القائمة الرئيسية

الصفحات

الفصل الأول: نظرية أبو العافية اللُّغويَّة

الفصل الأول: نظرية أبو العافية اللُّغويَّة

 

أ – اللغة: مجالٌ للتَّدبُّرِ([1])

يقترح أبو العافية منهجًا للوصول إلى الحكمة يتجاوز التأمل الفلسفي التقليدي، ويعتمد أساسًا على اللغة أو هو منهج لغوي بالأساس. فهو يرى أن اللغة، بما تحتويه من غنى وتعقيد، ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل كونٌ قائم بذاته، يوفر مجالًا أعمق وأرقى للتأمل والتدبر من العالم الطبيعي. فاللغة، وفقًا لأبو العافية، تتضمن بنية تكشف عن الشكل الحقيقي للواقع؛ وبالتالي فإن فهم مكونات اللغة يعادل وربما يتفوق على معرفة الطبيعة. بمعنى آخر، أن دراسة اللغة ليست مجرد تحليل للأصوات أو المعاني الظاهرة، بل هي رحلة روحية نحو اكتشاف البنية الأساسية للواقع. اللغة هنا تصبح نافذة لفهم الكون بشكل أكثر عمقًا مما يمكن للطبيعة أن تقدمه.

يرى أبو العافية أن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي في حد ذاتها عالم متكامل ومعقد. هذا العالم اللغوي، بحسب رأيه، يوفر لنا وسيلة أعمق وأشمل لفهم الحقيقة الكونية مقارنة بدراسة العالم المادي من حولنا. يرفض أبو العافية النظر إلى اللغة على أنها مجرد مجموعة من الرموز التي تمثل الأشياء والأفكار. بل يرى أنها نظام معقد ومترابط، له قواعده وبناه الخاصة التي تشبه بنية الكون نفسه. ويعتقد أن اللغة لا تعكس الواقع الخارجي بشكل سطحي فحسب، بل تكشف عن بنيته الأساسية وعمقه. فالكلمات والجمل ليست مجرد أصوات أو حروف، بل هي عناصر تحمل في طياتها معانٍ عميقة تعكس طبيعة الوجود. وأن اللغة هي الأداة الأساسية التي نستخدمها للتفكير والتأمل. فهي تسمح لنا بتحليل المفاهيم المجردة وبناء نظريات معقدة. وأن اللغة هي البوابة التي تؤدي بنا إلى فهم الحقيقة الكونية. فمن خلال دراسة اللغة، يمكننا الوصول إلى معرفة أعمق وأشمل عن الكون والوجود. أي أن هناك علاقة وثيقة بين معرفة اللغة ومعرفة الواقع. فمن خلال فهم بنية اللغة، يمكننا فهم بنية الواقع. وبذلك فإن معرفة اللغة قد تكون أكثر أهمية من معرفة العالم الطبيعي، لأنها توفر لنا فهمًا أعمق وأشمل للكون. يريد أبو العافية أن يقول لنا أن اللغة هي أكثر من مجرد أداة للتواصل. إنها مفتاح لفهم الحقيقة الكونية، وهي وسيلة للوصول إلى معرفة أعمق وأشمل عن أنفسنا والعالم من حولنا.

وبعبارة أخرى، يرى أبو العافية أن اللغة ليست مجرد أداة للتحدث، بل هي عالم كامل بذاته. هذا العالم اللغوي، حسب رأيه، أغنى وأعمق من العالم المادي الذي نعيش فيه، وهو الطريق الأفضل لفهم الحقيقة. فالكلمات والجمل ليست مجرد أصوات وحروف، بل هي بوابات تؤدي بنا إلى فهم أعمق لطبيعة الكون والوجود. ويعتقد أن اللغة لا تعكس العالم الخارجي فقط، بل تكشف عن بنيته الأساسية. فبدراسة اللغة، يمكننا فهم المفاهيم المجردة، وبناء نظريات معقدة، والوصول إلى معرفة لا يمكن الحصول عليها من خلال الحواس وحدها. لذلك، يرى أن معرفة اللغة هي مفتاح لفهم كل شيء حولنا، وهي أداة أكثر قوة من أي أداة أخرى في البحث عن الحقيقة. ويرى أن الغوص في أعماق اللغة يكشف لنا عن حقيقة الأشياء بشكل أعمق وأشمل من أي دراسة أخرى. فكما أن الكون له قوانينه ونظامه، فإن اللغة لها قواعدها وبنياتها التي تكشف لنا عن بنية الكون نفسه. لذلك، يعتبر أن دراسة اللغة هي طريق مختصر للوصول إلى الحكمة والمعرفة.

وكتب يقول بهذا الشأن ما نصُّه:

«وكما أن الطبيعة تُعلم الفيلسوف بسهولة عن حقيقة الأشياء، فإن الحروف العبرية تُعلمنا عن حقيقة الوجود بشكل أكثر بساطة. وتكشف لنا التقاليد العبرية عن أسرار الله المقدسة وتدبيره وتأثيره على العالم بطريقة واضحة ومباشرة. وهذا النوع من المعرفة يتجاوز ما يمكن للفلاسفة الوصول إليه حتى بعد سنوات طويلة من البحث والتعلم، لأنه يتعلق بأسماء الله المقدسة التي ستتعلمها([2])

نُلاحظ في هذا النص أنَّ أبو العافية يقارن بين الطبيعة التي تقدم للفيلسوف وسيلة لفهم طبيعة الأشياء وبين الحروف العبرية التي توفر وسيلة مشابهة، ولكن بطريقة أسهل وأسرع. وهذا يسلط الضوء على قوة اللغة العبرية في كشف الحقائق. ويشير إلى أن هناك تقاليد توفر إرشادات بسيطة حول الصفات الإلهية ورعايته وتأثيراته. هذا يعني أن الفهم المستند إلى اللغة العبرية يسهم في فهم أعمق للأُلوهية. ويؤكد أن الفهم الناتج عن دراسة الأسماء الإلهية يتجاوز ما يمكن للفلاسفة الوصول إليه بعد جهود كبيرة. هذا يدل على أن الحروف العبرية والأسماء المقدسة تمتلك معرفة أعمق من الفلسفة. ويؤكد بأنَّ هناك بعدًا معرفيًا يتجاوز الفهم الفلسفي التقليدي، ويتجلى من خلال اللغة العبرية والأسماء المقدسة. فاللغة هنا ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي مفتاح لفهم الحقائق الروحية العميقة التي لا يمكن للفلاسفة الوصول إليها بسهولة. وبعبارة أخرى، فهو يرى أن الحروف العبرية، مثل الواقع الطبيعي، تكشف لنا عن حقيقة الأشياء بسهولة أكبر. كما أن التقاليد العبرية تعلمنا عن صفات الله المقدسة وتدبيره وتأثيره على العالم بطريقة بسيطة ومباشرة. وهذا النوع من المعرفة يتجاوز ما يمكن للفلاسفة الوصول إليه حتى بعد سنوات طويلة من الجهد والتعلم. وإجمالًا فهو يرى:

·       أن الحروف العبرية ليست مجرد رموز للكلمات، بل هي رموز تحمل في طياتها معانٍ عميقة تعكس حقيقة الوجود.

·       وأن التقاليد العبرية هي مصدر مهم للمعرفة عن الله والكون، حيث تقدم لنا معلومات بسيطة وواضحة عن صفات الله وتدبيره وتأثيره على العالم.

·       وأن المعرفة التي يمكن اكتسابها من خلال دراسة الحروف العبرية والتقاليد العبرية تتجاوز ما يمكن للفلاسفة الوصول إليه، لأنها تتعلق بأسماء الله المقدسة.

يرى أبو العافية أن كشف بنية أسماء الله المقدسة يكشف أيضاً عن بنية قوانين الطبيعة. وأن هناك علاقة وثيقة بين أسماء الله المقدسة وقوانين الطبيعة. فمن خلال فهم أسماء الله، يمكننا فهم قوانين الكون. وأن الحروف العبرية ليست مجرد رموز للكلمات، بل هي رموز تحمل في طياتها معانٍ عميقة تعكس حقيقة الوجود. بعبارة أخرى، هو يرى أنَّ فهم بنية الأسماء الإلهية يؤدي إلى فهم أعمق للطبيعة نفسها. وهذا يعني أن القوانين الكونية والوجودية مخفية في اللغة، وتحديدًا في الأسماء الإلهية. ويقدم مثالًا على المعلومات التي يمكن الحصول عليها من خلال اللغة العبرية في العلاقة بين الحروف "ב-כ-ל-מ" (BKLM - بكلم) والأعضاء الحيوية الأربعة في جسم الإنسان. وهذا يوضح كيف يربط أبو العافية بين اللغة والحياة البيولوجية، مُظهِرًا أن هناك توافقًا عميقًا بين الحروف والنظام الطبيعي.  فهو يربط بين اللغة العبرية والنظام الكوني بأسره، حيث يرى أن الحروف والأسماء ليست مجرد رموز اعتباطية، بل هي تجسيد لبنية الكون والنظام الطبيعي. الحروف العبرية، بما فيها "BKLM"، ترتبط مباشرة بأعضاء الجسم، ما يعكس التوافق بين اللغة والطبيعة البشرية. هذا الطرح يُظهر فلسفة لغوية وروحية عميقة، حيث اللغة تتجاوز حدودها الوظيفية لتصبح جزءًا من النظام الكوني. وقد ذكر المثال في رسالته "וזאת ליהודה" (وزات ليهوده - وهذا ليهوذا)، ففي هذه الرسالة، يقدم أبو العافية هذه الأفكار بشكل مفصل، حيث يناقش كيف أن حروفًا معينة ترتبط بأعضاء جسم الإنسان، فكتب يقول:

«القلبُ يفهم. وإنَّ الحرف الأخير في كلمة "מוח موخ" (مُخ - الدماغ) هو الحرف الأول في كلمة "חכמה خوخمه" (حِكمة - الحِكمة)؛ وبنفس الطريقة، فإنَّ الحرف الأخير في كلمة "לב ليڤ" (لُب - القلب) هو الحرف الأول من كلمة "בינה بِنَاه" (بيِّنة/البيان - الفهم)؛ والحرف الأخير من كلمة "כבד كَڤِد" (الكبد) هو الحرف الأول من كلمة "דעת دَعَت([3])" (ذاعت - المعرفة/العقل). وتسكن ثلاث نفوس في هذه الأعضاء الثلاثة. فالنفس النباتية تسكن في الكبد، والنفس الحيوانية تسكن في القلب، والنفس العقلية تسكن في الدماغ. ويظهر تلميح إلى هذا في الآية "כלם כאחד לך ישלשו كلم كأحد لكه يشلشو" (كلهم كواحد يقدسونك). وهذه هي الجذور الثلاثة للجسم... وعند إضافة الجذر الرابع "בזים بزيم" (بزيم - الخصيتين)، تتشكل كلمة "ב-כ-ל-מ - بكلم" (BKLM). وهكذا، تعمل هذه الحروف كأول حروف من كل كلمة في اللغة المقدسة. وهذا هو التقليد الذي تلقيناه من الربي يهوذا البار من ريغنسبورغ([4]).

يقدم أبو العافية في النص أعلاه تحليلًا للغة العبرية يُظهر من خلاله أن الحروف الأخيرة لبعض الكلمات تتصل بالحروف الأولى لكلمات أخرى تشير إلى مفاهيم روحانية ومعرفية. ويستعرض موضوع الجذور الأربعة، فيقول أنَّ الكبد يمثل النفس النباتية، وهي المرتبطة بالوظائف الحيوية الأساسية. والقلب يمثل النفس الحيوانية، والتي ترتبط بالمشاعر والحياة العاطفية. والدماغ يمثل النفس العقلية، المرتبطة بالحكمة والعقل. وعند إضافة الجذر الرابع، وهو BZYM (الخصيتين)، تتشكل كلمة BKLM (ב-כ-ל-מ). وهذا الربط يوضح العلاقة العميقة بين الحروف العبرية والأعضاء البشرية برأيه. وبعبارة أخرى، فإنَّ أبو العافية يربط بين أعضاء الجسم والحروف العبرية بطريقة تظهر أن اللغة العبرية ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي مفتاح لفهم الطبيعة البشرية والروحانية. فالأعضاء الثلاثة الأساسية تمثل ثلاثة مستويات من النفوس، وكل مستوى مرتبط بمفهوم معرفي أو روحاني معين (الحكمة، الفهم، المعرفة). وعند إضافة الجذر الرابع (الخصيتين)، يشير ذلك إلى الاكتمال الجسدي والروحاني. ويذكر أن هذا الفهم يأتي من تقليد قديم نقله عن الربي يهوذا البار، مما يضفي على هذه الفكرة شرعية روحانية وتاريخية.

هنا نجد توافقًا مُتطابقًا: فالأعضاء الحيوية الأربعة – الدماغ، القلب، الكبد، والخصيتان – تتوافق حروفها الأولى مع الحروف "ב-כ-ל-מ" (بكلم)، التي تمثل أحرف الجر في اللغة العبرية، وكذلك مع الوظائف الرئيسية للجسم. لذلك، تُدعى هذه الأعضاء "رشيم - الرُّؤوس". وبالإضافة إلى ذلك، في ثلاثة من هذه الأعضاء الأربعة هناك توافقًا آخر يُشير إلى وظائفها المعرفية: الحكمة، الفهم، والمعرفة. بمعنى آخر أنها تشير إلى وظائف معرفية أعمق لهذه الأعضاء: الحكمة (الدماغ)، الفهم (القلب)، والمعرفة (الكبد). هذه الوظائف تتجاوز الجانب البيولوجي لتلامس البعد الروحاني والمعرفي. إن حقيقة أن شكل اللغة العبرية يمكن أن يكشف حقائق توصلت إليها العلوم الطبيعية عبر الملاحظة تشير، في نظر أبو العافية، إلى الخصوصية الفريدة لهذه اللغة. وقد كتب في سفر إيمري شيفر يقول ما معناه:

أنَّ هذه الحروف (ב-כ-ל-מ بكلم) هي اختصار للأعضاء الأربعة الرئيسية في الجسم: الخصيتين (בזים)، الكبد (כבד)، القلب (לב)، والدماغ (מוח). وأن هذه الأعضاء ليست فقط المسؤولة عن الوظائف الحيوية، بل لها أيضًا معنى سري وروحي، كونها تأتي في طليعة جميع الوظائف الجسدية. وإنَّ المعرفة المتعلقة بهذه الأعضاء والعلاقة بينها وبين الحروف مستمدة من تقليد نبوي نُقل عن الله إلى موسى. وهذا يعني أن هذه الأسرار ليست مجرد اجتهاد بشري، بل هي حقائق إلهية. وأن العالم بأسره خُلق من خلال حروف اللغة المقدسة، وأن جميع اللغات الأخرى مقارنةً بها ليست إلَّا كقرد، في إشارة إلى أنَّها لا ترتقي إلى هذه المرتبة الروحية والمعرفية.

إن أسرار اللغة هي الجوهر الأساسي لتقليد الكابالا النبوية. هذه الأسرار ليست مجرد معرفة لغوية، بل هي متعلقة بالفهم الروحي العميق للكون والحروف العبرية. ففي كتاب (Sefer Hayyei ha-'Olam ha'Ba)، يحدد أبو العافية المبادئ الثلاثة الرئيسية للكابالا:

·       أشكال الحروف المكتوبة: الشكل الخارجي لكل حرف له أهمية روحية ومعرفية، ويعكس قوى خفية تتجاوز الظاهر.

·       تركيبات الحروف: الطريقة التي تتجمع بها الحروف لتكوين كلمات أو تركيبات أخرى تحمل دلالات عميقة، حيث أن كل تركيبة يمكن أن تكون مفتاحًا لكشف أسرار الكون.

·       علامات التشكيل أو الحركات: الحركات التي توضع فوق أو تحت الحروف تؤثر على النطق والمعنى، وهي تُعتبر جزءًا لا يتجزأ من الكود الروحي الذي تحتويه اللغة العبرية.

يرى أبو العافية هذه المبادئ الثلاثة أنها تشكل الأساس لفهم اللغة العبرية في إطارها الروحي. اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي كيان يحتوي على معانٍ وأسرار يمكن الكشف عنها من خلال هذه المبادئ. ويوضح أبو العافية أن الكابالا ليست مجرد تأملات فلسفية أو رمزية، بل هي علم يعتمد بشكل أساسي على اللغة العبرية، بكل تفاصيلها: شكل الحروف، كيفية تراكيبها، وحتى الحركات التي تُضاف إليها. هذه المبادئ الثلاثة تتيح للمتعلم أن يفهم اللغة كجسر بين العالم المادي والروحاني، وأن يستخدمها كأداة لكشف الأسرار الإلهية المخفية. اللغة العبرية، من خلال الكابالا، تتحول إلى نظام معقد من الرموز التي تحتوي على معانٍ روحية عميقة.

 

ب – الحُرُوف

تُعد الميشنا الثانية في كتاب "سفر التكوين"، التي تحدد وجود "22 حرفًا أساسيًا"، الأساس المفاهيمي لأفكار أبو العافية حول الحروف العبرية ومعانيها. وفي رأيه أنه لا يمكن أن يكون هناك حروف أكثر من الحروف الـ 22 في الأبجدية العبرية، حيث أن هذه هي الحروف الطبيعية الوحيدة. وعلى الرغم من اعتقاده بأن الحروف العبرية الـ 22 هي الأساس الطبيعي للغة، إلا أن معرفته باللغات الأخرى دفعت به إلى التفكير في الفارق بين عدد الحروف في الأبجدية العبرية وعدد الحروف في اللغات الأخرى. ولحل هذه المشكلة، طور تفسيرًا يركز على الأصوات اللغوية (فونولوجيًا). ورأى أن الحروف العبرية الـ 22 هي الأصوات المثالية. هذا الطرح يتوافق مع النظريات اللغوية الحديثة مثل نظرية الفونيمات، التي تنظر إلى الأصوات كلَبِنات أساسية للتواصل. أي أن المعنى الحقيقي للحروف لا يكمن فقط في شكلها، بل في الأصوات التي تمثلها، مما يجعل من اللغة العبرية وسيلة قوية للتعبير الروحي والكوني([5]).

يعرض أبو العافية فكرة أن اللغات الأخرى قد تحتوي على عدد أكبر من الحروف مقارنةً بالعبرية، ولكن هذه الحروف الإضافية ليست إلا تنويعات في النطق على الحروف العبرية الأساسية. فهو يرى أن اللغات التي تحتوي على حروف أكثر من العبرية (التي تحتوي على 22 حرفًا) لا تقدم حروفًا جديدة تمامًا، بل تقدم أصواتًا متنوعة مشتقة من الحروف العبرية. ويشير إلى أن هذه التنويعات في النطق ناتجة عن اختلافات في التشديد أو التركيز عند نطق الحروف. وبالتالي، فإن الحروف الإضافية في اللغات الأخرى هي مجرد تحويرات صوتية للحروف العبرية، وليس لها قيمة مستقلة. وبينما تحصل هذه الحروف على أشكال رسومية منفصلة في اللغات الأخرى، فإنها لا تمثل أصواتًا أو مفاهيم جديدة، بل هي مجرد تمثيلات مختلفة للأصوات العبرية الأصلية. بعبارة أخرى، أن الحروف العبرية الـ22 هي الأصوات الأساسية المثالية، وأن أي حروف إضافية في لغات أخرى هي في الواقع تحويرات لهذه الحروف العبرية. هذا التصور يعزز فكرة أن العبرية هي اللغة الأصلية أو المثالية التي تحتوي على جوهر كل الأصوات، وأن اللغات الأخرى ما هي إلا تنويعات في النطق لهذه الأصوات المثالية.

نجد هنا تفسيرًا يتشابه بشكل كبير مع نظرية الألوفونات الصوتية الحديثة. بعبارة أخرى، إن تفسير أبو العافية للحروف العبرية واللغات الأخرى يشابه نظرية الفونيمات الحديثة الخاصة بالألوفونات (allophones)([6]). والألوفونات هي أصوات مختلفة قليلاً تمثل نفس الفونيم الأساسي في لغة معينة. هنا، يرى أبو العافية أن الحروف الإضافية في اللغات الأخرى ليست حروفًا جديدة، بل هي مجرد أشكال مختلفة لنطق نفس الحروف العبرية الأساسية. فمثلما أن الألوفونات تمثل أصواتًا مختلفة ولكن لها نفس المعنى في سياق لغوي معين، فإن الحروف الإضافية في اللغات الأخرى هي تحويرات صوتية للحروف العبرية. ومن الجدير بالذكر أن نقتبس هنا مقتطفًا مطولًا حول هذا الموضوع من كتابات أبو العافية، فيقول ما في معناه:

«يجب أولاً التمييز بين الشكل المكتوب [للحرف]، ثم الشكل المنطوق، ثم الشكل العقلي. في الواقع، لا يمكن القول إن هذه الأمور الثلاثة متحدة ما لم تصبح واحدة في ذهن الإنسان العاقل [מַשְׂכִּיל مشكيل "المتنور"]، وحتى ذلك الحين، لا يمكن للعقل أن يدرك الحرف في أسمى حالاته. فهذا يشبه الشخص الذي تنضج مشاعره بالكامل، حيث يجب أن تصل تعبيراته العاطفية إلى النضج، وكذلك يجب أن يصل عقله إلى الكمال. ومع التوافق المثالي بين كل هذه الأبعاد، ستنكشف له قوة العقل التي كانت مخفية عنه، وستبتهج روحه وتستمتع بالسعادة الأبدية، وسينتفع من أشعة الحضرة الإلهية [الشكينة] שְׁכִינָה السَّكينة.»

هنا يضع أبو العافية إطارًا لفهم الحروف على مستوى ثلاثي الأبعاد (المكتوب، المنطوق، العقلي)، ويشدد على أهمية الدمج بين هذه الأبعاد لتحقيق أعلى درجات الفهم الروحي. هذه العملية ليست فقط فكرية، بل أيضًا تجربة روحية، حيث يتمتع الشخص بنور الشكينة، رمز الحضرة الإلهية، عندما يصل إلى هذا الفهم الكامل والمتكامل للحروف.

وفي اقتباس آخر، يرى أبو العافية أن المستوى العقلي للحروف يمثل الكون العقلي الذي تعيش فيه هذه الحروف. هذه الحروف ليست مجرد رموز لغوية، بل هي الأشكال الحقيقية لكل الظواهر التي توجد في الكون، لأنها خُلقت بوساطة الاستخدام الإلهي للحروف. الحروف هنا تمثل الأسس الأساسية لكل ما هو موجود. إنَّ الإنسان يمكنه إدراك القيمة العقلية العامة للحروف، ولكن المستوى الإلهي لهذه القيمة لا يُدركه سوى الأفراد المتميزون الذين يصلون إلى مراتب روحية عالية. وظيفة الحروف هي مساعدة الإنسان في تحقيق الإمكانات العقلية التي يمتلكها. من خلال التأمل في الحروف وفهم معناها العقلي، يمكن للإنسان أن يُحقق تطوره العقلي والروحي. هذا التطور يسمح له بالوصول إلى الحياة في العالم الآتي. بعبارة أخرى، أن الحروف العبرية تمتلك قيمة عقلية عميقة تُمثل الأشكال الحقيقية للظواهر. الإنسان العادي يمكنه إدراك بعض هذه المعاني، ولكن المستوى الأعلى من هذا الفهم مخصص للأشخاص الذين يصلون إلى مراتب روحية عالية. في النهاية، فهم الحروف يُعتبر أداة لتحقيق التطور العقلي والروحي، الذي يُمكّن الإنسان من بلوغ الحياة الأبدية.

ويرى أنَّ الحروف ليست مجرد وسيلة للتواصل اللغوي، بل هي أدوات روحية تساعد الإنسان على كسب الحياة الأبدية. فيُشير إلى أن حياة العالم الآتي أو الأخرة، وهي الحياة الحقيقية التي يسعى إليها الإنسان، تتحقق من خلال فهم واستخدام الحروف بطريقة صحيحة. وأن هذه الحروف تحمل ثلاثة مستويات من المعنى، وتُعتبر الأوعية القريبة التي، من خلال تركيباتها، تساعد النفس على تحقيق إمكاناتها. هذه العملية تُجرى بسهولة أكبر من أي وسائل أخرى. بعبارة أخرى، التعامل مع الحروف وتركيبها يُعتبر طريقة مميزة وفعّالة لتحقيق التطور الروحي والنفسي. أي أنَّ أبو العافية يُعزز فكرة أن الحروف العبرية ليست مجرد أدوات لغوية، بل هي أدوات روحية يمكن استخدامها للوصول إلى حياة العالم الآتي. تحمل الحروف معاني متعددة وتعمل كأوعية تساعد الإنسان في تحقيق ذاته وتفعيل نفسه الروحية بشكل أكثر فعالية وسرعة مقارنة بأي وسائل أخرى.

في سفر إمري شيفر، يعتمد أبو العافية العلاقة بين الحروف والعالم الآتي على حجة اشتقاقية: الكلمة 'אות' (أوت - حرف) ترتبط بالكلمة 'ביאת' (بيعت - المجيء). ويُترجم الترجوم الآرامي للعالم الآتي (עולם הבא) بـ'עלמא דאתא' (العالم القادم)، ومعناها السري هو عالم الحروف، حيث تنبثق الآيات والعجائب. بمعنى آخر، يُظهر أبو العافية أن الحروف العبرية ليست مجرد رموز لغوية، بل هي مرتبطة بالعالم الروحي والميتافيزيقي، وبشكل خاص العالم الآتي الذي يُعتبر عالم الحروف. من خلال هذا الربط الاشتقاقي، يوضح أن الحروف هي أدوات روحية تكشف عن العلامات والمعجزات، مما يعزز فكرة أن الحروف تمتلك قوة أكبر من مجرد التواصل اللغوي، بل تحمل في طياتها أسرارًا إلهية ترتبط بمجيء العالم الآتي.

بعبارة أخرى، أبو العافية يقوم بربط الحروف (مثل كلمة "אות" التي تعني "حرف") بمفهوم "المجيء" أو "الوصول" (مثل كلمة "ביאת" التي تعني "مجيء"). فكلمة 'אות' تعني "حرف"، وهي تبدو قريبة صوتيًا من كلمة 'ביאת' التي تعني "المجيء" أو "الوصول". هذا يعني، من وجهة نظر أبو العافية، أن الحروف ليست مجرد رموز جامدة، بل هي أدوات مرتبطة بالمجيء أو الوصول إلى شيء ما. والعالم الآتي = عالم الحروف: عندما نتحدث عن العالم الآتي، فإن الترجوم الآرامي يسميه "العالم القادم" (עלמא דאתא). هذا العالم القادم في تفسير أبو العافية هو عالم الحروف، أي أن الحروف تمثل هذا العالم الروحي الذي سوف يأتي في المستقبل. أبو العافية يرى أن الحروف مرتبطة بـ "المجيء" (المستقبل)، وبالتالي هي الوسيلة التي تظهر من خلالها العلامات والمعجزات. إن الحروف مرتبطة بمفهوم المجيء أو الوصول، تمامًا كما أن العالم الآتي هو العالم القادم. وبما أن الحروف تمثل العالم الروحي المستقبلي، فهي الأدوات التي يمكن أن تُظهر من خلالها الآيات والمعجزات في هذا العالم الروحي.

من الجدير ملاحظة العلاقة بين الحروف وأعضاء الجسد. ففي كتاب سفر ستري توراه، يشبّه أبو العافية تركيبات الحروف ببناء الجسد، المكوّن من مختلف الأعضاء والأجهزة، فكتب يقول:

اعلم أن جميع أعضاء جسدك مُجمَّعة مثل أشكال الحروف المُركَّبة بعضها مع بعض. واعلم أيضًا أنك عندما تُركِّبها (أي الحروف)، فإنك أنت من يُميِّز بين أشكال الحروف، لأنها في حالتها المادية الأولية مُتساوية، وهي كلها مُكوَّنة من نفس المادة، حيث كُتِبت بنفس الحبر، وبمسحة واحدة تستطيع أن تمحوها كلها من لوح الكتابة. كذلك سيفعل المَلَك المُعيَّن بكل رطوبة جسدك وبجميع أعضائك حتى تعود كلها إلى حالتها المادية الأولية، أي العناصر الأربعة([7]).

هنا كما هو الحال في أعمال أخرى لأبي العافية، نقرأ عن التناظر والتطابق التوافقي التناسبي (correspondence)([8]) بين الحروف وأعضاء الجسم، دون أي إشارة إلى العلاقة الجوهرية بينهما. ولكننا نجد نظام للتطابق التوافقي بين الحروف والأعضاء بالفعل في الفصل الرابع من سفر يتزيراه، ويُذكر مرة أخرى في كُتيب قصير بعنوان "فعولوت ها-يتزيراه" ذي الأصل الأشكنازي، حيث نقرأ فيه ما نصه:

هذا المخلوق الذي تود خلقه؛ فيما يتعلق بكل عضو من أعضائه [على وجه الخصوص]، انظر بداخلك وتأمل أي حرف يجب أن تُعيِّنه عليه، واجمعه كما سأُعلِّمك. ويجب أن تأخذ تربة بكر من تحت أرض بكر وتزرعها هنا وهناك حول معبدك المقدس في حالة من الطهارة [الطقسية]. طهِّر نفسك وشكِّل من هذه التربة [الـ] هومونكولوس [الجولم] الذي تود خلقه ونفخ روح الحياة فيه. انظر أي حرف يجب أن تُعيِّنه عليه، وما الذي ينبثق منه. افعل ذلك أيضًا مع حروف التتراغراماتون([9]) (Tetragrammaton)، التي خُلق بها العالم بأكمله. اتَلو نوتاريقون([10]) (Notarikon)، واتَلو كل حرف من حروفها مع الحركات الصوتية OH AH EEY AY OO UH، وسينبض ذلك العضو بالحياة على الفور.

في هذا الصدد، يُمكننا أن نستشهد بمقطع مُثير للاهتمام من كتاب "حياة العالم الآتي" لأبي العافية، حيث نقرأ:

وإذا أخطأ المرء، لا سمح الله، عند التلاوة في استخدام الحرف المُعيَّن المُناسب، فإنه سيتسبب في انفصال ذلك العضو وتبديله وسيُغيِّر طبيعته على الفور، وسيُصبح المخلوق الناتج عن ذلك مُشوَّهًا.

في الختام، يُمكننا أن نذكر أن أبوالعافية يتقبل الفكرة المدراشية التي تنص على أنه عند وقت الختان، يُنقش الاسم الإلهي شداي (Shaddai) على الجسد. ما يُظهر كيف يربط أبو العافية بين الممارسات الدينية (الختان) والمعاني الروحية والقبّالية (نقش اسم الله).

 

ت – الأَصْوَات

يُنظر إلى الحركات الصوتية في نظرية اللغة عند أبو العافية على أنها أكثر من مجرد أصوات ناطقة، بل هي مفاتيح تُعيد تشكيل المعاني وتنظم مستويات الإدراك الباطني. فهو يحدد خمس حركات أساسية:

O (ḥolam)

A (kamaz(

EY (zere)

EE (ḥeerik)

OO (shuruk)

ويربطها بمفاهيم جوهرية تتراوح بين الفتح والانغلاق، والاتصال والانفصال، والتحوّل في بنية المعنى. ولكي يبرز طبيعتها الرمزية، يستخدم مصطلحات مثل "نوتاريكون" N(o)T(a)R(ee)K(o)N، حيث تتداخل الحركات في أنظمة التشفير اللغوي، و"نقوش الختم" P(ee)T(oo)H(ey)Y H(o)T(a)M (פִּתוּחֵי חוֹתָם-فتوحي هوتم = مفاتيح الختم)، مما يجعلها أدوات لفتح مغاليق النصوص وكشف أبعادها المخفية. بهذا المعنى، تصبح الحركات ضربًا من النقش الروحي، تترك أثرها على بنية الكلمات، لا بصفتها مجرد أصوات، بل كرموز تفتح أبواب الفهم العميق.

مستلهِمًا من كتاب سيفر هبّاهير، يرى أبو العافية أن العلاقة بين الحركات الصوتية والحروف تشبه العلاقة بين الجسد والروح. ففي كتابه أور هسِخِل، يوضح هذه الفكرة بقوله:

«لقد سبق القول إن الحرف يشبه المادة، بينما تمثل الحركة الروح spirit التي تبث فيه الحياة.»

تؤدي علامات الحركات الصوتية وظيفتين أساسيتين: فمن ناحية، تُحدد الأصوات الصحيحة التي تُنطق بها حروف الاسم الرباعي المقدس، كما أنها تشير أيضًا إلى الحركات الرأسية المناسبة أثناء التلاوة. ومن ناحية أخرى، تصبح دلالات هذه الحركات موضوعًا للنقاش، حيث يتناول البحث معاني أسماء الحركات نفسها وأشكالها البصرية. سأقدم هنا مثالًا على مثل هذا النقاش، حيث يتعلق بشكل حركة (القَمَتْس - kamatz) ودلالة اسمها. وفي موضع آخر من نفس الكتاب نجد النص التالي:

«كل قَمَتْس تُشبه كرةً تُقسَّم بخط شعاعي (الفتحة) ونقطة (الهيرِيك). إذ يتمثّل شكل القَمَتْس في خط مستقيم ونقطة، محاطين بدائرة كاملة. ومن هنا نستنتج أن الفتحة – التي تُنطق 'آه' – كان ينبغي أن تُصوَّر على هيئة دائرة، لكن تُقدَّم في الواقع كخط مستقيم لتفادي تعارضها مع الحرف الساكن. وفي طيّ الكتمان، تُحاط حركة القَمَتْس بدائرة، فتُصبح بذلك كما يُقال: 'كدور مابييك مَكِيف'، أي كرة محاطة بنقطة([11])

يربط هذا الاقتباس علامة الحركة بشكلها البصري باستخدام علم الأعداد، كما هو متبع في التقاليد اللغوية لأبو العافية. ففيه يُمثّل رمز KMZ (قَمَتْس) قيمة عددية قدرها 230، مما يؤدي إلى الربط مع MKYPh (مكِيف – أي المُحاط بدائرة) وMPYK (مابييك – أي المُنقط) وKDVR (كادور – أي الكرة). وقد كان هذا النوع من الترابط بين الشكل والمعنى واسع الانتشار في الدوائر القريبة من أبو العافية، كما يتضح في بعض كتابات معاصريه([12]).

 

ث - تراكيب الحروف: زيروف عُطِيُّوت

تمهيد وبيان

المقصود بـ "تركيب الحروف" (Combining the Letters):

الفكرة الأساسية هنا هي أن كل اللغات يمكن اشتقاقها من خلال ترتيب الحروف بطرق معينة. وفقًا لأبو العافية ومن سبقه من المفكرين اليهود، فإن الحروف ليست مجرد رموز صوتية، بل تمتلك قوة تكوينية، أي أن إعادة ترتيبها وتشكيلها بطريقة محددة يمكن أن يؤدي إلى نشوء جميع الكلمات واللغات.

بمعنى آخر، إذا فهمنا القوانين الحاكمة لتركيب الحروف، يمكننا "اشتقاق" أو "توليد" أي لغة من لغة أصلية، مثل العبرية. هذه الفكرة قريبة من مفهوم الجذر اللغوي في اللغة العربية، حيث يمكن إنتاج كلمات متعددة من جذر ثلاثي معين، لكنها هنا تمتد إلى مستوى أوسع، بحيث يمكن اشتقاق لغات بأكملها عبر أنماط تركيبية محددة.

توضيح بمثال بسيط:

إذا أخذنا الحروف الثلاثة א (أليف)، ב (بيت)، ג (جيم)، فإن إعادة ترتيبها بطرق مختلفة يمكن أن تولد كلمات مختلفة مثل:

·       אב (أب - أب)

·       גב (غاف - ظهر)

·       בא (با - جاء)

لكن وفقًا للفكرة الأوسع، فإن توسيع هذه العملية عبر أنظمة تركيب أكثر تعقيدًا قد يؤدي إلى تشكيل كلمات من لغات أخرى أيضًا، أي أن هذه الحروف يمكن أن تكون الأساس لكلمات في لغات متعددة إذا عرفنا كيفية دمجها وفقًا للقواعد الصحيحة.

إذن، الفكرة الجوهرية هي:

الحروف هي اللبنات الأساسية للغات، وإذا فهمنا كيفية تركيبها، يمكننا فهم أو حتى "إعادة بناء" جميع اللغات الأخرى من لغة واحدة، مثل التوراة العبرية التي يُعتقد أنها تحتوي على "الشفرة الأصلية" لجميع اللغات. انتهى

 

تركيب الحروف

يُشكّل تركيب الحروف الركيزة الثالثة في نظرية أبو العافية اللغوية، إذ يرى أنَّ أنماط تركيب الحروف المختلفة هي التي تُحدد الطابع والخصائص الخاصة بكل لغة. وفي هذا السياق، يُبرز أنَّ كلمتي ZYRVPh (زيروف - التركيب) وLShVN (لاشون - اللغة) تحملان نفس القيمة العددية 386، مما يشير إلى العلاقة الجوهرية بين مفهوم التركيب واللغة نفسها. وبهذه الطريقة، تُصبح تراكيب الحروف وسيلة بناء تسمح بإيجاد كل اللغات، أي ما يُعرف بالسبعين لغة([13]).

تظهر هذه الفكرة أيضًا من خلال معادلة عددية تربط بين تركيب الحروف واللغات: حيث يُمثَّل تركيب الحروف (زيروفها-عُطِيُّوت) بالرموز ZYRVPhH'VTYVT، والتي تُعادل العدد 1214، وهو العدد ذاته الذي يشير إلى السبعين لغة (شِفِعِمْ لشُناوت). ومن هنا يُستخلص أن الإلمام بالأوجه الثلاثة للغة – الحروف والحركات وتراكيب الحروف – يُمكننا من الوصول إلى معرفة لغات جميع الأمم. ولم تكن هذه النظرة مقتصرة على أبو العافية فحسب، إذ كتب ر. شبتاي دونولو (913 - حوالي 982) في شرحه لسفر يزيراه:

"لقد قلَّب القدوس، تبارك اسمه، الحروف ليكوِّن منها كل كلمات كل الأمم (أي لغات الأرض حرفيًا)، وبعد أن أكمل تشكيلة الحروف وتقلبات الكلمة المنطوقة...".

كما يتكرر هذا المنظور في شرح الأغادوت لر. أزرييل من جيرونا([14]):

"في تفسير الآية (عزرا 2:2)، يُفهم اسم مردخاي بلشان على أنه مركب من اسمين، مما يجعله يعني "مردخاي، الخبير باللغات"، وهو لقب يشير إلى معرفته باللغات السبعين. لكن هذه المعرفة لم تأتِ من خلال السفر بين الأمم لتعلم لغاتها، بل عبر فهم مفتاح تركيب الحروف الذي يسمح ببناء جميع اللغات، لأن هذه التراكيب موجودة بالفعل داخل التوراة. ويُستدل على ذلك بالنص التوراتي القائل 'تات تعني اثنين'، وهو تصريح يكشف عن احتواء التوراة على أصول جميع اللغات، وإلا لما أمكن للتلمود أن يفسر اللغة العبرية باستخدام لغة أجنبية([15])."

يظهر تفسير ر. عزريئيل لاكتساب اللغات السبعين أيضًا في كتابات أبو العافية، حيث نجد في "شرح سفر يتزيراه" ما يلي:

"وقد ورد في الهَجَدَاة أنَّ المَلَك جبرائيل جاء وعلّمَهُ اللغات السبعين في ليلة واحدة." ولكن إذا ظننتَ أنَّ المقصود هو اللغات نفسها بمعانيها وكلماتها، فأنت ترتكب خطأً فادحًا. بل إنَّ جبرائيل – الذي كُتب عنه في سِفر دانيال (8:13) "ثم سمعتُ قُدُّوسًا يتكلم" – لم يكن يتحدث بلغات مختلفة، وإنما كان يتحدث باللسان المقدس. والواقع أنَّ ما علّمهُ إياه لم يكن مجرد كلمات وأصوات، بل الترتيب العميق الذي يحكم جميع اللغات، وهو ما يمكن استخلاصه من "سفر يتزيراه" بوسائل باطنية دقيقة. من خلال هذا الفهم، يستطيع المرء إدراك النَّسَق الكامن الذي يكشف مسارات جميع اللغات، أيًّا كان عددها. ومن هنا، لا ينبغي أن يُفهم العدد "سبعون" حرفيًا، فهو لا يُحدّد سقفًا نهائيًا، إذ قد يكون هناك آلاف اللغات التي تخضع لنفس المبادئ التكوينية([16])."

يتضح المعنى الكامن في هذا الاقتباس بشكل أعمق عند مقارنته بكلمات ر. رؤوفين تسرفاتي، أحد العارفين بتعاليم أبو العافية. ففي شرحه لكتاب "معاركة الألوهية"، يكتب ما يلي([17]):

«اعلم أن ذروة الكمال الإنساني تتحقق عندما يدرك الإنسان سر ملاك الحضرة، وذلك من خلال علم تركيب الحروف وأسرارها. عندها، ينكشف له سر اللغات السبعين، لكن لا تظنن أن المقصود بها مجرد لغات بشرية متفرقة، فإن ظننت ذلك فقد سقطت في خطأ الفهم السطحي. بل الحقيقة العميقة هي أن الإنسان، عبر هذا الإدراك، يبلغ حقيقة ملاك الحضرة، وهو كيانٌ يحمل الاسم المطابق لاسم سيده، مما يشير إلى اتصالٍ عميقٍ بين اللغة، والمعرفة الإلهية، والحقيقة المطلقة([18]).» ويكشف ر. رؤوفين زرفاتي عن بُعدٍ مفقود في تفسير أبو العافية لسفر التكوين، حيث يُوضح أن إتقان تركيب الحروف ليس مجرد وسيلة لفهم اللغات السبعين، بل هو المفتاح إلى ذروة الحكمة والمعرفة. فمن خلال هذه المعرفة، يستطيع الإنسان الارتقاء إلى مستوى العقل الفعّال، وهو النور العقلي الذي يُفيض الفهم، أو إدراك ملاك الحضرة، الذي يُمثل الحضور الإلهي الخالص، أو حتى بلوغ مقام جبريل باعتباره وسيطًا بين الإلهام الإلهي والمعرفة البشرية. بل إن أبو العافية، في بعض مواضعه الأخرى، يتجاوز هذا الطرح، ويصل به إلى أقصى أبعاده الفلسفية والباطنية([19]):

«وفقًا للتقليد الحقيقي الذي تلقيناه، فإن من لم يُتقن فن تركيب الحروف، ولم يُختبر في هذا العلم، ولم يكتسب خبرة في حساب القيم العددية للحروف، ولم يدرك الفروقات الدقيقة بينها، ولا أسرار تبديلها وتحولاتها وتقلباتها، ولا طرق استبدالها فيما بينها – كما يعلّمنا سفر التكوين (Sefer Yezirah) – فإنه لا يدرك اسم الإله (أو جوهره) بالمنهج الذي نعتمده. فالمعرفة اللغوية العميقة ليست مجرد مهارة، بل هي المفتاح الحقيقي لفهم القدسية الإلهية([20])

يواصل أبو العافية شرحه لمراحل تركيب الحروف، موضحًا أنه في المرحلة الأولى يجب علينا "إعادة تدوير اللغات حتى تعود إلى حالتها الأولية النقية". يشير هذا إلى عملية تفكيك الكلمات إلى حروفها المكونة، باعتبارها المادة الخام التي تُبنى منها جميع اللغات. أما المرحلة الثانية، فهي إعادة تركيب الحروف بعد تفكيكها، مما يؤدي إلى توليد كلمات جديدة عبر إعادة دمج الحروف بطرق مبتكرة. فهذه العملية ليست مجرد إعادة تشكيل لغوي، بل هي مسارٌ إلى اكتشاف جوهر المعرفة من خلال اللغة، حيث تكشف الحروف، عبر تفاعلها، عن طبقات أعمق من المعاني المخفية([21]):

«لإبداع ابتكارات مدهشة وفريدة، إذ إن تركيب الحروف يشتمل في جوهره على السبعين لغة، أي أن عملية التوليف بين الحروف ليست مجرد إعادة ترتيب، بل هي كشفٌ عن البنية العميقة للغات، حيث يمكن استنباط كلمات جديدة ومعانٍ غير مسبوقة تنتمي إلى مختلف اللغات، وكأنها جميعًا متفرعة من أصل واحد يمكن الوصول إليه عبر فن تركيب الحروف.»

تتكرر هذه الفكرة مرة أخرى في العمل المذكور سابقًا، حيث نجد:

"والمرحلة السادسة هي إرجاع الحروف إلى حالتها الأصلية غير المتشكلة، ثم إعادة تشكيلها وفقًا لقوة العقل القادر على منح الصور والمعاني."

في هذه العملية، يتفاعل العقل البشري مع الحروف الخام، ويمنحها صورة ومعنى جديدين، مما يؤدي إلى اتصال مباشر بين العقل البشري والعقل الفعّال، الذي يُشار إليه أيضًا باسم "المانح للأشكال" (Donator Formarum)، أي المصدر الذي يهب الصور والمعاني للمادة غير المشكّلة، ويحولها إلى كلمات تحمل دلالات وروحًا لغوية حية([22]).

 

ملاحظات

المعنى الدقيق لـ "Combining the Letters"

المقصود هنا ليس مجرد التوفيق بين الأصوات (أي الحروف كأصوات فونولوجية) فقط، ولا التركيب اللغوي للكلمات فقط، بل هو مفهوم يشمل كلا الجانبين بطريقة أكثر شمولًا.

التوضيح:

التوفيق بين الأصوات (الصوتيات - Phonetics & Phonology):

يشير إلى كيفية دمج الحروف الصوتية (الفونيمات) معًا لتشكيل أنماط صوتية ذات معنى.

يشمل هذا الفكرة الكابالية التي ترى أن الحروف العبرية ليست مجرد رموز كتابية، بل تمتلك طاقة صوتية وتأثيرًا في العالم عند نطقها بترتيب معين.

التركيب اللغوي (المورفولوجيا والنحو - Morphology & Syntax):

يتناول كيفية ترتيب الحروف في أنظمة تركيبية معينة لإنتاج كلمات وجمل ذات معنى.

هذه الفكرة تتجاوز حدود الكلمات الفردية إلى اللغات نفسها، أي أن كل لغة هي نتيجة "تركيب" معين للحروف ضمن قوانين خاصة بها.

الترجمة الأدق:

تركيب الحروف هو الأقرب للمعنى إذا كنا نركز على تكوين الكلمات والجمل.

توليف الحروف يمكن أن يكون مناسبًا إذا كنا نشير إلى مزج الحروف لإنتاج أصوات ومعانٍ جديدة.

التوفيق بين الحروف والأصوات قد يكون دقيقًا إذا أردنا إبراز الجانب الفونولوجي إلى جانب التركيب اللغوي.

لكن بالنظر إلى فلسفة أبو العافية، فإن "تركيب الحروف" هو الأنسب، لأنه يعكس فكرة أن جميع اللغات تنشأ من عمليات تركيبية منظمة للحروف، سواء من حيث الأصوات أو من حيث البنية اللغوية.

الفكرة عند أبو العافية تشبه إلى حد كبير ما قاله ابن عربي عن تقسيم الحروف وفقًا للعناصر الأربعة (النار، الماء، الهواء، التراب) ووضع قواعد للتوفيق بينها من أجل تركيب كلمات ذات معنى وقوة تأثيرية.

التشابه بين الفكرة عند ابن عربي وأبو العافية:

الحروف كعناصر تكوينية:

عند ابن عربي: الحروف ليست مجرد رموز صوتية، بل تمتلك صفات نابعة من العناصر الأربعة، مما يعني أن للكلمات قوة تكوينية عند ترتيبها بطريقة صحيحة وفقًا لهذه العناصر.

عند أبو العافية: الحروف العبرية تمتلك طاقة روحية، وإعادة ترتيبها بشكل صحيح يمكن أن يكشف معانٍ خفية أو حتى يولّد لغات جديدة.

قوانين التوفيق بين الحروف:

ابن عربي وضع قواعد للتوفيق بين الحروف النارية والمائية والهوائية والترابية لضمان أن تكون الكلمة متوازنة وقادرة على التعبير عن معناها الروحي بشكل صحيح.

أبو العافية تحدث عن أن ترتيب الحروف وفقًا لأنظمة تركيبية محددة هو ما يولّد اللغة، أي أن القانون الحاكم لتركيب الحروف هو المفتاح لفهم اللغات كلها.

البعد الميتافيزيقي:

عند ابن عربي: الكلمات ليست مجرد أدوات للتواصل، بل تمتلك أبعادًا باطنية تؤثر في الكون، والكلمة الصحيحة يمكن أن تكون سرًّا من أسرار الخلق.

عند أبو العافية: اللغة لها أبعاد روحانية ومعرفية، وتحليل تركيب الحروف يمكن أن يؤدي إلى معرفة اللغات الأخرى، وكأن اللغة الأصلية تحمل مفاتيح الأكوان اللغوية الأخرى.

ما الذي يمكن استنتاجه؟

ابن عربي وأبو العافية يشتركان في رؤية الحروف كعناصر تكوينية تتبع قوانين سرّية، وأن تركيب الحروف ليس عشوائيًا، بل تحكمه أنظمة عميقة تؤثر على المعنى والوجود.

الاختلاف الأساسي هو أن ابن عربي ركّز على الأثر الروحي للحروف في تكوين الكلمات والطاقة الكونية التي تحملها، بينما ركّز أبو العافية على الجانب التركيبي واللغوي، وربط ذلك بقدرة الإنسان على معرفة اللغات جميعها من خلال تركيب الحروف بشكل صحيح.

إذن، الفكرة عند كليهما تتجاوز اللغة إلى كونها "علمًا سرّيًا" لفهم الواقع والتأثير فيه.

 

ج – طبيعة اللغة

لطالما كانت مسألة طبيعة اللغة وأصلها موضع نقاش في الأدبيات اليهودية خلال العصور الوسطى. ومع ذلك، فإن هذه النقاشات كانت متفرقة وغير منتظمة، حيث لم يُطوِّر المفكرون اليهود في تلك الفترة منهجًا متكاملاً ومتسقًا يعالج هذا السؤال بوضوح. لكن على النقيض من ذلك، نجد أن أبو العافية (Abulafia) يُعالج مسائل اللغة بشكل متكرر في معظم أعماله، مقدمًا رؤى منهجية حول طبيعة اللغة وكيفية نشأتها. سنقوم الآن باستكشاف أفكاره حول هذا الموضوع لفهم تصوره العميق للعلاقة بين اللغة والفكر والمعرفة الروحية.

 

رؤيتان متباينتان حول أصل اللغة في العصور الوسطى

في العصور الوسطى، برز اتجاهان فكريان مختلفان عند البحث في أصل اللغة:

الرؤية الأولى: ترى أن اللغة نتاج لاتفاق بشري، أي أنها ظهرت نتيجة اصطلاح وتوافق بين البشر على تعيين الألفاظ لمعاني الأشياء.

الرؤية الثانية: تعتبر أن اللغة كُشفت عبر وحي إلهي أو أنها جاءت نتيجة تجلي ماهيات الظواهر، أي أنها تعبير مباشر عن حقائق كونية وروحية.

بالنسبة لأنصار الرؤية الثانية، وخاصة أولئك الذين آمنوا بحرفية الوحي التوراتي من سيناء، كان من المستحيل قبول فكرة أن اللغة مجرد اصطلاح بشري، إذ أن العبرية—وهي اللغة التي نزل بها الوحي—لا يمكن أن تكون مجرد وسيلة اصطلاحية، بل يجب أن يكون لها أصل إلهي مقدس.

وقد رأى هؤلاء أن تبني فكرة أن اللغة مجرد اصطلاح بشري يقوض أساس الدين، لأن التوراة المكتوبة بوصفها وحياً منزلاً تصبح، وفقًا لهذا المنظور، مجرد تعبير عن توافق بشري وليس عن حقيقة إلهية.

وقد عبّر ر. يوسف جيكاتيلا (R. Joseph Gikatilla) عن هذا الموقف بوضوح عندما كتب:

«ويجب علينا أن نؤمن بأن لغة التوراة لم تنشأ من اصطلاح بشري، خلافًا لما اعتقده بعض كبار الحاخامات في الأجيال السابقة. لأن القول بأن العبرية، كلغة التوراة، ليست إلا لغة اصطلاحية كغيرها، يقود إلى إنكار الوحي الإلهي الذي نزل بكلماته وألفاظه، وليس فقط بمعانيه. وقد حذر الحكماء من هذا الفهم، إذ ورد في التقاليد الدينية أن من يزعم أن التوراة اصطلاحية، حتى لو آمن ببقية أجزائها على أنها وحي، فإنه يكون قد دنس كلمة الله. ومن الأدلة على ذلك أن التوراة نفسها تشير إلى أن اللغات الأخرى نشأت بسبب التبلبل الإلهي في برج بابل، مما يدل على أنها لغات متغيرة واصطلاحية، على عكس العبرية التي حافظت على أصالتها الإلهية كلغة الوحي.»

يميز أبو العافية، كما يفعل جيكاتيلا، بين اللغة المقدسة واللغات الأخرى التي يراها ناتجة عن الاصطلاح البشري. لكنه يختلف عن تلميذه في فهم طبيعة العبرية، إذ يرى أنها ليست مجرد وحي إلهي منزّل، وإنما هي اللغة الطبيعية التي اختارها الله لامتيازها الذاتي على غيرها من اللغات. ولإثبات أن اللغات الأخرى اصطلاحية، يعتمد أبو العافية على نص مأخوذ من شرح ابن رشد على كتاب "العبارة" لأرسطو، وهو الشرح الذي اطلع عليه عبر الترجمة العبرية التي قام بها ر. يعقوب أناتولي:

«تشير الكلمات المنطوقة إلى التصورات التي تنبع من النفس الفردية، بينما تعكس الحروف المكتوبة هذه الكلمات في المقام الأول. وكما أن أنظمة الكتابة تختلف من أمة إلى أخرى، فإن الألفاظ المستخدمة في التعبير عن الظواهر ليست موحدة بين الشعوب، مما يدل على أن اللغة نشأت من الاصطلاح البشري ولم تكن مجرد ظاهرة طبيعية بديهية. ومع ذلك، فإن ما يتعلق بجوهر النفس البشرية يظل موحدًا بين جميع البشر، تمامًا كما أن الإدراكات والمعاني التي تستنبطها النفوس متشابهة بين الجميع، لأنها تنبع من طبيعة مشتركة تجمع بين بني الإنسان.

ويضيف أنه يمكن تشبيه الكلمات بالأفكار العقلية التي تُعبر عنها، إذ كما يمكن فهم الفكرة دون النظر إلى مدى صدقها أو زيفها، فإنه يمكن فهم الكلمة أو الجملة بمعزل عن مدى صحتها. وبما أن الفكرة قد تُدرك على نحو صحيح أو غير صحيح، فإن الكلمة ليست سوى ما يُفهم منها، سواء كانت تعبر عن حقيقة أم وهم. أما تمييز صدق الكلمات من زيفها فيعتمد على الإدراك العقلي، حيث إن العقل هو الذي يحكم على صحة المعاني المنقولة بالألفاظ. ومن هنا، فإن الكلمات التي تشكل العبارات قابلة للتحليل والتفكيك وإعادة التركيب، مما يعكس طبيعة اللغة كمادة مرنة يمكن إعادة تشكيلها لتوصيل المعاني المختلفة([23]).

ولكن عندما تكون هذه الكلمات مفردة أو منعزلة عن غيرها، فإنها لا تدل على صدق أو كذب بحد ذاتها. هذا ما أكده ابن رشد، ومن هذا الفهم نستنتج أن جميع اللغات هي ناتج عن اتفاق بشري، وليست طبيعية أو فطرية. وهذا أيضًا هو رأي موسى بن ميمون في كتابه دليل الحائرين، حيث استشهد بالآية: "وَدَعَا آدَمُ بِأَسْمَاءٍ..." ليدلل على أن اللغة لم تُفرض من قِبل الله مباشرة، بل نشأت كفعل بشري. ومع ذلك، فقد اختار الله بني إسرائيل ولغتهم وخطهم، كما اختار لهم عقائد وشرائع مستمدة جزئيًا من ثقافات الأمم الأخرى، بنفس الطريقة التي تختار بها الطبيعة بعض الظواهر وتستبعد غيرها، كما نرى في عالمنا الطبيعي. غير أن سبب هذا الاختيار الإلهي يظل غامضًا، ولا يمكن إدراكه إلا عبر الأنبياء، الذين وجدهم الله أكثر كمالًا من غيرهم من الحكماء، فاختارهم ليكونوا رسلًا ووسطاء بينه وبين البشر، ينقلون إليهم الإيمان الحقيقي. ونجد أن كلمات هؤلاء الأنبياء قد كُتبت باللغة المقدسة، باستخدام الحروف المقدسة، لأن هذه الحروف تتيح إمكانية توليد جميع اللغات السبعين عبر تقنيات تركيب الحروف، مما يجعلها وسيلة لفهم جميع اللغات([24])

في هذه المرحلة، من المناسب تحليل هذا الاقتباس المهم بالتفصيل. إن رؤية ابن رشد بأن اللغة نشأت عن اتفاق بشري (اصطلاح) تستند إلى حجتين رئيسيتين: أولًا: هناك اختلافات بين اللغات في الألفاظ التي تستخدمها لوصف نفس الشيء، مما يشير إلى أن الكلمات ليست انعكاسًا ضروريًا للجوهر الحقيقي للأشياء، بل هي نتاج اصطلاح بشري. ثانيًا: نعلم أن الكلمة المنفردة، مثل الفكرة المجردة، لا يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة بمفردها. فمثلما لا يمكن للحروف المتفرقة أن تشكّل معنى متكاملًا إلا عند تركيبها، لا يمكن أيضًا للكلمات أن تحمل حكمًا بالصدق أو الكذب إلا داخل سياق لغوي كامل. وهذا يدل على عدم وجود تطابق جوهري بين الشيء الذي يتم وصفه وبين الأداة اللغوية التي تصفه. أما ابن ميمون، فقد تبنّى الفكرة نفسها، لكنه لجأ إلى نصوص التوراة لإثباتها، حيث استدل بالآية "ودعا آدم بأسماء..."، ليؤكد أن تسمية الأشياء لم تكن بوحي مباشر من الله، بل كانت نتيجة عمل بشري([25]). وهكذا، رغم اختلاف طرق الاستدلال، فإن ابن رشد وابن ميمون متفقان على أن اللغة ليست نظامًا طبيعيًا فُرض على البشر، بل هي نظام ناشئ عن التوافق الاجتماعي والتطور الإنساني.

يستند أبو العافية إلى السلطة الفلسفية لأسلافه ليؤكد أن كل اللغات نشأت بالاصطلاح والاتفاق البشري، لكنه يستثني العبرية من هذه القاعدة، إذ يرى أنها ليست لغة اصطلاحية مثل غيرها، بل لغة طبيعية تتميز بجوهر خاص. وهنا، يخالف بشكل واضح الرأي الحاسم لابن ميمون، الذي كان يرى أن العبرية، مثل غيرها، لغة نشأت عن الاتفاق البشري. ولإثبات تفرّد العبرية، يعتمد أبو العافية على حجتين: أولًا، أن الله اختار العبرية من بين جميع اللغات، مما يدل على أن لها طبيعة خاصة جعلتها مؤهلة لهذا الاختيار الإلهي. ثانيًا، أن الأنبياء اختاروا العبرية لنقل الرسالة الإلهية، وهم الأشخاص الذين وصلوا إلى قمة الكمال البشري، مما يعني أن هذه اللغة تتمتع بصفاء وقدرة تعبيرية فريدة تؤهلها لنقل الحقائق الإلهية. وعليه، فإن كلا العاملين – الاختيار الإلهي، واستخدام الأنبياء للعبرية – يدلان على مكانة اللغة المقدسة وتميزها عن بقية اللغات.

يطرح أبو العافية حجة أخرى مستمدة من ملاحظة الطبيعة، حيث نجد أن بعض الظواهر تتمتع بجودة أعلى ومرتبة أرقى من غيرها، مما يشير إلى أن هذا التدرج في الجودة قد يكون موجودًا أيضًا في مجال اللغات. وبالتالي، ليست كل اللغات على نفس المستوى من النقاء والتميز. إلا أن حججه الأكثر تفصيلًا حول هذا الموضوع تظهر في كتابه "نور العقل" (Sefer 'Or ha-Sekhel)، حيث يسعى إلى إثبات نقطة مهمة: إذا كانت جميع اللغات قد نشأت بالاتفاق البشري، فهذا يعني أنه كان هناك "لغة أولية" استندت إليها أول لغة اصطلاحية. أي أنه لا يمكن تصور نشأة لغة اتفاقية دون وجود نظام لغوي سابق تعتمد عليه. وبهذا، يحاول أبو العافية أن يثبت أن هناك أصلًا لغويًا أوليًا، وهو ما قد يدعم فكرته حول تميز العبرية([26])، فكتب يقول:

ومن هذا يتبين أن هناك دليلًا على أن اللغة اصطلاحية، أي أنها نشأت بناءً على اتفاق بين البشر. وبحكم هذه الطبيعة، فإن واضع لغتنا أراد أن يوضح لنا البعد القَصدي في الكلام.

«وهذا الأمر يتجلى في كون اللغة والكتابة نفسها قائمة على الاصطلاح. فاعلم أن أي لغة اصطلاحية لا يمكن أن تنشأ إلا إذا سبقتها لغة أخرى؛ إذ لو لم تكن هناك لغة سابقة، لما أمكن الاتفاق على إعطاء شيء ما اسمًا جديدًا مختلفًا عن اسمه الأصلي. فكيف يمكن للشخص الثاني أن يفهم الاسم الجديد إذا لم يكن يعرف الاسم الأول أصلاً، ليتمكن من الموافقة على التغيير؟ وينطبق هذا أيضًا على الكتابة، رغم أن هناك فرقًا في طبيعة الاصطلاح بين اللغة والخط، لكن هذا ليس الموضع المناسب لشرح هذا الاختلاف([27])

يُشير أبو العافية إلى العبرية باعتبارها اللغة الأصلية الأولى، التي نشأت منها اللغات الأخرى ضمن إطار نشوء اللغات بشكل اصطلاحي. وهذا يتضح من وصفه لها بأنها "أم اللغات جميعًا". ففي كتابه "مفتاح الحكم" (ספר מפתח החכמות)، نجد ما يلي:

«وَكَانَتِ الأَرْضُ كُلُّهَا لِسَانًا وَاحِدًا وَلُغَةً وَاحِدَةً([28]). — هذا النص يوضح لنا حقيقة اللغة، حيث إن كل لغة، وفقًا لتقاليدنا، تعود في أصلها إلى اللغة المقدسة، التي تُعرف بأنها أم جميع اللغات.»

في صيغة أخرى لهذه الفكرة الموجودة في "ليكتوت هميزوت" - وهو جمع من المواد التي تضم العديد من الاقتباسات من الكابالا الوجدانية النشوية – نقرأ([29]):

«اعلم أن أمّ جميع اللغات الاصطلاحية هي اللغة العبرية الطبيعية، إذ لا يمكن أن تنشأ اللغات الاصطلاحية إلا من خلال لغة طبيعية، وقد كانت هذه اللغة المادة الأولية التي تولّدت منها جميع اللغات الأخرى([30]). وينطبق الأمر ذاته على الكتابة الطبيعية، التي نشأت منها جميع أنظمة الكتابة الأخرى. ويمكن تشبيه ذلك بأول إنسان خُلق، والذي انحدرت منه جميع البشرية...»

فما هو معنى مُصطلح لغة طبيعية؟

 

ح – امتحان أو تجربة الرضيع

في سفر مفتاح الرأي، نقرأ عن القصة المعروفة المتعلقة بالتجربة التي أُجريت لاكتشاف هوية اللغة الطبيعية، وذلك من خلال مراقبة اللغة التي سيتحدث بها طفل لم يتم تعليمه أي لغة مسبقًا([31]):

"اعلم أن كل إنسان وُجد كان قد سبقه إنسان آخر، وهكذا حتى آدم. وبالمثل، فلكي يوجد متحدث بأي لغة، لا بد أن يكون هناك مستخدمون سابقون لها. ولولا وجود اللغة من قبل، لما كان هناك متحدث بها، لأن هذه هي طبيعة الإنسان. لاحظ الأساليب المختلفة والأدوات التمثيلية والتخيلية التي تُستخدم في التعليم البشري لتحديد قدرة الطفل على اكتساب اللغة حتى يصبح متحدثًا ماهرًا.

لذلك، من المؤكد أنه إذا تصورنا أن طفلًا تُرك، باتفاق، ليُربى على يد شخص أخرس، فلن يتعلم بنفسه التحدث باللغة المقدسة، وهذا الافتراض لا يستند إلى منطق. وحتى لو سمعت أن ملكًا معينًا أجرى هذه التجربة ووجدها صحيحة، فإن كنت تمتلك عقلًا يدرك الحقيقة... فالأمر ذاته ينطبق على الادعاء بأن الطفل كان ناطقًا بالعبرية وهو في الحقيقة غير متحدث؛ فهذا سيكون مجرد قصة جيدة ترفع من شأن لغتنا في نظر من يصدقها، رغم كونها محض اختلاق. علاوة على ذلك، فإن مثل هذه الادعاءات تضعف الحجج التي تسند إليها. أما أنا، فأرى أنه ليس من الحكمة استخدام ادعاءات زائفة لرفع مكانة أي شيء. ومع ذلك، فإن لغتنا بالفعل ذات قيمة عالية، ولكن لأسباب أخرى... ولهذا تُسمى اللغة المقدسة([32])."

يُعلمنا هذا الاقتباس أن أبو العافية كان يرى أن اللغة العبرية هي أقدم اللغات، لكنه مع ذلك يرفض الادعاء الذي طرحه بعض معاصريه، ومن بينهم معلمه ر. هلال الفيروني R. Hillel of Verona، والذي يفترض أن الطفل الذي لم يتلقَ تعليمًا لغويًا سيتحدث العبرية تلقائيًا باعتبارها اللغة الطبيعية. يتشابه رأي أبو العافية في هذا الشأن مع رأي ر. زراحيا بن شألتئيل حين، الذي رفض هذا الادعاء أيضًا بشكل قاطع.

وفقًا لأبو العافية، فإن رفعة اللغة العبرية تكمن في توافقها مع الطبيعة. ففي كتاب أسرار التوراة، يكتب: 'إن الاسم الذي يُطلق على أي شيء يدلّنا على حقيقته وصفاته الجوهرية.' وهو يشير هنا إلى مصطلحات مثل أور (النور)، حوشِخ (الظلام)، يوم (النهار)، وليلَة (الليل)، أي إلى كلمات عبرية([33]).

"إن الاصطلاح الذي يجعل لغتنا أقدس اللغات يعود إلى كونها ناتجة عن اصطلاح نبوي، يعلّمنا أنماط التأثيرات وأسرار التدرّج في الجودة. وكذلك الحال مع الأسماء التي أُطلقت على الحروف، مثل ألف، بيت، جيمِل، دالِث، بالإضافة إلى قيمها العددية (1، 2، 3، 4)، فالإلمام بهذه الأمور يمنح النفس حكمة مدهشة([34])."

في النصوص المقتبسة أعلاه نجد أن مصطلح الاصطلاح (haskamah) يحمل معنيين: الأول، هو التوافق بين الكلمة وخصائص الشيء المسمى، وبهذا تكون اللغة العبرية طبيعية لأنها تعكس الجوهر الحقيقي للمسمى؛ والثاني، أن هذه اللغة نشأت وفق اصطلاح نبوي، حيث اختارها الله نفسه لتكون لغة الوحي، كما قرأنا في نهاية الاقتباس من Sheva' Netivot ha-Torah.

 


[1]- لا يوجد اتفاق على المقابل العربي لمُصطلح (Contemplation)؛ فقد وضعوا له المصطلحات التالية: تفكر، مُشاهدة، نظر... إلخ، وآخرها التأمُّل، وعرفوه بأنَّه استغراقُ الذهن في موضوع تفكيره إلى حدٍّ يجعله يَغفُل عن الأشياء الأُخرى بل عن أحوال نفسه، وعند بعض صوفية القرون الوسطى: درجة سامية من درجات المعرفة. واخترنا التدبر لأنَّها تتضمن كل ذلك وأكثر.

[2]- ترجمة أخرى: فكما أن الواقع [الطبيعي] يُرشد الفيلسوف بطريقة سهلة إلى الطبيعة الحقيقية للأشياء، فإن الحروف [العبرية] ترشدنا أيضًا إلى الطبيعة الحقيقية للأشياء، [وبسهولة أكبر]. ولدينا تقاليد تُرشدنا بطريقة بسيطة فيما يتعلق بصفات الله المباركة وعنايته وتدفقه وطبيعة تأثيراته. وما ستتعلمه من هذا هو شيء لا يمكن للفلاسفة أن يصلوا إليه حتى بعد كثير من الجهد والوقت الطويل والتعلم، لأنه يتعلق بالأسماء المقدسة، وما سيجري تعليمه لك.

[3]-  "דעת دَعَت" دعت من الدعوة، لذلك فالكلمة العِبرية هي "ذُعْتُ" من الإذاعة، وما ذاع فسوف يُعرف حتمًا. المترجم               

[4]- ريغنسبورغ (Regensburg) مدينة ألمانية في ولاية بافاريا، تقع عند التقاء نهري الدانوب وريغن، في أقصى منعطف شمالي للدانوب. ويكيبيديا

[5]- هذا يشير إلى أن رؤية أبو العافية كانت متقدمة بالنسبة لعصره، حيث أدرك أهمية الصوتيات في تحليل اللغة.

[6]- تختلف الفونيمات والألفونات باختلاف اللغات، فما هو فونيم في لغة قد يكون ألوفوناً في لغة أخرى، وما قد يكون ألوفونًا في لغة يمكن أن يعدّ فونيماً في لغة أخرى وهكذا، فمثلاً الحرفان B وP يعتبران فونيمين مختلفين في اللغة الإنجليزية فكلمة Ball تختلف في معناه عن كلمة Pall، بينما هذان الحرفان في اللغة العربية ليسا سوى ألوفونين لفونيم واحد هو فونيم الباء، أي هما مجرد تنوعين صوتيين لحرف الباء العربي.

[7]-  بعبارة أخرى يشبه المؤلف أعضاء الجسم المختلفة بالحروف الهجائية، التي تتحد لتكوّن كلمات وجُمل. ويوضح أن الحروف في حالتها الأصلية (قبل التركيب) متشابهة ومصنوعة من نفس المادة (الحبر). وبالمثل، أعضاء الجسم تعود في أصلها إلى نفس العناصر الأساسية (العناصر الأربعة). وكما يمكن مسح الحروف عن اللوح وإعادتها إلى حالتها الأصلية، كذلك سيقوم المَلَك بإعادة أعضاء الجسم ورطوبته إلى حالتها الأصلية، أي العناصر الأربعة. باختصار، يهدف المؤلف إلى توضيح أن الجسد، على الرغم من مظهره المعقد وتركيبه المتنوع، يعود في النهاية إلى عناصره البسيطة الأصلية، كما تعود الكلمات إلى حروفها الأولية. هذا التشبيه يُستخدم لتوضيح فكرة الفناء والتحول.

[8]-  يشير مصطلح (correspondence) بشكل عام إلى وجود علاقة تطابق أو توافق أو تناسب بين شيئين أو أكثر. هذه العلاقة قد تكون: تشابه أو تماثل: بمعنى أن الشيئين يشتركان في بعض الخصائص أو الصفات. بمعنى أن هناك تأثيرًا أو علاقة بين الشيئين، بحيث يؤثر أحدهما في الآخر أو يرتبط به بطريقة ما. وأن أجزاء أو عناصر أحد الشيئين تتطابق أو تُقابل أجزاء أو عناصر الشيء الآخر. وفي السياق الذي نتناوله، والذي يتحدث عن التطابق التوافقي بين الحروف وأعضاء الجسم، يُشير المصطلح إلى وجود علاقة رمزية أو باطنية بين الحروف الهجائية وأجزاء الجسم. بمعنى آخر، يُفترض أن كل حرف من حروف الهجاء يُقابله أو يُمثله عضو أو جزء معين من الجسم. وفي النصوص القبّالية، مثل سفر يتزيراه، يُستخدم المصطلح للإشارة إلى علاقات رمزية مُعقَّدة بين عوالم مختلفة، مثل العوالم الإلهية والعوالم الملائكية والعالم المادي. يُفترض أن هناك تطابقًا أو توافقًا بين هذه العوالم، وأن فهم هذه التطابقات يُمكن من فهم النظام الكوني والمعاني الخفية للوجود. والتطابق بين الحروف وأعضاء الجسم هو جزء من هذه الشبكة الواسعة من التطابقات الرمزية.

[9]- «تتراجراماتون» كلمة إغريقية بمعنى مكون من أربعة أحرف  أو «رباعي». وهو مُصطلح يُستخدَم للإشارة إلى الاسم المقدس "يهوه" المكون من أربعة أحرف. عبد الوهاب المسيري

[10]- أو النوتاريكون وهي طريقة في التفسير السراني اتبعها القباليون. أو تقنية قبّالية لتفسير النصوص. وهي طريقة تفسيرية قبّالية تعتمد على أخذ الحرف الأول من كل كلمة في عبارة لتكوين كلمة جديدة.  

[11]- في هذا النص، يُصوَّر القَمَتْس – وهي إحدى الحركات الصوتية – على أنها كرة تقسمها مكونات رمزية؛ إذ يُمثَّل أحد هذه المكونات بخط شعاعي يُعرف بالفتحة (Patah) والذي ينطق "آه"، والآخر بنقطة تُسمى هيرِيك (Heerik). الشكل المثالي للقَمَتْس هو خط مستقيم ونقطة محاطان بدائرة كاملة، مما يعني أن الفتحة كان يُفترض أن تُظهَر كدائرة، ولكنها تُصوَّر فعليًا كخط مستقيم لتجنب تداخلها مع الحرف الساكن. وفي الخفاء، تُحيط بدقة دائرة حركة القَمَتْس، مما يجعلها تُصوَّر كـ"KDVR MPYK MKYPh" أي كرة محاطة بنقطة.

[12]- يربط هذا النص بين علامة الحركة وشكلها البصري عبر استخدام علم الأعداد، وفقًا للتقاليد اللغوية التي عرف بها أبو العافية. هنا يُشار إلى أن رمز KMZ يمثل حركة القَمَتْس، التي تحمل قيمة عددية تساوي 230. ومن هذه القيمة العددية ينطلق الربط مع رموز أخرى، وهي: MKYPh (مكِيف): تعني "المُحاط بدائرة"،  MPYK (مابييك): أي "المنقط"، KDVR (كادور): أي "الكرة". كان هذا الترابط بين الدلالات العددية والشكلية شائعًا بين الدوائر المقربة من أبو العافية وظاهرة تظهر أحيانًا في كتابات معاصريه.

[13]- يتناول النص مفهوم تراكيب الحروف في نظرية أبو العافية، حيث يُعتبر "زيروف عُطِيُّوت" (تراكيب الحروف) الركيزة الثالثة في منظومته اللغوية. يرى أبو العافية أنَّ الطرق المختلفة لتركيب الحروف هي التي تحدد طابع اللغة، ولذلك تتساوى القيمة العددية لكلمة "زيروف" (أي التركيب) مع كلمة "لاشون" (أي اللغة)، وكلاهما يساوي 386. وبفضل هذه التراكيب، يمكن تكوين جميع اللغات، أي السبعين لغة.

[14]- يُظهر النص معادلة عددية تربط بين تركيب الحروف واللغات السبعين، حيث يُستخدم نظام العد لتأكيد أن الإلمام بالأوجه الثلاثة للغة – الحروف، الحركات الصوتية، وتراكيب الحروف – يُتيح للمرء فهم لغات جميع الأمم. تشير المعادلة إلى أن قيمة تركيب الحروف (ZYRVPhH'VTYVT - زيروفها-عُطِيُّوت) تساوي 1214، وهي القيمة نفسها التي تمثل السبعين لغة (ShV'YMLShVNVTh - شِفِعِمْ لشُناوت). وتوضح هذه الفكرة أن المعرفة العميقة لهذا النظام اللغوي لم تكن حصرية لأبو العافية، إذ وردت أيضًا في تعليقات سفر يزيراه لر. شبتاي دونولو وفي شرح الأغادوت لر. أزرييل من جيرونا.

[15]- يشير هذا النص إلى تفسير اسم مردخاي بلشان (في سفر عزرا 2:2) على أنه يعني "مردخاي، الخبير باللغات"، وهو وصف مرتبط بإتقانه للغات السبعين. لكن الفكرة هنا لا تقوم على أنه تعلم هذه اللغات من خلال السفر والتنقل بين الأمم، بل من خلال فهم السر الذي يسمح بتكوين جميع اللغات، وهو طريقة تركيب الحروف، باعتبار أن جميع اللغات مضمنة في التوراة. ويُستشهد لهذا المفهوم بعبارة توراتية تدل على أن اللغات كلها مستنبطة من النص التوراتي، وإلا لما تمكن التلمود من شرح العبرية بالاستناد إلى لغة أجنبية.

[16]-  في هذا النص، يناقش أبو العافية مفهوم اكتساب اللغات من منظور باطني، متأثرًا بتفسير ر. عَزْرِئِيل. يربط هذا التفسير بين قصة المَلَك جبرائيل وتعليمه اللغات السبعين لشخص معين في ليلة واحدة وبين الأفكار الواردة في سفر يتزيراه. وهنا يوضح أن ما تم تعليمه ليس اللغات ذاتها، بل النظام العميق الذي يحكم جميع اللغات، وهو ما يمكن استخلاصه من "سفر يتزيراه" بوسائل دقيقة جدًا. الفكرة الأساسية هنا هي أن هناك بنية خفية تُشكّل اللغات، وأن تعلّم هذا النظام يعني فهم جميع اللغات وليس مجرد تعلّم كلماتها بشكل مباشر. كما يؤكد أن عدد اللغات ليس بالضرورة محصورًا في سبعين، بل يمكن أن يكون أكثر من ذلك بكثير. اللغات ليست مجرد كلمات وأصوات، بل لها بنية داخلية عميقة. فهم هذه البنية يمكن أن يقود إلى فهم جميع اللغات، بغض النظر عن عددها. الملاك جبرائيل لم يعلّم اللغات حرفيًا، بل كشف النظام السري الذي تتبعه جميع اللغات. سفر يتزيراه يحتوي على مفاتيح هذا الفهم الباطني للغة.

[17]-  يصبح معنى هذا الاقتباس أكثر وضوحًا عند مقارنته بكلام ر. رؤوفين تسرفاتي، الذي كان عارفًا جيدًا بتعاليم أبو العافية. فقد كتب في شرحه لكتاب "معاركة الألوهية" تفسيرًا يعكس فهمه العميق لمفاهيم أبو العافية اللغوية والباطنية. وهذا يشير إلى أن هناك استمرارية فكرية بين تعاليم أبو العافية وشروحات تلاميذه، مما يساعد على إيضاح الفكرة الأساسية المتعلقة بالتركيب الحرفي للغة وفهم بنيتها العميقة.

[18]- يطرح هذا النص مفهومًا عميقًا حول الكمال الإنساني وفقًا للفكر الصوفي عند أبو العافية وتلاميذه، حيث يتم تحقيق هذا الكمال من خلال سر تركيب الحروف (Letter Combination). الفكرة هنا ليست أن الإنسان يتعلم اللغات السبعين بالمعنى الحرفي، بل إن معرفة هذه اللغات تمثل معرفة بنية اللغة نفسها وأصلها الخفي، والذي يُرمز إليه بـ ملاك الحضرة (Angel of the Countenance). يُشير الملاك هنا إلى حضور إلهي أو عقل كلي، ومعرفته تعني الوصول إلى إدراك أعلى للوجود والمعرفة الإلهية. النص أيضًا ينبه القارئ إلى عدم الوقوع في الفهم الحرفي للغات، بل يؤكد على أن المعنى الحقيقي يكمن في إدراك النظام العميق للغة، الذي يُكسب الإنسان بصيرة روحية، حيث يتطابق اسم هذا الملاك مع اسم الخالق، مما يرمز إلى الوحدة بين المعرفة الإلهية واللغة.

[19]- يُضيف ر. رؤوفين زرفاتي تفصيلًا مهمًا كان غائبًا في تفسير أبو العافية لـ سفر التكوين (Sefer Yezirah)، حيث يؤكد أن سر تركيب الحروف لا يقتصر فقط على كشف اللغات السبعين، بل يمتد إلى بلوغ ذروة الحكمة والمعرفة. هذه الحكمة تتجلى من خلال عدة مفاهيم مترابطة: العقل الفعّال (Active Intellect): وهو مفهوم فلسفي يُشير إلى العقل النوراني الذي يمنح الإدراك والمعرفة. إدراك ملاك الحضرة (Angel of the Countenance): وهو رمز للحضور الإلهي أو المعرفة الروحية المطلقة. جبريل (Gabriel): الذي يظهر هنا ككيانٍ يمثل الوسيط بين المعرفة الإلهية والبشرية، مما يعكس فكرة وحدة اللغة والإلهام الإلهي. كما أن أبو العافية، في مواضع أخرى، يذهب إلى أقصى الحدود في هذا الطرح، مُشيرًا إلى أبعاد أعمق لهذا الإدراك.

[20]- في هذا النص، يؤكد أبو العافية على أن المعرفة الحقيقية للإله (أو لاسمه المقدس) لا تتحقق إلا عبر إتقانٍ دقيق لفن تركيب الحروف وفقًا لمنهجه. هذه المعرفة تشمل عدة مستويات من العمليات اللغوية المستمدة من سفر التكوين (Sefer Yezirah)، وهي: الجمع والتأليف (Combination): القدرة على ترتيب الحروف بطرق تكشف عن معاني عميقة. الحساب الجملي (Numerology): دراسة القيم العددية للحروف لفهم ترابطاتها الخفية. التحولات والتبديلات (Transformations & Revolutions): أي إعادة تشكيل الحروف بطرق تؤدي إلى كشف معانٍ جديدة. آليات الاستبدال (Means of Exchange): فهم كيف يمكن للحروف أن تتبادل المواقع أو الأصوات لإنتاج دلالات مختلفة. ومن لا يُتقن هذه العلوم، وفقًا لمنهج أبو العافية، فإنه لا يعرف اسم الإله على حقيقته، لأن المعرفة اللغوية العميقة هي المفتاح لفهم الجوهر الإلهي.

[21]- يوضح أبو العافية هنا مراحل تركيب الحروف وفقًا لمنهجه في المعرفة اللغوية الصوفية، حيث يرى أن فهم اللغات يعتمد على المرور عبر مرحلتين أساسيتين: إعادة اللغات إلى حالتها الأولية (Revolving the languages to their prime material state): في هذه المرحلة، يتم تفكيك الكلمات إلى حروفها الأساسية، أي العودة إلى المادة الأولية التي تُبنى منها كل اللغات. يشبه هذا المفهوم فكرة أن الحروف هي "المادة الخام" التي تتشكل منها الكلمات، تمامًا كما تُعتبر الذرات الوحدة الأساسية للمادة في الفيزياء. إعادة التركيب وابتكار الكلمات الجديدة (Recombination of the letters): بعد التفكيك، تأتي مرحلة إعادة تشكيل الحروف ودمجها بطرق جديدة، مما يؤدي إلى خلق كلمات جديدة تحمل معاني جديدة. هذه العملية ليست مجرد لعبة لغوية، بل هي مفتاح لكشف أسرار اللغة والواقع من منظور صوفي، حيث يُنظر إلى الحروف على أنها وحدات بناء جوهرية للمعرفة.

[22]-  وهذا مذهب سقراط والفيض الكاشاني والعرفاء عمومًا!

[23]- يشير النص إلى العلاقة بين الكلمات والأفكار، موضحًا أن الألفاظ ليست سوى وسيلة للتعبير عن الأفكار، تمامًا كما يمكن فهم الفكرة سواء كانت صحيحة أم خاطئة. وبما أن الأفكار يمكن أن تُفهم على نحو دقيق أو غير دقيق، فإن الكلمة ليست سوى ما يُفهم منها، بغض النظر عن مدى صدقها. وبالتالي، فإن تمييز الحقيقة من الخطأ في اللغة يعتمد على الإدراك العقلي، لأن الكلمات التي تشكل العبارات يمكن تفكيكها وإعادة تركيبها، مما يعني أن اللغة ذات طبيعة تركيبية وقابلة لإعادة التشكيل.

[24]-  يؤكد هذا النص أن اللغات جميعها نشأت بالاتفاق البشري (الاصطلاح) وليست طبيعية، وهو رأي عبر عنه ابن ميمون أيضًا في "دليل الحائرين"، حيث استشهد بآية "وَدَعَا آدَمُ بِأَسْمَاءٍ..." للدلالة على أن تسمية الأشياء كانت بفعل الإنسان وليس بقرار إلهي مباشر. لكن مع ذلك، فإن اللغة العبرية كُرِّمت واصطفاها الله، كما اختار بني إسرائيل، وأمرهم بعقائد وشرائع مستمدة من ثقافات الأمم الأخرى، تمامًا كما يحدث في الطبيعة حيث يتم اختيار بعض الظواهر واستبعاد غيرها. ومع ذلك، فإن سر هذا الاصطفاء لا يمكن إدراكه إلا عبر الأنبياء، الذين اصطفاهم الله بسبب كمالهم الروحي، وجعلهم رسله لتعريف البشر بالإيمان الحقيقي. والأمر اللافت هنا هو أن كلمات هؤلاء الأنبياء دُوِّنت باللغة المقدسة، المكتوبة بالأحرف المقدسة، لأن هذه الحروف يمكن من خلالها تكوين جميع اللغات السبعين عبر تقنيات تركيب الحروف.

[25]- وهذا خلاف ما قال به القرءان، إذ بين القرءان أنَّ الأسماء من تعليم الرب.

[26]- وهو ما يقول به جملة من العارفين والعلماء، وآخرهم سبيط النيلي ولغته الموحدة، والأصل هو الأصوات، إذ كل اللغات تشترك بالأصوات العالمية الموحدة القيمة (الدلالة).

[27]- يُستدل من هذا الطرح أن اللغة نشأت بالاتفاق البشري، وأن وجود أي لغة اصطلاحية يفترض مسبقًا وجود لغة سابقة. فإذا لم تكن هناك لغة أولية، فلن يكون هناك أساس مشترك يمكن من خلاله الاتفاق على أسماء جديدة أو فهمها. مثال توضيحي:تخيل أن شخصًا أراد تغيير اسم شيء معين، لكنه لم يكن يعرف الاسم الأصلي له، فكيف يمكنه أن يتفق مع غيره على الاسم الجديد؟ وكيف يمكن للشخص الآخر أن يفهم الاسم الجديد دون معرفة الاسم الأول؟ هذا المبدأ ينطبق أيضًا على الكتابة، حيث يرى أبو العافية أن الكتابة أيضًا اصطلاحية، لكنها تختلف عن اللغة في طبيعة هذا الاصطلاح، وهو ما لا يتطرق إليه بالتفصيل هنا.

[28]-  سفر التكوين 11: 1

[29]- المقصود بـ "اللغة الطبيعية" عند أبو العافية هو اللغة التي نشأت بشكل جوهري وأساسي من طبيعة الأشياء نفسها، وليس نتيجة اتفاق بشري أو اصطلاح اجتماعي. يرى أبو العافية أن العبرية ليست لغة اصطلاحية مثل غيرها، بل هي اللغة الأصلية التي وُجدت بشكل طبيعي، ومنها انبثقت جميع اللغات الأخرى. يشبّه هذا المفهوم بعملية الخلق: كما أن البشر جميعًا انحدروا من أول إنسان خُلق، فإن جميع اللغات الاصطلاحية نشأت من العبرية باعتبارها "المادة الأولية" التي بُنيت عليها بقية اللغات. الفرق بين اللغة الطبيعية واللغة الاصطلاحية: اللغة الطبيعية: تنشأ من طبيعة الأشياء ذاتها، وليست وليدة اتفاق بشري. اللغة الاصطلاحية: تعتمد على الاتفاق الجماعي والتطور التدريجي وفقًا لاستخدام البشر لها. وفقًا لهذا المفهوم، فإن العبرية هي اللغة التي اختارها الله، وهي ليست مجرد اصطلاح بشري، بل تمتلك بنية جوهرية تجعلها المصدر الأساسي لجميع اللغات الأخرى.

[30]- وهذا هو أصل التخريب الذي طال جميع اللغات إلَّا العبرية! وبذلك اعتبر علماء اللغة العربية من أولهم إلى آخرهم مع استثناءات يسيرة أنَّ اللغة اصطلاحية وليست توقيفية من لدن حكيم خبير، وبذلك فالقرءان لغته اصطلاحية، وبذلك قال سوسير باعتباطية العلاقة بين الدال والمدلول تأثرًا ومتابعة لحكماء وربانيي ومعلي اليهود، وهذا فالقرءان كله اعتباطي، وكله مجاز، وكله كنايات، ومتعدد المعاني، وفيه محذوفات، وفيه ترادف.. والف آفة وآفة وضعوها عليه وكلها أصلها المؤسسة اليهودية!.

[31]- يتحدث هذا المقطع عن قصة مشهورة ذُكرت في سفر مفتاح الرأي حول تجربة أجريت لاكتشاف اللغة الطبيعية. الفكرة الأساسية للتجربة كانت مراقبة اللغة التي سينطق بها طفل لم يتلقَّ أي تعليم لغوي مسبقًا، وذلك بهدف معرفة أي لغة تنشأ تلقائيًا في غياب أي تأثير خارجي، وهذا يذكرنا بحي بن يقظان!، من أهم التحولات الكُبرى التي جرت هي ما تبدأ من 900 ميلادية وحتى 1200 ميلادية، فهنا التحريف والتصوف والحركات الغنوصية والباطنية وابن عربي وابن ميمون وأبو العافية وغيرهم الكثير، وهذه فترة الدولة العباسية! من 750 إلى 1500!.

[32]- يطرح أبو العافية في هذا المقطع فكرة أن اللغة لا يمكن أن تنشأ تلقائيًا لدى الإنسان دون تعليم مسبق، مشيرًا إلى أن كل متحدث بلغة ما قد تعلمها من سابقين، كما أن الإنسان الأول (آدم) كان له لغة. يناقش تجربة افتراضية تفترض أن طفلًا يُترك دون تعليم لغوي ويربى على يد شخص أخرس، ويؤكد أن هذا الطفل لن يتحدث العبرية تلقائيًا أو أي لغة أخرى، بل سيظل غير ناطق. كما يرفض القصص التي تدعي أن بعض الملوك أجروا تجارب على الأطفال لمعرفة لغتهم الطبيعية، معتبرًا أن مثل هذه الادعاءات غير صحيحة ولا ينبغي استخدامها لدعم مكانة العبرية. ومع ذلك، يرى أن العبرية لغة مميزة لأسباب أخرى تبرر تسميتها "اللغة المقدسة".

[33]- يرى أبو العافية أن تفوق اللغة العبرية يكمن في توافقها مع الطبيعة. ففي كتاب סתרי תורה (أسرار التوراة)، يكتب أن الاسم الذي يُطلق على أي شيء يعكس طبيعته الحقيقية وصفاته الجوهرية. وهو يشير هنا إلى كلمات عبرية مثل אור (أوֹר - النور) وחושך (حُوشِخ - الظلام) وיום (يوم - النهار) وלילה (ليلَة - الليل).

[34]- يشير أبو العافية إلى أن وصف اللغة العبرية بأنها "أقدس اللغات" لا يعود فقط إلى ميزاتها الطبيعية، بل لأنها نتيجة اصطلاح نبوي. وهذا الاصطلاح النبوي يكشف لنا عن أنماط التأثيرات وأسرار التدرّج في الجودة. كما أن الأسماء التي أُعطيت للحروف العبرية، مثل ألف، بيت، جِيمِل، دالِث، إلى جانب قيمها العددية (1، 2، 3، 4)، تحمل في طيّاتها حكمة عميقة تترك أثرًا باهرًا في النفس.


تعليقات

مواضيع المقالة