القسم الأول: طَلَبُ البشريةِ النورَ والهُدَى
الفصل الأول: المسيحية والعالم الحديث
الموقف الكارثي
يُزعمُ أنَّ الموقف الذي اتخذته المسيحية الأُرثُذوكسيَّة القاضي بتوجيه الوعي لاعتبار الكتاب المُقدَّس بأنَّه كتابُ تاريخٍ فحسب بدلًا من اعتباره مؤلَّفًا من التاريخ و القَصَص التَّمْثِيِلي (allegory) كان مسؤولًا عن اجترار نتائجَ كارثيَّة. وعندما يُصَرُّ على أن الكتاب المقدس مُوحًى به إلهياً من أوله إلى آخره، رغم تناقضه الصارخ مع المنطق والعقل السليم، فإن نطاق النتائج الكارثية يتوسَّعُ فعليًّا. ومن الممكن بإنصاف اعتبار العديد من الآفات الأخلاقية المنتشرة نتاجًا مباشرًا لهذا النهج. في الواقع، فإن الإصرار المستمر على هذا الموقف بإزاء الكتاب المقدس يدفع الكثيرين إلى الابتعاد عن الكتاب المقدس نفسه، وعن الدين المبني عليه، بل وعن الأخلاق الفاضلة التي تدعو إليها المسيحية. فعندما يواجه القارئ روايات العهد القديم المليئة بالمبالغات والقصص المستحيلة، والتي تُصور الإله على أنه حاكم متسلط قاسٍ عديم الرحمة، فإن ذلك يدفع الكثيرين إلى الإلحاد أو الشك بالله أو السخرية من الدين أو الانغماس في الرذيلة. ويزداد الأمر سوءًا عندما يجد القارئ في الكتاب المقدس وصفًا صريحًا للعلاقات الجنسية المحرمة، وجنس المحارم، مما يُوحي بأن المسيحية تشجع على مثل هذه الأفعال الفاضحة، وبالتالي يؤدي إلى انتشار الانحلال الأخلاقي.
إنَّ وجود هذه الشرور من الأمور البغيضة والذميمة والتناقضات المذكورة أعلاه، وغيرها الكثير، يُشير إلى حاجةٍ مُلحة لإعادة قراءة الكتاب المقدس ومراجعة تفسيره وتنقيحها. ومن زاوية أُخرى، إذا كان من المُمكن إثبات أن العديد من التناقضات في العهد القديم (Old Testament) هي في الحقيقة كشف لحقائق روحية، وميتافيزيقية، ونفسية عميقة تحت غطاء الرمزية (symbology)، فإن أهمية دراسة النصوص المقدسة (Scriptures) من هذا المنظور تصبح ضرورة لاريب فيها.
لقد كان غض الطرف عن الأمور المستحيلة والروايات اللا أخلاقية، بالإضافة إلى الإيمان الأعمى بالكتاب المقدس والخوف من الهلاك والأمل في الخلاص بعد الموت، من أهم العوامل التي تجذب أعدادًا كبيرة من الناس ليدخلوا في الدين.
إلَّا أنَّ العقول الواعية حقًا لا يمكنها إلا أن تنفر من الإساءات العقلية والأخلاقية الموجودة في النصوص المقدسة. هذه الاعتبارات تُبرز الحاجة الملحة لتأويل (interpretation) الكتاب المقدس باعتباره مستودعًا للحكمة العميقة الموصوفة بالرموز. مثل هذا التأويل سيواجه الاعتراضات التي تثار حتمًا من أهل القراءة الحرفية (literal reading) بكل ما تحمله هذه القراءة من عواقب واضحة الضرر على البشرية.
إنَّ بعض أجزاء الكتاب المقدس، إذا فُهِمَت حرفيًا (literally)، لا يمكن لها بأي حال من الأحوال اعتبارها مُساهِمَة في تعزيز المعايير الأخلاقية الرفيعة. فعلى سبيل المثال، في سفر التكوين 12: 10-20، يقدّم إبراهيم زوجته على أنها أخته لكي يمتلكها فرعون. كان دافعه في ذلك هو أن تُحفظ حياته ويُكافأ بكرم. ونجد إسحاق يرتكب خطيئة مشابهة وللسبب نفسه، كما هو مذكور في سفر التكوين 26: 6-11. في هذه الحالة الأخيرة، يبارك الرب إسحاق، فيصبح غنيًا وينجح. وفي سفر التكوين 27: 1-45 يروى مثالًا مؤسفًا للغاية عن خداع متعمد يفعله يعقوب، الذي يصبح لاحقًا بطريركًا (patriarch) مفضلًا بوحي (inspiration) من الرب.
وفي سفر القضاة 4: 17-22، تدعو ياعيل (Jael)، زوجة حابر (Heber)، سيسرا (Sisera) للدخول إلى خيمتها بحجة إخفائه، وبينما كان نائمًا، أخذت مطرقة وغرزت وتد الخيمة في صدغه حتى وصل إلى الأرض، فقتلته بذلك. وفي سفر صموئيل الثاني 11: 2-27، تروى القصة المعروفة جيدًا عن زنا داود (adultery of David)، مسيح الرب (anointed)، مع بثشبع (Bathsheba)، زوجة أوريا (Uriah). وفي الإصحاح 12، يغفر الرب لداود، ويولد الملك سليمان من هذا الجِمَاع.
توجد أيضًا مقاطع في الكتاب المقدس تصور الرب الإله على أنه قادر على الغضب ومستعد بنفسه لتدمير شعوب كاملة غير الإسرائيليين، ويحث عباده على فعل ذلك. أحد هذه الأمثلة يوجد في سفر التثنية 9: 14:
أن الإله قد يتصور خطة غير كاملة تفشل، فيشعر بالغضب نتيجة لذلك الفشل، ثم يقرر الانتقام بتدمير قاسٍ وعديم الرحمة لـ«الإنسان والبهائم والدواب وطيور السماء»([1]). إن القراءة الحرفية لهذه النصوص بلا شك غير مقبولة. والتأكيد على أن الله يمكن أن يكون مذنبًا بمثل هذه الأفعال، وأنه يمكن أن يتحرك ليقدم وعدًا لاحقًا بعدم «لعن الأرض مرة أخرى من أجل الإنسان([2])» أو «ضرب كل حي مرة أخرى» هو إما أن يكون ذلك إسنادًا مغلوطًا إلى الذات الإلهية لسلوكٍ يأباه حتى الإنسان، أو ستارًا محبوكًا عمدًا لحجب حقيقةٍ محفوظة بعناية.
من غير المعقول، على الأرجح، أن يكون هناك إله شخصي خارج الكون يمكن أن يفشل ثم يشعر بالغضب التدميري بسبب سلوك الشر الذي يصدر ممن خلقه بيديه. فكيف إذا كان هذا المخلوق المغضوب عليه هو الإنسان الذي خلقه الله على صورته([3])، فهذا يُعزز النتيجة التي ذهبنا إليها أكثر من لا معقولية معنى القراءة الحرفية، بعبارة أخرى إذا كان الإنسان مخلوقًا على صورة الله، فإن هذا الغضب عليه يصبح غير منطقي ومُتناقض. ومن غير المعقول أيضًا أن يكون الإلوهِيم (Elohim) (الذي تُرجِمَ إلى «الله God» في سفر التكوين) قادرًا على الخطأ في التخطيط أو تنفيذ وظائف خلقه الكونية، أو أن يشعر بالغضب بسبب فشل يعود إليهم وحدهم. وفي ظل مثل هذه التناقضات والأخطاء الظاهرة، يبدو أن استخدام فئة خاصة من الأدب تُعرف باسم اللسان المقدس (Sacred Language)، كما تم تعريفها سابقًا، هو بالتأكيد أفضل من الرفض الكامل لمثل هذه التناقضات والأخطاء في الكتاب المقدس التي تقتضيها القراءة الحرفية. إنَّ الرفض المحتمل للكتاب المقدس ككل، بما في ذلك تأكيده على وجود كائن أعلى كذكاء توجيهي في الطبيعة، سيكون خسارة كبيرة جدًا. وكان العالِم الجليل، الدكتور ألبرت أينشتاين، على ما يبدو، مثالًا على هذا، فهو لم يشعر بالحاجة إلى إجراء هذا الرفض، فكتب يقول معبرًا عن رأيه بأن «الاعتقاد العميق بوجود قوة عُليا في الكون غير المفهوم، يشكل فكرتي عن الله.» ومع ذلك، فإن الأفعال المنسوبة إلى الإله في الآيات التي تمت مراجعتها لا تعرضه بالطبع كـ«قوة تفكير عليا» كما رأينا.
إنَّ عدم قبول وتقبُّل هذه الأحداث في شكلها الحرفي ومعناها الظاهري يدعم الفكرة القائلة بأن مؤلفي أسفار التوراة كانوا رجالًا مُلهمين روحياً، كتبوا بهذا الأسلوب لإثارة انتباه العقل ليبدأ في التقصي والبحث عن الحقيقة، ولحفظ الحكمة التي تعلموها، وسترها محفوظة عن غير المتعلمين، وفي الوقت ذاته الكشف عنها للذين يستحقونها.
وسوف نناقش هذه المقاطع والأحداث من الكتاب المقدس وغيرها في الأجزاء اللاحقة من هذا العمل. وسوف نُقدِّم تأويلات قد تزيل مؤشرات الاتهام الموجه لهذه النصوص، وتكشف عن حكمة عميقة مخفية تحت ستار القَصَص التَّمْثِيِلي (allegory) والتنافر (incongruity).
يلاحظ أولئك الذين يعتبرون النصوص المقدسة والأساطير العالمية مزيجًا من التاريخ والقَصَص التَّمْثِيِلي (allegory) والرمز، أن الإجابات الكاملة على هذه الأسئلة الملحة المتعلقة بحياة الإنسان وتجاربه ومصيره تكمن في ما وراء ظاهر الكتابات المقدسة. ويؤكدون أيضًا أن هذه الإجابات موجودة كمعانٍ تحتانية يندر تداولها، وأن العجز النسبي في مواجهة الشرور العالمية، والذي يظهر جليًا في المسيحية الأرثوذكسية اليوم، هو نتيجة للإصرار الرسمي على الإيمان بالكتاب المقدس كـ«وحي إلهي» من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا. فلو كانت الأرثوذكسية مستعدة لفحص النصوص المقدسة كحكايات تمثيلية رمزية (parables) تكشف عن حقائق روحية عميقة وقوانين، بدلاً من الإصرار على أن النص في قراءته الحرفية هو تعبير إلهي، وبالتالي الحقيقة المطلقة، لما كانت عرضة للانتقادات الموجهة إليها. وعندما يُقال أيضًا أن الإيمان الصريح بالنص الحرفي للكتاب المقدس هو ضروري لخلاص النفس المُجَرِّبَة (soul)([4])، فإن النفور الطبيعي من قبول العقائد، التي تتعارض بعض منها مع الحقائق وما يُحتمل إمكانه، يتصاعد إلى ذروة حرجة.
بعض الانتقادات الموجهة إلى المسيحية
اتهام آخر يُوجه إلى المسيحية الحديثة هو أنها تفشل في الاستحواذ على العقل وتوجيه حياة وسلوك الإنسان المعاصر؛ وأنها أثبتت عجزها عن التأثير بشكل إيجابي على السلوك البشري أو مسار الأحداث العالمية في النصف الأول من القرن العشرين، الذي كان مأساويًا للبشرية. هل هذا النقد مبرر؟ وإذا كان كذلك، فما هو الخلل في التعليم والممارسة المسيحية اليوم؟
بينما يجب حتى على أكثر المسيحيين تدينًا الاعتراف ببعض القيود—ويمكنهم فعل ذلك بلا كفر—إلا أنه لا شك أن هناك الكثير مما يُشاد به في المسيحية الحديثة وسلوك الشعوب المسيحية، رغم وجود الكثير أيضًا مما يُدَان. ففي القرن العشرين، قامت أمم يُفترض أنها مسيحية، على سبيل المثال، بشن اعتداءات غير مبررة. ومع ذلك، فإن أممًا أخرى، موجهة بروح مسيحية حقيقية، وبتكلفة لا تُقاس من حيث الأفراد والموارد، نجحت في مقاومة محاولتين رئيسيتين لغزو البشرية وإفقارها واستعبادها.
علاوة على ذلك، وبالتعاون مع الأمم غير المسيحية، تم تشكيل منظمتين عالميتين كبيرتين لمقاومة مثل هذه الاعتداءات الطائشة، والحفاظ على السلام العالمي، ومكافحة الرذائل، وتقديم المساعدة للشعوب المحتاجة. فقد قدمت كل من عصبة الأمم والأمم المتحدة، التي تم تشكيلها لأغراض مماثلة، خدمات كبيرة للإنسانية.
بالإضافة إلى هذه الأنشطة الدولية والوطنية الواسعة التي تهدف إلى خدمة البشرية، بدأ عدد متزايد من الأفراد في البحث عن الحقيقة والحكمة والمعرفة وفهم قوانين الحياة، المادية والروحية. وقد اضطلع العديد من رجالات العِلم بمهمة قيادة البشرية في مهمة البحث عن هذه الحكمة والمعرفة المادية والروحية. ففي الفيزياء والفلك والطب وعلم الأحياء وعلم النفس، يتراجع الميكانيكيون (النظرة الآلية) ويحل محلهم أصحاب المذهب الحيوي (vitalism)([5])، والإيمان بوجود ذكاء توجيهي في الطبيعة ووجود خطة أو هدف في تطور الحياة وأشكالها. ومع ذلك، فإن السلوك البشري يتعرض بجدارة للنقد، ولا يمكن للمسيحية كدين عالمي كبير أن تتجنب بعض المسؤولية عن السلوك الذي يثير ذلك النقد. يرد المدافعون المسيحيون بأن المسؤولية أقل على الإيمان المسيحي منها على الإنسان المعاصر. ويشيرون إلى أنه من المستحيل تقييم القيمة الكاملة للمسيحية لأنه، في الواقع، لم يتم تجربتها بشكل جماعي وشامل حتى الآن.
الانحطاط الأخلاقي للإنسان
وهذا يقودنا إلى الإنسان نفسه. ما هي التهم الرئيسة الموجهة للإنسان المعاصر، وخاصة ضد أولئك الست مئة وتسعين مليونًا أو نحو ذلك الذين يعيشون ضمن نطاق المسيحية؟ بالإضافة إلى التهمة التي تم ذكرها بالفعل، يُشار إلى أن الإنسانية في هذه الفترة قد أظهرت انحطاطًا ملحوظًا في الأخلاق. وقد تجلى هذا الهبوط من خلال الحروب العدوانية، والفساد السياسي، وانتشار الإجرام والرذيلة. وفي المجالات الاقتصادية والصناعية أيضًا، من خلال الاحتكارات والثقافات التجارية الكبرى، ومن خلال المنافسة الشرسة القائمة على مبدأ «أعمل لمصلحتي، ولعنة الله على الآخرين»([6])، تبنى الإنسان المعاصر قانون الغاب (law of the jungle). وهناك أولئك الذين يبيعون المواد الخام والأسلحة من أجل الربح لدول يحتمل أن تكون معادية، ويدمرون المواد الغذائية التي تشتد الحاجة إليها من أجل الحفاظ على الأسعار. بالإضافة إلى ذلك، أصبح التحريض المتعمد على الإدمان على المخدرات والفحش في استهلاك الكحول والجنس أمرًا شبه عالمي.
ألقى السير ريتشارد ليفينغستون (Sir Richard Livingstone)، وهو عالم بريطاني متميز ومربي، محاضرة في أستراليا تحت رعاية الجامعة الوطنية في عام 1951، قال فيها: «هذا العصر مهووس بالجنس. وهو يتدهور نتيجة لذلك... طلاب اليوم غالبًا ما يتعثرون في تعليمهم وكأنهم في حالة سُكر، غير مدركين أين هم، أو إلى أين يذهبون، أو ماذا يفعلون... لم يعد لدى الناس قوة دافعة أخلاقية. القوة الدافعة الأخلاقية —الاعتقاد بالمبادئ والاستعداد لقبول الانضباط والتضحية من أجلها— هي أكثر أهمية لبقاء البشرية من المعرفة أو الذكاء.» ويواصل السير ريتشارد قائلاً: «إذا كان للعالم أن يتعافى يومًا ما من حالة الشك المرضية الحالية؛ فيجب أن يكون مستعدًا لقبول المبادئ مرة أخرى، والتي، بمعنى واسع للكلمة، هي مبادئ مسيحية. المسيحية هي عقيدة المسؤولية الفردية. فالرجل الذي يعيش وفقها يختار طريقًا صعبة، لكنها مبهجة. هناك تركيز مفرط على إعداد الشباب لكسب لقمة العيش، وليس بما يكفي لتعليمهم كيف يعيشون.»
تلك هي بعض الأزمات التي تُصيب الإنسان المعاصر، وهي جزء من المشكلة التي تواجه البشرية، سواء كانوا مسيحيين أو غير مسيحيين، كعائلة من البشر على الأرض. هذه ليست مجرد شرور مادية؛ إنها أيضًا أمراض النفس (sicknesses of the soul). يعيش الإنسان وسط هذه الأزمات، ومن الطبيعي أن يسعى إلى مصدر العلاج المناسب، والذي ينبغي أن يجده في الدين. لذا، تتجه معظم شعوب الغرب إلى الدين المسيحي وممثليه الرسميين. إذ عندما يمرض الجسد، يُستشار الطبيب، وعندما تمرض النفس، يكون الأمل في الكاهن وفي ما يقدمه من إرشادات تكون بمثابة النور الروحي، ونعمة الشفاء، والتوجيه العملي في كيفية السلوك في الحياة.
هل جُرِّبَت المسيحية بالكامل؟
يقول النقاد إن هذا هو المكان الذي تفشل فيه المسيحية الحديثة؛ فالأشكال التقليدية للمسيحية ومسؤوليها لا ينجحون في تلبية نداء النفس البشرية التي تتوق إلى النور الروحي والفهم العقلي. ويُدَّعى أن التأثيرات الروحية والتطهيرية التي يمكن أن تدفع الإنسان إلى ترك طرقه الشريرة ليست موجودة في الدين الغربي. هذا نقد شديد، لكن بغض النظر عن مصدر الخطأ، لا يمكن إنكار حقيقة أن الشر منتشر على الأرض. أحد الردود التي طرحت بالفعل هو أن المثالية المسيحية لم تُجرَّب كاملة؛ بل هي في الواقع تُنكر باستمرار من خلال نمط الحياة الذي يتبعه العديد من الذين يدّعون أنهم مسيحيون. إن نصيحة المسيح ومثاله المتجسد في حياته وكلماته: «بِهذَا أُوصِيكُمْ حَتَّى تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا([7]).» «وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ هكَذَا([8]).»، لا يُعمَلُ أو يُؤخذ بها. وفي المجالات الاقتصادية والصناعية، يجب الاعتراف بأن الحضارة المسيحية مبنية على المبادئ العقدية الشيطانية (satanic doctrines): «أنا لنفسه ولمصلحتي، وليستحوذ الشيطان على الآخرين»، و«لستُ مسؤولًا عن أخي وراعيًا له». قلة هم الذين يقبلون ويصدقون على مقولة أينشتاين النبيلة: «الإنسان موجود من أجل الآخرين أو كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته».
قد يُنظر إلى هذا الاتهام على أنه مبالغ فيه، إذ بينما يصدق على كثير من الأفعال الجماعية، فإنه بالتأكيد لا يصدق على الممارسات الفردية، التي تشمل «فيضًا من الأعمال الخيرية التي يقضيها الناس بالكتمان من أجل الآخرين». ومع ذلك، يبقى صحيحًا أن المسيحية، باستثناء بعض الرهبانيات الدينية، لم تُختبر بشكل جماعي. لقد واجه العالم الحديث، على سبيل المثال، ظواهر مثل هتلر وموسوليني وخلفائهما في المجال الدولي؛ وانتشار الخداع في التجارة، بما في ذلك ترويج المخدرات (خاصة للشباب)، والتي غالبًا ما تُعطى مجانًا لإحداث الإدمان؛ والدعارة والرقيق الأبيض؛ والسعي العلني والحصري تقريبًا للمتع الدنيوية؛ والبرامج الإذاعية والسينمائية والإعلانات التي تحرض عمدًا ومن أجل الربح على الخروج عن القانون والشهوانية والجنس ومعايير الحياة المصطنعة - كل هذه خصائص منتشرة في الحضارة الغربية الحديثة.
إن اختيار هذه الممارسات الشريرة عن سابق إصرار، واتخاذها وسيلة لاكتساب القوة والثروة، هو في جوهره إنكار للروحانية التي غرسها مؤسس العقيدة المسيحية قولًا وفعلًا. ففي موعظة الجبل، دعا إلى التخلي عن الذات، وجسّد ذلك في مولده المتواضع، ثم في قبوله الطوعي للرفض والازدراء والموت القاسي. لقد أكّد أن أسمى القوانين الأخلاقية تقتضي الفناء التام في سبيل الحق. وهذا التجرد المطلق من الذات هو القوة العظيمة الكامنة في تعاليم المسيح، لكن العقلية السائدة اليوم، التي ترفع شعار «الذات أولًا، ثم الله إن تبقى لدي وقت»، تعكس نقيض هذا المثال الأعلى لنكران الذات المسيحي (Christlike selflessness).
أدرك توماس الكمبيسي (Thomas a Kempis)، حتى في عصره (1380-1471)، هذه الصعوبة، فكتب هذه الكلمات الرائعة: «اعلم أن حب الذات يضرك أكثر من أي شيء آخر في العالم. معه ستحمل صليبًا أينما ذهبت. إذا سعيت فقط إلى إرادتك ومتعك الخاصة، فلن تجد الهدوء ولن تتحرر من القلق، لأنك ستفتقر دائمًا إلى شيء ما في كل شيء.» ما أصدق هذه الكلمات اليوم! في كل ما نملكه (وكم نملك الكثير)، هناك شيء مفقود. في ثروتنا، وتقدمنا العلمي، واختراعاتنا وتطوراتنا الميكانيكية، هناك بالتأكيد شيء مفقود. ذلك «الشيء» هو السعادة، والصحة، والسكينة، والسلام القائم على نكران الذات والطاعة للقانون الأخلاقي (moral law).
يرتبط تدهور الأخلاق بنمو النقد الساخر (cynicism)([9])، الذي يتعمق ليُصبح مرارة، وكلاهما ينبع من فقدان الإيمان والقطع بالمبادئ. أولئك الذين يواجهون المصاعب بمرارة، والذين عندما تمسهم المأساة والفقدان، يشعرون أنه لا يمكن أن يكون هناك إله؛ أولئك الذين يصرخون طلبًا للمساعدة ولا يجدونها، فيغرقون في يأسهم إلى حد إنكار دينهم، بل وحتى نفي وجود الله—كل هؤلاء لم يجدوا في الدين التقليدي تلك الصخرة الثابتة التي يمكن أن يبنوا عليها إيمانهم وحياتهم بأمان. هذه مأساة كان يمكن للمسيحية—وخاصة من خلال تعاليمها عن القانون الإلهي غير الشخصي([10]) وعن القوى الإلهية الحاضرة والكامنة في بني آدم([11])، وأيضًا من خلال مثلها الأعلى عن الحب العالمي([12])—أن تتجنبها. ولكن حتى الآن، لم تفعل ذلك، على الأقل بالنسبة لأعداد كبيرة من أتباعها.
صرخة رجل طلبا للمساعدة دون إجابة
ما هو الجواب الذي تقدمه المسيحية الأرثوذكسية للسؤال الطبيعي: «أين كان الله خلال الأحداث المأساوية في عصرنا؟ لماذا لم يحمنا ويخلصنا من المحن التي عانينا منها؟ بأي حق استحقينا هذه المعاناة التي لا يمكن تصورها في عصر مظلم بفظائع كهذه؟ أين هي العدالة التي يمنحها الله لأبنائه؟ الملايين الذين عذبوا وماتوا قبل أوانهم كانوا أشخاصًا محبين وملتزمين بالأخلاق. ماذا فعلوا ليستحقوا هذه المعاناة؟» ليجيء الرد البارد الأرثوذكسي: «إنها إرادة الله»، ما يجعل من الله كائنًا مرعبًا يعبد بالخوف، وقادرًا على التدمير. وعند تلقي هذا الرد، يشعر العقل الحديث، الذي تغذى على العلم، بالرفض، ويرفض بالتالي مثل هذا الإله وهذه الإجابات للأسئلة المشروعة. ومع ذلك، لا تقدم المسيحية الأرثوذكسية إجابات أخرى، ويقول النقاد إن هذا هو سبب ضعفها وتدهور الأخلاق البشرية. إذا كان، كما ذكر رئيس أساقفة كانتربري، الدكتور جيفري فيشر (Geoffrey Fisher)، في 14 نوفمبر 1958، نصف العالم متشككًا، فإن الكنيسة لا تستطيع التهرب من بعض المسؤولية عن هذا الوضع. وبينما تقدم الحكومة القوانين ووسائل ضمان الامتثال لها، وتوفر التعليم والمعرفة والإرشاد حول كيفية الحصول على المزيد من المعرفة، لا تشجع الأرثوذكسية، باستثناء بعض الرهبانيات المغلقة، البحث الداخلي عن التجارب الروحية المباشرة والقوانين. المسيحيون لا يُعلمون نظامًا منهجيًا لتطهير النفس ورفع الوعي كما في اليوغا (yoga)، أو المعرفة التي تُمكن من الوعي بالحضور الإلهي والتحقق بمقام العبودية بالنور الإلهي.
ما هي التهم الأخرى الموجهة إلى الإيمان المسيحي ومسؤوليه؟ بالإضافة إلى الانتقادات التي تم الإشارة إليها سابقًا، يُعبر أيضًا عن مشكلات خطيرة تتعلق بالانحدار السائد في صفات القداسة والتوقير. وهذا أمر محزن للغاية؛ لأنه عندما تفقد الأمة حس القداسة وجودة التقدير، تصبح تلك الأمة خاضعة لأمة أقوى. في هذه الأيام، يبرز بشكل واضح الانحدار في احترام المرأة والوظائف الأبوية (خصوصًا الأمومية maternal)، وفي التقدير لسر الزواج. تشكل الحسية والجنسية أخطارًا جسيمة على الحضارة الحديثة؛ لأن فقدان الحس الأخلاقي لدى الأغلبية النشطة في الأمة، وفقدان الحس المقدس (the sense of the holy)، يؤدي إلى انهيار تلك الأمة واحتلالها من قبل قوة أجنبية. يجب اعتبار هذا الانحدار الأخلاقي كعَرَضٍ خطر للغاية. إذ هكذا سقطت مصر واليونان وروما من قبل.
الخيانة تُلقي بظلماتها على الزمان
أكبر خسارة نجمت عن الحرب العالمية الثانية وُصفت بأنها تراجع الولاء (loyalty). إحدى صفات الطبيعة البشرية، وهي الخيانة، برزت بشكل غير عادي في الأزمنة الأخيرة. في الواقع، أصبح يُستخدم مصطلح خاص لوصفها، وهو مصطلح يحمل دلالات شريرة للغاية. ذلك المصطلح هو «الطابور الخامس» (fifth column)، ويعني الخيانة كسياسة مختارة. عندما أعلن الجنرال إميليو مولا (Emilio Mola) في عام 1936 أنه سيستولي على مدريد لأنه كان يمتلك أربع فرق عسكرية خارج المدينة وطابورًا خامسًا من المؤيدين داخلها، التقط العالم العبارة بشغف، كما لو أن شخصًا كان يبحث عن كلمة هامة. في الواقع، كانت العبارة بمثابة جرس إنذار، كما يظهر من التآمر الذي تلاها. ما فعله الجنرال مولا هو أنه أشار إلى حجم الخيانة في عصرنا. العصور الأخرى كانت تحتوي على خونة فرديين—رجال خانوا قضاياهم بدافع الجبن أو الطمع—لكن في القرن العشرين، ولأول مرة في التاريخ، تجمع الرجال بالملايين في حركات مثل النازية والفاشية والشيوعية الشمولية، مكرسين أنفسهم لغرض خيانة المؤسسات التي يعيشون في ظلها. لقد أصبحت الخيانة مهنة، وشكلها الحديث هو بالتحديد «خيانة الأفكار». وهذا بالفعل جزء من ظلمة هذه السنوات.
الخيانة، في هذا الشكل وأشكال أخرى، تجد تعبيرها في المعايير الأخلاقية الهابطة المنتشرة في الحياة العامة، والتي تبرز بشكل خاص من خلال الفساد. وهذا يتجلى بشكل خاص في مجال السياسة، سواء على المستوى الوطني أو الدولي. ففي خطاب ألقاه في سبتمبر 1951، قال هربرت هوفر، الرئيس السابق للولايات المتحدة: «أتساءل أحيانًا، لو أن الآباء المؤسسين الستة والخمسين يراقبوننا من حضورهم الخفي في قاعات الكونغرس، ماذا عساه يكون رأيهم في موكب الرجال الذين تعاقبوا على المناصب الرفيعة، ووقفوا اليوم أمام لجانه... في أولئك الذين يُلاعبون شبح الخيانة؟ لدينا نمو سرطاني من عدم النزاهة الفكرية في الحياة العامة، وهو غالبًا ما يتوارى خلف ستار القانون. إن معركتنا اليوم هي بين النزاهة في الحياة العامة والانحطاط... إن أخطر تهديد يواجهنا ليس غزوًا من جيوش أجنبية، بل أن نهلك بأيدينا، إما بتساهلنا مع الشر، أو بقبولنا الفاضح للفساد العلني.»
بينما من الصحيح أن الطبيعة البشرية نفسها تميل إلى هذه الشرور، والتي يُعترف بأنها لا تقتصر فقط على المسيحية، فإنه صحيح أيضًا أن إحدى وظائف التعليم والممارسة الدينية هي تقليل هذه الشرور إلى الحد الأدنى من خلال إلهام الناس للتغلب عليها. ولكن إذا كانت هناك حالات مسجلة في الكتاب المقدس تشير إلى انتشار هذه الشرور، وعند قراءة النصوص حرفيًا نجد أن الإله أو ممثليه الموحى إليهم يُشجعون بعضًا منها، فإن أولئك الذين يعلمون قراءة حرفية لهذه الفقرات وغيرها لا يمكنهم التهرب من المسؤولية عن أفعال مشابهة يقوم بها أشخاص يقوم دينهم على الكتاب المقدس. ومع ذلك، يُكرر الكاتب هنا الرأي بأن العديد من المؤسسات المسيحية تعلم أخلاقيات عالية، حتى وإن لم تُتَّبَع بشكل كافٍ. في الواقع، أنتجت المسيحية أعدادًا كبيرة من الرجال والنساء العظماء، الذين أصبح الكثير منهم خدامًا عظماء للإنسانية. يمكن التأكيد بثقة أن العديد من الكنائس وقساوستها، ومدارس الأحد ومعلميها، والعاملين المسيحيين، والآباء والمعلمين في المدارس، يمارسون ضبطًا أخلاقيًا، ويشجعون بشكل خاص السلوك الذي يُحاكي المسيح والمعايير الأخلاقية العالية بين الشباب.
الإيمان الأعمى أم المعرفة الروحية؟
ومع ذلك، فإن الواقع القائم يشير بوضوح إلى أن المسيحية الحديثة في أمسِّ الحاجة إلى بعثٍ جديد يحيي روحها. فما الذي فُقد؟ وما الذي يُفتَقر إليه اليوم؟ إن هذا الموضوع واسع الأفق، لكن مما لا شك فيه أن المسيحية تكبّدت خسارة لا تُعوَّض حين حُظرت الغنوصية (Gnosticism)، بالمعنى الحقيقي للكلمة. إن ما تفتقر إليه هو المعرفة الروحية المباشرة—تلك البصيرة العميقة التي لا تُكتسب عبر التلقين، بل من خلال الإدراك الحيّ للحقائق الإلهية. ينبغي أن يُعاد إحياء التركيز في الدين على التجربة الروحية المباشرة والعميقة، وعلى القراءة التأملية للنصوص المقدسة، ليحلّا محل الإيمان الأعمى، والتفسير الحرفي للكتاب المقدس، والاتكال على الكهنة في نيل الخلاص والتواصل مع الله، وكذلك الاكتفاء بالمظاهر والطقوس الشكلية. فالتجربة الروحية المباشرة—أي المعرفة الذاتية للحضور الإلهي المتجلي في الطبيعة والإنسان—تظلّ الركيزة الأسمى للحياة الروحية الحقيقية. إن التوجيه المباشر نحو بلوغ هذه المعرفة الروحية ليس متاحًا بسهولة في المسيحية الحديثة، التي—باستثناء بعض الرهبانيات المغلقة ربما—فقدت إلى حدٍّ بعيد جوهرها الصوفي (mystical) في عصرنا. فندر في هذا الزمن أولئك الذين يمتلكون رؤية نبوية عميقة، بينما يُطالَب الإنسان غالبًا بالإيمان الأعمى، رغم ما وصفه البعض بأنه «تراكمٌ للّامعقول فوق المستحيل» في كلٍّ من التفسير الحرفي للكتاب المقدس والعقائد المفروضة. إذا لم يستطع المؤمنون تصديق تلك الأمور، يُطلب منهم «محاولة الإيمان». وإذا عجز العامة عن الإيمان، يُقال لهم: «حاولوا أن تؤمنوا.» وإن ظلّ العجز قائمًا، فقد يُنظر إليهم على أنهم غير مؤمنين أو حتى مُلحدين. إن الإشراق الداخلي، والتجربة الروحية المباشرة، والتعليم القائم على أساليب التأمل والتأمل العميق، أمورٌ بالغة الأهمية، وينبغي أن تحظى باعترافٍ أوسع وتشديدٍ أشد. فإن غياب هذه الركائز يُمثّل ضعفًا جوهريًا في المسيحية الحديثة، إذ يُترك الإنسان أمام الإيمان المجرد دون وسيلة حقيقية لاختباره بوعيٍ داخلي.
هل المسيحية تتكلم بصوت واحد؟
يُنظر إلى الانقسام داخل العقيدة المسيحية على أنه أحد أوجه ضعفها الكبرى. ففي عام 1951، صرّح الرئيس ترومان، أمام جمعٍ غفير خلال رحلة واشنطن للحجاج من رجال الكنيسة الأمريكية، بأنه لم يتمكن من تحقيق توافق بين الجماعات الدينية حول بيان إيمان مشترك لمواجهة التهديد الشيوعي. إذ قال السيد ترومان: «طلبتُ منهم أن يتحدوا في فعلٍ مشترك يُؤكّد المبادئ الدينية والأخلاقية التي يجتمعون عليها جميعًا. ويؤسفني القول إنه لم يكن من الممكن حتى الآن جمع الأديان معًا لهذا الغرض، لإعلان أن الله هو طريق الحق والسلام. بل حتى الكنائس المسيحية نفسها لم تتمكن بعد من أن تُعلن بصوتٍ واحد أن المسيح هو سيّدها وفاديها، وأنه مصدر قوتها في مواجهة جحافل اللادين وخطر الكارثة العالمية.» لكن في عام 1959، وجه البابا يوحنا الثالث والعشرون دعوة إلى كنائس الإيمان الكاثوليكي للتعاون معه لإزالة الحواجز التي تفرق بينها والتقارب بروح التعاون لخدمة الإنسانية. يُؤمل بشدة أن تنجح هذه الجهود، لأن المسيحية لا يمكن أن تحقق أعلى مستويات فاعليتها طالما استمرت في الانقسام إلى العديد من الطوائف والمذاهب، وبالرغم من تشكيل «مجلس الكنائس العالمي» والجهود المبذولة، فإن التعاون الكامل من أجل الخير العام يبقى صعبًا. ويزداد هذا الضعف تفاقمًا عندما تدّعي بعض الطوائف أنها وحدها تُمثّل المسيحية الحقيقية بصورتها المُطلقة، وأن كهنتها هم الكهنة الشرعيون الوحيدون، وأنها وحدها تمتلك الحق الإلهي المُطلق في التوسط بين الله والإنسان([13]). هذه المزاعم تتعارض وتنقض مباشرة كلمات السيد المسيح، الذي قال: «وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هذِهِ الْحَظِيرَةِ، يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضًا فَتَسْمَعُ صَوْتِي، وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ.» (يو 10: 16)
ثَمَّت عقبتان إضافيتان تعوقان فاعلية المسيحية في علاج معاناة الإنسان: التباين في العقائد المسيحية، والإصرار على أن الإيمان بها شرطٌ أساسي للخلاص. إذ تُظهر دراسة لأصول المسيحية وتاريخ الكنيسة منذ القرن الأول أن العديد من التغييرات قد طرأت على عدد وطبيعة المعتقدات التي اعتُبرت ضرورية للدين المسيحي من قبل بعض الهيئات المسيحية. فقد كان يعتبر النظام الجيومركزي (مركزية الأرض في الكون) مثالاً على أحد أركان الإيمان الراسخة، حيث كان يُنظر إلى عدم الإيمان به، كما حدث مع غاليليو، على أنه ضرب من الهرطقة (heretical). كما أن عقائد أخرى إمّا تبدّلت مع الزمن، أو اختفت تمامًا مع تطور الفكر الإنساني وتجاوزه لها. ومن الواضح، إذن، أن هذه المعتقدات لم تكن يومًا ضرورية للخلاص، بل إن بعضها لم يكن صحيحًا من الأساس.
العقيدة المسيحية وحدودها
وهذا الأمر يضع مسألة تحديد ما يشكل «العقيدة المسيحية الحق» في حالة من السيولة والضبابية، وهذا يعني أن تعريف العقيدة المسيحية لم يعد واضحًا كما كان من قبل، وأن هناك حالة من الجدل والتساؤل حول ماهية العقائد التي يجب أن تكون جزءًا من الإيمان المسيحي الحقيقي. فالعديد من الناس في عصرنا الحالي يجدون صعوبة في تقبل بعض العقائد المسيحية على أنها حقائق مطلقة وثابتة، مثل: عصمة العهدين القديم والجديد. وأن البشرية كلها قد انحدرت من زوجين أصليين، وأن فعلهم التناسلي اعتُبر سقوطًا أو خطيئة عظيمة نُقلت إلى كل الجنس البشري كـ«الخطيئة الأصلية» التي تلوث كل فرد منذ ذلك الحين. وأن الله تعالى أرسل ابنه الوحيد إلى الأرض مرة واحدة فقط بعد آلاف السنين ليصلح الضرر الناتج عن معصية الوالدين الأولين، وهكذا تُفدَى البشرية من غضب الله. وأن المسيح، كونه سيِّدًا وإنسانًا، وُلِد من عذراء حملت بمعجزة، وأن عملية الفداء اكتملت بصلبه بناءً على إصرار اليهود. وأن جسده قام من القبر وصعد إلى السماء بعد ذلك. وأن هذا التضحية كانت السبب في تطهير جميع المؤمنين بهذه المجموعة من الأفكار من خطاياهم، بشرط أن يكونوا قد أعلنوا إيمانهم بها قبل موتهم، وأنهم بالتالي سيُطهرون بدم الحَمَل. وأنه في حالة هؤلاء المؤمنين، سيتم تعطيل القانون الطبيعي للسبب والنتيجة الذي شدد عليه المسيح والرسول بولس. وأن جميع الذين لم يعلنوا إيمانهم بهذه الأفكار سيُدانون على الأرجح بالعذاب الأبدي، بما في ذلك أن يُحرقوا في نار جهنم دون أن يفنوا، وأن يُحرَموا من محبة الله للبشرية. إنَّ هذه الصعوبات تزيد من الشكوك حول ما يُعتبر أساسيات في العقيدة المسيحية اليوم.
في الواقع، يجب الاعتراف بأن المسيحية العقائدية الحديثة، عندما يُنظر إليها موضوعيًا، لا تلبي احتياجات العقل الحديث. فالعقل الحديث يتفق مع قول المزمور: «فَهِّمْنِي فَأُلاحِظَ شَرِيعَتَكَ، وَأَحْفَظَهَا بِكُلِّ قَلْبِي.»، ومع بولس: «امْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ. تَمَسَّكُوا بِالْحَسَنِ.» إذ إنَّ الدين الذي لا يقدم إجابات للإنسان بخصوص مشكلة العدالة على الأرض، على سبيل المثال، لا يمكن أن يؤثر أو يستمر في جذب العقول التي أصبحت معتادة على المنطق والسببية والتجربة في عصرنا الحديث الذي يشهد تطورًا علميًا سريعًا. إنَّ اللامُساواة في ولادة الإنسان، واستمرار المعاناة غير المستحقة، وسعادة ونجاح الأشرار، وبؤس وفشل الطيبين والمخلصين، كلها تطرح أسئلة فكرية لا تستطيع المسيحية الحديثة، التي تفتقر إلى المعرفة الروحية (الغنوصية)، الإجابة عنها. إذ يجد الباحثون أن التعصب الديني يعيق العقل البشري، الذي يتطلب أن تكون التعاليم الدينية متوافقة مع المنهج العلمي للتفكير والتحقيق، وأن يُمنح الإنسان حرية كاملة لاستخدام عقله في البحث الديني والروحي كما هو الحال في أي نشاط فكري آخر. وقد أكد أستاذ الفيزياء ألبرت أينشتاين هذه الضرورة بقوله: «فقط إذا تم السعي بحرية داخلية وخارجية بشكل واعٍ ودائم، يكون هناك احتمال للتطور الروحي والكمال، ولتحسين حياة الإنسان الخارجية والداخلية.»
تتطلب الأرثوذكسية المسيحية، مع ذلك، درجة من الإيمان الأعمى، حيث تُصر على الإيمان من بين أمور أخرى بأن الإنسان، رغم كونه هيكلاً للإله الحي، مولودٌ بطبيعته في الخطيئة. كما أن الإله يجب أن يُرضى بالتضحيات، والعبادات التلقينية، والتبرعات، والابتهالات؛ والله يدين أبنائه بالعذاب الأبدي بسبب الخطايا التي ارتكبوها في حياتهم؛ وأن التكفير بالنيابة يضمن الغفران، ويلغي قانون السببية حتى في حالة أعظم الجرائم وأشدها تعمدًا التي ارتكبت وتُرتكب ضد الإنسانية وضد الله نفسه. يمكن أن يكون هذا المبدأ الأخير، الذي يتعلق بغفران الخطايا، قد أضعف النسيج الأخلاقي للعديد من المسيحيين الأرثوذكس. وقد بيّن الرسول بولس بشكل واضح أن مبدأ الخلاص يكمن داخل الإنسان نفسه؛ حيث كتب يقول: «المسيح فيكم، رجاء المجد»؛ «تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ، لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ...»؛ «حَتَّى نَصِلَ جَمِيعًا إِلَى وَحْدَةِ الإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ابْنِ اللهِ، إِلَى إِنسَانٍ كَامِلٍ، إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مَلْءِ الْمَسِيحِ»؛ «يَا أَوْلاَدِي الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضًا إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ.» من هذه الأقوال وما شابهها، يمكننا أن نفترض بشكل مشروع أن بولس كان يعتقد أن لا شيء خارج الإنسان يمكن أن يُخلَّصَه!.
الكتاب المقدس — مصدر الإلهام والمعرفة والحكمة
هذا جزء من الاتهام الموجه إلى الصورة المعاصرة للمسيحية، سواء كان هذا الاتهام صائبًا أم لا. إن الذين أدركوا القيود الراهنة التي تعتري العقيدة المسيحية، والحواجز التي أقامتها حولها تأويلات عقائدية مصطنعة، لربما تساءلوا عن المصدر الذي ينهل منه المسيحيون المعرفة اللازمة لاكتشاف نورهم وحقيقتهم الذاتية. إنَّ عنوان هذه المجلدات يقدم جواب المؤلف: في الكتاب المقدس نفسه. إلا أن اكتشاف هذه الحقائق سيظل بعيد المنال، إن لم يكن مستحيلاً، ما دام المرء يقرأ النصوص المقدسة إما باعتبارها كلمة الله الموحاة من أولها إلى آخرها أو حرفيًا باعتبارها سجلًا تاريخيًا. إن الفكرة القائلة بأن الكتاب المقدس بصيغته الحالية، وبكل اللغات التي طبع بها، هو وحي إلهي لفظي من بدايته إلى نهايته، وأنه سجل زمني وتاريخي دقيق للفترة التي يتناولها من تاريخ العالم، يجب أن تعدل تعديلاً كبيرًا، إذا ما أردنا استجلاء حكمته المكنونة والمحفوظة فيه. ولا يعني هذا بأي حال من الأحوال التخلي عن الكتاب المقدس نفسه، بل على العكس تمامًا، يجب استبدال القراءة الحرفية لبعض مقاطع الكتاب المقدس بدراستها باعتبارها مكاشفات لحقائق روحية أبدية صيغت بأسلوب القَصَص التَّمْثِيِلي (allegory) والرمز.
إنَّ الحقيقة النورانية والواهبة للقوة بشأن طبيعة الإنسان، والتي مفادها أنَّ الحضور الإلهي موجود بداخله ومتجلٍّ كأشعة من الذات الإلهية العليا، تتجلى في الكتاب المقدس بشكل مباشر، أو تحت حجاب من الرموز والقصص التمثيلي والحكاية التَّمثِيليَّة الرمزية أو الأمثال (parable). إن الغاية من وجود الإنسان هي التطور نحو حالة المسيحية (التكامل الروحي)، والطريقة لتحقيق هذا الهدف، وقانون العدالة الصارم الذي يضمن ذلك، والطريقة للتواصل بين الجوانب البشرية والإلهية في طبيعة الإنسان، وما يتبع ذلك من إلهام وتمكين — كل هذه الأمور وأكثر، كما يُطرح هنا، تتجلى وتستتر في آنٍ معًا في القصص التمثيلية (allegories) التي تزخر بها الكتب المقدسة في العالم.
الوحي مُحجَّبًا
لكن لا بد أولًا من إزاحة الحجاب. فمن خلال استخدام المفاتيح القديمة التي تتيح تأويل الرموز، ينبغي السعي لاكتشاف المعاني الباطنة، والتوجيهات شبه المخفية—وربما الجلية أحيانًا—التي ترشد الإنسان إلى استنارته الذاتية، إلى جانب المعرفة الجوهرية المتعلّقة بطبيعة الإنسان ككل. هذه المفاتيح قديمة قِدم الزمن، مثل اللسان الذي كُتبت به النصوص المقدسة الحقيقية. وعندما تُطبَّق هذه المفاتيح لقراءة النصوص بروح الإلهام والتأمل والبصيرة، يتكشف كنز لا ينضب من الحكمة الخالصة، والأخلاق السامية، والتوجيه لشفاء الأفراد والأمم، والطريق الأكيد نحو السلام—سواء على المستوى الشخصي أو الوطني أو العالمي. لكن لا بد من الإقرار بأن قيد العقائد، والإيمان الأعمى بمزاعم لا يُمكن التثبت منها بل والخاطئة يقينًا، وافتراض الأرثوذكسية الذي تتشبت به وهو اعتقادها بتفوق المسيحية على سائر الأديان الأُخرى—كل هذه القيود، بقدر ما تكون حاضرة، يجب أن نمنعها من تقييد العقل وسجنه، إن كان الإنسان يُريد فعلًا أن يدرك «النور الحق الذي يُنير كل إنسان آتٍ إلى العالم».
إنَّ الوعي بالذات([14]) والوعي بالله([15]) هما موضوعان قديمان ينتميان إلى أقدم علم في العالم، وهو علم النفس المُجَرِّبَة في الإنسان التي تُسمى (Soul)([16]). فكما يبدأ العلماء الفيزيائيون أبحاثهم بعقل منفتح غير مقيد بالأفكار والأحكام المُسبقة، كذلك يجب على من يرغب في دراسة علم النفس هذا أن يفعل ذلك بعقل حر مُتجرِّدٍ لا يشغله إلَّا البحث عن الحقيقة هدفًا وغاية. وأمَّا الذي يدخل البحث وعقله مملوء بالمفاهيم التوراتية ]أو السلفية التراثية إلاسلامية[ عن الله، فإننا نُبشره بأنه لن يعثر على إله الكون العظيم ولا على مبدأ الألوهية في داخله. إذ كيف سيجده الباحث وهو يرى العهد القديم يُصوره على أنه إله غيور، وقاسٍ، ويمارس المُحاباة، وأنَّه السبب في إحداث أكبر الشرور والظلم في العالم. لذلك نكرر، إنَّ الباحث، في ظل هذه الظروف، من المحتمل أن يفشل بحثه الأساسي عن الله والحقيقة.
صوت المُنادي في الصمت
إلا أن المنهج الصحيح مُفصّل بشكل مباشر، كما في مزامير داود المرتلة: «كُفُّوا وَاعْلَمُوا أَنِّي أَنَا اللهُ. أَتَعَالَى بَيْنَ الأُمَمِ، أَتَعَالَى فِي الأَرْضِ.» (مز 46: 10)؛ وأيضًا يُذكَرُ بصورة قصص تمثيلية أو «أُمْثُولِيَّة» (allegorically) في قَصَصٍ مثل قِصَّة إيليا (Elijah) على الجبل، إذ وقف متخطياً القيود والعراقيل والشدائد التي ترمز إليها الريح والزلزلة والنار؛ ثم نجده يدخل في ذلك السكون الذي يُسْمَعُ فيه «صوت الرب في الصمت»([17]). إنَّ السبيل إلى النور، التي يُمكن لكل إنسان أن يسلكها، موصوفة بشكل رمزي في هذه القصة كما هو الحال في العديد من المقاطع الكتابية الأخرى. وفي الفصول والأجزاء القادمة من هذا العمل الذي يتناول الرمزية (symbolism) في الكتاب المقدس، نُقدِّم إرشادات نأمل أن تكون مساعدة في سلوك هذه السبيل التي تقود إلى «النور الذي لم يسبق له مثيل على برٍّ أو بحرٍ»([18])، «النور الحق، الذي يُضَاءُ به كل آتٍ إلى هذا العالم»—النور الباطن الذي تجسد في المسيح عيسى ابن مريم([19])، كلمة من الله وروح منه ونور العالم.
إنَّ هذه التأملات تدفعنا إلى القول بأن المسيحية المعاصرة مطالبة بتقديم فلسفة دينية للحياة تتسم بالعمق، تستطيع أن تلبي أرفع طموحات الإنسان، وتمنح قلبه السكينة، وتصمد أمام محكمة العقل. إن المسيحية، بما تكشفه من النور الحي الذي جلبه المؤسس العظيم للبشرية منذ قرابة ألفي عام، تحمل في طياتها هذه الفلسفة، وبإمكانها أن تقدم هذا العطاء الضروري. ورغم ما تراكم من تبدلات وإضافات على مر القرون، لا يزال ذلك النور متوهجًا. لقد شهد رجال ونساء من مختلف مشارب الحياة، من البسطاء إلى ذوي المقام الرفيع، على إشراقه وعلى إدراكهم الداخلي المباشر للحضور والقوة الإلهية. إنَّ هذا النور الروحي لا يستمد قوته المنيرة من العلم بعقائد أي حقبة أو مذهب بعينه، ولا من الإيمان بها. إن تبين الحقائق الروحية لا يستلزم خضوعًا أعمى، ولا استرقاقًا للعقل الناقد. بل يستدعي لاستقبالها ذهنًا طليقًا، غير مكبّل، فاعلاً لكنه متأدب، وحدسيًّا يقظًا؛ ففي تلك الأعالي من طبيعة الإنسان، يمكن أن يتجلى ويُعرف وجود الإله في كل ما خلق، وبالتالي في كل فرد، بشكل مباشر.
السعي المعرفي الباطني
كيف لنا أن نبلغ هذا النور الداخلي؟ بلا شك ليس بالإيمان الأعمى، بل بإعمال العقل الحر، والمداومة على الصلاة والتأمل والتدبر/التفكر، ويُعرَّف التدبر/التفكر هنا على أنه «الصلاة العلمية.» في كتابه الذي يحمل هذا العنوان، يُعرِّف الدكتور أليكسيس كاريل الصلاة بهذه الكلمات: «تأمل هادئ للمبدأ الكامن والمتجاوز لكل الأشياء. رفع الروح إلى الله. عمل حب وعبادة تجاهه، من الذي يأتي منه العجب الذي هو الحياة. هو جهد الإنسان للتواصل مع كائن غير مرئي. مقام روحاني يذوب فيه الوعي في الله.»
يسترسل الدكتور كاريل حديثه عن الصلاة قائلًا: «تتجلى الصلاة في أبهى صورها في تجاوز الحب ليل العقل المعتم. فالصلاة تتجاوز حدود العقل لتصل إلى مجال الشعور المباشر. وكل ما يلزم للمرء كي يصلي هو أن يبذل جهدًا في التوجه إلى الله. ولا ريب أن أفضل سبل التواصل مع الله هو أن يُنفذ المرء إرادته على أكمل وجه.»
إنَّ طريقة الوصول إلى الوعي الروحي المباشر، أو وعي الله، تختلف من شخص لآخر، لكن هناك قواعد عامة قديمة. قال صاحب المزامير: "كُفُّوا وَاعْلَمُوا أَنِّي أَنَا اللهُ. أَتَعَالَى بَيْنَ الأُمَمِ، أَتَعَالَى فِي الأَرْضِ." (مز 46: 10).
يرى أصحاب الطقوس أن الإنسان يستطيع، عبر المشاركة في الأسرار المقدسة، أن يبلغ وحدة واعية مع المسيح الحي. وعبر الخدمة المحبة، يستطيع أن يتعرف على الله في الكل، وأن يحبه ويخدمه: وعبر الجمال، يستطيع أن يدرك الله ويعبده ويصوره ويكتشفه باعتباره «مبدأ الجمال في كل شيء» كما قال جون كيتس (John Keats). وعبر الترانيم المقدسة، وكذلك عبر التأمل الصامت، بإقصاء كل فكرة أخرى، يستطيع أن يجد الله في داخله ويعرفه، الحاكم الداخلي الخالد «الجالس في قلب كل الكائنات» بهاغفاد غيتا (Bhagavad Gita).
القصتان التاليتان تخدمان لإيضاح فكرة أن الإدراك الروحي المباشر يمكن تحقيقه، وعندما يتحقق يمكن أن يحول وينير الحياة:
كان فلاح مسن يجلس وحده في المقعد الخلفي في كنيسة فارغة. سُئل: «ماذا تنتظر؟» فأجاب: «أنا أنظر إليه، وهو ينظر إليّ.»
وقد سأل مجموعة من الطلاب في كلية لاهوت أستاذًا متمرسًا أن يقرأ مزمور الراعي. فقرأه الأستاذ كأحسن ما يكون وبتأثر. ثم طلب أحدهم أن يأتي قس متقاعد ويكرر قراءة المزمور 23. فأشرق وجهه بضوء داخلي وهو يتلو نفس الكلمات بخشوع ومعنى عميق. وعندما انتهى، كانت العيون كلها دامعة. وبعد ذلك، سأل أحد الطلاب الأستاذ: «لماذا لم يكن لقراءتك، رغم علمك الواسع، ذلك التأثير العميق؟» فأجاب الأستاذ بصدق وتواضع: «يا بني، لقد درست الكتاب المقدس وأعرف كل شيء عن الراعي، لكن صديقنا يعرف الراعي شخصياً.»
أعتقد أن المشكلة الأساسية في الدين تكمن في عدم وجود تجربة روحية مباشرة يمكن أن تؤدي إلى معرفة عميقة لله والمسيح. إنَّ الكلمة اليونانية التي تعبر عن هذا النوع من المعرفة الروحية المباشرة هي «الغنوص»، وكان الناس الذين يمتلكون هذه المعرفة يُعرفون بالغنوصيين في وقت تأسيس المسيحية. لكن، للأسف، بسبب بعض الأخطاء التي ارتكبها بعض هؤلاء الغنوصيين، تعرضوا للاضطهاد وتم اعتبارهم هراطقة. إن إسهام الدين في شفاء أسقام الإنسان الراهنة يكمن في المعرفة الروحية المتجذرة في التجربة الباطنية. وببساطة، يحتاج المسيحيون إلى أن يعلموا عن الراعي وأن يعرفوا الراعي معرفة شخصية. ومع تزايد أعداد الرجال والنساء المستنيرين والملهمين، يوجد ما يدعو للاعتقاد بأن المسيحية ستغدو قوة أعظم مما هي عليه الآن في سبيل السلام العالمي والتقدم([20]).
إذا ما استطاعت الديانة المسيحية أن تعود لتكون مركزًا ومنبعًا للنور الروحي المنبثق عن المعرفة المباشرة، وأن تقدم تعليمًا روحيًا أصيلاً حول العلاقة الوثيقة بين الإنسان والله وكيفية تحقيقها؛ وإذا ما استطاعت أن تسترد المعرفة الضائعة لغاية وجود الإنسان؛ وإذا ما استطاعت أن تثبت أن العقل والعدالة الصارمة للإنسان جزء لا يتجزأ من تعاليمها، وأن توفر وسائل تطبيقها الواعي في بلوغ السعادة الإنسانية وحل معضلات الحياة؛ وإذا ما استطاعت أن تهدي البشرية هداية راسخة وآمنة في البحث عن المعرفة الباطنية الخاصة بالحضور الإلهي في الداخل والسعي إلى الوصال الواعي به؛ وإذا ما أنارت المسيحية العقول البشرية حقًا- فإنه يُرى أنها قادرة على أن تقود البشرية من صراعاتها الراهنة إلى السلام العالمي، ومن تشرذمها إلى وحدة العمل في سبيل خير البشرية قاطبة.
[1]- فَقَالَ الرَّبُّ: «أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ، الإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ، لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ». (تكوين: 6: 7)
[2]- "وَبَنَى نُوحٌ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ. وَأَخَذَ مِنْ كُلِّ الْبَهَائِمِ الطَّاهِرَةِ وَمِنْ كُلِّ الطُّيُورِ الطَّاهِرَةِ وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ عَلَى الْمَذْبَحِ، فَتَنَسَّمَ الرَّبُّ رَائِحَةَ الرِّضَا. وَقَالَ الرَّبُّ فِي قَلْبِهِ: «لاَ أَعُودُ أَلْعَنُ الأَرْضَ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الإِنْسَانِ، لأَنَّ تَصَوُّرَ قَلْبِ الإِنْسَانِ شِرِّيرٌ مُنْذُ حَدَاثَتِهِ. وَلاَ أَعُودُ أَيْضًا أُمِيتُ كُلَّ حَيٍّ كَمَا فَعَلْتُ." (تك 8: 20-21).
[3]- "وَقَالَ اللهُ: «نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا، فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ، وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ، وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ». فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ." (تك 1: 26-27).
[4]- عندما نتكلم عن التي تجرب، تكتسب الخبرات، تتعاظم أو تخبو ، فنحن نتكلم عن الـ soul؛ وعندما نتكلم عن الطريق الروحي، عندما نتكلم عنك كروح فنحن نتكلم عن الـ spirit. ريم مكتبي
[5]- المذهب الحيوي: هو النظرية أو المذهب القائل أنَّ عمليات الحياة تنشأ من أو تحتوي على مبدأ أساسي وجوهري غير مادي ولا يُمكن شرحُهُ بشكل كامل كظواهر فيزيائية وكيميائية. قاموس أطلس الموسوعي، ص 1436.
[6]- (each for himself and the Devil take the hindmost)، الفرد لمصلحته والشيطان يختطف الأخير، هذه الترجمة الحرفية، والمعنى البقاء للأصلح أو الأقوى أو الأتقى. المعرب
[7]- (إنجيل يوحنا 15: 17).
[8]- (إنجيل لوقا 6: 31).
[9]- أو السُّخرية النقدية الشكية، أو الكلبية، رفض الكلبيون كافة التقاليد، سواء كانت باسم الدين، أو الأخلاق، أو كانت تتعلق باللباس، أو اللباقة أو غيرها من القيود الاجتماعية، وأيدوا عوضا عن ذلك السعي وراء أسلوب حياة لامادي وبسيط يهدف إلى الفضيلة. ونرى اليوم هذه الظاهرة عامة كالنار في الهشيم وهي النقد الساخر والمسفه لكل ما له قيمة عليا كالروحانيات والمبادئ الأخلاقية الكريمة بل أتت على كل شيء وصار نمط وأسلوب حياة ومصدر رزق يتابعه الملايين. المعرب
[10]- "فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ." (مت 5: 18).
[11]- "فِي ذلِكَ الْيَوْمِ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا فِي أَبِي، وَأَنْتُمْ فِيَّ، وَأَنَا فِيكُمْ." (يو 14: 20). "أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ، وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟" (1 كو 3: 16). "أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ الْقُدُسِ الَّذِي فِيكُمُ، الَّذِي لَكُمْ مِنَ اللهِ، وَأَنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ؟" (1 كو 6: 19). "وَأَيَّةُ مُوَافَقَةٍ لِهَيْكَلِ اللهِ مَعَ الأَوْثَانِ؟ فَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ هَيْكَلُ اللهِ الْحَيِّ، كَمَا قَالَ اللهُ: «إِنِّي سَأَسْكُنُ فِيهِمْ وَأَسِيرُ بَيْنَهُمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلهًا، وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا." (2 كو 6: 16). "لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ." (في 2: 13). "الَّذِينَ أَرَادَ اللهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا هُوَ غِنَى مَجْدِ هذَا السِّرِّ فِي الأُمَمِ، الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ الْمَجْدِ." (كو 1: 27).
[12]- "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ،" (مت 5: 44). «هذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ. إنجيل يوحنا (15 :12) 13 لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ. 17 بِهذَا أُوصِيكُمْ حَتَّى تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. (يوحنا: 15: 13-17)
[13]- ونفس هذا المرض السرطاني مُتفشٍّ في عالمنا العربي عمومًا والإسلامي خصوصًا، فكل يدعي وصلًا بليلى وليلى لا تقرُّ لهم وِصالاً ولو عَلِمتْ بما يحكيهِ عنها– لشقّتْ صدرَها وأتتْ وبالا، فالشيعة يدعون أنهم الفرقة الناجية والباقي في النار، والسنة لهم نفس الإدعاء، وبعضهم يكفر بعضًا والخصام على أوجهه في هذه (النار) كما وصف المولى! فتأمل ترشد. المعرب
[14]- اكتشاف الذات أو معرفة النفس (Self-discovery) أو الوعي بالذات هو اكتشاف المرء قدراته ودوافعه ونحو ذلك. أو اكتِشاف النفس؛ تَعَرُّف النفس؛ إدراك حقيقة النفس بالمَعرِفَة الباطنة. المعرب
[15]- أو كما نُسميه في الدائرة العرفانية الإسلامية (التَّأَلُّهُ) ويكون الشخص بهذا الوعي (مُتألِّهًا) مثل صدر المُتألهين ونحوه. والوعي الإلهي يُكتسب بالعرفان والتجربة المُباشرة وليس عن طريق التلقين ونحو ذلك، وهو وعي مُتعالي مُحيطي لا يُمكن وصفه بل يجب أن يسلك فيه المُريد ليعلم ماهيته فهو علم حضوري شهودي، وأول تجلياته أن تحصل على رؤية كونية كلية مُحيطية تستوعب بها خلق الله، مثل رؤية ابن عربي أو رؤية الأنبياء ومن لف لفهم، ويُمكن لكل من يريد جادًّا أن يصله فهو مُيسر لمن يطلبه بصدق. المُعرب
[16]- عندما نتكلم عن التي تجرب، تكتسب الخبرات، تتعاظم أو تخبو، فنحن نتكلم عن الـ soul؛ وعندما نتكلم عن الطريق الروحي، عندما نتكلم عنك كروح فنحن نتكلم عن الـ spirit. ريم مكتبي
[17]- "فَقَالَ: «اخْرُجْ وَقِفْ عَلَى الْجَبَلِ أَمَامَ الرَّبِّ». وَإِذَا بِالرَّبِّ عَابِرٌ وَرِيحٌ عَظِيمَةٌ وَشَدِيدَةٌ قَدْ شَقَّتِ الْجِبَالَ وَكَسَّرَتِ الصُّخُورَ أَمَامَ الرَّبِّ، وَلَمْ يَكُنِ الرَّبُّ فِي الرِّيحِ. وَبَعْدَ الرِّيحِ زَلْزَلَةٌ، وَلَمْ يَكُنِ الرَّبُّ فِي الزَّلْزَلَةِ. وَبَعْدَ الزَّلْزَلَةِ نَارٌ، وَلَمْ يَكُنِ الرَّبُّ فِي النَّارِ. وَبَعْدَ النَّارِ صَوْتٌ مُنْخَفِضٌ خَفِيفٌ. فَلَمَّا سَمِعَ إِيلِيَّا لَفَّ وَجْهَهُ بِرِدَائِهِ وَخَرَجَ وَوَقَفَ فِي بَابِ الْمُغَارَةِ، وَإِذَا بِصَوْتٍ إِلَيْهِ يَقُولُ: «مَا لَكَ ههُنَا يَا إِيلِيَّا؟»" (1 مل 19: 11-13).
[18]- كلمة للشاعر ويليام ووردزوورث.
[19]- والمُتجسد أيضًا في كل ما جادت به الأنبياء والمرسلين والحكماء وأهل الله عبر العصور حتى خاتم الأنوار السراج المنير والرحمة للعالمين محمد رسول الله النور الذي أتى بعد النور الأول المسيح عبد الله ورسوله. المُعرب
[20]- نُلاحظ رغم إيمان المؤلف العميق بوحدة الأديان والعقائد والملل والنحل في عمقها إلَّا أنَّه لم يستطع التخلص من هذه النزعة العصبية لما شب وشاب عليه من عقيدة دينية، وهذا حال الجميع بلا استثناء إذ الجميع يصدر عن نموذجه المعرفي، أو نماذجه، الراسخة في لا شعوره أو لا وعيه، إلَّا الأنبياء والمرسلين وخاصتهم من المُسارَرِين وقليل ما هم!. المُعرب
شكرا لك!
ردحذفعفوًا
حذف