القائمة الرئيسية

الصفحات

 الفصل الثالث: رحلة العودة أو الصعود

 "فقام وجاء إلى أبيه"

في هذا الإعلان العظيم، يكتمل مسار الحياة المنسكبة الحاملة لأشعة الموناد من اللوغوس الشمسي، وقد أصبحت الآن في الإنسان واعية بذاتها تمامًا. لقد تمّ اجتياز الرحلة الكبرى بكل مراحلها: مرحلة النزول أو الانغماس في المادة (involution)، ومرحلة الصعود أو التطوّر الروحي (evolution). وهكذا تكون جميع الدورات الفرعية ضمن الدورة العظمى للذهاب والعودة قد أكملت مجراها.

وفي هذا الموضع من التأمل في المَثَل، يصبح من الملائم عرض بعض هذه الدورات الفرعية – لا كمجرد شرح إضافي للمثل – بل أيضًا لفهم المصطلحات الأساسية التي يقوم عليها هذا العمل بأكمله.

فوفقًا للفلسفة التي يرتكز عليها هذا الكتاب، فإن الأنظمة الشمسية – تبعًا لقانون دوريّ كوني صارم – تظهر، ثم تدخل في سبات، ثم تعود للظهور. وكل "خلق" جديد لا يبدأ من العدم، بل يُتابع عملية الانغماس والتطوّر من النقطة التي توقفت عندها الدورة السابقة. وتُسمّى هذه الفترات بـ:

"الليالي": فترات السُبات أو الخفاء (Obscuration)

"الأيام": فترات التجلي والنشاط (Manifestation)

أما "مادة" نظامنا الشمسي، فإنها مُنظمة في سبع درجات من الكثافة، تُعرف عادة بـ "مستويات الطبيعة" (Planes of Nature):

المستوى الأول: الأكثر لطفًا ونقاءً وروحية.

المستوى السابع: الأكثر كثافة ومادية وبعدًا عن النور الروحي.

لكن هذه المستويات ليست طبقات منفصلة أو متجاورة كطبقات الأرض، بل متداخلة ومُخترقة لبعضها، وتُصبح – كلما صعدنا في درجات اللطافة – أبعدَ مدىً وأقلَّ ارتباطًا بالمادة الفيزيائية.

وبهذا، فإن عبارة: "فقام وجاء إلى أبيه"

ترمز إلى أن الابن الضال – أي الحياة الواعية – قد أكملت رحلتها من الأصل إلى أقصى البُعد، ثم عادت عن وعي واشتياق لتتوحد من جديد مع المصدر الإلهي الذي خرجت منه. إنها عودة الكثرة إلى الوحدة، والزمان إلى الأبد، والظاهر إلى الحق.

يتكون كل واحد من هذه المستويات السبعة من سبعة مستويات فرعية متدرجة في الكثافة. ويُطلق على هذه العوالم – بحسب الترتيب التصاعدي في اللطافة – الأسماء التالية:

العالم الفيزيائي (بما فيه الأثيري)، وهو الأكثر كثافة،

العالم العاطفي (أو الشعوري)،

العالم العقلي (وهو مزدوج: مجرد وشكلي)،

العالم الحدسي،

العالم الروحي،

واثنان آخران لا يزالان خارج نطاق الوعي البشري المعتاد.

هذه هي الحقول السبعة التي تجتازها المونادات – أي الأبناء الضالون – في رحلتهم النزولية والصعودية، بحيث تُستثار فيهم القوى الإلهية الكامنة، وتبدأ بالتفتّح التدريجي.

فعند بداية دورة التجلي الكبرى، تنبثق موجة الحياة الحاملة للمونادات من الوعي الإلهي الأعلى، وتنزل عبر هذه المستويات السبعة إلى الأدنى، حيث العالم الفيزيائي. ومن هناك، تبدأ مسيرة العودة إلى العُلى، حتى بلوغ الاتحاد الكامل مع المصدر الأول.

أما النظام الشمسي الذي تنتمي إليه البشرية، فهو يتألف من عشر منظومات كوكبية (Planetary Schemes)، تحوي كل واحدة منها سبع سلاسل كروية (Chains)، وتتكون كل سلسلة من سبع دورات (Rounds)، تدور خلالها موجة الحياة – أي الابن الضال – عبر سبع كرات متتالية. وفي كل دورة، تتطور سبعة أجناس جذرية (Root Races) على كل كرة، ويُطلق على هذه الفترة اسم "العصر العالمي" (World Period).

وهذا المسار المتمثل في الخروج من الأعلى، والنزول، ثم العودة – كما في قصة الابن الضال – يتكرر في جميع الدورات الكبرى والصغرى. فكل دورة تبدأ دائمًا في المستوى الأكثر رقة ونورًا، ثم تنحدر إلى الأكثر كثافة، ثم تعود إلى النور. وعند نهايتها، تكون قوى الموناد الكامنة قد تفتّحت بالكامل، بعد أن كانت ساكنة في بدايتها. هذه هي القراءة الكونية أو الماكروكوزمية للمَثَل العظيم.

أما في القراءة الصغروية (الميكروكوزمية)، فإن كل موناد بشري يجتاز بنفسه جميع هذه الدورات السباعية ضمن منظومته الكوكبية الخاصة به. وأقصر دورة، وإن لم تكن الأقل أهمية، هي حياة واحدة في الجسد الفيزيائي. ويُقابل "الخروج" نزول النفس (Ego) من مستوى العقل التجريدي إلى المستويات الأدنى: العقل الشكلي، والمشاعر، والأثير، فالجسد المادي. أما "العودة إلى الوطن"، فتبدأ مع موت الجسد الفيزيائي، حيث تبدأ النفس الفردية بالانسحاب التدريجي من مستويات الكثافة عائدةً إلى ذاتها العليا التي أرسلتها.

وفي التأويل التمهيدي الرمزي للمَثَل، يكون الفرد قد اختار الحقيقة الخالدة بدلًا من المظاهر الزائفة، ودخل في طريق التلمذة الروحية (Path of Discipleship)، وسرّع عملية التطور الروحي عن وعيٍ وإرادة. لا يحدث هذا إلا بعد لحظة التحوّل الحاسمة، التي يُعبَّر عنها بكلمات الابن الضال: "أقوم وأرجع". عندها يُترك المظهر، ويُكشف الجوهر، ويبدأ السعي الحقيقي نحو النور، والحياة الواحدة، والقدرة الإلهية التي تنبثق منها الكينونة كلها.

ويبدأ وهْم الانفصال يتلاشى شيئًا فشيئًا، ويُستَبدل به الوعي الكوني، الذي هو في الحقيقة الحالة الأصلية للموناد، والتي يُشار إليها رمزيًّا بأنها "بيت الآب".

تلك، بإيجاز، هي الرسالة المركزية لمَثَل الابن الضال، وهي تظهر في تجليات كبرى وصغرى: في الكون، وفي النفس، وفي كل دورة حياة، حيث يتيه الوعي في ظلمة المادة ليشتاق من جديد للنور، ثم يُولَد ثانية في حضن الحقيقة الأزلية.

 

والده يركض للقائه، يستقبله بحرارة ويقبّله

تُصوَّر في هذا المشهد رموزٌ عميقة لعمليات كونية كبرى وصغرى (ماكروكوزمية وميكروكوزمية) من خلال استعجال الأب للقائه، وما أظهره من رحمة ومودة وقبلة. فالحدث يرمز عمومًا إلى التأثير الروحي المتواصل للجانب الأول من اللوغوس (الآب) على الكون بأسره وعلى الحياة التي تتطور فيه (الابن). أما على نحوٍ أدق، فإن تيار الحياة الذي يتجه إلى الخارج ينبثق من الجانب الثاني من الثالوث المبارك، أي المسيح الكوني أو "الابن". وحين يبلغ السير في درب العودة مرحلة معينة، يحدث نزول لقوة روحانية من الجانب الأول للألوهية (فيُقال: والده ركض للقائه).

مثال كوني على هذا النزول للقوة الروحية نجده في العملية المعروفة باسم "التفرد"، أي تحوّل الحياة والوعي اللذين كانا في السابق كونيين وشاملين، إلى نفس بشرية فردية مستقلة تسكن جسدًا ماديًا. فمع أن هذه الحياة تسكن أجساد الحيوانات، وتبدو خلال حياة الحيوان وكأنها تمتلك شخصية فردية، إلا أن كيانًا روحيًا كاملًا (موناد أو ذات عليا) لا يتجسد في كل حيوان على حدة. بل على العكس، فإن العديد من إشعاعات الذات العليا تكون مجتمعة ضمن ما يُعرف باسم "الروح الجماعية"، وهي بدورها تتجسد في أعداد كبيرة من الحيوانات. وفي حالة الحيوانات البرية، خاصة الصغيرة منها، قد تشمل الروح الجماعية الآلاف من الأجساد. ومع تطور الحيوان في مسيرته، خاصة عند دخوله في طور الترويض، يبدأ عدد الأجساد المرتبطة بروح جماعية واحدة في الانخفاض التدريجي. ويبلغ هذا التقلص ذروته حين يُظهر حيوان أليف واحد مستوى عاليًا من الذكاء والإخلاص، وغالبًا ما يُستثار هذا التطور نتيجة الاحتكاك الوثيق مع الكائن الأعلى في سلسلة التطور، وهو الإنسان.

في هذه المرحلة، تبدأ الروح الجماعية نفسها، داخل غلافها غير المادي، بالتقسّم إلى أجزاء وفواصل داخلية، إلى أن تقترب الحالة من نقطة يصبح فيها شعاع مونادي واحد ظاهرًا في حيوان أليف واحد فقط. وعندها تحدث العملية التي تُعرف بـ"التفرد". فحين يَسمو الحيوان نحو الأعلى بمشاعر الإخلاص، والحب، والسعي لفهم سيده وطاعته، يتم استدعاء أو استحضار نزول قوة من الجانب الأول للثالوث المقدّس. هذه القوة "تهبط بسرعة" لتلاقي المشاعر والأفكار التي تتجه صعودًا نحوها—وقد ضُرب لهذا التفاعل مثل بتكوّن نافورة مائية فوق سطح البحر—فيحدث اتحاد بين الطرفين (ويُعبَّر عنه: فقبّله أبوه). حينها يتمزق غلاف الروح الجماعية، وتُستخدم مادته لتكوين "الجسد السببي" الخاص بالأنا الإنسانية التي وُلدت أو نشأت من خلال هذه العملية.

وهكذا، وكما هو الحال في جميع الرموز المُلهِمَة التي تتناول لمّ الشمل والعودة، فإن استعجال الأب للقاء ابنه الضال العائد، وبشكل خاص قبلته له، يُعبِّران على المستوى الكوني عن التقاء تيار الحياة العائد من اللوغوس الثاني بالقوة النازلة والمُخصِبة المنبثقة من الجانب الأول من الثالوث المبارك. ففي اللغة المقدسة، تُستخدم القبلة، على المستوى الكوني، رمزًا متكررًا للمسة الحميمية التي تُحدثها قوة الجانب الأول من اللوغوس (الأب) على حياة الجانب الثاني العائدة (الابن).

في التأويل المرتبط بطقوس التلقين الروحي (الاستنارة)، ترمز القبلة إلى نزول قوة الإرادة المونادية إلى المُرشَّح، سواء بشكل مباشر أو عبر الوسيط الكهنوتي (الهيروفانت)، بصوته وعصاه الطقسية (الثيرسوس)، وذلك خلال طقوس التلقين الشرعية والمعترف بها.

وبالعودة إلى عملية التفرد، أي تحوّل الروح الجماعية غير الفردية التي تخصّ الممالك دون الإنسان إلى روح إنسانية روحية واحدة مستقلة، فإن الإسقاط الكوني لشعاع من قوة الإرادة (المُعبَّر عنه بجري الأب للقاء ابنه) يُنتج كيانًا مصغرًا من الكون: روحًا إنسانية روحية فردية، تبدأ بعد ذلك رحلتها التطورية الخاصة ("سأنهض") على القوس الصاعد([1])، أي في طريق العودة، ككائن مستقل. وعلى المستوى الجسدي، بعد الموت، يلتقي الأنا الأعلى (الأب بالنسبة للشخصية) بالنفس الشخصية المحضة (الابن الضال)، ويجذب إليه كل ما هو نقيّ ويتوافق مع الذات العليا، ليُدمجه في كيانه النوراني، وهو الجسد السببي (بيت الأب).

في المعنى التلقيني (الروحي)، يُقال إن كل خطوة يخطوها المتطلّع إلى التتلمذ نحو معلمه، يقابلها المعلم بخطوتين نحوه. وفي لحظة التلقين، تومض قوة الإرادة المونادية من الأعلى وتهبط إلى الأنا العليا القاطنة في الجسد السببي، كما تم شرحه سابقًا. وكما ورد في الجزء الثالث من هذا الكتاب، توجد داخل الجسد المادي للإنسان قوة نارية كامنة عادة، وحين تستيقظ، تتحرك عبر الجسد في مسار لولبي، ولذلك تُعرف باسم "النار الحيّة" أو "نار الأفعى" (Serpent Fire). وعند مرحلة معينة من التطور، وفي نقطة محددة من طقس التلقين، تُستثار هذه النار لتنشط بصورة خارقة للطبيعة. وعندما يحين وقت هذا الاستيقاظ، تهبط قوة الإرادة المونادية عبر قمة الرأس والعمود الفقري حتى تصل إلى مركز العجز (العصعص)، وهناك توقظ بنارها – أو "قبلة" إرادتها – نار الأفعى النائمة.

هذه النار، كما تم وصفها سابقًا، تنقسم إلى ثلاثة تيارات ذات أقطاب مختلفة، تصعد كل منها ضمن قناة أثيرية مخصصة متصلة بالعمود الفقري. وحين تصل إلى الدماغ وتُفعِّل أجزاؤه المحددة، تتحرر النفس الشخصية من قيود الجسد، وتصبح قادرة بعد ذلك على مغادرته بإرادتها لتصعد إلى اختبار حياتها الحقيقية، كأنا عليا، في العالم العقلي الأعلى، وهو "موطنها". وتُصوَّر لمسة إرادة الموناد النازلة على نار الأفعى النائمة أيضًا على أنها قُبلة. بل في الحقيقة، فإن كل قُبلة أو اتحاد—سواء شرعيًّا أو غير شرعيّ—في اللغة المقدسة يرمز إلى هذه الأفعال والتجارب الروحية والباطنية، وخصوصًا تلك التي تحدث في مسار التلقين والاستنارة الروحية.

يمكن أيضًا أن يُفهم استعجال الأب للقائه ابنه، وقبلته له، تفسيرًا صوفيًا خالصًا. ففي الحياة الروحية للإنسان، كل دعاء صادق، وكل تطلع أو ابتهال حقيقي، يلقى استجابة كاملة ونزولًا للنعمة. فلا توجد صرخة مخلصة تنادي بالنور إلا وتجد من يستجيب لها؛ إذ لا يُطلق نداء صادق إلى السماء دون أن يُسمع.

المسيح قد "ركض مسبقًا للقاء" كل نفس بشرية، كما تُشير إلى ذلك كلماته:

"لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ»." (مت 18: 20).

"فَفِي نِصْفِ اللَّيْلِ صَارَ صُرَاخٌ: هُوَذَا الْعَرِيسُ مُقْبِلٌ، فَاخْرُجْنَ لِلِقَائِهِ!" (مت 25: 6).

"وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». آمِينَ." (مت 28: 20).

"لِنَفْرَحْ وَنَتَهَلَّلْ وَنُعْطِهِ الْمَجْدَ! لأَنَّ عُرْسَ الْخَرُوفِ قَدْ جَاءَ، وَامْرَأَتُهُ هَيَّأَتْ نَفْسَهَا." (رؤ 19: 7).

"هنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي." (رؤ 3: 20).

بهذه الطرق المختلفة، على المستويين الكوني والصغروي، يسرع الجانب القوّي من اللوغوس للقاء الجانب الحي، فيحتضنه ويُقبّله بشعاع إرادته الروحي المُخصِّب أو بنار الذات العليا (النار الأتمية) Atmic fire.

 

الابن الضال يعترف بعدم الجدارة

تقول الحياة الكونية العائدة، بعد أن نزلت إلى أعماق المادة وتلطخت فيها، رمزيا: «لقد أخطأت إلى السماء وإليك، ولم أعد أستحق أن أُدعى ابنك.» تكشف هذه الاعترافات الرمزية أنه عندما يقترب أخيرًا اكتمال دورة الانطلاق والعودة، ويُفهم ذلك فهمًا تامًا، يتبيّن أثر التلوّث الذي تُحدثه المادة على الروح. فرغم أن الروح قد تُعتبر ملطخة بالمادة من منظور المحدود، إلا أنه لا يمكن النظر إليها كذلك من منظور اللامتناهي، حيث تظل الروح طاهرة أبدًا. ومع ذلك، من الأسفل، يمكن للمرء أن يقول مع الشاعر شيلي:

"الحياة، مثل قبة من الزجاج متعدد الألوان،

تلوّث بريق الأبدية الأبيض([2])."

إن اعتراف الابن الضال هو، على الأرجح، اعتراف بهذا العيب المحتوم وليس مجرد إقرار بالذنب فقط؛ إذ لا يمكن بأي حال تحميل الروح، والتي تعني هنا الحياة الواحدة وموناداتها المكونة لها، أي لوم أو ذنب نتيجة لعواقب الرحلة الانقلابية والتطورية التي لا مفر منها.

في مرحلة معينة من تطورها، تُراجع الموناد، بوصفها عالماً مصغراً، دورة التطور وتأثيراتها، وتدركها بوعي كامل. وبالمثل، عندما يصل النفس الداخلية للإنسان إلى درجة معينة من الوعي الذاتي في عالمها الخاص، وتحقق تطوراً روحياً داخلياً، وتصبح قادرة على نقل هذه التأثيرات إلى عقل وجسد الإنسان الفاني (الرباعي)، عندها تُدان وتُترك الدوافع والسلوكيات غير الروحية السابقة. يُعترف بالمسؤولية الكاملة عن الأخطاء الماضية ويُقبل بها، ويتخذ قرار لا رجعة فيه بأن تبدأ حياة جديدة ("سأنهض"). عندها يسود المثالية، الروحية والعملية، في الفكر والكلام والعمل.

اعتماد هذا الموقف من الإدراك، والتخلي، والاستسلام، والعزم يُشكّل مرحلة في غاية الأهمية في تطور الروح الروحية. فهو في الحقيقة شرط أساسي يمهّد للتحرر الذاتي من القيود الماضية، وتحقيق مستوى جديد وأعلى من الوعي، وكذلك للتعبير الفعّال عن القوى الروحية والفكرية والثقافية الناتجة عن ذلك.

إذا فُسّرت حياة المسيح كخبرات داخلية لشخص واحد — يبدأ كمبتدئ (الميلاد) ويتطور إلى متقدّم في الحكمة (الصعود) — فإن المهمة التحضيرية ليوحنا المعمدان تخضع لنفس التأويل؛ ففي العالم المصغر، جميع أحداث كل القصص الملهمة تُعبّر بشكل رمزي عن تجارب طبيعية لأفراد وأمم، وعن التطور الذي يحققه أولئك الذين، بدخولهم عبر "الباب الضيق"، يسلكون طريق الانفتاح السريع والنمو الروحي.

يمكن أيضًا تطبيق اعتراف الابن الضال بعدم استحقاقه على دورة حياة إنسانية واحدة تشمل الولادة، والنضج، والموت، وانسحاب الوعي إلى مصدره، إذ يعكس ذلك تجربة معينة على قوس العودة (الصعود). مع اقتراب الموت، تبدأ أحداث الحياة المادية التي أوشكت على الانتهاء في المرور أمام عين العقل، تُرى جميعها بوضوح وبشكل متوازن. يلاحظ الأنا المتجسّد من جديد النجاحات ونتائجها، وكذلك الإخفاقات وآثارها، فيستخلص الحكمة الجوهرية من تجارب الحياة التي تقترب من نهايتها. ورغم أن هذا ليس اعترافًا طوعيًا بالمعنى الحرفي، بل هو إدراك قسري للحقائق، إلا أنه يقترح وجود تطابق بين هذا الاعتراف بالأخطاء والفشل وبين اعتراف الابن الضال بعدم استحقاقه.

يمكن تفسير تواضع الابن الضال، واستسلامه، واعترافه، على أنها وصف لمؤهلات ضرورية لعبور الطقس الكبير الأول في التلقين الروحي. قبل الصعود النهائي من الإنسان إلى المملكة فوق البشرية للطبيعة، التي يرمز إليها صعود المسيح، يجب تسديد آخر ديون كرمية متبقية للطبيعة وللبشر الآخرين، وبأسرع ما يمكن، حتى لا يتأخر التحرر النهائي. هذا التعجيل الطوعي في تسديد الكارما، كما يُسمى، لا يتم دون معاناة عظيمة، تكون، مثل معاناة الابن الضال، في غالبها نفسية. أما آلام المسيح، التي بدأت في جثسيماني وانتهت بموته على الجلجثة، فتصف جزئيًا هذه العملية وجزئيًا تفككًا قسريًا لآخر بقايا وهم الفردية المنفصلة عن الذات.

يُعتقد أن الرسول بولس كان من المتلقّنين للعلوم الروحية في طقوس الإليوسينيا، استنادًا جزئيًا إلى التقاليد الباطنية، وجزئيًا إلى الأدلة الداخلية في كتاباته التي يستخدم فيها عبارات مأخوذة من الطقوس السرّية. كما يعبر بولس عن التوبة والتواضع في قوله: "لأَنِّي أَصْغَرُ الرُّسُلِ، أَنَا الَّذِي لَسْتُ أَهْلًا لأَنْ أُدْعَى رَسُولًا، لأَنِّي اضْطَهَدْتُ كَنِيسَةَ اللهِ." (1 كو 15: 9). ويتكرر هذا التواضع في رسالته إلى أهل أفسس: "لِي أَنَا أَصْغَرَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، أُعْطِيَتْ هذِهِ النِّعْمَةُ، أَنْ أُبَشِّرَ بَيْنَ الأُمَمِ بِغِنَى الْمَسِيحِ الَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى،" (أف 3: 8).

 

أَخْرِجُوا الْحُلَّةَ الأُولَى وَأَلْبِسُوهُ

الثياب الجديدة ترمز إلى حالة متجددة وموسّعة من الوعي. أما الثياب القديمة، فتُستخدم كرمز للقيود الذهنية مثل الأنا المتضخمة، والتحيّز، والتعصّب، والعمى الداخلي، وغيرها من الأغلال التي تقيد الفكر. لا بد من التخلص من هذه القيود قبل دخول مرحلة تطورية جديدة، سواء على المستوى الكوني (الماكروكوزمي) أو على مستوى الفرد (الميكروكوزمي). ولهذا نزع الأعمى برطيماوس ثيابه قبل أن يقترب من يسوع متوسلًا إليه أن يعيد له بصره، فاستُعيد له بعد ذلك بصره الروحي والذهني.

تُستخدم الأثواب والملابس أيضًا رموزًا لمركبات الوعي في أي مستوى من الوجود. ويمكن تفسير القميص غير المخيط الذي كان للمسيح على أنه يرمز إلى ثوب الـ"كريستوس" الكوني، أي الطبيعة المادية، وخاصة نظيرها الأثيري الذي يربط بين جميع الذرات ويجعلها وحدة واحدة. أما "تقسيم" ثياب المسيح فيرمز إلى ما يبدو من انقسام الحياة الواحدة لتصبح المبدأ الحي الذي يسكن أشكالًا لا تُحصى. أما للعين غير المستنيرة روحيًّا—ويُشار إليها في اللغة المقدسة بـ"الأعمى"—فتبدو الطبيعة وكأنها مليئة بالتنوّع والتفرد في جميع ممالكها. أما المستنيرون، فإنهم يدركون أيضًا وحدة الحياة الكامنة خلف هذا التنوّع. كما أن تقسيم ثياب يسوع إلى "أربعة أقسام، لكل جندي قسم" يشير أيضًا إلى الطبيعة الرباعية للكون المادي، والمكوّن من العناصر الأربعة: التراب، والماء، والهواء، والنار، ويمتد كذلك إلى الجهات الأربع من الأرض.

الملابس تُستخدم أيضًا رمزًا للقيود التي يفرضها كل وعاء من أوعية الوجود حتمًا على الوعي. ويمكن أن تتفاقم هذه القيود بسبب تبنّي أفكار أو نظريات أو عادات خاطئة، مما يزيد من ثِقل القيد. غير أن هذه القيود يمكن التخلص منها عبر نيل المعرفة الحقيقية وقبولها، إذ تؤدي إلى السلوك القويم. وعندئذ، يُرمز إلى هذا التحوّل بارتداء "ثياب جديدة". فالثوب الخانق والمقيّد يتحوّل رمزيًّا إلى "ثياب الخلاص"، ورداء جديد من "البرّ".

في الكتاب المقدس الهندوسي بهاجافاتا بورانا، يقوم الرب شري كريشنا، وهو طفل في التاسعة من عمره، بسرقة ملابس الراعيات (الجوبيات) أثناء استحمامهن وإخفائها، فيجبرهن على المجيء إليه لاستعادتها. وهنا ترمز الملابس إلى الشهوات، والرغبات، والغرور. وهذه الأخطاء ينبغي التخلّي عنها قبل أن يتحقق صفاء الرؤية الداخلية. هذا التعري الرمزي يتم بمعونة التأثير المنير للروح الروحية (شري كريشنا)، حين يُدرَك حضوره الداخلي ويُسلَّم له. أما قيام شري كريشنا بإعادة الثياب إليهن بنفسه، فيرمز إلى أن المركبات الدنيا وصفاتها غير المرغوبة قد طهِّرت وتحوّلت، بفعل خضوعها لتأثيره الروحي.

بشكل عام، يرمز الثوب الجديد أو المُطهَّر إلى الجسد المُعاد تكوينه، الذي "يلبس" فيه الوعي بعد أن يبلغ ثمرته في أي مستوى من الوجود. وهذا الثوب الجديد، أو الوعاء، يُعبّر من خلال لونه، وضيائه، وشكله، عن القدرات الجديدة التي بلغها الكيان الداخلي. أما الثياب الجديدة التي يُصوَّر بها المخلّصون والأبطال، فهي عادةً ترمز إلى الـ Augoeides، أي الجسد السببي، الذي يُجدَّد (أو يتوسّع بدرجة كبيرة) بعد كل دورة مكتملة من طقوس التلقين الروحي، حيث يكون هذا الاتساع هو ما يمنح "الجِدّة" لمعناه.

هذا الثوب الإلهي، أو "رداء المجد"، يُرمز إليه أيضًا بالحجاب، والمظلة (المسكن المقدس)، والبيت، والمدينة. وقد كتب الرسول بولس: "فإننا نعلم أنه إن نُقِضَ بيتُ خيمتنا الأرضي، فلنا في السماوات بناءٌ من الله، بيتٌ غير مصنوعٍ بيدٍ، أبدي. فإننا في هذا نئنّ مشتاقين إلى أن نلبس فوقه مسكننا الذي من السماء." (الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس 5: 1–2) فهذا التصوير العميق يُعبّر عن التوق الإنساني للاتحاد بالجسد الروحي الأعلى، بيت النور الإلهي، بعد زوال الجسد الأرضي الزائل، حيث يلبس الإنسان "ثوبه السماوي" الذي لا يصنعه البشر، بل هو أزلي في ملكوت السموات.

على المستوى الكوني، تُشير عطية الأب لابنه لأفضل رداء في مَثَل الابن الضال إلى أن الروح، حين تدخل المرحلة الختامية من أي دورة كونية، لا تُغلَّف إلا بأرقى حجاب من المادة، أي أن أنقى مستويات الوجود وحدها هي التي تُغلف الحياة الروحية في تلك المرحلة. كما يُعبّر هذا الثوب الجديد عن أسمى حالة روحية من الوعي، تُستعاد فيها وحدة الكيان بعد أن يكون قد خضع لحرمان المادة ووهم التعددية، ليبلغ من جديد إدراكًا تامًّا للوحدة.

أما على المستوى المونادي، فإن الذات الأعمق – الجوهر الإلهي – تصبح الآن مكسوة بوعي كامل بمادة عالمها الخاص، وهو المستوى الثاني من بين المستويات السبعة إذا عُدّت من الأعلى، ويُعرف باسم أنوباداكا (Anupadaka)، أي "الذي لا والد له"، وهو عالم النشوء الذاتي حيث تولد الكينونة من ذاتها دون وسيط.

يصبح الأنا، بعد أن يتحرر من وهم الانفصال ويتنوّر بنور الموناد (الذات الإلهية أو الأب)، مكسوًّا بـ"رداء المجد" – أي الجسد السببي المصفّى والمُكتمل، والمضيء بقوى شمسية وفلكية. وفي نهاية كل دورة من دورات الحياة الشخصية، يكون الأنا خارج التجسّد مؤقتًا، أي بلا جسد على المستويات الثلاثة الدنيا، ويكون آنذاك مكسوًّا بالجسد السببي، أو "أفضل رداء". أما بعد التلقين الأول (الطقس الروحي الأول)، فإن المُتلقَّن يُكسى بثوب أبيض من الحرير، يُعبّر عن النقاء ويرمز إليه، كما يرمز إلى حياة جديدة، وميلاد ثانٍ، حيث يُصبح الإنسان "مولودًا من جديد" ويغدو "كطفل صغير" بحسب التعبير الرمزي.

تُستخدم العبارات مثل "مولود جديد"، و"طفل"، و"أطفال"، و"صغار" من قِبل كتّاب اللغة المقدسة للدلالة على أولئك الذين نالوا التلقين الروحي مؤخرًا. وهذا الوصف ملائم، إذ إنهم قد دخلوا لتوّهم الطريق الحقيقي، كما أن الحكمة الصافية والبصيرة الروحية تُجدد العقل وتُبسطه، فتجعله شبيهًا بعقل الطفل: نقيّ الدافع، تلقائي، صادق. ويبلغ المرء في هذه الحالة حالة من البساطة والوضوح الروحي والعقلي. وقد يؤدي هذا إلى أن يُنظر إلى هؤلاء من قبل ذوي النزعة الدنيوية على أنهم سُذج أو حمقى لا يُؤبَه بهم، مستحقّون للازدراء والاحتقار. غير أن حالة "الطفل الصوفي" ليست سذاجة، بل هي موقف وجودي قائم على نزاهة لا تتزعزع، وطاعة فورية ونقيّة للقوانين الروحية، خالية من المصلحة الذاتية. وتحت هذه الشروط، تظهر ملكة البصيرة الروحية – التي تكون قد تطورت بدرجة عالية – بحرية وفعالية عظيمة، فتهب العقل حكمة وفهمًا وبصيرة فطرية مباشرة.

جميع المتلقنين، وبخاصة أولئك الذين وصلوا إلى هذه المرحلة حديثًا، يصبحون عرضةً إلى حد ما للنقد والاستهزاء والعداء من قِبَل الأشخاص ذوي النظرة الدنيوية، وفي هذا يشبهون ضعف المولود الجديد الذي لا حول له ولا قوة. ومع ذلك، فإن هؤلاء "الصغار" يحظون بعناية ومحبة خاصتين من قِبَل كبارهم في الحياة الباطنية، وخاصة من معلميهم، ورعاتهم المتقدمين، ومن المتلقنين الآخرين الذين تشكلت بينهم روابط خلال حياتهم الحالية والسابقة. الخطوة الباطنية التي خطوها، والتوسع المصاحب للوعي الذي حدث لهم، والمثل العليا العالية للنقاء وجمال الحياة التي يلهمون بها الآن، ترفعهم إلى مكانة مهمة بين بقية البشر. فهم لا يفيضون بالبركات على العالم فحسب، بل هم أيضًا منقذون محتملون للعالم، بالإضافة إلى أن تطورهم وصل إلى مرحلة حرجة للغاية.

ولهذا السبب، جاء تحذير صارم جدًا من ربّنا ضد إيذاء هؤلاء المتطلعين الجدد إلى الحكمة الروحية والحياة الروحية، ومن يتجسدون بـ"المولودين جدّدًا" أو "المولودين من جديد" وفقًا للغة المقدسة. فقال:

"ومن زلزل واحدًا من هؤلاء الصغار المؤمنين بي، خير له أن يعلق حجر رحى حول عنقه ويغرق في أعماق البحر." (مرقس 9: 42)

هذا التحذير يعكس أهمية حماية النفس الروحية الناشئة التي هي في حاجة إلى رعاية خاصة، لما لها من مكانة ودور بالغ الأثر في مسيرة الإنسانية الروحية.

 

وقال أبوه: "اجْعَلُوا خَاتَمًا فِي يَدِهِ"

إن هذا الحدث يحمل دلالة رمزية عميقة إلى حدٍّ يستدعي تقديم عدة تأويلات ممكنة للرمز حتى يُنصف المعنى الرمزي الكامل له. وبناءً على ذلك، من المفيد التوقف بشيء من التفصيل عند رمز الخاتم، والأسطورة المرتبطة بوضعه في إصبع المتلقي. فالدائرة، التي لا بداية لها ولا نهاية، ترمز إلى الأبدية، وإلى القوة الأبدية، والحق، والحكمة. وشكلها المكتمل يُشير إلى اكتمال رحلة دورية من الانطلاق والعودة، ويُوحي في الوقت ذاته بالقدرات التي يكون قد تم تحصيلها عند بلوغ هذه المرحلة. أما على مستوى الوعي، فالدائرة ترمز إلى إدراك "الآن الأبدي" لدى الحكيم المتحقق (Adept)، وإلى اختبار مفهوم "الدوام" – أو الزمن غير المحدود – لدى الإنسان المستنير.

إن إهداء خاتم من قِبَل كبير أو معلّم روحي قد يرمز إلى بلوغ حالة من اللازمن، والآن الحاضر، والهُنا، والكلّية، أو الوحدة في الزمان والمكان. فمَن بلغ هذا المستوى يُقال إنه قد "تكوَّن في خاتم"، أي إنه يحيا في الأبد. كما أن الخاتم يوحي بالحركة؛ فهو رمز لرحلة دائرية بدأت من نقطة ثم عادت إليها. وهكذا، فإن المونادات (الذوات الجوهرية) بوصفها أبناء ضالين، تدور في "الدائرة الكبرى"، في حين أن الأنا البشرية تُكرّر "دورة الضرورة"، أو تُربط بعجلة الولادة والموت. أما الأجساد، فهي أيضًا تُولد، وتبلغ النضج، ثم تموت. وخلال فترة الوجود الجسدي، تتبع الليلة النهار، ويأتي النهار ليقود إلى الليل من جديد، ويلي النوم الاستيقاظ، ثم يعود الجسد إلى النوم مرة أخرى. وبهذا، فإن الوجود ذاته ذو طبيعة دائرية، يتبع مسارًا دائريًّا، ويخضع لقاعدة "الخروج والعودة"، وهي القاعدة التي يُجسّدها رمز الخاتم.

إن هذا المبدأ أساسي وعميق إلى درجة تستحق شرحًا أكثر تفصيلًا، حتى وإن اقتضى ذلك بعض التكرار. فرمز الخاتم، وفعْل إهدائه، يحملان دلالات رمزية بالغة الأهمية. وعند النظر إليهما من زاوية رمزية، يمكن أن تتخذ بعض تأويلاتهما المعاني التالية: اللانهائية؛ أي الأبدية وما هو أبدي. اكتمال دورة، وبلوغ درجة الكمال النسبي التي تُعدّ المعيار المحدد لتلك الدورة، سواء كانت كبرى أم صغرى. نهاية فترة من فترات التجلي، سواء أكانت تخص النظام الشمسي، أو منظومة كوكبية، أو سلسلة كواكب، أو دورة كونية، أو حقبة زمنية، أو سلالة جذرية، أو فرعًا منها، أو حضارة، أو أمّة، وكذلك بداية مرحلة لاحقة لها. مبدأ التطور الدوري، القائم على الحركة بين الانطلاق والعودة، في سياق تقدّم أبدي لا يتوقف. فالخاتم، في جوهر رمزيته، يُجسّد فكرة التقدّم عبر الحلقات الزمنية والروحية، حيث لا خطّ مستقيم في الوجود، بل دورات تتحرّك إلى الأمام، وتعود لتُكمل نموّها من مستوى أعلى.

حين تكتمل دورة واحدة، لا بد من الشروع في دورة جديدة. وتنصّ العقيدة السرّية (The Secret Doctrine) على أن هذا التقدّم المنظَّم لا بداية يمكن تصوّرها له، ولا نهاية يمكن تخيّلها. فعودة الابن الضال إلى البيت لا بد أن يعقبها انطلاقٌ جديد، لأن الرحلة لا تتوقف. وهكذا، فإن إهداء الأب خاتمًا لابنه يُخلّد من جهة اكتمال دورةٍ واحدة، ويُشير من جهة أخرى إلى بداية دورة لاحقة، ستُحرز فيها مراتب تطورية أعلى. أما الدائرة حين تُصوَّر على هيئة أفعى تقضم ذيلها—حيث الذيل يُمثل القطب الموجب، والفم القطب السالب—فهي ترمز إلى التوليد والتجدّد في تعاقب لا نهائي، وإلى الحكمة التي تُكتسب من خلال هذه الدورة، كما ترمز إلى الحكماء أو المعلمين المتحققين (الـ Adepts) الذين يُجسّدون تلك الحكمة في ذواتهم.

لقد أكملت الموناد (الذات الجوهرية) دورة حياتية، ويجب عليها الآن أن تشرع في دورة تالية. وكذلك، فإن الأنا قد أنهت دورة من الولادة والموت، ويجب أن تدخل في دورة جديدة. وبعد عدد كافٍ من هذه الدورات على المستويين المونادي والأنوي، وما يصاحبها من دورات فرعية شخصية، تكتمل دورة كبرى من تطور الإنسان، وتكون الطبيعة قد أفرزت "الإنسان الكامل".

وعلى المستوى الكوني، فإن ظهور أول ذكاء خَلّاق فاعل وموضوعي، وأول حركة لـ"النَّفَس العظيم" (The Great Breath)، قد أوجدا شروطًا تخضع لعمل قانون التقدّم الأبدي الدوري، الذي يبدأ فعله فورًا.

يمثل الابن الضال في هذا السياق الحياة المُتجلّية، أي الوجود المحدود، في مقابل "غير المُتجلّي"، أي اللانهائي الساكن. وتُعدّ موجة الحياة الحاملة للبذور "ابن الضرورة"، شأنها في ذلك شأن جميع البذور (المونادات) والأشكال التي تسكنها في كل مرحلة من مراحل التعبير الذاتي النشط. فالجميع خاضع لقانون الدورات، أو قانون التقدّم الدوري الأبدي، الذي "لا بداية يمكن تصوّرها له، ولا نهاية يمكن تخيّلها". أما الأب الذي يقدّم الخاتم، فهو تجسيد رمزي لهذا القانون الكوني الأزلي.

 

وقال الأب: واجعلوا "حِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ"

في المستوى الكوني (الماكروكوزمي)، تكون جميع المادة — وخاصة أكثفها، والتي يُرمز إليها بالحذاء الذي يُلبَس في أقصى أجزاء الجسد انخفاضًا — قد تشبّعت بالروح تمامًا في المرحلة الختامية من الدورة. لقد أصبحت هذه المادة مطواعة بالكامل وخاضعة لإرادة الروح، ومهيّأة لتُستخدَم في الدورة الجديدة القادمة كجوهر يُبنى منه الوعاء الذي تسكنه الحياة الروحية السائرة على الدوام في رحلتها. إن عملية "التحويل الجوهري" (transubstantiation) — أي تحوّل المادة إلى ما هو روحي في كنهه — تكون قد اكتملت. لقد أصبحت الطبيعة كلُّها بمنزلة "القربان المقدَّس"؛ أي حاملة للحضور الإلهي، ومكرّسة لخدمته.

في معناها الكوني (الماكروكوزمي)، فإن فعل المسيح في غسل أقدام التلاميذ يحتمل تفسيرًا رمزيًّا مشابهًا. أما على المستوى الإنساني (الميكروكوزمي)، فتمثّل الأقدام جزئيًّا الأساس الذي تقوم عليه الحياة البشرية، وكذلك الأفعال اليومية المتتالية. فعندما تُطهَّر هذه الأقدام — أي تُغسل رمزيًّا بفعل مبدأ المسيح الداخلي، الملهم والمضيء — يكون الإنسان قد بلغ تمام التطهّر الذاتي. وحيث إن الأقدام هي وسيلة التقدّم الجسدي، والرغبة تمثل القوة الدافعة لكثير من الأفعال البشرية، فإن هذا الرمز يمتدّ ليشمل أيضًا تطهير الجانب العاطفي في الإنسان. فغسل الأقدام هنا يشير إلى تطهير الإرادة والرغبة والدوافع، من خلال النور الروحي المتجلي في الداخل، ليُحقق الإنسان حالة من الصفاء الشامل في الفكر والعمل والمشاعر.

يبدو أن الكُتّاب القدماء لم يكونوا يتورّعون أحيانًا عن استخدام التلاعب اللفظي ضمن أساليبهم الرمزية. فعلى سبيل المثال، تُشير الأقدام، من خلال وظيفتها الداعمة لجسد الإنسان، إلى الفهم أو الإدراك العميق للحياة، ومنها أيضًا إلى السلوك القائم على هذا الفهم. ويُساعد على بلوغ هذا الفهم الواضح التأثيرُ الداخلي للطبيعة المسيحية المستيقظة في الإنسان، والتي صُوّرت رمزيًّا في حادثة تطهير أقدام التلاميذ على يد السيد المسيح. وسيجري لاحقًا تفسير هذا الحدث بصورة أوسع ضمن السياق التدريجي لدراسة الكتاب المقدس، وهو ما يُشكّل جوهر هذا العمل. ومع ذلك، فإن الأمل معقود على أن الرموز، وأساليب التأويل، والأمثلة الواردة في هذا الجزء، ستكون كافية لتمكين الطالب من تطبيق هذه المبادئ على مختلف القصص الرمزية الكبرى التي يتألف منها الكتاب المقدّس في جوهره.

امتلاك الحذاء الجديد قد يُشير أيضًا إلى أن القوة اللازمة للانطلاق في دورة جديدة قد تم تحصيلها وتفعيلها. ومن ثم، فإن هذا الحدث يرمز إلى أن الجمود الكامن في المادة عبر الكون بأسره قد تم تجاوزه، أو بالأحرى، قد تحوّل إلى حركة. أما فعل الأب في الاحتفال بعودة الابن الضال عبر منحه حذاءً جديدًا، فهو يرمز إلى حقيقة جوهرية: لا يوجد توقف نهائي أو دائم في النشاط الدوري؛ فالتقدّم الأبدي هو قانون "يوم الخلق" المستمر. فمع نهاية كل دورة، تُحرَّك قوى جديدة لتحمل ثمار الدورة السابقة — وقد أصبحت الآن بمثابة طاقات كامنة وبذور — نحو الدورة التالية، لمتابعة الرحلة التطورية التي لا تنتهي.

عندما تُخلع الأجسام أو الأوعية التي استُخدمت في الدورة السابقة عند اكتمالها، يتلقّى الموناد–الأنا، أي الكائن المصغَّر للكون (الميكروكوزم)، مجموعة جديدة من الوسائل تُمكّنه من متابعة التقدّم المادي — وهنا يُرمز إلى ذلك بـ"الحذاء". وقد يُشير الحذاء الأيسر والأيمن على التوالي إلى التجسّدات الأنثوية والذكورية. وإن منح الحذاء الجديد يرمز إلى أن كلا وجهي التعبير الذاتي للـ"أنا" — السلبي والإيجابي — قد تم تطهيرهما، وتروحنهما، أو تجددهما. كذلك، قد يدلّ إعطاء زوج من الأشياء المختلفة قليلًا (كالحذاءين) على تحقيق التوازن أو الانسجام بين مكونات أزواج الأضداد في الطبيعة البشرية وسلوك الإنسان، وهو شرط أساسي في مسار الارتقاء الروحي. فالهبة الرمزية للحذاءين تُجسّد بذلك تكامل القطبين في الإنسان، وتَحقّق الانسجام بين جوانب النفس المختلفة استعدادًا لدورة تطوّر جديدة.

عند لحظة الاستنارة (Initiation)، وهي التي تمثّل نهاية مرحلة من التطوّر الإنساني وبداية مرحلة تالية لها، يتم تفكيك الجسد السببي القائم (Causal Body)، ويُعاد تشكيل جسد سببي جديد على الفور ليكون وسيلةً ينقل بها الـموناد-الأنا (Monad-Ego) عبر المرحلة التالية من مسيرته التطورية. وإضافة إلى ذلك، فإن أولئك المُتدرّجين إلى مرتبة المُعلّمين (Adeptship)، الذين يقرّرون الاحتفاظ بأجسادهم المادية، يُخضعون هذه الأجساد لعملية باطنية من التنقية والتجدّد، بحيث يتم تأخير حلول الموت الطبيعي. لكن عندما يقع الموت الجسدي في نهاية المطاف، فإن بعض الأجسام اللطيفة تُجسّد إلى المستوى المادي، مما يُمكّن المُعلّم من امتلاك جسد ماديّ شبه خالد. وعلى الرغم من أن مظهر هذه الأجساد المتجددة قد لا يبدو مختلفًا اختلافًا كبيرًا، فإن مادتها الداخلية وحالتها الحيوية تتبدل جذريًا، ويتم الحفاظ على هذه التبدّلات بعناية بعدئذ، مما يُفضي إلى تحقيق عُمْر مديد يتجاوز بكثير العمر المعتاد. وبما أن بلوغ مرتبة "المُعلّم" يُمثّل اكتمال الدورة الوجودية الإنسانية الخالصة، فإن عودة الابن الضال في النصوص الرمزية يمكن مقارنتها بشكلٍ تمثيلي بهذه اللحظة. وبالمثل، فإن انتعال الحذاء الجديد يُمكن أن يُعدّ رمزًا لعملية تجدّد الجسد.

 

العجل المُسمَّن

الثيران، والثيران المخصية، والبقر، والعجول تُستخدم عمومًا كرموز للقوى الإلهية الخلّاقة بنوعيها: الذكورية والأنثوية. فالـثور، بما يمتاز به من قوة تناسلية هائلة، يُعدّ رمزًا ماديًّا مناسبًا للـروح، أي للقوة الخلّاقة الذكورية، وللدور الذكوري في جميع عمليات التوليد والخلق. أما الـبقرة، بخصوبتها وقدرتها على إنتاج الحليب كمادة مغذّية، فهي رمز مادي ملائم للـمادة أو "جوهر الفضاء"، أي للقوة الخلّاقة الأنثوية، وللدور الأنثوي في كل عمليات التوالد والتكوين. وترمز البقرة بذلك إلى الخصوبة اللامحدودة للمادة، وإلى خصب الطبيعة التي توفّر دومًا الغذاء والوفرة. ولهذا تُعتبر البقرة تجسيدًا خصبًا للأرض، أو لـ"الأم الطبيعة"، التي تمنح الغذاء والقوة والصحة والسعادة.

يمتلك العجل، من حيث الإمكان، إحدى الخصائص المذكورة أعلاه أو كلتيهما، لكنه يرمز بشكل خاص إلى نتاج التفاعل الخلّاق بين "الأب–الأم"، أي بين الروح والمادة، ومن ثم فهو رمز للكون ذاته، ولجميع الكائنات والمظاهر التي تنشأ منه. فالعجل يُجسّد النتيجة الحيّة لهذا التفاعل الكوني بين القوة الذكورية (الروح، الفعل) والقوة الأنثوية (المادة، التقبُّل)، ولهذا يُستخدم رمزيًّا للدلالة على الخليقة، وعلى كل ما يولد من رحم الوجود.

على المستوى الكوني (الماكروكوزمي)، يُشير أكل العجل المُسمَّن إلى امتصاص كل القوى والثمار الناتجة عن مسيرتي الانغماس في المادة (الانحدار) والتطور الصاعد، وعودتها إلى المصدر الإلهي في ختام دورة كبرى من دورات الوجود. فعندما يكون العجل حديث الولادة، فإن ذلك يرمز إلى بزوغ فجر الخلق، أي بداية دورة كونية جديدة. أما حين يكبر ويُسمَّن، فإن ذلك يدلّ على اقتراب نهاية الدورة التطورية. وأما أكل العجل، فيمثّل جني الثمار النهائية وتكثيف الحصاد الروحي والمعرفي المتراكم خلال فترة الظهور والخلق، ثم إعادة هذه الحصيلة إلى الحضن الإلهي الذي صدرت منه.

في الإنسان، باعتباره الكون المصغَّر (الميكروكوزم)، يُمثّل العجل رمزًا للحكمة الحدسية التي "تُولد" من التلاقي الخلّاق بين إرادة الروح النازلة (رمزها الثور) ووعاء الذكاء المجرد، أي الجسد السببي (ورمزه البقرة). ومن هذا الاتحاد الروحي–العقلي، يتنوّر الذكاء الإنساني بنور العقل النقي والحدس الروحي (أي بعملية التخصيب أو الحَبَل الرمزي). ومن تلك اللحظة، يبدأ الوعاء الأعلى — جسد الحدس — بالتطوّر ليُصبح أداة فعّالة في الإدراك الفائق للعقل، وفي الإبصار المباشر والفهم التلقائي لأصول الحقائق ومبادئ الوجود الأولى.

إن عملية أكل العجل المُسمَّن — وكذا جميع الولائم الرمزية — تُعبّر عن أن مركز الوعي قد ارتفع وتجاوز الرباعي الأدنى (الجسد، العواطف، العقل الأدنى، والرغبات)، واستقرَّ في المستويات الروحية العليا التي تعلو المبدأ العقلي ذاته. وفي هذا المقام العلوي، يتغذّى الوعي — رمزيًّا — على ثمار الحدس الروحي، أي يستوعب بعمق المكاسب الغنية التي يوفّرها تفعيل هذا الحدس: من بصيرة، وفهم مباشر، وتذوق للحقيقة. فالوليمة هنا ترمز إلى الاغتناء الداخلي الناتج عن الارتقاء، حيث يصبح الكائن قادِرًا على استقبال خيرات الإدراك الروحي وتفعيلها في وعيه العلوي.

العجل المسبوك — لنُعرِّج عليه سريعًا — يُمثّل تطوّر وانبثاق قوى الرغبة، وخاصةً كما تتجلّى من خلال الجسد العاطفي والجسد المادي. وكما يقول المزمّر: "صنعوا عجلًا في حوريب، وسجدوا لتمثال مسبوك، فاستبدلوا مجدهم بمثال ثورٍ آكلٍ العشب." فهذا العجل المسبوك يرمز إلى عبادة الشكل دون الجوهر، أي إلى التمسك بالحرف والظاهر من النصوص الدينية والشعائر، دون النفاذ إلى معناها الباطني وروحها الحيّة. إنّ الاعتماد المفرط على التفسير الحرفي للكتب المقدسة، والإصرار على فاعلية الطقوس والمظاهر الخارجية بمعزل عن الحياة الروحية الداخلية، هو ما يجسّده رمز العجل المسبوك. ورغم أن البدايات الروحية قد تتطلب نوعًا من الاتكاء على السلطة الخارجية والرموز الظاهرة (العجل المسبوك)، فإن الحقيقة الروحية الكامنة خلف ستار الرموز والطقوس لا بد أن تُدرَك في النهاية. وبالتالي، فإن رمز العجل المسبوك يُشير إلى حالة الإنسان الذي لم يبدأ بعد عملية التحوّل الباطني، تلك التي تُحوِّل قوى الرغبة والتوليد إلى قوى الإرادة الروحية، والحكمة الباطنية، والعبقرية الخلّاقة. بكلمات أخرى، هو رمز لحالة الجمود الروحي، حينما تُستهلك الطاقات العليا في أغراض أدنى، بدل أن تُصهر وتتسامى عبر الكيمياء الداخلية للنفس.

 

لـ"فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ"

في المعنى الروحي، تُعبِّر الوليمة عن امتصاص ثمار أي دورة من دورات النشاط، سواء على المستوى الكوني (الماكروكوزمي) أو الإنساني (الميكروكوزمي)، وسواء أكانت دورة كبرى أم صغرى. فـالأكل والشرب هنا رمزان لعملية التمثُّل والاستيعاب، سواء لقوّة، أو حكمة، أو معرفة، أو — في المعنى الأوسع — لتلك الطاقات والقدرات التي كانت كامنة في البداية ثم نمت وتفعّلت خلال الرحلة التطورية.

إنّ ثمار الرحلة أو الحج أو المسار يتم جمعها وتحضيرها وتذوّقها على هيئة "وليمة" رمزية، حيث يتم استيعاب القوى والمواهب والمعارف التي تمّ تطويرها عند بلوغ نهاية الدورة، ويتم ذلك في حالة من الامتلاء والسعادة. ففي تلك اللحظة، لا يوجد نقص، إذ كل شيء قد تمَّ بلوغه، وانتهت رحلة الانطلاق والعودة. هي لحظة الاكتمال الروحي، حيث تُقطف ثمار السعي، ويذوق الكائن طعم الوحدة، والنضج، والرضا الوجودي.

في هذا السياق كتب النبي إشعياء: "وَيَصْنَعُ رَبُّ الْجُنُودِ لِجَمِيعِ الشُّعُوبِ فِي هذَا الْجَبَلِ وَلِيمَةَ سَمَائِنَ، وَلِيمَةَ خَمْرٍ عَلَى دَرْدِيّ، سَمَائِنَ مُمِخَّةٍ، دَرْدِيّ مُصَفًّى." (إش 25: 6). فهذا التصوير الرمزي الغني يُعبّر عن الامتلاء الروحي والمعرفي الذي يُمنَح في قمة دورة تطورية، حين يُهيَّأ للكائن أن يتذوق "ثمرات" ارتقائه. الأطعمة الدسمة والخمور المصفّاة تُشير إلى العمق والجودة والنضج، حيث تُصبح القوى الكامنة فاعلة، والمعرفة حكمة، والسعي إنجازًا داخليًّا متحققًا. بل إن الإصحاح الخامس والعشرين من سفر إشعياء بأكمله غنيٌّ بالتصوير الرمزي الذي يُعبّر عن البلوغ الكوني والذاتي في نهايات الدورات الروحية — سواء على المستوى الكوني الكبير (الماكروكوزم) أو على مستوى النفس الإنسانية (الميكروكوزم) — مكتوب بلغة رمزية تشير إلى الانتصار، والانكشاف، والانعتاق، والتجدد الكامل.

وخلاصة القول، إن جميع الولائم الرمزية تُجسِّد حالة الاكتمال والامتلاء التي يبلغها الكائن عند نهاية دورة تطوّرية. فإذا طبَّقنا ذلك على حياة إنسان واحدة، فإنها تُشير إلى بلوغ مرحلة النضج الكامل، حيث تكون تجارب الحياة الغنية، والحكمة المتولدة منها، والفهم المتراكم قد تم استيعابها وتفعيلها في العقل والجسد.

أما إذا نُظر إلى ذلك من زاوية الحياة الباطنية داخل المعبد (أو المسار الروحي الداخلي)، فإنّ أكل العجل المُسمَّن، والوليمة، والفرح، كلها رموز لحالة وعي رفيعة يدخلها السالك مع اقتراب موعد الاستنارة النهائية، أي تلك اللحظة الحاسمة التي يتحرّر فيها من قيود الفردية والجهل، ويُصبح إنسانًا مُتفرِّدًا (Adept) — حُرًّا، مُدرِكًا، وفاعلًا بوَعي في ملكوت الروح.

العشاء الأخير، والدعوة التي وجَّهها السيّد المسيح لتلاميذه في ظهوره الثالث بعد القيامة، قد يُفهمان بوصفهما رمزين لحالة الاكتمال الروحي التي يبلغها الكائن في نهاية المسار — وهي الحالة التي يُشير إليها أيضًا الصعود (Ascension) بوصفه رمزًا للارتقاء النهائي. واللافت أن القديس يوحنا وحده هو من يروي هذا الحدث، وإنجيله معروف بكونه غنيًّا بالإشارات الصوفية، مما يدل على أن رمزية "الأغابي" (Agape) — أي المحبة الكونية والإلهية — كانت حاضرة في ذهنه على الأرجح، بمعانيها الماكروكوزمية (الكونية) والميكروكوزمية (النفسية). كما أن ولائم الزواج المذكورة في العهد القديم والعهد الجديد، مثل ولائم يعقوب، شمشون، أستير، وعرس قانا الجليل، يُمكن أن تُفسَّر ضمن هذا الإطار الرمزي ذاته، حيث تُجسّد جميعها لحظات اندماج وتوحُّد، سواء بين قوى الإنسان الداخلية، أو بين النفس والروح، أو بين الكائن والخالق — أي أنها ولائم للاتحاد، والتحوُّل، والتتويج في نهاية رحلة رمزية نحو النور.

 

الابن الأكبر كان غاضبا

الإيحاء بوجود غيرة أو تنافس بين جوانب الطبيعة الإلهية، أو بين المونات (Monads) التي تتطور عبر المملكة الملائكية وتلك التي تسلك الطريق البشري، مرفوض وغير مقبول ضمن الفهم الباطني العميق. لذلك، فإن غضب الابن الأكبر في مثل الابن الضال يُمكن اعتباره ستارًا رمزيًّا مقصودًا، أو ما يُعرف في لغة الأسرار بـ"العَمى المتعمَّد" (Deliberate Blind)، أي عنصر ظاهري يُقصد به إبعاد غير المستعدين عن المعاني الباطنية العميقة. هذا النوع من الرموز يُستخدم لحماية الحكمة السرّانية (السرّ المقدّس) من سوء الفهم أو الاستغلال، إذ إن الكشف عن هذه المعاني الداخلية يُفضي إلى قوى روحية عظيمة، لا ينبغي أن تُعطى إلا لمن بلغ النضج الكافي لاستخدامها في الخير والاتزان. وبالتالي، فإن المشهد الظاهري للغيرة والغضب ليس سوى ستار بلاغي يُخفي خلفه حقائق سامية عن التوازن الإلهي، وعدالة التطور، وتكامُل المسارات المختلفة للروح.

على المستوى الميكروكوزمي (الداخلي)، يُمكن فهم الأخوين في مَثَل الابن الضال على أنهما يُمثّلان وجهين للعقل الإنساني: العقل الأعلى المجرد (ويمثّله الابن الأكبر)، والعقل الأدنى المرتبط بالمحسوسات (ويمثّله الابن الأصغر). في المراحل المبكرة من تطوّر الإنسان، ينغمس العقل الأدنى في الظواهر المؤقتة للجسد والعالم المادي، ويُبدّد قواه العقلية في السعي وراء مكتسبات لا قيمة روحية لها، وهي ما يُرمز إليه بـ"أكل الخُرْنُوب" أو السعي وراء قشور الحياة الزائلة. لكن مع مرور الزمن ونضوج التجربة، يُدرك الإنسان أن هذه الأشياء زائفة وعابرة ولا تُشبع الجوع الروحي (رمز المجاعة)، فينهض ويعود إلى ذاته العليا ("أقوم وأرجع إلى أبي"). وهنا يبدأ استبدال تلك المكاسب الزائفة بـالكنوز الحقيقية للنفس: الحكمة، المعرفة، القدرات الروحية، والرضا العميق الناتج عن الحياة المتناغمة مع الروح. وبذلك، يتحوّل ذلك الجزء الذي كان مفرّطًا وماديًا إلى حالة نقاء داخلي ووعي روحاني متسامٍ، ويغتذي من المصدر الأبوي الأعلى، أي من النور الإلهي المتجلي في أعماق النفس.

عندما تتحقق عملية التسامي الداخلي (sublimation)، أي ارتقاء العقل الأدنى وتطهره من انشغاله بالمحسوسات والمكتسبات الزائلة، يتّحد العقل الأدنى مع العقل الأعلى ليشكّلا معًا مبدأً عقليًا موحّدًا. هذا المبدأ المتكامل يصبح قادرًا على أن يُدرك ويتفاعل مع: العوالم اللامادية، حيث تُقام الحقائق الكلية والقوانين المجردة؛ والعوالم المادية، حيث تُرصد الأشكال وتُحلَّل الظواهر المتغيرة. وبهذا التكامُل، يبلغ الحاجّ الروحي (الابن الأصغر) نهاية رحلته الكبرى، ويعود ليلتقي بأخيه (العقل الأعلى) في "بيت الأب"، الذي يرمز إلى حالة الوحدة الكاملة والوعي الشامل، حيث لا انفصال بين الروح والعقل، ولا بين التجريد والتحليل، بل تتكامل القوى الإنسانية في حضرة المصدر الأعلى.

في سياق تطوّر النفس الروحية وتتابُع شخصياتها عبر دورات التناسخ، فإنَّ اتحاد الأخوين يُشير إلى اندماج الوعي الشخصي مع الوعي الأنوي الأعلى (Egoic consciousness). وعندما يتحقَّق هذا الاندماج، يُصبح الأنا الأعلى المُتجسِّد في صورة الأخ الأكبر واعيًا تمامًا بكل ما مرَّ به شعاعه المُتجسِّد في الشخصيات المتعاقبة (ويمثّله الأخ الأصغر)، والذي خاض رحلة الاغتراب عبر عوالم المادة، وتأثر بها وتلطَّخ ببصمتها، لكنه الآن قد تطهّر منها بفعل التجربة والارتقاء الذاتي. وفي لحظة هذا التوحُّد، تتَّحد النفس الشخصية بوعيها الأعلى، وتعود إلى حضن "الأب"، أي إلى الذات الإلهية أو المصدر النوراني الذي منه انطلقت. وهكذا، يكون الابن الضال قد عاد إلى بيته، بعد أن اكتملت رحلته عبر الزمن والمادة، واستعاد أصله النوراني في حالة وعيٍ موحَّدة ومتناغمة.

على الرغم من أن هذا التفسير قد يبدو للبعض وكأنه يُعقِّد المثل البسيط الجميل تعقيدًا غير ضروري، إلا أنَّه يجد دعمًا واضحًا في رد الأب على الابن الأكبر: "يا بني، أنت معي في كل حين، وكل ما لي فهو لك." ففي هذا السياق الرمزي، يُمثِّل الابن الأكبر الذات الإلهية الخالدة في الإنسان، وهي الوعي الروحي الأعلى الذي يبقى دائمًا في حالة نقاء من دنس المادة، ولا ينفصل أبدًا عن مصدره الأصلي، أي الجوهر الأحادي أو المصدر الإلهي — كما قال الأب: "أنت معي دائمًا". وحين تكتمل دورة تطوّر الإنسان في مسيرته الروحية، يتحقَّق هذا الاتحاد الكامل والواعي بين روح الإنسان وروح الإله، بين الذات الصغرى والذات الكبرى. وفي هذه الحالة، يكون الإنسان قد بلغ مقام العارف أو الأديب (Adept)، أي الإنسان الكامل، الذي يسكن حالة الوجود العليا المعروفة بـ "الأرض الموعودة" أو النيْرفانا، ويُصبح قادرًا على أن يقول بصدق، كما قال السيد المسيح: "أنا والآب واحد."

 

"لأَنَّ أَخَاكَ هذَا كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالُا فَوُجِدَ"

في اللسان المقدّس (The Sacred Language)، تُستخدم الكلمات مثل "ميت" و"ضائع"، وكذلك "حيّ" و"موجود" بمعانٍ رمزية داخلية تتجاوز المعاني الجسدية الظاهرة، لا سيما في سياق مثل الابن الضال.

1. "الميت" (Dead): لا تشير إلى الموت الجسدي، بل ترمز إلى فقدان الإنسان المؤقت – في حالته البشرية الزائلة – للاتصال الواعي بذاته الإلهية الخالدة. أي أن النفس قد "ماتت" عندما انقطعت عن وعيها بالروح، وضلّت في وهم الانفصال والأنانية.

2. "الحيّ" (Alive again): تشير إلى ما يُعرف بـ القيامة الباطنية، أي عودة الوعي إلى الذات الإلهية واختبار الإنسان لحقيقته الروحية من جديد. هذه "الحياة" ليست بيولوجية، بل عودة للحياة الحقّة بالاتحاد مع المصدر الإلهي.

3. "الضياع" (Lost): ليس ضياعًا أبديًّا أو هلاكًا نهائيًّا، بل هو حالة وعي يكون فيها الإنسان واهمًا بأنه كيان مستقل ومنفصل عن الله وعن الكل. يُسمّى هذا في اللسان الرمزي "بدعة الانفصال" (the heresy of separateness)، أي الاعتقاد بأن الذات الفردية منفصلة عن الذات الإلهية.

4. "الموجود" أو "المعثور عليه" (Found): تعني التحرر من هذا الوهم، واستعادة الوعي بوحدة الوجود، والعودة إلى معرفة الذات الحقيقية المتّحدة بالله، ومن خلاله بكل ما هو حيّ([3]).

 

السقوط أو الهبوط والخلاص أو الفداء

إنَّ أفكار "هبوط الإنسان"، و"لعنة حواء"، و"وصمة قايين"، إلى جانب المفهوم الخاطئ المسمّى "الخطيئة الأصلية"، قد نشأت عن سوء فهم—أو حتى جهل تام—بالمعنى الحقيقي لمَثَل "الابن الضال". وكما جرى التلميح إليه مرارًا في هذا التفسير، فإنَّ هذا المَثَل يُجسّد رحلة الروح من المصدر الإلهي إلى الخارج، أي في مسار الانبثاق والابتعاد، ثم عودتها إلى ذلك المصدر، أي في مسار الرجوع والعودة إلى الأصل.

إنَّ الروح، رغم احتفاظها بكمالها في عالمها الأعلى، لا بدّ أن تتأثر أو تتلطّخ بمسّها للمادة، لا سيّما في كثافاتها الدنيا والأكثر غلظًا. فحين تتقمّص الروح في الجوانب الذهنية والعاطفية والجسدية من الشخصية البشرية، تفقد مؤقّتًا صفاءها الأصلي وشمولها الكلي. إنَّ وهم الانفصال الذاتي، والتمركز حول الأنا، والكِبر، والغريزة الشهوانية والجنسانية—كل هذه تُشكّل الثمن المحتوم الذي لا مفرّ منه، والذي لا بد من أدائه في هذا الطور من تطوّر كوكب الأرض وساكنيه، من أجل بلوغ مرتبة الأديبتهود (Adeptship)، أو الحكمة الكاملة.

هذا الثمن—أي الهبوط إلى العوالم السفلى وما يترتّب عليه من تلطّخ أو دَنَس—قد عُبّر عنه بطرائق شتّى لدى الكتّاب الذين يستخدمون اللغة الرمزية أو الاستعارية. ومن بين الرموز الكتابية التي استُخدمت للدلالة عليه: «السقوط» (The Fall)، خطيئة آدم وحواء، وصمة قابيل (علامة اللعنة)، الكعب المجروح، النزول إلى مصر وبابل، الجب والسجن اللذان أُلقى فيهما يوسف، عبادة داود للأصنام، استسلام شمشون (وهو رمز الأنا الروحية أو الذات العُلوية) لدليلة والفلسطينيين (رمز للطبيعتين العاطفية والجسدية في الإنسان)، اتّهامات الأخ الأكبر للابن الضال، وأخيرًا موت المسيح ودفنه. كلُّ ذلك يرمز إلى المرور الضروري للروح بتجربة التقيّد بالمادة، وتحمُّل نتائج هذا التقيّد، تمهيدًا لرحلة العودة والصعود.

تحمل الأساطير العديد من الرموز التي يمكن تأويلها على النحو ذاته. ومن بين هذه الرموز: الزلة المؤقتة للوسيفر (Lucifer)، المرتبطة بهبوط النور الإلهي إلى العالم السفلي، ونقطة الضعف في عقِب أخيل (Achilles)، الناتجة عن عدم غمر أمه لعقبه في مياه نهر ستيكس المقدّس، إذ كانت تمسكه من تلك النقطة ورأسه إلى الأسفل—وهو رمز لمسار الانطلاق (Path of Forthgoing) من المصدر نحو العالم، وموضع الورقة التي سقطت على ظهر زيجفريد (Siegfried) بينما كان يغتسل في دم التنين، فحجبته عن الحماية الكاملة. ورغم أنّ الروح الإلهية في الإنسان خالدة وأبدية، إلا أن طبيعته الجسدية (الرمز إليها بالعقب أو موضع الظهر) فانية وتخضع للموت. وكذلك: السهم العرضي الذي أصاب شري كريشنا وأدّى إلى موته، وجراح بايدا، وأدونيس، وأوزيريس، وقميص نِسّوس (Nessus) الذي جلب موت هرقل المؤلم— كلها رموز لآثار التماسّ العميق والمؤقت بين الروح والمادة، وللجراح التي تتلقّاها الروح بفعل تقمّصها للأجساد ودخولها في العوالم الدنيا، قبل أن تعود إلى مقامها الأعلى.

كل هذه القصص، وما يشابهها من روايات، تقدم نماذج تعليمية مهمّة على استخدام الأسلوب الرمزي (التمثيلي أو المجازي) بهدف إخفاء أو حفظ أو الكشف—للعقول الحدسية—عن حقائق عميقة تتعلّق بالقوانين الأساسية التي تحكم الوجود الكوني والإنساني. وبالمثل، وكما ورد في فصل سابق، فإن النشاط التناسلي البشري، سواء كان مشروعًا أو غير مشروع، يحمل معنيين رمزيين: الأول يتطابق مع ما ورد في الرموز والأساطير السابقة، ويشير إلى نزول الروح (الذكر) إلى المادة (الأنثى)، أي نزول الموناد (Monad) إلى الأنا العليا (Ego)، ومن ثم دخول الأنا العليا في الشخصية الإنسانية. فالكتب المقدسة والأساطير حين تذكر الاقتران الجنسي، فهي تشير ضمنًا إلى هذا النزول الروحي التدريجي من العوالم العلوية إلى السفلية. أما المعنى الثاني فيرتبط بـالخبرات التي يعيشها السالك في طريق العودة، حيث تتّحد الذات الشخصية (المُشار إليها هنا بالذكر) مع الذات العليا أو الأنا الروحية (الأنثى)، ويحدث ذلك الاتحاد الصوفي الذي يُشار إليه أيضًا بـ"الزواج السماوي" (Heavenly Marriage)، وهو رمز إلى التوحُّد الكامل بين الإنسان الأعلى والإنسان الأدنى، بين العقل الكلّي والعقل الفردي.

وإن سُئل: لماذا أدخل الكتّابُ القدامى هذه الإشارات ذات الطابع الجنسي أو "الفاحش" في كتاباتهم التي تتناول موضوعات روحية، فالإجابة هي أنّهم لم يكونوا يعدّون التناسل البشري أمرًا فاحشًا أو مُخجِلًا بأيّ حال. بل على العكس تمامًا، فقد نظروا إليه باعتباره فعلًا مشروعًا وطبيعيًا تمامًا، يُجسّد على المستوى البشري العملية الخَلْقية الإلهية، التي بموجبها خُلق الكون بأسره. أي أن الإنسان، من خلال عملية التوالد، يُعيد تمثيل النمط الكوني الأسمى للخلق. أما الإنسان الحديث، المارّ الآن بمرحلة عقلية مخصوصة من تطوّره، فإنه حين يواجه هذه الإشارات، يميل بطبعه إلى الشعور بالخجل، أو حتى إلى اعتبارها "فاحشة" أو "غير لائقة"—وهذا شعور غير مبرر إطلاقًا من منظور الحكمة القديمة. لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة إلى الأجناس البشرية الأقدم، ولا في الأزمنة التي دُوّنت فيها هذه القصص والرموز؛ إذ كانوا أكثر صفاءً وأقل ازدواجية أو شعورًا بالانفصال بين "الجسداني" و"الروحي"، ولذلك لم يكن لديهم ما يستدعي الكتمان أو الحرج في تناول تلك الموضوعات ضمن سياقات رمزية وتعليمية.

وإن أُثير التساؤل عن سبب لزوم هذا التستّر الرمزي والتلويحي، فينبغي أن نتذكّر أنّ اكتشاف وحدة الإنسان (المايكروكوزم) مع الكون (الماكروكوزم) من شأنه أن يمنح لمن يبلغه قدرات ثيورجية (Theurgic) عظيمة التأثير. وهذه القدرات قد تُساءُ استغلالًا على نحوٍ بالغ الخطورة، لا على المُسيء وحده، بل وعلى كل من تطاله تبعات ذلك الأذى. في الواقع، فإن السحر الأسود ليس إلا مثالًا صارخًا على مثل هذا الانحراف الناتج عن سوء استخدام المعرفة. وثمّة أسباب أخرى تُحتّم السرية في ما يخصّ العلوم والقوى الباطنية (occult)، وقد طُرحت مسبقًا في فصلٍ سابق من هذا الكتاب.

 

"كل ما هو لي فهو لك"

إن العتاب اللطيف الذي وجهه الأب، وسعيه لترضية الابن الأكبر بقوله: "يا بُنيّ، أنت معي في كل حين، وكل ما لي فهو لك"، إنما هو توكيد للحقيقة الأزلية التي مفادها أن جميع الكائنات، في جوهرها، ليست إلا تعبيرات متعدّدة للحياة الإلهية الواحدة. وبناءً على ذلك، فإن كل المظاهر التي تبدو منفصلة في عالم الكثرة، إنما تتشارك فعليًّا في ما يحرزه بعضها من مكاسب وتحقّقات. وعلى هذا المنوال، فإن الموناد البشري (Monad)، أي الروح الإلهية في الإنسان، يتلقى ثمار تطور الأنا العليا (Egoic evolution)، في حين أن الأنا العليا، بدورها، تمتصّ في كينونتها وتخزّن كل ما راكمته شخصياتها المتعاقبة من قوى، ومعرفة، وحكمة، وقدرات خلال مجرى التطور الإنساني. وعليه، فإن الإله يحقّ له أن يقول لكل موناد بشري، والموناد لأناها العليا: "يا بنيّ، أنت معي في كل حين، وكل ما لي فهو لك."

إن توكيد الأب لوحدة الكينونة يأتي في ختام القصة، وهذا موضعه الطبيعي، إذ إن القصة تصوّر، بأسلوب رمزي، اكتمال جميع الدورات التطورية، سواء كانت كبرى أو صغرى؛ إذ عند كل اكتمال كهذا، يتحقق الوعي التام والوعي بوحدة الموناد البشري مع مصدره الروحي. وهذا هو الهدف النهائي للتطور، وهو تاج ذاك الذي صُلب، سواء أكان هو المسيح الكوني (Christos)، أو المسيح التاريخي، أو مبدأ المسيح الكامن في كل إنسان. وعندما يحدث هذا التتويج الصوفي العظيم، يكون الإنسان الذي بلغ تلك القمة، وارتقى فوق قيود الانفصال، قادراً أن يقول مع المسيح: "أنا والآب واحد"، وكذلك مع والد الابن الضال لأخيه الأكبر: "...أنت معي في كل حين، وكل ما لي فهو لك."

تلك إذن هي بعض التأويلات الممكنة للمَثَل العظيم، ولا سيما حين يُنظر إليه على أنه عرض رمزي لقانون الدورات (Law of Cycles) الذي يحكم به جميع الوجود.



[1]- قوس الصعود وقوس النزول كلاهما من مصطلحات التصوف والعرفان الإسلامي. المترجم

[2]-  Adonais, St. 52.

[3]-  في هذا التفسير الرمزي العميق، "الموت" و"الضياع" ليسا إلا أحوالًا من الانفصال الروحي المؤقت، أما "الحياة" و"الوجود" من جديد، فهما العودة إلى الاتحاد مع الإله والكينونة العليا. وهذه هي النقلة الجوهرية في تطوّر النفس من الغفلة إلى الاستنارة، من التيه في العالم السفلي إلى الرجوع إلى بيت الأب.

تعليقات

مواضيع المقالة