باطنية دانتي
(الكشف عن البعد الباطني في أعمال دانتي)
رينيه غينون، عبد الواحد يحيى
L’Ésotérisme de Dante
René Guénon, éd. Gallimard, 1957
الفصل الأول: المعنى الظاهري والمعنى الباطني
يا أنتم الذين تملكون عقولًا سليمة، تأملوا في التعاليم التي تختفي تحت غلاف هذه الأبيات الغريبة! |
بهذه الكلمات، يبيّن دانتي بوضوح بالغ أن في عمله معنًى خفيًا، ذا طابع تعليمي وعقائدي، وأن المعنى الظاهري الخارجي ليس إلا ستارًا يخفي ذلك المعنى الأعمق، وينبغي على من يملكون القدرة على النفاذ إلى باطن الأمور أن يسعوا لاكتشافه. وفي موضع آخر، يذهب الشاعر إلى أبعد من ذلك، إذ يصرّح بأن جميع النصوص – وليس النصوص المقدسة وحدها – يمكن فهمها، بل ويجب عرضها في ضوء أربعة مستويات من المعنى: «يمكن أن تُفهم ويجب أن تُفسّر وفقًا لأربعة معانٍ رئيسية».
ومن الواضح أن هذه المعاني المختلفة لا تتعارض فيما بينها ولا تُبطل بعضها بعضًا، بل ينبغي لها، على العكس، أن تتكامل وتتناغم كما تتناغم أجزاء الكيان الواحد، وكما تتآلف العناصر المختلفة لتشكّل تركيبًا موحدًا شاملاً.
وهكذا، فإن القول بأن الكوميديا الإلهية يمكن تفسيرها على مستويات متعددة من المعنى ليس أمرًا مشكوكًا فيه البتة، طالما أن لدينا في هذا الصدد شهادة صريحة من المؤلف نفسه، وهو من دون شك الأقدر على إطلاعنا على مقاصده الحقيقية.
غير أن الصعوبة تبدأ حين نحاول تحديد هذه المعاني المختلفة، لا سيّما أعمقها وأعلاها مرتبة، وهنا تحديدًا تتباين آراء المفسرين على نحو طبيعي. فمعظمهم يتفقون على أن تحت السرد الشعري الظاهري يكمن معنى فلسفي – أو بالأحرى، فلسفي-لاهوتي – وكذلك معنى سياسي واجتماعي. ولكن، مع إضافة المعنى الحرفي الظاهري، لا نحصل إلا على ثلاثة مستويات، في حين أن دانتي نبهنا إلى ضرورة التماس أربعة معانٍ. فأين هو المعنى الرابع؟
أما نحن، فلا نرى هذا المعنى الرابع إلا باعتباره معنًى باطنيًا خالصًا (initiatic)، ذو جوهر ميتافيزيقي، وترتبط به عناصر متعددة، قد لا تكون جميعها ميتافيزيقية صرفًا، لكنها مع ذلك تشترك في طابعها الباطني والرمزي.
وبسبب هذا الطابع العميق، فإن هذا المعنى الرابع قد غاب تمامًا عن أنظار غالبية المفسرين؛ ومع ذلك، فإن إغفاله أو سوء فهمه يحول دون إدراك المعاني الأخرى على نحو تام، لأنه بمثابة الأصل الذي تتفرع عنه تلك المعاني، والمبدأ الذي يوحّدها ويجمع بينها في نسق واحد.
حتى أولئك الذين لمحوا الطابع الباطني في أعمال دانتي وقعوا في أخطاء كثيرة تتعلّق بطبيعة هذا الباطن ومغزاه الحقيقي، وذلك في الغالب لأنهم كانوا يفتقرون إلى الفهم العميق لهذه القضايا، كما أن تأويلهم تأثر بأحكام مسبقة لم يكونوا قادرين على تجاوزها.
وهكذا، فإن روسيتي وأرو (Rossetti وAroux)، وهما من أوائل من أشاروا إلى وجود هذا البعد الباطني، اعتقدا – عن خطأ – أن في ذلك ما يدل على هرطقة دانتي، من دون أن يدركا أن هذا الخلط ينشأ عن مزج مجالات متباينة لا يجوز الخلط بينها.
فمع أنهما كانا على دراية ببعض الأمور، إلا أن أمورًا كثيرة أخرى كانت غائبة عنهما؛ وهذه الأمور سنحاول أن نبيّن بعضها هنا، من غير أن نزعم تقديم عرض كامل لموضوع يبدو، بحق، غير قابل للاستنفاد.
لقد طُرحت المسألة، في نظر "أرو"، على النحو التالي: هل كان دانتي كاثوليكيًا أم ألبيجيًا؟ أما آخرون، فيميلون إلى طرح السؤال على هذا النحو: هل كان دانتي مسيحيًا أم وثنيًا؟
أما نحن، فلا نرى أن من الصواب النظر إلى الأمر من هذه الزاوية، لأن الباطنية الحقيقية (الإيزوتيرية) تختلف كليًا عن الدين الظاهري، وإذا وُجدت علاقة بينها وبينه، فإنما تكون من جهة اتخاذ الباطنية الصورَ الدينيةَ وسيلة تعبير رمزي لا أكثر. وعلى هذا، فإن طبيعة تلك الصور الدينية – أكانت تنتمي لهذه الديانة أو لتلك – لا تهم كثيرًا، لأن المقصود هو الوحدة العقائدية الجوهرية التي تختفي خلف تنوّع تلك الأشكال الظاهرة. ولهذا السبب، كان أصحاب المعارف الباطنية في العصور القديمة يشاركون في شتى الطقوس الدينية الظاهرة دون تمييز، تبعًا للعادات المتّبعة في البلاد التي يقيمون فيها. ومن هذا المنطلق أيضًا – أي من إدراكه للوحدة الأساسية للحق – وليس بدافع من تلفيق "توفيقي" سطحي، استخدم دانتي لغة مستمدة تارة من المسيحية، وتارة من التراث اليوناني الروماني القديم، بحسب ما يناسب السياق.
إن الميتافيزيقا الخالصة لا تُنسب إلى الوثنية ولا إلى المسيحية، بل هي شاملة وعالمية. فالأسرار الدينية في العالم القديم لم تكن من صميم الوثنية، بل كانت تعلو عليها وتتجاوزها. وبالمثل، وُجد في العصور الوسطى تنظيمات ذات طابع باطني – لا ديني – اتخذت الكاثوليكية منطلقًا وشكلًا خارجيًا لها. وإذا كان دانتي ينتمي إلى بعضٍ من هذه التنظيمات، وهو أمر نراه مؤكدًا، فليس في ذلك أي مبرّر لوصفه بـ"الهرطقة".
إن من يذهب إلى هذا الرأي إنما يكوّن عن العصور الوسطى تصورًا مشوهًا أو ناقصًا، لأنه لا يرى منها سوى مظاهرها السطحية؛ أما أبعادها الباطنية، فتعوزه كل وسيلة لمقارنتها أو فهمها، لأن عالمنا المعاصر لم يَعُد يملك ما يشبهها أو يوازيها.
إذا كان هذا هو الطابع الحقيقي لجميع التنظيمات الباطنية (الاستسرارية)، فلا يبقى إلا حالتان اثنتان يمكن فيهما توجيه تهمة "الهرطقة" إلى بعضها أو إلى بعض أعضائها، وكان ذلك – في الحقيـقة – للتستر على اتهامات أخرى أكثر وجاهة أو على الأقل أكثر صدقًا، لكنها لم تكن قابلة للتصريح بها علنًا.
الحالة الأولى هي عندما أقدم بعض أصحاب المعرفة الباطنية على إفشاء أسرار لا ينبغي إعلانها، مما قد يثير اضطرابًا في نفوس من لم يُعدّوا بعد لتلقي حقائق عليا، بل وقد يؤدي إلى فوضى على المستوى الاجتماعي. فهؤلاء الذين أفشوا تلك المعارف وقعوا في خطأ جسيم، إذ تسببوا في خلط بين المجال الباطني (الإيزوتيري) والمجال الظاهري (الإكزوتيري)، وهو خلط يُعدّ بحد ذاته كافيًا لتبرير تهمة "الهرطقة". وقد وقع هذا النوع من الحالات مرارًا في العالم الإسلامي، حيث – بالمناسبة – لا تُواجَه المدارس الباطنية عادة بأي عداء من السلطات الدينية أو الفقهية التي تمثل الإسلام الظاهري.
أما الحالة الثانية، فهي عندما تُستعمل تهمة "الهرطقة" ذريعةً من قبل سلطة سياسية، لتصفية خصوم تعتبرهم خطرين، ولكن يصعب النيل منهم بالطرق التقليدية. وأشهر مثال على ذلك هو تفكيك "نظام فرسان الهيكل" (Ordre du Temple)، وهو حدثٌ يرتبط ارتباطًا مباشرًا بموضوع هذه الدراسة التي نحن بصددها.
هوامش
[1] الجحيم، التاسع، 61-63.
[2] الوليمة، المجلد الثاني، الفصل الأول.
[3] قارن أرتورو ريجيني، الاستعارة الباطنية لدانتي، في نوفو باتو، سبتمبر-نوفمبر 1921، ص 541-548.
[4] يجب أن نقول أيضًا أننا نفضل كلمة أخرى على كلمة "وثنية"، التي فرضها استخدام طويل، ولكنها لم تكن في الأصل سوى مصطلح تحقير طُبق على الديانة اليونانية الرومانية عندما وجدت هذه الأخيرة، في أدنى درجات انحطاطها، نفسها مختزلة إلى حالة "خرافة" شعبية بسيطة.
[5] نشير بشكل خاص إلى المثال الشهير للحلاج، الذي أُعدم في بغداد عام 309 هـ (921 م)، والذي تُوقر ذكراه من قبل أولئك الذين يعتبرون أنه أُدين بحق بسبب إفصاحاته المتهورة.
تعليقات
إرسال تعليق