زيغ وزلل الروحية
(في نقد التيار الروحي الحديث بجميع فروعه)
المستشرق والمؤدب الجليل
رينيه غينون، عبد الواحد يحيى
L’Erreur Spirite
René Guénon
éd. Éditions Traditionnelles, 1952
تمهيد
حين نتناول مسألة الروحانية (السبيريتية)، نحرص منذ البدء على أن نُبيِّن، بأوضح عبارة ممكنة، الروح التي نعالج بها هذا الموضوع. لقد خُصِّصت لهذه المسألة كتب كثيرة، وتزايدت أعدادها في الآونة الأخيرة أكثر من أي وقت مضى؛ ومع ذلك، فإننا لا نعتقد أن ما قيل فيها قد استوفى ما ينبغي أن يُقال، ولا أن هذا العمل الذي بين أيدينا سيكون تكرارًا لما سبقه من مؤلفات.
إننا لا نروم، على أي حال، أن نقدِّم عرضًا شاملًا لكل جوانب هذه القضية، إذ من شأن ذلك أن يضطرنا إلى إعادة أمور يمكن للقارئ أن يجدها بسهولة في مصادر أخرى، الأمر الذي يجعل من هذه المهمة عبئًا جسيمًا قليل الجدوى. ولذا، فإننا نرى من الأجدى أن نقتصر على النقاط التي ظلت، حتى الآن، محل معالجة قاصرة أو ناقصة.
ولهذا، فإن أول ما سنسعى إليه هو تبديد ما لاحظناه مرارًا من التباسات وسوء فهم في هذا الباب من الفكر، لنُعقِب بعد ذلك بالكشف عن الأوهام الكبرى التي تُشكِّل أساس ما يُسمى بالعقيدة السبيريتية—إن جاز لنا أن نُطلق عليها اسم "عقيدة" أصلاً.
يرى المؤلف أن تناول مسألة الروحانية (السبيريتية) من زاوية تاريخية شاملة ليس بالأمر السهل، بل إنه – في نظره – قليل الجدوى أيضاً. ذلك أن كتابة التاريخ تكون ممكنة حين يكون الحديث عن طائفة واضحة المعالم، متماسكة البناء، أو ذات تنظيم معيّن يُمكن تتبّع تطوّره. أما الروحانية، فليست على هذا النحو.
فالسبيريتية منذ بداياتها لم تكن وحدة متجانسة، بل نشأت منقسمة إلى مدارس متعدّدة، ازدادت تفرّعًا وتنوعًا بمرور الوقت، وتشكلت منها جماعات لا حصر لها، تعمل غالبًا باستقلال، وأحيانًا في تنافسٍ مع بعضها البعض. وحتى لو أمكن حصر هذه المدارس والجماعات كافة، فإن مجرد تعدادها سيكون عملاً مملاً لا يعوّضه نفع معرفي ذو قيمة.
ويُضيف الكاتب أن الانتماء إلى الروحانية لا يقتضي بالضرورة الانضمام إلى أي جماعة أو تنظيم، بل يكفي الإيمان ببعض الأفكار النظرية المرتبطة غالبًا بممارسات معيّنة. فهناك كثيرون يمارسون الروحانية فرادى أو في مجموعات صغيرة دون ارتباط بأي جهة رسمية، مما يجعل من الصعب على المؤرّخ أن يلاحق هذا الجانب أو يُحيط به.
ومن هذه الزاوية، تختلف الروحانية كثيرًا عن الثيوصوفية وسائر المدارس الباطنية الأخرى، التي تتميّز عمومًا ببُنية تنظيمية أكثر وضوحًا. صحيح أن هذا الاختلاف ليس هو الأهم من بين الفروق التي تفصل بين الروحانية وهذه المدارس، إلا أنه يعبّر عن اختلافات أعمق في الجوهر سنتناولها لاحقًا.
وبناءً على ذلك، يوضح الكاتب أنه لن يخصّص فصلاً منفصلاً للتاريخ، بل لن يستعرض الجوانب التاريخية إلا بقدر ما تُسهم في توضيح النقاط الفكرية التي يعرضها في هذا العمل.
مسألة أخرى لا ننوي الخوض فيها باستقصاء كامل، هي بحث الظواهر التي يستند إليها أتباع الروحانية (السبيريتية) لتدعيم نظريّاتهم، والتي يقرّ بعض غيرهم بوقوعها أيضًا، وإنْ فسّروها على نحو مغاير تمامًا.
سنعرض لموقفنا من هذه الظواهر بالقدر الذي يكفي لإيضاح رأينا، لكن لا نرى فائدة في العودة إلى وصفها أو تفصيلها، إذ قد أشبعها المجربون بحثًا وسردًا في مؤلفاتهم، فلا حاجة إلى تكرار ذلك. وإذ لا تمثّل هذه الظواهر جوهر اهتمامنا، فإننا نرى الأجدر، بدلًا من إعادة وصفها، أن نلفت النظر إلى إمكان وجود تفسيرات لها غابت عن أذهان أولئك المجربين، سواء أكانوا من الروحانيين أم لا.
ولا شك أن من المهم التنبيه إلى أن الروحانية، في بنائها العام، لا تفصل بين النظرية والتجربة، ونحن بدورنا لا نعتزم الفصل التام بينهما في عرضنا هذا. غير أننا نؤكّد أن الظواهر التي يُحتجّ بها لتسويغ العقائد الروحانية، لا تعدو كونها أساسًا وهميًا لا يصمد أمام النظر الفاحص. كما أن هذه الظواهر، متى جُرّدت من التأويلات العقائدية التي أُلصقت بها، تفقد كل صلة لها بما يُسمى بالروحانية.
ومع ذلك، لا يفوتنا أن نشير إلى أمر جوهري: لو كانت الروحانية نظريةً صرفًا، دون اقترانها بتجارب عملية، لكانت أقل خطرًا بكثير، ولما استقطبت هذا القدر من الاهتمام أو الإقبال من عامة الناس. ومن هنا فإننا سنُعلي من شأن هذا الجانب الخطر فيها، لأنه – في نظرنا – السبب الأهم والمباشر الذي دفعنا إلى تأليف هذا الكتاب.
لقد عبّرنا في مواضع أخرى عن رأينا في مدى الضرر الذي تسبّبت فيه، وما تزال، تلك النظريات المتنوّعة التي لم يمضِ على ظهورها أكثر من قرن، والتي يمكن جمعها تحت مسمّى عام هو "الروحانية الجديدة" أو النيُو-سبيريتية.
لا شك أن في زماننا كثيرًا من الأباطيل والمفاهيم المنحرفة التي تستحق التفنيد والمجابهة، لكن ما يميّز هذه التيارات "الروحانية الجديدة" هو طابعها الخاص الذي يجعلها، في نظرنا، أكثر ضررًا من غيرها – أو على الأقل مؤذية بطريقة مختلفة – مقارنةً بتلك النظريات التي تتجلّى في صورة فلسفية أو علمية محضة.
فالحقيقة أن هذه الاتجاهات تنتمي إلى ما يمكن تسميته بـ"الدين الزائف"؛ وهي التسمية ذاتها التي سبق أن أطلقناها على التيارات الثيوصوفية، ويمكننا إطلاقها كذلك على الروحانية (السبيريتية).
ورغم أن السبيريتية تتلبّس أحيانًا ثوب "العلم" بادّعائها الاعتماد على التجربة كمرتكز بل وكينبوع لعقيدتها، فإنها في جوهرها لا تمثّل إلا انحرافًا عن الروح الديني الأصيل، متماشية في ذلك مع النزعة "العلموية" التي طغت على أذهان كثير من أبناء العصر الحديث.
والأخطر من هذا أن السبيريتية تُعدّ أكثر هذه العقائد انتشارًا وشعبية، ولا غرابة في ذلك، لأنها أبسطها تركيبًا – بل قد نقول أ粗ها تعبيرًا – فهي سهلة التناول حتى للعقول المحدودة، والظواهر التي تتعلّق بها – أو على الأقل أبسطها – يمكن لأي شخص الحصول عليها أو ادّعاؤها.
ولهذا، فإن عدد من يقعون ضحايا لهذا الاتجاه هو الأكبر، وقد ازدادت آثار هذه الظاهرة سوءًا في السنوات الأخيرة، بسبب ما سبّبته الأحداث العصيبة من اضطراب في نفوس الناس.
وعندما نتحدّث عن "ضحايا" و"دمار" هنا، فلسنا نلجأ إلى المجاز؛ فهذه التيارات – والسبيريتية في مقدّمتها – تؤدي فعلًا إلى اختلالات نفسية وروحية خطيرة، قد تصل إلى حدود لا رجعة فيها، في صفوف أناس لو لم يُصادفوا هذه العقائد في طريقهم، لربما عاشوا حياة طبيعية متزنة.
من هنا ينبع الخطر الحقيقي، وهو خطر لا يمكن الاستهانة به، لا سيّما في ظل الظروف الحالية التي تجعل التصدي له أمرًا ملحًا وضروريًا. وهذه الاعتبارات كلها تزيد من إصرارنا على القيام بمهمتنا الأوسع: الدفاع عن الحقيقة في وجه كل ألوان الباطل والانحراف.
ينبغي أن نُبيّن في هذا الموضع أن غايتنا ليست مجرّد نقد سلبي محض، فالنقد – وإن كان مبررًا ومسوغًا بما عرضناه من أسباب – لا بد أن يكون مدخلًا لعرض بعض الحقائق في الوقت نفسه.
وحتى وإن اضطررنا في مواضع كثيرة إلى الاكتفاء بإشارات موجزة حفاظًا على الإيجاز الذي نرغب في الالتزام به، فإننا نعتقد مع ذلك أنه يمكن من خلالها الإلماح إلى قضايا غير مطروقة، قد تفتح أمام القارئ المتبصّر آفاقًا جديدة للبحث والتأمل.
ونحرص هنا على التنبيه إلى أن زاويتنا في النظر تختلف اختلافًا كبيرًا – في كثير من الجوانب – عن تلك التي يتبناها معظم الكُتّاب الذين تناولوا الروحانية، سواءً أكانوا من مؤيّديها أم من ناقديها.
فنحن ننطلق في تناولنا هذا من معطيات الميتافيزيقا الخالصة، كما ورثناها عن التعاليم الشرقية التقليدية. ونرى أن هذه هي السبيل الوحيدة لدحض بعض الأخطاء من جذورها، على خلاف ما يفعله كثيرون حين يناقشون الخطأ من داخله وعلى أرضه، فيقعون أسرى لحدوده ومصطلحاته.
ونحن نعلم جيدًا أن الجدل على أسس فلسفية – بل وحتى على أسس علمية – يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية من غير أن يثمر وضوحًا، وأن من يدخل هذا النوع من السجال قد يُسهم، من حيث لا يدري، في تعزيز موقف خصمه، خاصة إذا كان هذا الأخير بارعًا في تحويل وجهة النقاش والانزلاق به إلى مسالك ملتوية.
لذلك نحن على قناعة راسخة بضرورة وجود بوصلة مبدئية، أو توجّه عقائدي ثابت، لا ينبغي العدول عنه، لأنه وحده الكفيل بتمكين الباحث من التعامل الآمن مع قضايا شديدة الخطورة والتعقيد. وهذه البوصلة، من وجهة نظرنا، لا يمكن أن تكون إلا ميتافيزيقية في جوهرها – على النحو الذي سبق لنا تحديد معناه.
ومن البديهي، رغم ما تقدم، أن هذا الكتاب لا ينبغي أن يُعدّ كتابًا ميتافيزيقيًا صرفًا في جميع أجزائه؛ غير أننا لا نتردد في القول إن الروح التي تسري فيه أقرب إلى الميتافيزيقا الأصيلة من كثير من الكتابات التي تُصنَّف زورًا تحت هذا المسمّى.
ونطمئن القارئ هنا: إن ما نعنيه بالميتافيزيقا لا علاقة له بتلك الترهات الفلسفية المجرّدة، ولا بالغموض المُتعمَّد الذي كثيرًا ما تتّسم به الكتابات الفلسفية، بل إن هذا البحث بأسره سيبتعد عن الجفاف النظري الذي يطبع الطرح العقائدي الخالص.
ما نريد قوله بوضوح هو أننا نتحرّك ضمن إطار مبادئ ثابتة، من استوعبها علم يقينًا أنها مبادئ لا تقبل التشكيك، ومن دونها يتخبّط الإنسان في دهاليز "العوالم السفلية"، كما رأينا مرارًا في نماذج مؤسفة لعدد من المغامرين الجريئين، الذين لم تُغنِ عنهم خلفياتهم العلمية أو الفلسفية شيئًا.
ومع كل ما تقدّم، لا يعني كلامنا أننا نستخفّ بجهود أولئك الذين نظروا إلى الأمور من زوايا تختلف عن زاويتنا؛ بل على العكس، نحن نرى أن هذه الزوايا، ما دامت شرعية وصحيحة في ذاتها، فإنها ليست متعارضة بطبيعتها، بل يمكنها – إذا أُدركت في حدودها – أن تتكامل وتنسجم فيما بينها.
غير أنّ هذا لا يُغني عن ضرورة التمييز بين المستويات المختلفة، ولا عن مراعاة التدرج والتراتبية في مراتب المعرفة: فكل وجهة نظر جزئية لا تكون ذات قيمة إلا داخل المجال الذي تنتمي إليه، ويجب الحذر من تجاوزها إلى ميادين أخرى لا تصلح لها، إذ بذلك تفقد مصداقيتها وتصبح عرضة للخطأ؛ وهذا بالذات ما يُغفله كثيرٌ من المتخصصين في العلوم التجريبية.
أما الذين ينطلقون من زاوية دينية، فلديهم ميزة ثمينة لا تُقدّر بثمن، وهي التزامهم ببنية عقدية راسخة كتلك التي أشرنا إليها آنفًا، وهي تكفل لهم عدم الانزلاق، وإن كانت – بطبيعة طابعها الخاص – لا يمكن أن تُقبل قبولًا عامًا، ولا أن تفي بالإجابة الكافية على جميع الإشكالات المطروحة، خاصة في عصرنا هذا.
ومع ذلك، وبالنظر إلى ما يشهده عالم اليوم من تحوّلات واضطرابات، فإننا على يقين بأن الجهود المبذولة لمواجهة التيارات المُفسدة لا يمكن أن تُعدّ مفرطة أبدًا، بل كل عمل يُؤدى في هذا الاتجاه، متى كان قائماً على أسس صحيحة، ستكون له فائدته، وقد يكون هو الأقدر – من غيره – على معالجة جانب معيّن من هذه الظواهر الخطرة.
ولمن كان له سمع عقليٌ وبصيرة، نختم بالقول: لن يكون هناك أبدًا إفراط في إشاعة النور، ما دمنا لا نزال نعيش تحت ظلال ما يمكن تسميته بـ"القمر المظلم" وسُحُبِه الدخانية، التي لا تزول إلا بإشراق الحقيقة الكاملة.
خلاصة حديث رينيه غينون عن الميتافيزيقا في هذا التمهيد
المرجعية الأساسية في نقده للروحانية الحديثة:
ينطلق غينون من الميتافيزيقا الخالصة بوصفها المرجعية العليا والأساس الصلب في التقييم والنقد.
يرى أنها أرقى من المناهج الفلسفية والعلمية، وأكثر قدرة على كشف الزيف والانحراف في التيارات الروحية المعاصرة.
الميتافيزيقا لديه ليست فلسفة نظرية:
يُميز بين الميتافيزيقا التي يتبنّاها وبين ما يُسمّيه "الترهات الفلسفية".
يؤكد أن الميتافيزيقا التي يتحدث عنها لا علاقة لها بالتجريد الفلسفي الممل أو بالغموض المقصود، بل هي مبادئ يقينية وعملية في آنٍ واحد.
الميتافيزيقا وسيلة ضرورية لحماية العقل والروح:
يعتبر أن من لا يتسلّح برؤية ميتافيزيقية صحيحة يخاطر بالتورط في متاهات العالم السفلي، كما حدث مع كثير من الباحثين الذين انهاروا رغم مؤهلاتهم العلمية والفلسفية.
الميتافيزيقا أداة نقد لا غنى عنها:
يرى أن من يريد أن يُفنّد تيارات باطلة مثل الروحانية الحديثة (ومنها الروحية "السبيريتية") لا يستطيع أن يفعل ذلك بفعالية من داخل تلك التيارات، بل لا بد له من الارتكاز إلى أفق أعلى.
الفرق بين الميتافيزيقا والدين:
يُقدّر البنية العقدية الدينية بوصفها وقايةً من الضياع، لكنه يرى أنها قد لا تكون كافية للإجابة على كل الإشكاليات المطروحة، على خلاف الميتافيزيقا التي – بحسبه – تملك شمولية أوسع.
الميتافيزيقا ليست دائمًا موضوعًا ظاهرًا في الكتاب:
يعترف أن كتابه لا يمكن اعتباره ميتافيزيقيًا صرفًا، لكن يصرّ على أن روحه وأُسّه يقومان على الميتافيزيقا الصحيحة أكثر من كثير من المؤلفات التي تدّعي هذا الوصف.
تعليقات
إرسال تعليق