القائمة الرئيسية

الصفحات

الفَصْلُ الأَوَّلُ القَبَّالَة: المُصْطَلَحُ وَمَعَانِيْهِ

الفَصْلُ الأَوَّلُ: القَبَّالَة: المُصْطَلَحُ وَمَعَانِيْهِ

Kabbalah: The Term and Its Meanings

 

 

 


1- تُرجِمَ كتاب "شَعَارِي أُورَاه Sha'arei Orah" (أبواب النور)، وهو أحد أكثر الأعمال تأثيرًا في تقديم الرؤية القَبَّالِيَّة للعالم، إلى اللاتينية. ألف هذا الكتاب يوسف جيكاتيليا Joseph Gikatilla في القرن الثالث عشر.


  

يواجه الزائر لفلسطين القَبَّالَة عدة مرات يوميًا. فعند دخوله إلى فندق، يُجبر على مواجهة مكتب، خلفه لافتة كبيرة مكتوب عليها "قَبَّالَة"; وبالإنجليزية، تحمل نفس اللافتة كلمة "Reception" (استقبال). وعند شرائه شيئًا أو دفعه مقابل خدمة، يتلقى قطعة من الورق مكتوب عليها كلمة "قَبَّالَة" بحروف عبرية كبيرة. إذا كان هناك ترجمة إنجليزية على تلك الورقة، فإنها ستقرأ "Receipt" (إيصال). يظهر المصطلح في العديد من السياقات الأخرى. وإذا دُعي إلى استقبال، فإن المصطلح العبري لهذا الحدث هو "قبالات بانيم kabbalat panim" (بمعنى حرفي "استقبال الوجه"). وإذا أراد زيارة بنك أو مكتب حكومي، يجب عليه أولاً التحقق من "قبالات كاهال kabalat kahal"—ساعات استلام الجمهور، ما يعادل "open" في الإنجليزية. كل أستاذ، في أي تخصص كان، يشارك أسبوعيًا في ساعة قَبَّالَة، أي ساعة مكتبية، حيث يكون بابه مفتوحًا للطلاب. الفعل "قبل kbl" موجود في كل جملة تقريبًا في اللغة العبرية، ويعني ببساطة "أن يستقبل to receive". وبالنظر إلى سلوكهم، يبدو أن السكان الناطقين بالعبرية غير مدركين للعمق الروحي الذي تغمرهم به كلمة القَبَّالَة، ويعاملونها ككلمة بسيطة وعادية في لغتهم. أما في السياق الديني، فتُستخدم كلمة القَبَّالَة في الجملة الرئيسية التي توجد في العبارة الافتتاحية للمشناه Mishnah التلمودية "أڤوت Avot"([1])، وهي واحدة من أشهر النصوص العبرية الربانية rabbinic، والتي صِيغَت على الأرجح في القرن الثاني الميلادي. يصف الجزء الأول من هذا النص سلسلة التقليد traditional اليهودي في التعليم الديني والقانوني، الذي جرى نقله من جيل إلى جيل. المرحلة الأولى من هذا النقل، كما هو موصوف في هذا النص، هي: "موسى استقبل [قيبِل kibel] التوراة على [جبل] سيناء Sinai، ونقلها إلى يوشع Joshua، الذي نقلها إلى الشيوخ Elders [من بني إسرائيل]..."; ثم يستمر النص في وصف النقل الشفهي لهذا التقليد إلى القضاة، الأنبياء، والحكماء الأوائل في التلمود. استُخدِمَت هذه الفقرة لأكثر من ألفي عام لتأكيد صحة التقليد اليهودي ككل، مما يثبت أن الوحي في جبل سيناء هو نقطة البداية، ومشتقًا شرعيته من قداسة ذلك الحدث. كانت كلمة "توراة" في هذه الجملة تُفهم على أنها تعني كل شيء—الكتب المقدسة، الشريعة (هالاخاه halakhah)، قواعد الأخلاق، تفسير الآيات الكتابية (مدراش midrash)—كل شيء يتعلق بالحق الذي ينحدر من الأصل الإلهي. قال البعض أيضًا إن كل ما قد يبتكره عالم من أفكار دينية جديدة كان قد أعطاه الله لموسى: ما قد يبدو ملاحظة دينية مبتكرة وذكية كان معروفًا بالفعل لموسى، وتم إبلاغه من قبل الله في ذلك الوحي الشامل. ما "استقبله" موسى في تلك المناسبة هو القَبَّالَة—التقليد، الذي في هذا السياق اكتسب المعنى الخاص للتقليد المقدس ذو الأصل الإلهي، الذي جزء منه موجود في صورة مكتوبة (الكتب المقدسة)، وجزء آخر يُنقل شفهيًا orally من جيل إلى جيل بواسطة القادة الدينيين للشعب اليهودي.

 

مفاهيم مشابهة للتقليد توجد في المسيحية والإسلام. يُعتقد أن الكنيسة الكاثوليكية هي خزينة التقليد التي تمنح تعليماتها السلطة الإلهية. لدى العلماء المسلمين، بالإضافة إلى القرآن، كنز هائل من الحكمة الإلهية التي نُقِلت شفهيًا من محمد إلى صحابته وتابعيهم. في اللغة العبرية، يُسمى هذا التقليد "ماسُورِت masoret" (ما تم نقله) أو "قَبَّالَة" (ما تم استلامه). في هذه السياقات، تعتبر كلمة "قَبَّالَة" اختصارًا، تشير إلى الحقيقة الإلهية التي تلقاها موسى من الله؛ المصطلح لا يشير إلى نوع معين من المحتوى. إنه يصف الأصل وطريقة النقل، دون التأكيد على أي تخصص أو موضوع. جوهريًا، ينقل هذا المصطلح عكس ما يُفهم عادة عن التصوف mysticism، الذي يُعتبر عادة مرتبطًا بالرؤى والتجارب الشخصية الفردية. "القَبَّالَة" في المفردات الدينية العبرية تعني الحقيقة الدينية غير الفردية وغير التجريبية، التي تُستلم من خلال التقليد.

 

المصطلح في العصور الوسطى

كان هذا هو المعنى الديني الوحيد لمصطلح "القَبَّالَة" طوال ألف عام. في القرن الثالث عشر، أُضيفت له نسخة جديدة. حيث ادعت مجموعات من الباطنية esoterics والمتصوفة اليهود، الذين كانوا موجودين بشكل رئيسي في إسبانيا، وبروفانس، ومن ثم إيطاليا، أنهم يمتلكون تقليدًا سريًا يتعلق بمعنى الكتب المقدسة والنصوص القديمة الأخرى، معربين عن هذه النصوص على أنها تتعلق بعمليات ديناميكية داخل العوالم الإلهية. سنناقش أصولهم وتعاليمهم بالتفصيل في الفصول القادمة. قدموا أنفسهم كطوائف مختلفة عن أقرانهم من اليهود، واستخدموا عدة مصطلحات لوصف أنفسهم. من بين هذه المصطلحات كان هناك مصطلحات مدح الذات مثل "ماسكيليم maskilim" (الذين يعرفون) و"النقاد أو ناكدانيم nakdanim" (الذين يعرفون أسرار اللغة)، وغيرها. وكان من المصطلحات السائدة "يُودِّي هِن yodeey hen" — "الذين يعرفون الحكمة السرية"، أي "الحكمة المستترة hochmah nisteret". وكان مصطلح آخر من هذه المصطلحات هو "مكوباليم mekubalim"، الذي يعني "الذين يمتلكون تقليدًا سريًا"، بالإضافة إلى "القَبَّالَة" المعتادة التي هي معروفة للجميع. في العقود التالية، أصبح مصطلح "القَبَّالَة" و"القبَّاليون" هي التسمية السائدة لهذه المجموعات، على الرغم من أنها لم تحل تمامًا محل المسميات الأخرى. في هذا السياق، يعني مصطلح "القَبَّالَة" طبقة إضافية من التقليد، طبقة لا تحل محل شيء في التقليد الظاهري المعتاد، بل تضيف إليه بُعدًا باطنيًا. هذا التقليد السري، كما كان يعتقد ويدعى القبَّاليون، تلقاه موسى على جبل سيناء مباشرة من الله، وجرى نقله سرًا من جيل إلى جيل حتى العصر الحالي. وكان معظم هذا النقل شفهيًا، يُسرُّ به من الأب إلى الابن ومن المعلم إلى تلاميذه.

 

لذلك، فإن كلمة "القَبَّالَة" هي ادعاء من قبل الروحانيين اليهود منذ العصور الوسطى العليا وحتى يومنا هذا بأن لديهم تقليدًا كان سريًا لعدة قرون. هذه تسمية ذاتية تنكر الإبداع والابتكار. هؤلاء الأشخاص ببساطة كانوا قد تلقوا هذه الأسرار من الجيل السابق، أو كانوا قد عثروا على مخطوطات تحتوي على هذه التعاليم. في بعض الحالات الاستثنائية، ادعى بعض الأشخاص أنهم تعلموا هذه الأسرار بطريقة رؤيوية، بواسطة روح النبوة أو من خلال رفع أرواحهم إلى العالم الإلهي والمشاركة في مداولات الأكاديمية السماوية، أو من خلال لقاء مع رسول سماوي، مثل ملاك أو قوة إلهية أو، أحيانًا، نبي مثل إيليا Elijah، الذي كشف لهم هذه الأسرار. حتى في هذه الحالات، لا نجد القباليين يقولون إن ما كشف لهم هو جديد أو مبتكر. حتى في الأمثلة القليلة التي كانت فيها طريقة انتقال القَبَّالَة غير طبيعية، كان المحتوى والتعليمات تعتبر قديمة وتقليدية. من وجهة نظر القباليين، لا يمكن تصور أن روحانيًا من العصور الوسطى أو العصر الحديث يمكنه أن يمتلك معرفة لم تكن معروفة، وبشكل أعمق وأدق، لدى الملك سليمان، والنبي إشعياء، والحكماء التلموديين. الحقيقة الإلهية أبدية، وهي مشتركة بين كل من هو جدير بها، وكلما كان الشخص أقرب إلى مصدر التقليد، أي إلى الوحي على جبل سيناء، كانت المعرفة أكثر اكتمالًا وعمقًا. يمكن للمرء أن يتعلم المزيد فقط من خلال اكتشاف المزيد من الكتب القديمة، أو بدراسة المصادر القديمة بعمق أكبر. القَبَّالَة، وفقًا للقباليين، ليست جديدة أبدًا؛ قد تُكتشف أو تُتَلقَّى بشكل جديد، لكنها في جوهرها هي حقيقة إلهية قديمة تعود إلى آلاف السنين.

 

بالطبع، يرى العلماء وجهة نظر مغايرة. من وجهة نظر مؤرخي الأفكار ومؤرخي الأديان، القَبَّالَة هي ظاهرة جديدة ظهرت لأول مرة في جنوب أوروبا في العقود الأخيرة من القرن الثاني عشر. إنها نتاج تفكير أصيل وثمرة الإبداع الفردي لكل قبالي (على الرغم من أنهم عادة ما يعتمدون على مصادر قديمة كما سيُناقش بالتفصيل لاحقًا). بينما يُصر القباليون على أن القَبَّالَة هي حقيقة واحدة، حتى عندما يُعبَّر عنها بمصطلحات وأساليب مختلفة، يرى العلماء أن كل قبالي هو كاتب أصلي يعبر عن رؤيته الخاصة للعالم، التي قد تختلف كثيرًا أو قليلاً عن تلك الخاصة بقباليين آخرين. بالنسبة للمؤرخين، لا توجد "قَبَّالَة" مفردة. هناك قَبَّالَات من مدرسة بروفانس ومدرسة خيرونا، قَبَّالَة موسى دي ليون في إسبانيا في القرن الثالث عشر، وقَبَّالَة إسحاق لوريا في صفد في القرن السادس عشر. كتب القباليون المعاصرون أعمالًا موسعة لإظهار أن تعاليم لوريا Luria هي نفسها تعاليم الزوهار. يميل المؤرخون إلى التركيز على الفردية والتفرد في كتابات القبالي. في الوقت نفسه، من المشروع البحث عن بعض أوجه التشابه الأساسية التي توجد في معظم (لكن ليس في جميع) التعبيرات القبالية، والتي تميز هذا النظام التأديبي ككل. ومع ذلك، يجب أن يكون المرء حذرًا جدًا عند استخلاص مثل هذه الاستنتاجات حول القواسم المشتركة بين العديد من الأنظمة القبالية: في بعض الأحيان تكون التشابهات أكثر مظهرية منها حقيقية. الكتاب ينتمون إلى نفس الثقافة الدينية؛ يقرؤون نفس الكتب؛ يستخدمون نفس المصطلحات التي تُعتبر أصيلة وموثوقة؛ يقرؤون كتابات بعضهم البعض؛ وغالبًا ما يقلدون أساليب أسلافهم، لكن كتاباتهم تنقل معاني مختلفة في الواقع. الكتاب المعاصرون الذين يركزون على قدم القَبَّالَة وتوحيد أفكارها الأساسية، هم في الواقع يحاولون تبرير ودعم مزاعم القباليين بدلاً من دراسة أعمالهم بطريقة نقدية وتاريخية.

 

توسع معاني القَبَّالَة 

عادةً ما تحتفظ المصطلحات العبرية المرتبطة بالثقافة الدينية اليهودية بمعانيها الأصلية عند استخدامها في لغات وسياقات ثقافية أخرى. فمصطلحات مثل "الهالاخاه"، و"التلمود"، و"المدراش"، و"الميتزفوت mitzvot"، و"الحسيدية Hasidism"، وغيرها، قد قورنت بظواهر دينية في تقاليد أخرى، لكن لم يُنكر أو يُقلل من شأن سياقها اليهودي. غير أن مصير كلمة "قَبَّالَة" كان مختلفًا تمامًا. فعند النظر في معاني هذا المصطلح خلال الخمسمئة عام الماضية، يبدو أن العديد من استخداماته لم تكن — ولا تزال غير مقبولة — كجزء من الثقافة الدينية اليهودية. فلا يوجد "حسيدية مسيحية" ولا "تلمود إسلامي"، ومع ذلك فقد جرى الإصرار على ربط القَبَّالَة بظواهر روحية مسيحية وعالمية. لقد وُصفت القَبَّالَة بأنها غنوصية Gnosticism، سواء يهودية أو غير يهودية، حتى من قِبل أبرز الباحثين الذين درسوها، من هاينريش غريتز، الذي عارضها، إلى غيرشوم شوليم، الذي قدمها باعتبارها القوة الروحية الجوهرية داخل اليهودية. كما أن الكونت جوفاني بيكو ديلا ميراندولا وأتباعه في إيطاليا عصر النهضة رأوا فيها التعبير الأسمى عن السحر؛ وجوهر الفلسفة اليونانية، لا سيما فلسفة فيثاغورس؛ وبالأخص، المصدر الأهم للدين المسيحي. وليس من المستغرب أنه قد جرى تعريفها على أنها تصوف، سواء من قِبل المؤيدين أو المعارضين. لقد نُظر إلى القَبَّالَة على أنها تجسد تطلعات روحية عالمية لا تميز بين الأمم أو الثقافات أو الأديان. وقد أصبح استخدام صفة "قبَّالي" شائعًا في كل سياق ممكن وغير ممكن. فقد اكتشف باحث فنلندي حديث (سيمو باربولا) وجودها في الديانة الآشورية القديمة. كما أنها تُعد عنصرًا ذا مغزى، بل مركزيًا، في الرؤية الكونية للعصر الجديد. ورأى فيها كارل غوستاف يونغ نماذج بدئية عالمية للنفس البشرية. كما جرى تحديد تأثيراتها في كتابات الفلاسفة والمتصوفة والعلماء الأوروبيين في القرنين السابع عشر والثامن عشر، من جيوردانو برونو إلى غوتفريد لايبنتز. أما الناقد الأدبي في جامعة ييل، هارولد بلوم، فقد ساوى بينها وبين النقد الأدبي ووجد بصماتها في الأدب والفلسفة الحديثين. وفي نهاية المطاف، أصبحت القَبَّالَة تُستخدم كمرادف للتصوف والسحر، بل وحتى للروحانية بشكل عام.

 

بعض هذه المعاني قد تحتوي على عناصر مهمة من الحقيقة، ومع ذلك، ينبغي الإشارة إلى أنه لم يُعمَّم أي مصطلح أو مفهوم يهودي آخر بعد التوراة بالطريقة ذاتها. فقلّة قليلة من المفكرين غير اليهود يدّعون أن التلمود يحمل رسالة عالمية لجميع الثقافات والأديان؛ فمثل هذا الادعاء يكاد يكون مقتصرًا على القَبَّالَة وحدها بين مختلف جوانب التدين اليهودي. لقد اندمجت القَبَّالَة بعمق داخل الثقافة الأوروبية، لدرجة أن حتى المعاني السلبية والانتقاصية المرتبطة بها لم تقلل من جاذبيتها العالمية. فقد استُخدم المصطلح للإشارة إلى النوايا السرية والمظلمة والشريرة (كما هو الحال في كلمة "cabal" في الإنجليزية)، كما ارتبط بالخرافة واللاعقلانية، ومع ذلك لا يزال جزءًا ذا معنى في الثقافة الأوروبية. بل حتى عندما تُصوَّر على أنها شريرة أو ضارة، تبقى القَبَّالَة في نظر كثيرين جيدة جدًا بحيث لا تُترك لليهود وحدهم.

 

ازدادت معاني مصطلح "القَبَّالَة" في السياقات العبرية واليهودية منذ القرن السادس عشر، وكان من أبرز هذه التحولات اكتساب القَبَّالَة طابعًا سحريًا متزايد الأهمية. وقد ساهم في ذلك ازدهار الأدب الهاغيوغرافي hagiographic (السير القدسية) منذ القرن السادس عشر، حيث تناولت هذه النصوص مآثر العلماء والقادة اليهود، سواء من العصور الوسطى أو من الأزمنة المعاصرة. نُسجت أساطير حول شخصيات مثل موسى بن ميمون (الذي لم يكن قبَّاليًا) وناحمانيدس (الذي كان قباليًا)، تصوّرهم وهم يأتون بالمعجزات بفضل الأسرار السحرية للقَبَّالَة. حتى في يومنا هذا، يُوصَف بعض الأشخاص الذين يُطلب منهم الإرشاد الديني في فلسطين بأنهم "قباليون"، سواء من قبل أنفسهم أو من قبل الآخرين، لكن هذا المصطلح لم يعد يشير عادةً إلى تطلعات روحية أو معرفة بالعمليات السماوية، بل يُستخدم غالبًا للدلالة على القدرات السحرية. يُنظر إلى البركة التي يمنحها شخص يُعرَف بأنه "قبالي" على أنها ذات تأثير خاص بين العديد من اليهود الأرثوذكس. ويرجع ذلك جزئيًا إلى امتداد استخدام مصطلح "القَبَّالَة العملية" (קבלה מעשית, Kabbalah Ma’asit) – الذي يعني التقاليد السحرية – ليشمل مفهوم القَبَّالَة بوجه عام. وفي العبرية الإسرائيلية المعاصرة، يكاد يكون لمصطلحي "قبالي" و"ساحر" المعنى ذاته.

 

إذًا، ما هي القَبَّالَة حقًا؟ لا يوجد جواب قاطع لهذا السؤال. قلة من الناس ستقول إنها جوهر الديانة الآشورية، بينما سيقول كثيرون إنها جوهر المسيحية. يكاد الجميع يتفقون على أنها شكل من أشكال التصوف، فيما يراها آخرون تقليدًا سريًا مرتبطًا بالسحر. فالقاسم المشترك في الإجابات عن سؤال "ما هي القَبَّالَة؟" هو أنها شيء لدي عنه فكرة غامضة، لكن هناك شخصًا ما، في مكان ما، يعرف تمامًا ما تعنيه.

 

دور مؤرخ الأفكار ليس اكتشاف ما هو الشيء "حقيقةً"، بل تتبع تطور معاني المفهوم في سياقات تاريخية وثقافية مختلفة، محاولًا تحديد الاستخدامات والتعريفات العديدة التي اكتسبها عبر الزمن. ليس من مهمة المؤرخ أن يقرر ما إذا كان غيرشوم شالوم على صواب وسيمو باربولا على خطأ أو العكس. كما أنه ليس من دوره الجزم بأن يوهانس روخلين كان "حقًا" قباليًا، بينما كارل يونغ لم يكن كذلك. الحقيقة التاريخية هي أن مئات المفكرين، على مدار النصف الألفي الأخير، استخدموا هذا المصطلح بطرق مختلفة، بعيدًا عن السياق الثقافي الذي نشأت فيه القَبَّالَة. ينبغي أن يُروى هذا التطور بمنهج تاريخي، دون تفضيل معنى معين بوصفه "أصدق" من غيره.

 

القَبَّالَة والتصوف

حتى القرن التاسع عشر، لم يكن هناك مفهوم واضح "للمتصوفين" في السياقين اليهودي والإسلامي، إذ لم يكن مصطلح "التصوف mysticism" موجودًا في الثقافتين العبرية أو العربية، ولم يكن هناك مقابل دقيق لهذا المفهوم كما هو معروف في الفكر الغربي. نشأ مفهوم التصوف داخل المسيحية، حيث كان هناك العديد من المفكرين المسيحيين الذين وصفوا أنفسهم أو غيرهم بأنهم متصوفون. وبالتالي، فإن المعنى الحديث للمصطلح مستمد من كيفية فهم العلماء لما اعتبروه جوهر التجربة أو الفكرة الصوفية كما قد عُبِّرَ عنها في السياق المسيحي. على هذا الأساس، فإن المصطلحات المشتقة من الفكرة المركزية للتصوف، مثل "الطريق الصوفي" (via mystica) أو "الاتحاد الصوفي بالله" (unio mystica)، تُفهم وفقًا لاستخداماتها الأصلية داخل تطور الروحانية المسيحية. بطبيعة الحال، ستختلف التعريفات تبعًا لكيفية تحديد الباحث لما هو "صوفي" ضمن التقاليد المسيحية. وعند استخدام هذا المصطلح لوصف ظواهر دينية يهودية أو إسلامية، فإنه يكون مجرد مقارنة، تعكس تشابه هذه الظواهر مع ما جرى تصنيفه في السياق المسيحي على أنه تصوف. بعبارة أخرى، هو حكم قائم على التشابه، وليس على أصل المفهوم أو طبيعته الجوهرية في هذه التقاليد الدينية الأخرى.

 

في الدراسات الحديثة، هناك ميل متزايد إلى تعريف التصوف المسيحي من خلال موقفه من اللغة. في التقليد العام، يُعرَّف التصوف بأنه السعي – وأحيانًا تحقيق – علاقة مباشرة وتجريبية مع الله، بهدف الاتحاد بالذات الإلهية. ولكن هذا النهج التقليدي يعاني من مشكلتين مترابطتين: التداخل بين التصوف والدين: إذ إن العديد من الخصائص التي تُنسب إلى التصوف تنطبق أيضًا على الدين بشكل عام، مما يجعله يبدو كأنه "دين، ولكن بدرجة أعمق قليلًا". التمييز الكمي بدلًا من النوعي: فالتصور التقليدي للعلاقة بين الدين والتصوف يصورها على أنها فرق في الدرجة فقط، في حين أن معظم المتصوفين يرون أن تجاربهم تختلف نوعيًا عن التجارب الدينية العادية. أحد الفروق الجوهرية بين التصوف والتجربة الدينية التقليدية يكمن في موقف التصوف من قدرة اللغة على التعبير عن الحقيقة الدينية. وبينما يقوم الدين على الإيمان بالكلمات الإلهية للنصوص المقدسة والوحي، يميل المتصوفة إلى الاعتقاد بأن الحقيقة المطلقة تتجاوز إمكانيات التعبير اللغوي. اللغة، في جوهرها، تُبنى على إدراك حسي ومنطقي، لكنها في التصوف تُعتبر قاصرة عن إيصال الحقيقة العليا. ولهذا السبب، تتخذ اللغة عند المتصوفين طابعًا سلبيًا أو تعطيلًا لغويًا (apophatic language) – أي أنها لغة تنفي ذاتها، وتنكر قدرتها على إيصال الرسالة الحقيقية. أي أن الكلمات قد تُستخدم لتقديم إشارات غامضة ومبهمة عن الأسرار الإلهية، لكنها لا تُفهم بشكل حرفي. بهذا المعنى، يشكل التصوف ظاهرة روحية مختلفة عن الدين، حيث يعتمد الدين على الوحي والنصوص، بينما يرى التصوف أن الحقيقة لا يمكن التعبير عنها بأي شكل لغوي مباشر، مما يجعل العلاقة بينهما علاقة تناقض على مستوى المفهوم اللغوي والتواصل المعرفي.

 

إن تعريف التصوف من خلال نفيه للحسّ والعقل واللغة كوسائل لمعرفة الإله قد يكون وصفًا سلبيًا، لكنه يوفّر نقطة انطلاق لدراسة الخصائص الفريدة لكل ظاهرة تاريخية تُوصف بأنها "تصوف". فبينما يتشارك التصوف في كل الأديان في رفض الوسائل التقليدية للمعرفة، فإن تجلياته الإيجابية تختلف وفق السياقات التاريخية والثقافية والروحية الخاصة بكل تقليد.  

 

عندما طُبِّقَ مصطلح "التصوف" على الظواهر الروحية اليهودية والإسلامية، افترض العديد من الباحثين أن هناك تطابقًا بين التصوف المسيحي وهذه الظواهر، فصُنِّفَت القَبَّالَة باعتبارها "تصوفًا يهوديًا"، كما أصبح من الشائع وصف الأدبيات الصوفية بأنها "تصوف إسلامي". لكن هذه التعميمات في معظمها غير دقيقة، إذ أن الصوفية والقَبَّالَة نشأتا في سياقات ثقافية وروحية مختلفة جدًا عن التصوف المسيحي.  

 

يرتكز التصوف المسيحي على مفهوم الاتحاد بالمطلق (unio mystica) ويتسم برفض العالم الحسي، مع التركيز على التجربة الداخلية الفردية والرمزية الصامتة. أما القَبَّالَة فتقوم على مفهوم التقاليد السرية والسلاسل الروحية، حيث تلعب المعرفة الموروثة واللغة المقدسة دورًا محوريًا في الكشف عن أسرار الوجود الإلهي. ومن ناحية أخرى، فالصوفية قد ارتبطت تاريخيًا بممارسة الزهد والتقشف، كما أن اسمها نفسه مستمد من "الصوف" الذي كان يرتديه المتصوفة الأوائل، وهو رمز لموقفهم من العالم.  

 

عند البحث عن شخصيات يهودية تنسجم مع المعايير التقليدية للتصوف، نجد بعض الأمثلة بين أوساط القبَّاليين. ولكن هذا لا يعني أن كل القباليين متصوفة، بل يعني فقط أن بعض الأفراد الذين يميلون إلى تجاوز الحسّ والعقل واللغة قد وجدوا في القَبَّالَة فضاءً مناسبًا لتوجهاتهم الروحية. ففي حين كان العديد من القباليين مفسرين للكتب المقدسة، ووعّاظًا، ولاهوتيين، وحماةً للتقاليد الدينية، فإن بعضهم كان يحمل نزعات تصوفية. لذا، عندما تُطَبَّق المعايير المستمدة من التصوف المسيحي بشكل تماثلي أو تناظري أو قياسي (analogical) على السياق اليهودي، يمكننا تحديد بعض الشخصيات القبالية باعتبارها "متصوفة"، ولكن هذا لا يجعل من القَبَّالَة ككل حركة تصوفية، كما أن التصوف فيها له طابع لغوي وتأويلي يختلف عن النزعة التجريبية للتصوف المسيحي.



[1]- كتاب "Avot" (أو "Pirkei Avot" – פרקי אבות) هو أحد النصوص الأساسية في الأدب الأخلاقي اليهودي، ويعني اسمه "فصول الآباء" أو "أقوال الآباء". هو جزء من المشناه (التقنين الأساسي للتقاليد الشفوية اليهودية)، وتحديدًا من سفر نزيقين (Nezikin)، الذي يتناول القوانين المدنية والقضائية.

 

تعليقات

مواضيع المقالة