجودين رغم كل شيء في عصرنا الحاضر. والدليل على هذا، هو أن البعض، وعددهم أكبر مما يظن منزعجون من هذا الخواء في العقيدة. ورغم المظاهر الخارجية، فإننا نرى في هذا علامة إيجابية لأن التنبه لذلك أصبح اليوم أكبر مما كان عليه قبل عدة أعوام. ومن الخطأ يقينا ما سمعناه في كثير من الأحيان من أنه لم يعد يوجد أحد يفهم أطروحة للعقيدة الخالصة. فبداية لماذا يراد دائما الوقوف في المستوى الأسفل، بحجة أنه مستوى العدد الأكبر من الناس، وكأن من اللازم اعتبار الكم على حساب الكيف؟ أليس في هذا إحدى تبعات هذه العقلية الديمقراطية التي هي من مميزات الذهنية الحديثة؟ ومن جانب آخر، أيظن أن ذلك العدد الأكبر من الناس عاجزون حقيقة عن الفهم لو أنهم عودوا على تعليم عقائدي (للمبادئ العليا)؟ ألا ينبغي التفكير في أن حتى أولئك الذين لا يمكنهم فهم كل شيء، سيحصلون رغم ذلك على فائدة ربما تكون أكبر مما قد يُظن؟

 

لكن العائق الأخطر بلا شك هو هذا الارتياب المشهود في كثير من الأوساط الكاثوليكية، وحتى في الأوساط الكنسية، إزاء العرفان السامي عموما، ونقول أنه العائق الأخطر لأنه علامة على عدم الفهم حتى عند من أنيط بهم القيام بمهمة التعليم. لقد أثرت فيهم العقلية الحديثة، مثلهم مثل الفلاسفة الذين أشرنا إليهم آنفا، إلى حد جهل ما هو عليه العرفان الحقيقي، بل أحيانا إلى حد عدم التمييز بين العرفان والعقلانية، وهم بهذا يعملون من غير قصد ضمن لعبة الخصوم. وبالتحديد فإننا نعتقد بأن المهم قبل كل شيء، هو إحياء وبعث ذلك العرفان الحقيقي، ومعه المعنى الأصيل للعقيدة والمبادئ العليا للتراث الروحي. لقد آن الأوان لبيان أن في الدين أمرا آخر غير مسألة إخلاص وصدق عاطفي، وأمرا آخر غير تعاليم أخلاقية أو عزاء وتسلية لنفوس أضعفها الحزن والألم، بل يمكن أن نجد في الدين الغذاء المتين (الفعال)، الذي تكلم عنه القديس بولس في رسالته إلى اليهود (ي).

 

نحن نعلم أن عيب هذا الذي ذكرناه هو معاكسته لبعض العادات المألوفة التي يصعب الانعتاق منها، ورغم هذا فالمقصود ليس هو الابتداع، بل المقصود بعيد عن ذلك ومعاكس له، وهو الرجوع إلى التراث الروحي العرفاني الذي تم الانحراف عنه، أي أن المقصود هو استعادة ما هجر فضاع. أليس هذا أجدى من القيام بتنازلات للعقلية الحديثة لا مبرر لها، كالتنازلات التي تصادفها في الكثير من المؤلفات المنافحة عن الدين، ويجتهد فيها أصحابها محاولة التوفيق بين (مبادئ) العقيدة وبين كل ما هو افتراضي وأقل ثبوتا في العلم المعاصر، مع احتمال تغيير كل ذلك كلما استُبدِلت هذه النظريات التي يزعم بأنها علمية بأخرى تحل محلها. ومع ذلك فالأيسر هو بيان أن الدين والعلم لا يمكن أن يدخلا حقيقة في تصادم، للسبب البسيط، وهو أنهما لا ينتميان إلى نفس المجال. وكيف لا تمكن رؤية الخطر في البحث عن نقطة ارتكاز للعقيدة المتعلقة بالحقائق الثابتة الأزلية في ما هو الأسرع تغيرا والأقل يقينا؟ وماذا يظن في بعض علماء اللاهوت الكاثوليك المتأثرين بالعقلية العلموية إلى حد اعتقادهم أنهم ملزمون بالأخذ بعين الاعتبار، بمقدار يزيد أو ينقص، نتائج التأويل الحديثة للكتب المقدسة ونقد النصوص المقدسة، مع أنه من الأيسر بيان عدم جدوى كل ذلك، بشرط الحصول بمقدار كاف على قاعدة صلبة للعقيدة. كيف لا نرى بأن علم الأديان المزعوم، كما يدرس في الأوساط الجامعية، لم يكن دائما في الواقع شيئا غير حرب موجهة ضد الدين، وأعـم من ذلك، هي موجهة ضد ما يمكن أن يبقى من روح للتراث الروحي والعرفاني، وهو الروح الذي يريد تدميره بالطبع كل الذين يسيرون العالم الحديث في اتجاه لا يمكن أن يؤول إلا إلى كارثة؟

 

الكلام حول هذا كثير، لكن لم نقصد سوى الإشارة الموجزة جدا إلى بعض النقاط التي تحتاج إلى إصلاح ضروري وعاجل. ونختم بسؤال يهمنا هنا بالخصوص، لماذا نصادف هذا المقدار من العداوة، التي تزيد صراحتها أو تقل، إزاء هذه الرمزية؟ وما هذا بالتأكيد إلا لأنه يوجد هنا نمط من التعبير الذي أمسى غريباً تماما عن العقلية الحديثة، ولأن الإنسان مدفوع بطبعه إلى الحذر مما لا يفهمه. والرمزية هي الوسيلة المثلى لتعليم الحقائق ذات الطراز السامي الدينية منها والميتافيزيقية، أي كل ما ترفضه أو تهمله العقلية الحديثة، إنها تماما عكس ما يلائم العقلانية (ل)، وجميع أعداء الرمزية يتصرفون، وبعضهم بدون وعي منهم، تصرف العقلانيين الحقيقيين. وبالنسبة إلينا، فإننا نعتقد بأنه إذا كانت الرمزية اليوم مجهولة، فهذا سبب آخر للتأكيد عليها بعرض وشرح الدلالة الحقيقية للرموز التراثية بأكمل كيفية ممكنة، وهذا بإرجاع ما لها من بعد عرفاني، بدلا من مجرد جعلها موضوعا لبعض المواعظ العاطفية التي، مع ذلك، ترى أن توظيف الرمزية توظيفا فعالا أمراً لا جدوى منه.

 

هذا الإصلاح للعقلية الحديثة مع كل ما يستلزم من بعث للعرفان الحقيقي والتراث العقائدي وهذان عندنا لا يفترقان - لهو يقينا مهمة عظمى. لكن أهذا سبب لعدم القيام به؟ الذي يبدو لنا هو العكس، أي أن مثل هذه المهمة تشكل إحدى أسمى وأهم الأهداف التي يمكن اقتراحها على نشاط جمعية مثل جمعية الإشعاع العرفاني للقلب المقدس، خصوصا أن كل الجهود المبذولة في هذا المنحى ستكون بالضرورة متجهة نحو قلب الكلمة الإلهية المتجسدة (م) أي الشمس الروحانية، ومركز العالم المكنونة فيه كل كنوز الحكمة والعلم، وهذا العلم ليس هو هذا العلم الدوني الظاهر التافه المعروف وحده عند غالبية أهل هذا العصر، بل العلم الحقيقي المقدس الذي يفتح للذين يدرسونه كما ينبغي آفاقا لامتناهية حقا ولا تخطر ببال. 

تعليقات

مواضيع المقالة